الفصل العاشر

حين سمعت لورا في صباح اليوم التالي أن جرانت كان ينوي الذهاب إلى سكون بدلًا من قضاء اليوم عند النهر، شعرت بالسخط.

إذ قالت: «لكنني أعددت للتوِّ وجبة غداء رائعة لك ولزوي.» ظل لدى جرانت انطباع بأن استياء لورا كان منبعه سببًا أكثر وجاهة من مجرد سوء تقدير لوجبة غداء، لكن ذهنه كان مشغولًا للغاية بأمورٍ أكثر أهمية من تحليل التفاهات.

«يوجد شابٌّ أمريكي، يمكث في مويمور، أتى طالبًا مساعدتي بشأن شيءٍ ما. رأيت أن بإمكانه أن يأخذ مكاني عند النهر إن لم يكن لدى أي أحد اعتراضٌ على ذلك. لقد مارس الصيد قليلًا كما قال لي. ربما يحب بات أن يُعلِّمه كيفية الصيد.»

كان بات قد أتى إلى الإفطار في حالة من التألق الشديد حتى إن وهجه بدا جليًّا عبر الطاولة. كان اليوم هو اليوم الأول من عطلة عيد الفصح. وقد أبدى اهتمامًا حين سمع الاقتراح الذي قدَّمه قريبه. إذ لم يكن يوجد كثير من الأشياء التي يستمتع بها بقدر أن يُعلِّم أحدًا ما شيئًا.

فسأل: «ما اسمه؟»

«تاد كولين.»

««تاد» اختصار لماذا؟»

«لا أعرف. ربما اختصار لاسم تيودور.»

هَمْهم بات في ارتياب: «م … م … م.»

«إنه طيَّار.»

فقال بات وقد بدأ حاجباه ينفكَّان: «أوه، ظننت أنه بِاسم كهذا ربما يكون بروفيسورًا.»

«لا. إنه يطير إلى شبه الجزيرة العربية جيئة وذهابًا.»

فقال بات: «شبه الجزيرة العربية!»، مشدِّدًا على حرف الراء، حتى تألقت طاولة الإفطار الاسكتلندية المتواضعة بانعكاسات جواهر الشرق. فبين وسائل النقل الحديثة وبغداد القديمة، بدا أن تاد كولين يتمتع بوثائق اعتماد مُرضية. «سيعلمه» بات بكل سرور.

قال بات: «بالطبع ستحصل زوي على أولوية اختيار أماكن الصيد.»

لو كان جرانت قد ظن أن إعجاب بات وافتتانه بزوي سيأخذان شكل الصمت الخَجِل والهيام العبثي، فقد كان مخطئًا. كانت علامة استسلام بات الوحيدة هي الإقحام المستمر لجملة «أنا وزوي» في حديثه، ومع ذلك ينبغي ملاحظة أن ضمير المتكلم كان يجيء أولًا.

وهكذا استعار جرانت السيارة بعد الإفطار وذهب إلى مويمور ليخبر تاد كولين أن ولدًا صغيرًا أصهب الشعر، ويرتدي تنورةً اسكتلنديةً خضراء، سيكون في انتظاره، ومعه كل الأدوات والمعدات اللازمة للصيد، عند الجسر المتأرجح فوق نهر تورلي. وأنه سيعود من سكون لينضمَّ إليهم عند النهر في وقتٍ ما من بعد الظهر، أو هكذا كان يأمل.

قال كولين: «أودُّ أن آتي معك يا سيد جرانت. ألَديك خيط تتبعه في هذا الأمر؟ أهذا هو سبب ذهابك إلى سكون هذا الصباح؟»

«لا. بل أنا ذاهب لأبحث عن خيط أبدأ به. لا يوجد أي شيء يمكنك فعله في الوقت الحالي؛ لذا يمكنك أن تقضي اليوم عند النهر.»

«لا بأس سيد جرانت. أنت القائد. ما اسم صديقك؟»

قال جرانت: «بات رانكن»، ثم انطلق بالسيارة نحو سكون.

كان قد أمضى جُلَّ الليلة الماضية مستلقيًا وهو مستيقظ وعيناه مثبَّتتان على السقف، تاركًا الأنماط في ذهنه تتشكَّل وتتداخل بعضها في بعض وكأنها خدعٌ تصويرية في أحد الأفلام. كانت الأنماط تتجسد باستمرار، وتتفكك وتتلاشى ولا تعود أبدًا إلى نفس الشكل ولو للحظاتٍ قليلة. استلقى وترك الأنماط تتراقص في تداخلها البطيء الذي لا نهاية له، دون أن يتدخل بأي شكل في دورانها والتِفافها بعضها حول بعض؛ فكان منفصلًا عنها وكأنها عرض لأضواء الشفق القطبي.

بتلك الطريقة كان عقله يعمل على أفضل نحو. وبالطبع كان يمكن لعقله أن يعمل بالطريقة الأخرى. كان سيعمل بصورةٍ جيدة للغاية. على سبيل المثال، في المشكلات التي تشتمل على تسلسلٍ مكاني وزماني. في الأمور التي يُفترض فيها أن «أ» كان في النقطة «س» في الساعة الخامسة والنصف من شهر كذا الجاري، كان عقل جرانت يعمل بدقةِ آلةٍ حاسبة. لكن في مسألة يكون فيها الدافع هو أهم شيء، كان يستلقي ويُطلق العنان لعقله في المعضلة. وبعد قليل، لو ترك عقله يعمل كما يحلو له، فسيحصل على النمط الذي كان يلزمه.

كان لا يزال لا يملك أدنى فكرة عن سبب سفر بيل كينريك إلى شمال اسكتلندا، بينما كان ينبغي أن يسافر إلى باريس ليلتقي بصديقه، وكذلك لم يكن يملك أدنى فكرة عن سبب سفره بأوراقِ رجلٍ آخر. لكنه كان قد بدأ يكوِّن فكرة عن سبب تشكل اهتمام بيل كينريك المفاجئ بشبه الجزيرة العربية. كان كولين قد فكَّر في ذلك الاهتمام من منطلق مسارات الطيران، متأثرًا في ذلك بنظرته إلى العالم من خلال المنظور المحدود لطيار. لكن جرانت كان واثقًا من أن هذا الاهتمام كان له منبعٌ آخر. فاستنادًا إلى ما قاله كولين، لم يكن كينريك يُبدي أيًّا من الإشارات المعتادة الدالة على «فقدان الشجاعة». كان من المستبعد أن يكون لهوسه بالمسار الذي طار فيه علاقة بالطقس بأي صورة من صوره. ففي مكانٍ ما، وفي وقتٍ ما، أثناء إحدى تلك الرحلات على ذلك المسار «الكئيب الملعون»، وجد كينريك شيئًا أثار اهتمامه. وقد بدأ ذلك الاهتمام أثناء إحدى المرَّات حيث انحرفت به العواصف الترابية، التي كانت تتكرر في المناطق الداخلية لشبه الجزيرة العربية، عن مساره كثيرًا. وكان قد عاد من تلك التجربة «مهزوزًا». «لم يكن يصغي إلى ما كان يُقال له.» «كان لا يزال هناك.»

وهكذا في هذا الصباح كان جرانت ذاهبًا إلى سكون ليكتشف ما الذي يمكن أن يكون قد أثار اهتمام بيل كينريك في المناطق الداخلية لتلك المساحات الضخمة الصخرية الكئيبة، في الصحراء وشبه القارة البغيضة التي تشكِّل شبه الجزيرة العربية. ولهذا السبب بالطبع كان جرانت ذاهبًا إلى السيد تاليسكر. كان المرء يذهب إلى السيد تاليسكر، سواء كان سؤاله عن القيمة التقديرية لأحد الأكواخ أو عن تكوين الحمم البركانية.

كانت المكتبة العامة في سكون مهجورة في هذه الساعة من الصباح، ووجد جرانت السيد تاليسكر يتناول كعكةً محلاة وكوبًا من القهوة. وفكَّر جرانت في أن الكعكة المحلاة تمثِّل خيارًا طفوليًّا وواقعيًّا محبَّبًا لرجلٍ بدا أنه يعيش على بسكويت الويفر والشاي الصيني بالليمون. كان السيد تاليسكر مسرورًا للقاء جرانت، فسأله عن التقدم الذي يُحرزه في دراسته للجُزر الغربية، واستمع باهتمام لحديث جرانت المتسِم بالهرطقة عن ذلك الفردوس، وكان ذا نفع في بحثه الجديد. شبه الجزيرة العربية؟ أوه، أجل، لديهم في المكتبة رف كتب كامل عن تلك المنطقة. فعدد من كتبوا كتبًا عن شبه الجزيرة العربية يساوي تقريبًا عدد من كتبوا كتبًا عن الجزر الغربية. وإن جاز للسيد تاليسكر قول هذا، فقد كانت توجد أيضًا لدى مُناصري هذا الموضوع والمتحمسين له نفس النزعة تجاه جعله مثاليًّا.

«لو لخَّصنا الأمر في حقائقَ بسيطة، فأنت تظن أن كلا المكانَين مجرد صحارٍ عاصفة.»

أوه، لا، ليس بالكامل. كان ذلك تعميمًا … بعض الشيء. لقد حظي السيد تاليسكر بكثير من السعادة والجمال من الجزر الغربية. لكن النزعة تجاه جعل شعبٍ بدائيٍّ ما مثاليًّا كانت هي نفسها في كلتا الحالتين. وها هو رف الكتب التي تتناول الموضوع، وسيترك السيد جرانت ليدرسها على مهل.

كانت الكتب في غرفة المراجع، ولم يكن يوجد بها قارئٌ آخر غيره. أُغلقَ الباب فعمَّ الصمت وبقي مع بحثه. تفقَّد رف الكتب بنفس الطريقة تقريبًا التي تفقَّد بها رف الكتب التي تتناول الجزر الغربية في غرفة الجلوس في منزل كلون، مستخرجًا الموضوعات الرئيسية لكلٍّ منها بعينٍ سريعةٍ متمرِّسة. وكان النطاق هو نفسه تقريبًا في الحالة السابقة؛ إذ تراوَح بين العاطفيين والعلماء. الفارق الوحيد أن بعض الكتب في هذه الحالة كانت كلاسيكية، بما يتناسب مع موضوعٍ كلاسيكي كهذا.

ولو أنه كان لدى جرانت بقية شكوك في أن الرجل الذي كان في المقصورة «ب ٧» كان بيل كينريك، فقد زالت حين عرف أن الجزء الصحراوي من جنوب شرق شبه الجزيرة العربية كان يُعرف باسم الربع الخالي.

كان ذلك إذَن المقصود ﺑ «سرقة كالي» (إذ كان نطق المقابل الإنجليزي لتلك العبارة قريبًا من نطق اسم هذا المكان)!

بعد ذلك كرَّس جرانت اهتمامه للربع الخالي، فأخذ يمسك بكل كتاب على الرف، ويقلب الصفحات بحثًا عن تلك المنطقة بعينها، ثم يعيد الكتاب إلى مكانه ليمسك بالكتاب التالي. وسرعان ما استرعت إحدى العبارات انتباهه. «تسكنها القرود». قال له عقله، قرود. وحوشٌ متكلمة. ثم رجع للصفحة السابقة ليرى ما الذي كانت تتحدث عنه تلك الفقرة.

كانت تتحدث عن عُبار.

بدا أن عُبار كانت أطلانطس شبه الجزيرة العربية. مدينة عاد بن كنعاد الأسطورية. في مرحلة ما بين الأسطورة والتاريخ، دُمِّرت هذه المدينة حرقًا بسبب آثامها. وذلك لأنها كانت مدينةً غنية وآثمة بما يفوق قدرة الكلمات على التعبير. ضمَّت قصورها أجمل المحظيات، وضمَّت إسطبلاتها أفضل الجياد في العالم، التي كان جمال أحدها لا يقل البتة عن جمال الآخر. وكانت في بلادٍ خصبة، حتى إن المرء لم يكن عليه سوى أن يمد يده ليقطف ما تجود به التربة من فواكه. وكان هناك كثير من الفراغ الذي سمح بارتكاب خطايا قديمة وابتكار خطايا جديدة. لذا حلَّ الدمار على المدينة. جاء الدمار ليلًا، بنيران مُطهِّرة. والآن صارت عُبار، هذه المدينة الأسطورية، عبارة عن ركام وحطام، تحرسها الرمال المتحركة، ومنحدراتٌ صخرية تتغير أشكالها وأماكنها باستمرار، وتسكنها سلالة من القرود وجنٌّ رجيم. لم يكن بمقدور أحد أن يقترب من ذلك المكان؛ لأن الجن كانوا ينفخون عواصفَ ترابية في وجه الساعين إلى الوصول إليها.

كانت تلك هي عُبار.

ويبدو أن أحدًا لم يجد أطلال تلك المدينة قَط رغم أن كل مستكشِف عربي بحث عنها سرًّا أو علنًا. ومن المؤكد أنه لم يتفق اثنان من المستكشِفين على أي مكان من شبه الجزيرة العربية كانت تشير إليه الأسطورة. فعاد جرانت يطالع المجلدات المختلفة، مستخدمًا الكلمة السحرية، كلمة عُبار، ووجد أن كل كاتب خرج بنظريةٍ خاصة به، وأن المواقع التي عليها جدال كانت بعيدة بعضها عن بعض كبُعد عُمان عن اليمن. ولاحظ أن أيًّا من الكُتَّاب لم يحاول أن يستخفَّ بالأسطورة أو يقلِّل من شأنها كوسيلة تخفيف من وطأةٍ فشله؛ كانت قصة هذه المدينة منتشرة في شبه الجزيرة العربية وثابتة في شكلها، واعتقد العاطفيون والعلماء على حدٍّ سواء أن للأسطورة أساسًا في الواقع. كان حلم كل مستكشف أن يُصبح هو مكتشف عُبار، لكن الرمال والجن والسراب كانوا يحرسونها جيدًا.

كتب أحد أعظم الكُتَّاب: «من المحتمل أن اكتشاف المدينة الأسطورية في نهاية المطاف لن يكون نتاجًا لبحث أو لحسابات أُجريت، وإنما سيكون من قبيل الصدفة.»

من قبيل الصدفة.

على يد طيَّار ابتعد كثيرًا عن مساره بسبب عاصفةٍ ترابية؟

أكان ذلك ما رآه بيل كينريك حين خرج من تلك السحابة البُنِّية الرملية التي أعمته وقارَعته؟ قصورٌ فارغة وسط الرمال؟ أكان ذلك هو ما خرج عن مساره ليبحث عنه — أو ربما ليشاهده — حين «بدأ يعتاد على الوصول بالطائرة متأخرًا»؟

لم يقل شيئًا بعد تلك التجربة الأولى. وذلك أمر يمكن تفهُّمه إن كان ما رآه هو مدينة في الرمال. كان من حوله سيُضايقونه بسبب هذا؛ كانوا سيضايقونه قائلين إنه يتبع سرابًا ويُفرِط في الشراب وما إلى ذلك. وحتى إن كان أحد الطيارين في شركة أورينتال كوميرشال قد سمع بالأسطورة من قبلُ — وهو ما كان غير مرجَّح في مجموعة تتسم بالتغير المستمر واللامبالاة — فإنهم كانوا سيُضايقونه لأنه تبع أفكارًا نابعة من آماله ورغباته. لذا فإن بيل — الذي كتب حروف m وn الملاصقة بعضها لبضع في إحكام، وكان «فقط حذرًا بعض الشيء» — لم يقل شيئًا وعاد ليُلقي نظرةً أخرى. عاد مرةً تلو الأخرى. إما لأنه أراد أن يجد المكان الذي رآه أو لينظر إلى مكان كان قد حدَّد موضعه بالفعل.

أخذ يدرس الخرائط. ويقرأ الكتب عن شبه الجزيرة العربية. ثم …؟

ثم قرَّر المجيء إلى إنجلترا.

كان قد رتَّب للذهاب إلى باريس برفقة تاد كولين. لكنه بدلًا من ذلك أراد أن يقضي بعض الوقت بمفرده في إنجلترا. لم يكن لديه أحد في إنجلترا. ولم يأتِ إلى إنجلترا لسنواتٍ طويلة، وطبقًا لما ذكر كولين فإنه لم يبدُ عليه قَط أنه شعر بحنين إلى إنجلترا، ولا كتب لأحد هناك بأي شكل من أشكال المراسلات المنتظمة. كان قد تربَّى على يد عمة له عندما قُتِل والداه، وحاليًّا هي الأخرى متوفاة. حتى هذا الوقت لم يكن لديه رغبة مطلقًا في العودة إلى إنجلترا.

أسند جرانت ظهره للخلف وسمح للسكون من حوله أن يلفَّه. كان بإمكانه تقريبًا سماع الغبار وهو يحط على الأرض. طوال سنوات وسنوات أخذ الغبار يتساقط في هدوء. مثل مدينة عُبار.

أتى بيل كينريك إلى إنجلترا. وبعد ثلاثة أسابيع تقريبًا، حين كان من المقرر أن يلتقي بصديقه في باريس، ظهر في اسكتلندا باسم شارل مارتن.

كان بإمكان جرانت أن يتوقع سبب رغبته في المجيء إلى إنجلترا، لكن لماذا كان متخفيًا؟ ولماذا هذه الزيارة السريعة إلى الشمال؟

من الذي كان سيَزوره بصفته شارل مارتن؟

كان بإمكانه أن يُنجز تلك الزيارة السريعة ويعود ليلتقي بصديقه في الموعد المحدد في باريس لولا حادثة سقوطه؛ لأنه كان مخمورًا. كان بإمكانه أن يلتقي بشخصٍ ما في منطقة المرتفعات، ثم يطير من بلدة سكون ليلتقي بصديقه في فندق سان جاك على العشاء.

لكن لماذا كان سيفعل ذلك بصفته شارل مارتن؟

أعاد جرانت وضع الكتب على رفِّها بتربيتةِ استحسان لم يُضيعها قط على مجموعة كتب الجزر الغربية، وذهب لزيارة السيد تاليسكر في مكتبه الصغير. كان أخيرًا قد عرف شيئًا عن كينريك. عرف كيف يتتبع أثره.

سأل جرانت السيد تاليسكر: «في رأيك، من كان أعظم من كتب عن شبه الجزيرة العربية في إنجلترا؟»

لوَّح السيد تاليسكر بنظارته الأنفية ذات الشريط وابتسم باستنكار. وقال إنه يوجد ما قد يُطلَق عليه أنه حشد من خلفاء توماس وفيلبي والأسماء العظيمة الأخرى، لكنه يظن أن هيرون لويد وحده هو من يُصنَّف بأنه خبيرٌ عظيم بحق. من المحتمل أن السيد تاليسكر كان متحيزًا لصالح لويد لأنه كان الوحيد في ذلك الحشد الذي كان يكتب بإنجليزيةٍ أدبية، ولكن كان صحيحًا أنه، بعيدًا عن مواهبه في الكتابة، كان يتمتع بمنزلةٍ رفيعة ونزاهة وسمعةٍ كبيرة. لقد أتم رحلاتٍ مذهلة في إطار رحلاته الاستكشافية العديدة، وكانت له مكانةٌ مهمة بين العرب.

شكر جرانت السيد تاليسكر وذهب ليُلقي نظرة على «دليل الشخصيات البارزة». كان يريد عنوان هيرون لويد.

ثم بعد ذلك ذهب ليتناول الطعام، وبدلًا من أن يذهب إلى فندق كاليدونيان، الذي كان ملائمًا ويحمل عددًا كافيًا من النجوم، أطاع دافعًا خفيًّا بداخله وسار إلى الطرف الآخر من البلدة ليتسنَّى له أن يتناول الطعام في المكان الذي كان قد تناول فيه إفطاره مع شبح راكب المقصورة «بي ٧» في ذلك الصباح الكئيب من بضعة أسابيع فحسب.

لم يكن المكان شبه معتم اليوم؛ إذ كان مضيئًا ومتألقًا بالفضة والزجاج والمفارش الكتانية. بل إنه كان يوجد نادلٌ رئيس يتجول بالمطعم. لكن أيضًا كانت ماري هناك؛ هادئة ورصينة وبدينة كما كانت في ذلك الصباح. تذكَّر جرانت كم كان في حاجة إلى من يُهدئ من رَوعِه ويُطمئنه، ولم يكد يصدِّق أن ذلك المخلوق المعذَّب والمنهَك كان يمكن أن يكون هو.

جلس جرانت إلى الطاولة نفسها بجوار الستائر أمام باب الخدمة، فأتت ماري لتأخذ طلبه وتسأله عن أحوال الصيد في نهر تورلي في هذه الآونة.

«كيف عرفتِ أنني كنت أصطاد في نهر تورلي؟»

«كنتَ مع السيد رانكن حين أتيت لتناول الإفطار، حين نزلت من القطار.»

حين نزل من القطار. كان قد نزل من القطار بعد تلك الليلة المليئة بالمعاناة والصراع؛ تلك الليلة البغيضة. قد نزل من على متن القطار تاركًا راكب المقصورة «بي ٧» ميتًا بعد أن نظر إليه نظرةً عابرة ومرَّ به شعورٌ عابر من مشاعر الأسى. لكن راكب المقصورة «بي ٧» كان قد سدَّد مقابل تلك اللحظة من التعاطف البسيط بمئات الأضعاف. كان راكب المقصورة «بي ٧» قد رافقه، وفي النهاية أنقذ حياته. كان راكب المقصورة «بي ٧» هو من أرسله إلى الجزر الغربية، في ذلك البحث المجنون وسط الرياح والصقيع عن العدم. في ذلك المكان الغريب العبثي فعَل جرانت كل تلك الأشياء التي ما كان سيفعلها في أي مكانٍ آخر؛ لقد ضحك حتى سالت دموعه، ورقص، وترك نفسه حرًّا كورقة شجر تطير من أفقٍ فارغ إلى آخر، وغنَّى، وجلس جامدًا يراقب وينظر. وعاد إنسانًا مكتملًا. كان مَدينًا لراكب المقصورة «بي ٧» بأكثر مما يمكن له أن يسدد في أي يوم من الأيام.

وأخذ يفكِّر في بيل كينريك وهو يتناول غداءه؛ ذلك الشاب الذي كان بلا جذور. هل كان وحيدًا في حياته المتحررة، أم كان حرًّا فحسب؟ وإن كان حرًّا، أفكانت حريته كحرية طائر السنونو، أم كالنَّسر؟ أكانت سعيًا إلى العُلا، أم تعاليًا وتغطرسًا؟

على الأقل كان يتحلى بصفة كانت نادرة ومحبَّبة في كل العصور والأزمنة؛ كان رجل أفعال كما كان شاعرًا بالفطرة. هذا ما يميزه عن حشود موظفي أورينتال كوميرشال التافهين الذين كانوا يطيرون بطائراتهم عبر القارات في غفلة كالبعوض. هذا ما يميزه عن حشود الساعة الخامسة في محطة قطار لندنية، الذين كانت المغامرة عندهم عبارة عن ركوب قطار بنصف كراون في أي من الاتجاهَين. ولو لم يكن الشاب المتوفى في المقصورة «بي ٧» مثل سيدني ولا جرينفِل، فعلى الأقل كان واحدًا من نوعيتهم.

ومن أجل ذلك كان جرانت يحبه.

قال الصوت في داخله: «أتَعرِف، إن لم تأخذ حذرك فستتحرك «مشاعرك» تجاه بيل كينريك.»

فقال جرانت مبتهجًا: «لقد تحركت بالفعل»، فتراجع الصوت في صمتٍ منهزم.

منح ماري بقشيشًا مضاعفًا، وغادر ليحجز تذكرتَين في طائرة الصباح إلى لندن. كان لا يزال أمامه أكثر من أسبوع في إجازته، وكان نهر تورلي لا يزال يعجُّ بالأسماك؛ الأسماك الفضية المقاتلة الانسيابية الجميلة، لكن كان أمامه مهمةٌ أخرى. منذ ظهر يوم أمس لم يكن أمامه سوى مهمةٍ واحدة؛ بيل كينريك.

كان لديه شكوك وهواجس عن تلك الرحلة الجوية إلى لندن، لكنها لم تكن جادَّة أو خطيرة جدًّا. حين نظر إلى حاله قبلئذٍ، لم يكَد يستطع أن يتعرف على ذلك المخلوق المرتاع الذي تملَّك منه شيطانه، والذي نزل على رصيف محطة بلدة سكون من قطار بريد لندن قبل أقل من شهر. كل ما تبقَّى من ذلك الكائن البائس كان خوفًا طفيفًا من أن يكون خائفًا. أما شعور الارتياع نفسه فلم يعد موجودًا.

ابتاع حلوى من أجل باتريك ما يكفي لإبقائه مريضًا لثلاثة شهور متواصلة، وقاد السيارة عائدًا إلى التلال. وكان يخشى من أن تغليف الحلوى كان أكثر أناقة من أن تُعجِب باتريك أصلًا — ربما كانت «مخنثة» بعض الشيء؟ — لأن حلوى بات المفضلة التي أعلن عنها كانت شيئًا في نافذة السيدة مير يُسمى «أعين أوجو بوجو». لكن لا شك في أن لورا ستُوزع حلوى سكون بمقاديرَ ضئيلة على أي حال.

أوقف السيارة فوق النهر في منتصف الطريق بين مويمور وسكون، ونزل يسير عبر الأرض الفسيحة ليبحث عن تاد كولين. كان الوقت لا يزال في أول فترة ما بعد الظهيرة، ومن غير المحتمل أن يكون كولين قد انتهى بعدُ من استراحة ما بعد الغداء على النهر.

لم يكن قد بدأها بعدُ. وعندما وصل جرانت إلى حافة الأرض السبخة ونظر إلى الأسفل إلى غور النهر تحته مباشرةً، رأى تحته في منتصف المسافة مجموعةً صغيرة من ثلاثة أشخاص، ساكنين مسترخين على ضفة النهر. كانت زوي مستندة في وضعيتها المفضَّلة على صخرة، وعلى جانبَيها عند مستوى ساقَيها المتقاطعتَين كان تابعاها، بات رانكن وتاد كولين، ينظران إليها بانتباه لا يتزعزع. وحين نظر إليهما جرانت، وهما مستمتعان ومستغرقان، أدرك أن بيل كينريك كان قد قدَّم له خدمةً أخيرة لم ينل التقدير عليها بعدُ. لقد أنقذه بيل كينريك من الوقوع في حب زوي كينتالين.

كانت بضع ساعاتٍ أخرى معها ستؤدي به إلى ذلك. بعد بضع ساعاتٍ أخرى برفقتها المستمرة، كان جرانت سيتورَّط في حبها بما لا يدع له مجالًا للتعافي منه. لقد تدخَّل بيل كينريك في الوقت المناسب تمامًا.

كان بات هو من رآه أولًا، وأتى ليقابله ويصحبه إلى الجلسة كما يفعل الأطفال والكلاب مع من يحبونهم. وأمالت زوي رأسها للخلف لتشاهده وهو قادم وقالت: «لم تفوِّت على نفسك شيئًا يا ألان جرانت. لم يصطَد أحد شيئًا طوال اليوم ولو سمكةً صغيرة. أتُحبُّ أن تأخذ صنارتي قليلًا؟ ربما من شأن تغيير في الوتيرة أن يجلب الأسماك.»

قال جرانت إنه يود ذلك كثيرًا؛ فوقتُه الذي سيقضيه في الصيد كان ينفد.

قالت زوي: «ما يزال أمامك أسبوع لتصطاد كل ما في النهر.»

تساءل جرانت كيف عرفتِ ذلك. ثم قال: «لا، سأعود إلى لندن صباح الغد»، وللمرة الأولى رأى زوي تستجيب إلى أحد المؤثرات كما يفعل البالغون. كانت أمارات الأسف الفورية التي بدت على وجهها واضحةً بنفس القدر الذي كانت واضحة به على وجه بات، لكن على عكس بات، سيطرت زوي على انفعالها وأزالته. وعبَّرت بصوتها الهادئ اللطيف عن مدى أسفها، لكن وجهها لم يعد يُظهر أي انفعال. اكتسى وجهُها ثانيةً بتعبير قصص الجنيات الخرافية؛ كرسومات هانس أندرسن.

وقبل أن يستطيع التفكير فيما حدث، قال تاد كولين: «أيمكنني أن آتي معك يا سيد جرانت؟ إلى لندن.»

«كنت أنوي أن تأتي معي. لقد حجزت تذكرتَين على طائرة الصباح.»

في النهاية أخذ جرانت الصنَّارة التي كان تاد كولين يستخدمها — والتي كانت احتياطية من منزل كلون — حتى يتسنَّى لهم السير معًا مع تيار النهر وتجاذب أطراف الحديث. لكن زوي لم تُبدِ أي استعداد للاستمرار في الصيد.

فقالت وهو تحلُّ صنارتها: «لقد اكتفيت. أظن أنه ينبغي أن أعود إلى كلون لأكتب بعض الخطابات.»

وقف بات متحيِّرًا، ككلبٍ ودود بين اثنين يدين لهما بالولاء، ثم قال: «سأعود مع زوي.»

فكَّر جرانت أن بات قالها وكأنه كان يناصرها وليس مجرد رغبة في مرافقتها، وكأنه انضم للتو إلى حركة مناوئة لإساءة معاملة زوي. لكن حيث إن أحدًا لم يفكِّر مطلقًا في أن يُسيء معاملة زوي، كان سلوكه هذا غير ضروري بكل تأكيد.

ومن الصخرة التي جلس عليها جرانت مع تاد كولين ليُطلعه على المستجدات، راح يراقب الجسدَين يتضاءلان شيئًا فشيئًا عبر الأرض السبخة، وتعجَّب قليلًا من ذلك الانسحاب المفاجئ، وجو الإحباط الذي كان يغشى مسيرها. بدت مثل طفلةٍ يائسةٍ متعَبة تُجرجِر قدمَيها نحو المنزل في غير توقع. ربما غمرتها فجأةً أفكار عن زوجها ديفيد. ذلك هو حال الحزن؛ يتركك وشأنك شهورًا حتى تظن أنك شُفيت، وفجأةً ومن دون سابق إنذار يطمس نور الشمس.

كان تاد كولين يقول: «لكن ذلك لا يثير الحماسة كثيرًا، أليس كذلك؟»

«ماذا تقصد؟»

«تلك المدينة التي تتحدث عنها. هل يمكن لأي أحد أن يتحمس تجاهها كل هذه الحماسة؟ أقصد تجاه حفنة من الأطلال. الأطلال لا تساوي شيئًا في هذا الزمان.»

قال جرانت، وقد نسي أمر زوي: «ليس هذه الأطلال، ليست كذلك. الرجل الذي سوف يعثر على مدينة عُبار سيدخل التاريخ.»

«حين قلتَ إنه وجد شيئًا مهمًّا ظننتُ أنك ستقول إنه وجد مصانع ذخيرة في الصحراء أو شيئًا من هذا القبيل.»

«ذلك شيء لا قيمة له حقًّا هذه الأيام.»

«ماذا؟»

«مصانع سرية للذخيرة. من يكتشف أيًّا منها لن يصبح مشهورًا.»

انتصبت أُذنا تاد. وقال: «مشهورًا؟ تقصد أن الرجل الذي سيكتشف هذا المكان يمكن أن يصبح مشهورًا؟»

«لقد قلتُ ذلك بالفعل.»

«لا. قلتَ فقط إنه سيدخل التاريخ.»

«صحيح. صحيح جدًّا. لم يعد هذان التعبيران مترادفين. أجل، سيصبح مشهورًا. إن اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون سيكون بلا قيمة مقارنةً بهذا.»

«وتظن أن بيل ذهب لمقابلة ذلك الرجل، الذي يُدعى لويد؟»

«إن لم يكن قد ذهب إليه، فقد ذهب إلى شخصٍ آخر في ذلك السياق. أراد أن يتحدث إلى شخص سيأخذ ما يقوله على محمل الجد؛ أقصد شخصًا لن يضايقه ويزعجه حيال رؤيته لهذه الأشياء. كما كان يريد أن يلتقي بشخص لديه اهتمامٌ شخصي بأخباره ومتحمس لها. سيفعل ما فعلته أنا بالضبط. سيذهب إلى متحف أو مكتبة أو ربما حتى إلى أحد أقسام المعلومات في أحد المتاجر الكبرى، ويكتشف من هو أفضل كاتب ومستكشِف إنجليزي لشبه الجزيرة العربية. وعلى الأرجح أنه سيجد نفسه أمام خياراتٍ عدة؛ فأمناء المكتبات مُتحذلِقون، وأقسام المعلومات تخضع لقانون التشهير، لكن لويد خارج المنافسة مع الآخرين؛ لأن براعته في الكتابة تضاهي براعته في الاستكشاف. إنه الاسم المألوف وسط أقرانه، إن جاز التعبير. لذا فإن الاحتمال الأرجح للغاية هو في صالح أن بيل سيختار لويد.»

«إذَن علينا أن نكتشف متى وأين التَقى لويد ونتتبع أثره من تلك النقطة.»

«أجل. علينا أيضًا أن نعرف إن كان قد ذهب للقاء لويد بصفته شارل مارتن أم باسمه الحقيقي.»

«ولماذا قد يلتقي به باسم شارل مارتن؟»

«من يدري؟ قلتَ إنه كان حذرًا بعض الشيء. ربما كان يريد أن يُخفي صلته بشركة أورينتال كوميرشال. أهذه الشركة صارمة بشأن مساراتها وجداول رحلاتها؟ ربما كان الأمر بهذه البساطة.»

جلس كولين في صمت قليلًا، وكان في أثناء ذلك يرسم نمطًا على العشب بعقب صنارة الصيد. ثم قال:

«لا تظن يا سيد جرانت أنني أميل إلى المأساوية أو … أو الحساسية أو السذاجة، لكنك لا تظن أن بيل قُتِل، أليس كذلك؟»

«يمكن أن يكون قد قُتِل بالطبع. فجرائم القتل تحدث. حتى جرائم القتل العبقرية. لكن احتمالات ذلك بعيدة جدًّا.»

«لماذا؟»

«مبدئيًّا لأن الأمر اجتاز تحقيقًا شُرطيًّا. وعلى عكس كل الروايات البوليسية التي تقول بغير ذلك، تتمتع إدارة التحقيقات الجنائية بكفاءةٍ عالية حقًّا. وهي إلى حدٍّ بعيد — إن كنت ستتقبل رأيًا متحيزًا بعض الشيء — أكثر المؤسسات كفاءة في هذا البلد في وقتنا الحالي، أو في أي بلد آخر، في أي وقت من الأوقات.»

«لكن الشرطة كانت مخطئة بالفعل بشأن أحد الأمور.»

«تقصد بشأن هويته. أجل، لكن لا يمكن لومها على ذلك.»

«تقصد لأن الحبكة كانت مثالية. إذَن ما الذي سيقوِّض الحبكة الأخرى؛ إذ إنها مثالية كحبكة هوية شارل مارتن؟»

«لا شيء بالطبع. فكما قلت، جرائم القتل العبقرية تحدث. لكن تزوير هوية أسهل بكثير من ارتكاب جريمة قتل دون عقاب. كيف حدث الأمر برأيك؟ هل دخل عليه أحد وقتله بعد أن غادر القطار محطة يوستن، ودبَّر أن يبدو الأمر وكأنه سقط؟»

«أجل.»

«لكن لم يزُر أحدٌ المقصورة «بي ٧» بعد أن غادر القطار يوستن. لقد سمعته راكبة المقصورة «بي ٨» يعود بعد أن أتمَّ المضيف جولته، وأغلق بابه. ولم تجرِ أي محادثة بعد ذلك.»

«لا يستلزم ضرب رجل على مؤخِّرة رأسه محادثةً.»

«لا، لكنه يستلزم فرصةً. فاحتمالات أن يفتح القاتل الباب ويجد شاغل المقصورة في الوضعية المناسبة لأن يضربه على مؤخِّرة رأسه تكاد تكون منعدمة. فالمقصورة ليست مكانًا يسهل فيه أن تضرب فيه شخصًا، ولا حتى اختيار التوقيت المناسب؛ فهي مقصورة للنوم. سيتعيَّن على أي أحد يُبيِّت سوء النية أن يدخل إلى المقصورة؛ فلا يمكن توجيه الضربة من الممر. ولا يمكن توجيه الضربة والضحية في السرير. وكذلك لا يمكن توجيهها والضحية مُواجِه لك، كما أنه سيلتفت بمجرد أن يدرك أن أحدهم موجود معه في المقصورة. وتقول راكبة المقصورة «بي ٨» إنه لم تحدث أي محادثة أو زيارة. وراكبة المقصورة «بي ٨» من النوع الذي «لا يستطيع أن ينام في قطار». إنها تقرر ذلك مسبقًا، وكل صوت وصرير وقعقعة، ولو كان ضئيلًا، يسبب لها معاناةً كبيرة. ومن عادتها أنها تغطُّ في النوم بحلول الثانية والنصف، لكن بيل كينريك كان قد مات قبل ذلك بوقت طويل.»

«هل سمعتْه يسقط؟»

«يبدو أنها سمعت صوت «ارتطام»، وظنَّت أنه كان يُنزِل إحدى حقائبه. لكنه بالطبع لم يكن معه حقائب من شأنها أن تصدر صوت ارتطام وهو يتعامل معها. بالمناسبة، هل كان بيل يتحدث الفرنسية؟»

«بما يكفي لأن يتدبَّر أمره.»

فقال جرانت بالفرنسية: «معي.»

«أجل. شيء كهذا. لكن لماذا؟»

«مجرد تساؤل. يبدو أنه كان ينوي أن يقضي ليلةً في مكانٍ ما.»

«تقصد في اسكتلندا؟»

«أجل. الكتاب المقدَّس والرواية الفرنسية. ومع ذلك لم يكن يتحدث الفرنسية.»

«ربما كان الرجل الاسكتلندي الذي كان سيلتقيه لا يتحدثها أيضًا.»

«لا. فالاسكتلنديون لا يتحدثونها عادةً. لكن إن كان قد خطط لقضاء ليلة في مكانٍ ما لما كان سيتمكَّن من لقائك في ذلك اليوم في باريس.»

«أوه، ما كان بيل سيعبأ بأن يتأخر يومًا. كان سيرسل لي برقية في الرابع من الشهر.»

«أجل … أتمنى أن أستطيع أن أجد سبب تخفِّيه.»

«تخفِّيه؟»

«أجل. أن يتلبَّس الشخصية بهذه المثالية. لماذا كان يريد أن يظن أحدهم أنه كان فرنسيًّا؟»

فقال السيد كولين: «لا يمكنني أن أفكر في سبب يجعل شخصًا ما يريد أن يظن شخصٌ آخر أنه فرنسي. ما الذي تأمُل أن تحصل عليه من ذلك الرجل المدعو لويد؟»

«آمُل أن يكون لويد هو آخر من رآه في يوستن. لا تنسَ أنهما كانا يتحدثان عن الربع الخالي. ما بدا لمسامع يوجورت العجوز مشابهًا تمامًا لكلمة «سرقة كالي».»

«هل يعيش لويد في لندن؟»

«أجل. في تشيلسي.»

«آمل أن يكون في المنزل.»

«آمل ذلك حقًّا. والآن سأذهب لأقضي ساعةً أخيرة عند نهر تورلي، وإن كنت تطيق الجلوس والتفكير في المسألة لبعض الوقت، فربما يمكنك أن تأتي إلى منزل كلون لتناول العشاء ومقابلة أسرة رانكن؟»

فقال تاد: «لا بأس بهذا. فأنا لم أودِّع الكونتيسة. لقد غيَّرت رأيي فيما يتعلق بالكونتيسات. أيمكن أن تقول إن الكونتيسة مثالٌ نموذجي على طبقتكم الأرستقراطية، يا سيد جرانت؟»

ردَّ جرانت وهو يسير بحذر نزولًا من الضفة إلى الماء: «إن كان المقصود امتلاكها لكل الصفات التي تؤهلها للانتماء إلى هذه النوعية، فهي بالفعل نموذجية.»

وطفق يصطاد حتى نبَّهه خفوت الضوء إلى أن المساء قد حلَّ، لكنه لم يصطَد شيئًا. كانت تلك نتيجة لم تفاجئه ولم تُصِبه بخيبة الأمل كذلك. إذ كان شاردًا بأفكاره في مكانٍ آخر. لم يعد يرى وجه بيل كينريك الميت في الماء المتدفق، لكن شخصية بيل كينريك كانت تحيط به من كل جانب. لقد استولى بيل كينريك على عقله.

ألقى جرانت بخيط صنارته في الماء للمرة الأخيرة وهو يطلق تنهيدة، ليس بسبب حقيبته الفارغة من السمك أو وداعًا لنهر تورلي، وإنما لأنه لم يقترب من التوصل إلى سبب تخفِّي بيل كينريك تمامًا بهذا الشكل.

قال تاد بينما كانا يسيران نحو منزل كلون: «أنا مسرور لأنني حظيت بهذه الفرصة لرؤية هذه الجزيرة. إنها ليست بالشكل الذي تخيَّلته على الإطلاق.»

استنتج جرانت من نبرته أنه تخيَّلها تشبه عُبار؛ مسكونة بالقرود والجن.

فقال: «أتمنى لو كانت مناسبة رؤيتك لها أسعد. لا بد أن تعود يومًا ما وتصطاد في سلام.»

افترَّ ثغر تاد عن ابتسامةٍ صغيرة علَت وجهًا كساه الخجل وداعب شعره المبعثر. وقال: «أوه، أظن أن باريس ستكون دائمًا وجهتي. أو ربما فيينا. فحين تُمضي أيامك في البلدات الصغيرة النائية تتطلَّع إلى الأضواء الساطعة.»

«لدينا أضواءٌ ساطعة في لندن.»

«أجل. ربما سأشعر في لندن بمذاقٍ آخر. لا بأس بلندن.»

أقبلت لورا على الباب حين وصلا وقالت: «ألان، ما هذا الذي سمعته عن …» ثم لاحظت وجود رفيقه. «أوه، لا بد أنك تاد. يقول بات إنك لا تصدِّق أنه توجد أسماك في نهر تورلي. تشرفت بلقائك. سُررتُ كثيرًا بمجيئك. ادخل وسيُريك بات أين تتحمم، بعدها تعالَ وانضم إلينا لتناوُل شراب قبل العشاء.» ثم استدعت بات، الذي كان يحوم في الجوار، وسلَّمت الزائر إلى عهدته، معترضةً بصرامة أي محاولة تقدم من قريبها. وحين تخلَّصت من السيد كولين عادت مرةً أخرى إلى هجومها. «ألان، «لن» تعود إلى المدينة غدًا، أليس كذلك؟»

فقال جرانت: «لكنني شُفيت يا لالا»، ظنًّا منه أن ذلك ما كان يزعجها.

«وماذا في ذلك؟ ما زال لديك أكثر من أسبوع في إجازتك، ونهر تورلي الآن أفضل ما كان عليه طيلة عدة مواسم مضت. لا يمكنك أن تتخلى عن كل هذا من أجل أن تُخرج شابًّا من مأزق وضعَ نفسه فيه.»

«تاد كولين ليس في مأزق على الإطلاق. أنا لست شهمًا دونكيخوتيًّا، إن كان هذا ما تظنين. سأذهب غدًا لأن هذا هو ما أريد أن أفعل.» وكان سيُضيف: «لا أطيق صبرًا على الذهاب»، لكن هذا كان سيؤدي إلى سوء فهم حتى مع شخصٍ مقرَّب مثل لورا.

«لكننا جميعًا سعداء، والأمور كانت …» ثم صمتت. وتابعت: «أوه، لا بأس. لا شيء مما يمكن أن أقول سيَثنيك عن قرارك. لا بد أن أعرف هذا. لم ينجح أي شيء قَط في جعلك تتحول قِيدَ أنملة عن مسارٍ تريده بمجرد أن تقرر ذلك. لطالما كنتَ مثل قوةٍ ساحقة لعينةٍ لا يمكن إيقافها.»

قال جرانت: «يا له من تشبيهٍ مريع! ألم يكن بوسعكِ أن تجعليها رصاصةً أو خطًّا مستقيمًا أو شيئًا مماثلًا من حيث الثبات لكنه أقل تدميرًا؟»

فتأبَّطت ذراعه بودٍّ وبعض المرح. وقالت: «لكنك مدمِّر يا عزيزي.» وعندما بدأ يحتج على ذلك، استطردت: «بألطف الطرق التي يمكن تخيُّلها وأكثرها إبادة. تعالَ لتتناول شرابًا. يبدو عليك أنك في حاجة إليه.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤