الفصل الخامس

في الصباح استيقظ وهو يشعر بآلام الروماتيزم في كتفه اليمنى. فظلَّ راقدًا يفكِّر في هذا الأمر في اندهاشٍ متسم بالتمهل. لا يوجد حدٌّ لما يمكن أن يحققه عقلك الباطن وجسدك معًا. يمكنهما أن يوفرا لك أي ذريعة تريد. ذريعة جيدة وصادقة على نحوٍ مثالي. عرف أزواجًا كانت درجة حرارتهم ترتفع وتظهر عليهم أعراض الإنفلونزا في كل مرة تكون فيها زوجاتهم على وشك أن يغادرن لزيارة الأقارب. وعرف نساءً كنَّ يتسمن بالصلابة لدرجة أنه كان يمكنهن أن يشاهدن عراكًا بالموسى دون أن يرمش لهن جفن، ومع ذلك كن يفقدن الوعي في إغماءاتٍ شديدة حين يُطرح عليهن سؤال محرج أو صعب. («هل انهارت المتهمة بفعل استجواب الشرطة لها لدرجة أنها فقدت الوعي مدة خمس عشرة دقيقة؟» «لقد غابت عن الوعي بلا شك.» «لا شك في أنها تظاهرت بفقدان الوعي، أليس كذلك؟ يقول الطبيب إنه رآها وقت الواقعة، وكانت توجد صعوبةٌ كبيرة في إفاقتها. وهذا الانهيار كان نتيجةً مباشرة لاستجواب الشرطة الذي كان …» وما إلى ذلك.) أوه، أجل. لا يوجد حد لما يمكن أن يدبِّره كلٌّ من عقلك الباطن وجسدك معًا. واليوم كانا قد دبَّرا شيئًا سيبعده عن النهر. كان عقله الباطن يريد الذهاب إلى سكون اليوم والتحدث مع أمين المكتبة العامة. وعلاوةً على ذلك، كان عقله الباطن قد تذكَّر أن اليوم هو يوم السوق، وأن تومي سيأخذ السيارة إلى سكون. لذا فقد شرع عقله الباطن في العمل مع جسده المتملِّق دائمًا ومعًا حوَّلا عضلات كتفه المتعبة إلى مفصل لا يعمل.

كم هذا دقيق!

نهض وارتدى ملابسه، وكان يجفل في كل مرة يرفع فيها ذراعه، ثم نزل إلى الأسفل ليتسوَّل توصيلة من تومي. حزِن تومي على إصابته لكنه كان مسرورًا بصحبته، فكان كلاهما مُغتبِطًا في هذا الصباح الربيعي الدافئ، وكان جرانت مفعَمًا بالسرور حتى إن استنباط المعلومات دائمًا ما كان يكفيه، لدرجة أنهما كانا يمرَّان بالسيارة عبر ضواحي سكون الخارجية قبل أن يتذكَّر أنه كان في سيارة. إنه كان حبيس سيارةٍ مغلقة.

كان في غاية السرور.

قطع وعدًا بأن يلتقي تومي على الغداء في فندق كاليدونيان، وذهب يبحث عن المكتبة العامة. لكن وقبل أن يبتعد واتته فكرةٌ جديدة. كان قطار «فلاينج هايلاندر» قد مرَّ يُطقطِق فوق فواصل السكة في سكون قبل بضع ساعات فقط. فكل أربع وعشرين ساعة من بداية العام وحتى نهايته، كان قطار «فلاينج هايلاندر» يقوم بتلك الرحلة الليلية ويصل إلى سكون صباحًا. وحيث إن أطقم القطارات غالبًا ما تكون عالقة في الرحلة نفسها، متناوبةً فيما بين أفرادها أيام العمل والإجازات، كان يوجد احتمال أن واحدًا من الطاقم الذي كان وصل إلى سكون على متن القطار «فلاينج هايلاندر» هذا الصباح هو موردو جالاتشر.

لذا غيَّر اتجاهه وذهب إلى المحطة بدلًا من المكتبة.

سأل أحدَ الحمَّالين: «هل كنتَ في مناوبتك حين وصل قطار بريد لندن هذا الصباح؟»

قال الحمَّال: «لا، لكن لاتشي كان في مناوبته.» ثم مطَّ الرجل شفتَيه وأطلق صافرةً كان من شأنها أن تكون مَدعاةَ فخرٍ لقطار، وأمال رأسه إلى الخلف قليلًا لينادي على زميلٍ بعيد مستدعيًا إياه، وعاد إلى قراءة صفحة سباق الخيل في صحيفة «كلاريون».

مضى جرانت ليلتقي بلاتشي الذي كان يتقدَّم ببطءٍ وطرح عليه السؤال نفسه.

أجل، كان لاتشي في الخدمة.

«أيمكنك أن تخبرني إن كان موردو جالاتشر هو أحد المضيفين القائمين على عربات النوم؟»

رد لاتشي بالإيجاب، وأن ذلك العجوز النَّكِد كان على متن القطار.

هل يمكن أن يخمن لاتشي مكان وجود ذلك العجوز النَّكِد الآن؟

رفع لاتشي ناظرَيه إلى ساعة المحطة. كانت قد تخطت الحادية عشرة.

أجل، يمكن أن يخمن لاتشي مكانه. سيكون في حانة إيجل بار ينتظر أن يبتاعه شخصٌ شرابًا.

وهكذا ذهب إلى حانة إيجل بار الواقعة خلف محطة سكون، ووجد أن لاتشي كان مصيبًا بالإجمال. كان يوجورت هناك بالفعل، يتوق إلى نصف كوب من الجعة. فطلب جرانت مشروب ويسكي لنفسه ولاحظ أن يوجورت صَرَّ أُذنَيه بانتباهٍ شديد.

فقال ليوجورت بنبرةٍ ودودة: «صباح الخير. لقد اصطدت خيرًا وفيرًا مذ رأيتك آخر مرة.» وسُرَّ لرؤية إشراقة الأمل تتزايد على وجه يوجورت.

وقال مدَّعيًا بأنه يتذكر جرانت: «أنا مسرور لذلك يا سيدي، في غاية السرور. أنت الذي ذهبت إلى نهر تاي، صحيح؟»

«لا، إلى نهر تورلي. بالمناسبة، ما الذي تسبَّب في وفاة ذاك الشاب؟ ذاك الذي تركتك وأنت تحاول إيقاظه.» بدأ النفور يحلُّ محل اللهفة البادية على وجه يوجورت. فأضاف جرانت: «ألن تنضمَّ إليَّ؟ أتريد ويسكي؟» فهدأ يوجورت بالًا.

بعد ذلك كان الأمر سهلًا. كان الاستياء لا يزال يسيطر على يوجورت بسبب تلك الحادثة المزعجة التي مر بها. كان يتحتم عليه حتى أن يحضر التحقيق في وقت فراغه. فكَّر جرانت قائلًا لنفسه إن الأمر سهل كالتعامل مع رضيع تعلَّم الركض لتوِّه. كان الأمر يتطلب لمسةً صغيرة فحسب من أجل توجيهه في الاتجاه المطلوب.

لم يبغض يوجورت ضرورة حضور التحقيق فحسب، بل كان يبغض التحقيق نفسه وكل شخص ذي صلة به. وبين بغضه للتحقيق وكأسَين مزدوجتَين من الويسكي كان قد أمدَّ جرانت برواية في غاية التفصيل عن كل شخص وكل شيء. كان ما أدلى به يوجورت له هو أفضل مردود في مقابل أي مال دفعه جرانت من قبلُ. لقد «ظل» يحكي المسألة كلها من بدايتها وحتى نهايتها، منذ أول ظهور لراكب المقصورة «بي ٧» في يوستن وحتى حكم محقق الوفَيات. من ناحية كونه مصدرًا للمعلومات كان يوجورت المصدر الأكثر وثوقًا، وكان يصب المعلومات صبًّا وكأنه «صنبور جعة».

سأله جرانت: «هل سافر معك من قبلُ؟»

لا، لم يكن يوجورت قد رآه من قبلُ مطلقًا، وكان مسرورًا أنه لن يراه مرةً أخرى.

وهنا تحوَّل فجأةً شعور جرانت بالرضا إلى شعور بالتشبُّع. لو أمضى نصف دقيقة أخرى مع يوجورت فسيُصاب بالغثيان. دفع بنفسه بعيدًا عن منضدة حانة إيجل بار، وذهب يبحث عن المكتبة العامة.

كانت المكتبة مخيفة بما يفوق الوصف؛ إذ كانت شيئًا ضخمًا قبيحًا أحجاره بلون الكبد، لكنها بعد يوجورت بدت زهرة الحضارة الجميلة. كانت مساعدات المكتبة لطيفاتٍ فاتنات، وكان أمينها رجلًا نحيلًا صغير الحجم أنيقًا أناقةً ذابلة، ويرتدي ربطة عنق ليست أعرض من الشريط الحريري الأسود المعلقة فيه نظارته. كترياق لقضاء وقت أكثر من اللازم مع موردو جالاتشر لم يكن يمكن أن يكون أفضل من ذلك.

كان السيد تاليسكر القصير اسكتلنديًّا من جزر أوركني — التي، كما أوضح، لم تكن اسكتلندية على الإطلاق — وكان الرجل مهتمًّا بالجزر الغربية، وكذلك على معرفة واطلاع بها. كان يعرف كل شيء عن الرمال المغنية في منطقة كلادا. وكان ثَمة زعمٌ بأنه توجد رمالٌ مغنيةٌ أخرى (فكل جزيرة كانت تريد أن يكون لديها ما لدى جيرانها بمجرد أن تسمع عن وجود أي مُقتنًى جديد، سواء كان ميناءً أو أسطورة)، لكن رمال كلادا كانت هي الرمال الأصلية. تمتد تلك الرمال، مثل معظم رمال الجزر الغربية، ناحية المحيط الأطلنطي، مواجهةً المحيط الشاسع. ومُطلةً على تير نان أونج. وهي، كما قد يعرف السيد جرانت، الفردوس الغيلية. أرض الشباب الأبدي. كان من المشوق حقًّا أن كل شعب طوَّر فكرته الخاصة عن الفردوس، أليس كذلك؟ إحداها أنها مهرجان من النساء الجميلات، وأخرى أنها غياهب النسيان، وثالثة أنها موسيقى متواصلة ولا عمل، ورابعة أنها مناطق صيد جيدة. كان السيد تاليسكر يرى أن الغيليين قد كوَّنوا الفكرة الأفضل عن الفردوس. وهي أنها أرض الشباب الأبدي.

ما الذي كان يغني؟ سأله جرانت هذا السؤال مقاطعًا ذلك التحليل للمقارَنات بين صور النعيم.

قال السيد تاليسكر إن هذه نقطةٌ خلافية. يمكنك، بالطبع، أن تنظر للأمر بإحدى طريقتَين. فقد سار على تلك الرمال بنفسه. وهي أميال لا نهائية من رمالٍ بيضاءَ صافية على شاطئ بحرٍ رائع. كانت الرمال «تغني» بالفعل حين يطؤها المرء، لكن تاليسكر نفسه كان يرى أن كلمة «صرير» وصفٌ أفضل. وعلى الجانب الآخر وفي أي يوم تكون فيه الرياح ثابتة — ومثل هذه الأيام لم يكن حدثًا غير معتاد في الجُزر الغربية — تجد الرمال السطحية الناعمة، والتي تكاد تكون غير مرئية، تنجرف على طول الشواطئ الرحبة بحيث «تغني» بالفعل.

ومن الرمال قاده جرانت إلى الفقمات (بدا أن الجزر الغربية كانت تعجُّ بالحكايات عن الفقمات، وتحويل الفقمات إلى الرجال والعكس؛ ولو صدقت هذه الحكايات لكانت تجري في عروق نصف سكان تلك الجزر بعض دماء الفقمات)، ومن الفقمات انتقل به إلى الحديث عن الأحجار التي تسير، وفي كل المواضيع كان السيد تاليسكر ممتع الحديث غزير المعلومات. لكنه أخفق في تلبية التوقعات أثناء الحديث عن الأنهار. بدا أن الأنهار هي الشيء الوحيد في كلادا الذي يشبه تمامًا نظراءه في أي مكانٍ آخر. وفيما عدا أنها كانت تنبسط لتتحول إلى بحيراتٍ صغيرة أو تغيض فتصير مستنقعًا، كانت الأنهار في كلادا مجرد أنهار؛ مياه تعكف على أن تكون منبسطةً مسطحة.

فكَّر جرانت، وهو يغادر للقاء تومي على الغداء، أنها كانت «تقف» بطريقةٍ ما. إذ تجري المياه لتصبَّ في مياهٍ راكدة؛ إلى مستنقع. ربما يكون راكب المقصورة «بي ٧» قد استخدم الكلمة لأنه كان في حاجة إلى قافية. كان في حاجة لشيء تتناغم قافيته مع كلمة رمال.

استمع بشرود إلى حديث مربيَي الأغنام اللذين أحضرهما تومي إلى الغداء، وكان يغبطهما على أعيُنهما المطمئنة ومظهرهما الذي كانت تبدو عليه الراحة غير المحدودة. لم يكن يوجد شيء يُقلق هذين المخلوقين الضخمين الهادئين. كان الجزء الأكبر من قطعان هذين الرجلين يهلك بين الحين والآخر بفعل ضربات القدر، كالعواصف الثلجية الهائلة أو الأمراض السريعة الانتشار. لكنهما كانا يظلان هادئَين رزينَين، كالتلال التي تربَّيا عليها. كانا رجلَين كبيرَين بطيئَين، زاخرَين بالطرائف الصغيرة، وتسعدهما أشياءُ بسيطة. كان جرانت واعيًا جدًّا إلى أن هوسه براكب المقصورة «بي ٧» كان أمرًا غير منطقي؛ أمرًا شاذًّا، وأنه كان جزءًا من مرضه. وأنه في حالته العقلية المتزنة ما كان سيفكِّر مرةً أخرى بشأن راكب المقصورة «بي ٧». كان مستاءً من هوسه ومتعلِّقًا به. كان بلاؤه وملاذه في الوقت نفسه.

لكنه عاد مع تومي بالسيارة إلى البيت، وكان أكثر ابتهاجًا مما كان عليه حين غادر. لم يكن يوجد تقريبًا أي شيء يخصُّ التحقيق بشأن شارل مارتن، الميكانيكي الفرنسي، لم يكن يعرفه. كان قد أصبح ملمًّا بقدرٍ أكبر من المعلومات حول الأمر. وكان ذلك كثيرًا.

بعد تناول العشاء نحَّى جانبًا الكتاب الذي يتناول السياسات الأوروبية، الذي كان قد شهد مع هاتف تومي ما كان يشغله في الأمسية السابقة، وذهب يبحث على أرفف الكتب عن كتاب حول الجزر الغربية.

سألته لورا وهي ترفع ناظرَيها عن صحيفة «ذا تايمز»: «هل تبحث عن شيءٍ محدَّد يا ألان؟»

«أبحث عن شيء حول الجزر الغربية.»

«جزر هيبريديز؟»

«أجل. أظن أنه يوجد كتاب عنها.»

قالت لورا في سخرية ودهشة: «هاه! يوجد كتاب عنها! توجد مؤلفاتٌ أدبيةٌ كاملة عنها يا عزيزي. الاستثناء في اسكتلندا ألا تكون قد كتبت كتابًا عن هذه الجزر.»

«هل لديكِ أيٌّ منها؟»

«لدينا الكتب كلها تقريبًا. كل من أتى ليمكث هنا أحضر معه كتابًا عنها.»

«ولماذا لم يأخذوا الكتب معهم؟»

«ستعرف السبب حين تتصفحها. ستجد هذه الكتب على الرف السفلي. يوجد صفٌّ كامل منها.»

بدأ يستعرض الكتب التي في الصف، مستخرِجًا موضوعاتها الرئيسية بعينَين متمرستَين سريعتَين.

سألته لورا: «لماذا هذا الاهتمام المفاجئ بالجزر الغربية؟»

«تلك الرمال المغنية التي تحدَّث عنها وي آرتشي عالقة في ذهني.»

«لا بد أن تلك هي المرة الأولى التي يقول فيها وي آرتشي شيئًا ويَعلق في ذهن أحدهم.»

فأضاف تومي من خلف صحيفة «كلاريون»: «أتوقَّع أن أمه لا تزال تتذكر كلمته الأولى.»

«يبدو أن «تير نان أوج» تقع على بُعد مسافة قليلة جدًّا غربًا من الرمال المغنية.»

قالت لورا: «وكذلك أمريكا. وهي أقرب كثيرًا إلى تصور سكان الجزر للفردوس من «تير نان أوج».»

فقال جرانت، مكرِّرًا كلام السيد تاليسكر عن التصورات المقارنة عن الفردوس، إن الغيليين كانوا هم العرق الوحيد بين البشر الذي تخيَّل الفردوس على أنها بلاد للشباب؛ الأمر الذي كان محبَّبًا من جانبهم.

قالت لورا بنبرةٍ جافة: «إنهم العرق البشري الوحيد المعروف الذي ليس لديه في مفرداته اللغوية كلمة «لا». وتلك سمةٌ مميِّزة كاشفة أكثر من فكرتهم عن الخلود.»

عاد جرانت قرب المدفأة بملء ذراعَيه من الكتب، وبدأ يستعرضها على مهل.

فقالت لورا بعد تفكير: «من الصعب أن نتخيل عقلًا لم يستنبط كلمةً بمعنى «لا»، أليس كذلك؟» ثم عادت إلى مطالعة صحيفة «ذا تايمز».

تنوَّعت الكتب ما بين العلمي والعاطفي والخيالي البحت. ومن تقليد حرق عشب البحر إلى القديسين والأبطال. ومن مراقبة الطيور إلى الحج لخلاص الروح. وكانت الكتب تتنوع أيضًا ما بين المثير للإعجاب والممل في الوقت ذاته، والسيئ على نحوٍ لا يُصدَّق. بدا أنه لا أحد ممن زاروا تلك الجزر أحجم عن الكتابة عنها. وكانت قوائم المراجع الموجودة في الصفحات الأخيرة من أكثر الكتب رزانةً تُنصِف الإمبراطورية الرومانية. لكن اتفقت جميع الكتب على شيءٍ واحد: وهو أن هذه الجزر كانت ساحرة. كانت الجزر الملاذ الأخير للحضارة في عالمٍ أصيب بالجنون. كانت الجزر جميلة جمالًا يفوق التصور؛ عالم مفروش بزهورٍ برية وحدوده بحرٌ يفتت الياقوت ويلفظه على شواطئَ فضية. أرضٌ نور شمسُها ساطعٌ متلألئ، وأهلها يتَّسمون ببهاء الطلعة، وموسيقاها تنفذ إلى الروح. تنزلت الموسيقى الجامحة والمحبوبة منذ بدء الزمان، منذ عصر كانت فيه الآلهة يافعة. وإن أردت الذهاب إلى هناك، فانظر جدول مواعيد عبَّارات ماكبراين في الصفحة الثالثة من الملحق.

أبقت الكتب جرانت منشغلًا في سعادة حتى جاء وقت النوم. وبينما كانوا يشربون مشروبهم الليلي قال: «أودُّ أن ألقي نظرةً على الجزر الغربية.»

قال تومي موافقًا إياه: «ضع خطة لفعل ذلك في العام المقبل. توجد رحلات صيد جيدة جدًّا على جزيرة لويس.»

«لا، بل أقصد الآن.»

فقالت لورا: «تذهب الآن! لم أسمع مطلقًا قولًا بهذا الجنون.»

«لماذا؟ لا يمكنني أن أذهب للصيد إلا بعد أن يتعافى كتفي؛ لذا ربما يكون من الأفضل أن أذهب للاستكشاف.»

«سيكون كتفك على ما يرام في غضون يومَين بمعالجتي له.»

«كيف يذهب المرء إلى كلادا؟»

قال تومي: «من أوبان، على ما أظن.»

«ألان جرانت، لا تكن أحمق. إن لم تكن تستطيع الصيد ليوم أو اثنين فتوجد مئات الأشياء الأخرى التي يمكنك فعلها بدلًا من عبور مضيق مِنش في قارب تعصف به الرياح في شهر مارس.»

«يقولون إن الربيع يحل مبكِّرًا على الجزر.»

«لكنه لا يحل مبكِّرًا على مضيق مِنش، صدِّقني.»

قال تومي، وهو ينظر في الموضوع كما ينظر في كل شيء يُطرَح أمامه، برصانةٍ متسمة باللطف: «يمكنك الذهاب بالطائرة بالطبع. يمكنك أن تذهب بالطائرة في يوم وتعود في اليوم التالي، إن شئت. إنها خدمة نقل جيدة جدًّا.»

ساد الصمت قليلًا بينما التقت عينا جرانت بعينَي قريبته. كانت تعرف أنه لا يستطيع ركوب الطائرات، وكانت تعرف السبب.

فقالت بنبرةٍ ألطف: «تخلَّ عن الفكرة يا ألان. ثَمة أشياء تفعلها أفضل بكثير من أن تنقلب رأسًا على عقب في منتصف مضيق مِنش في شهر مارس. إن كنت تريد الابتعاد عن كلون لبعض الوقت فلمَ لا تستأجر سيارة — يوجد مرأبٌ جيد للغاية في بلدة سكون — وتذهب لاستكشاف البر الرئيسي لأسبوع أو نحو ذلك؟ والآن إذ صار الجو ألطف ستحلُّ الخضرة في الغرب.»

«ليس الأمر أنني أريد الابتعاد عن كلون. على العكس تمامًا. لو كنت أستطيع أن آخذ كلون كلها معي لفعلت. كل ما في الأمر أنني لا أستطيع التخلص من فكرة الرمال المغنية.»

رأى أن لورا بدأت تنظر إلى الفكرة من زاويةٍ جديدة، وكان بإمكانه أن يرى جيدًا جدًّا فيمَ تفكِّر. إن كان هذا هو ما يريده عقله المريض، فسيكون من الخطأ أن تحاول إثناءه. فاهتمامه بمكان لم يرَه من قبلُ لا بد أن يكون رد فعل مثاليًّا على تأملٍ مهووسٍ متواصلٍ نابع من وعيٍ ذاتي.

«أوه، في الواقع، أظن أن دليل برادشو هو ما تحتاجه. لدينا واحد، لكننا نستخدمه في الغالب عتبةً للباب أو درجةً للوصول إلى رفِّ الكتب العلوي؛ لذا فهو متقادم قليلًا.»

قال تومي: «فيما يخصُّ خِدمات النقل إلى الجزر الغربية الخارجية، لن يهمني تاريخه. فجداول مواعيد عبَّارات ماكبراين غير قابلة للتغيير شأنها في ذلك شأن شرائع الميديين والفُرس. وكما قال أحدهم، هي لا تتخطى الأبدية بالضبط، لكنها تكاد أن تصمد أطول من الزمن.»

وهكذا وجد جرانت دليل برادشو وأخذه معه إلى الفراش.

وفي الصباح استعار حقيبةً صغيرة من تومي، ووضع فيها الاحتياجات الحياتية الضرورية للغاية التي تكفي مدة أسبوع أو نحو ذلك. كان يحب دائمًا السفر بمتاعٍ قليل، ودائمًا ما كان يسعده أن يخلو بنفسه بعيدًا، حتى عن الأشخاص الذين كان يحبهم (وهي صفة كان لها دورٌ كبير في بقائه أعزب)، وانتبه إلى نفسه فوجد أنه كان يُصفِّر صفيرًا خافتًا وهو يضع بضعة أشياء في الحقيبة الصغيرة. لم يكن قد صفَّر فيما بينه وبين نفسه منذ امتدت عتمة الجنون وسلبته الإشراق والأمل.

كان على وشك أن يعود حرًّا طليقًا بلا التزامات ولا قيود؛ حرًّا طليقًا بلا التزامات ولا قيود. كانت تلك فكرةً جميلة.

كانت لورا قد وعدته بأن توصِّله إلى بلدة سكون في الوقت المناسب للحاق بالقطار إلى أوبان، لكن جراهام كان قد تأخَّر في العودة بالسيارة من قرية مويمور؛ لذا لم تكن مسألة لحاقه بالقطار محسومة على الإطلاق. ونجحا في اللحاق بالقطار قبل ثلاثين ثانية فقط من تحرُّكه، فدفعت له لورا وهي تلهث بحزمة أوراق من نافذة القطار المفتوحة بينما كان القطار يبدأ في التحرك، وقالت لاهثةً: «استمتع يا عزيزي. فدوار البحر يصنع الأعاجيب بالكبد.»

جلس وحيدًا في المقصورة، تغشَّته حالة ذهول مختلطة برضًا، والمجلات مبعثرة إلى جواره على الكرسي. راح يشاهد منظر الطبيعة الجرداء الخالية وهي تمرُّ أمام ناظرَيه ويزداد اخضرارها شيئًا فشيئًا وهم ماضون نحو الغرب. لم يكن لديه أدنى فكرة عن سبب ذهابه إلى كلادا. الأمر المؤكد أنه لم يكن ذاهبًا لجمع المعلومات بالمعنى الشُّرَطي للكلمة. كان ذاهبًا من أجل العثور على راكب المقصورة «بي ٧». كان ذلك هو أقرب تعبير يمكن صوغه بالكلمات. كان يريد الذهاب لرؤية هذا المكان الذي كاد أن يكون استنساخًا للطبيعة الموصوفة في القصيدة. راح يتساءل، وهو منغمِس في سعادة يخالطها النعاس، عما إن كان راكب المقصورة «بي ٧» قد تحدَّث من قبلُ إلى أي شخص بشأن جنته هذه. تذكَّر خط اليد وقال في نفسه إنه لا يظن أنه قد فعل. فحروف m وn المُقنطرة بإحكام كانت توحي بطبيعةٍ دفاعيةٍ مفرِطة تدل على أن من كتبها لم يكن كثير الكلام. على أي حال، لم يكن مهمًّا عدد أولئك الذين تحدَّث إليهم راكب المقصورة «بي ٧» عن الأمر، ما دامت لا توجد طريقة للتواصل معهم. فلا يمكنه أن يضع إعلانًا في الصحف يقول: اقرأ هذه القصيدة وأخبرني إن كنت تعرفها.

أو … ولماذا لا يمكنه ذلك؟

جفاه النوم وهو يفكر في هذه الزاوية الجديدة.

راح جرانت يفكِّر فيها طوال الطريق حتى أوبان.

وفي أوبان ذهب إلى فندق، وطلب مشروبًا يهنئ به نفسه، وبينما كان يتناوله كتب إلى كل الصحف اللندنية اليومية مُرفِقًا شيكًا وطالبًا منهم أن يضعوا نفس الإعلان في عمودهم المخصص لذلك. وكان نص الإعلان:

«الوحوش المتكلمة، والأنهار الراكدة، والأحجار السائرة، والرمال المغنية … من يتعرف على هذه الكلمات يتواصل رجاءً بألان جرانت، عناية مكتب البريد، مويمور، كومريشاير.»

كانت الصحيفتان اليوميتان الوحيدتان اللتان لم يرسل إليهما هذا الإعلان هما صحيفتا «كلاريون» و«ذا تايمز». لم يرد أن يظن الناس في كلون أنه قد فقد عقله.

وبينما كان يسير نحو مقدِّمة القارب الصغير الذي سيعبر فيه مضيق مِنش، فكَّر قائلًا في نفسه: «سأكون مستحقًّا لما حدث لي لو أن أحدًا كتب لي يقول إن هذه الكلمات من أشهر الأبيات عن مدينة زانادو التي ابتدعتها قريحة الشاعر كولريدج، وإنه لا بد أنني أُميٌّ لأنني لا أعرفها!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤