الفصل السادس عشر

فن الهندسة عند السريان

بين الفنون الجميلة التي راجت سوقها عند السريان في عصرهم الذهبي فن الهندسة، فإنهم برعوا فيه براعتهم في فن التصوير والنقش والزخرفة، وهذه معاهدهم العلمية والدينية التي استعصت رسوم أطلالها على الدهر، تشهد لهم بطول الباع في تلك الحلبة، وهي مزية أهلتهم أن يكونوا بهندسة البناء في مستوى سائر الأمم القديمة الراقية.

(١) إتقان الهندسة في المعاهد السريانية

حسبنا أن نذكر من آثار السريان الهندسية كنائس الرها، ولا سيما كنيسة آجيا صوفيا الملكية التي عدَّها مؤرخو النصارى وجغرافيو المسلمين من عجائب الدنيا.١ وأثبت ابن عساكر عن الوليد الخليفة الأموي أنه لما أراد تجديد عمارة الجامع الأموي في دمشق، التجأ إلى ملك الروم ليوجِّه إليه مائة صانع، فاجتهد هؤلاء في بنيان الجامع وتزويقه وزخرفته، حتى عُدَّ مع كنيسة الرها ومنارة الإسكندرية من جملة عجائب الدنيا.٢
ونضيف إلى ذلك دير مار بهنام الشهيد بالموصل،٣ ودير مار برصوم بملطية، الذي تفانى البطاركة ولا سيما ميخائيل الكبير في هندسة أبنيته وزخرفتها.٤
وقِسْ على ما سبق الأديار الشهيرة التي بالغ منشؤها في هندسة أبنيتها. نذكر منها: دير قنسرين الذي اختطه يوحنا برافتونيا (†٥٣٨م)، ودير العمود الذي شيدته الملكة ثئودورا السريانية (†٥٤٨م) بجانب مدينة الرقة، ودير البارد بجوار ملطية، وكان ديرًا فخمًا فسيحًا أسَّسه البطريرك يوحنا التاسع (٩٦٥–٩٨٦م)، ومنها دير مار دانيال في جبل المتينية شمالي ماردين، جدَّد أبنيته المهندس الشهير يوحنا مطران ماردين (†١١٦٥م)، ولا تزال رسومه العظيمة ماثلة حتى اليوم.٥

(٢) وصف كَتَبة المسلمين لبعض أبنية السريان

إذا ألقينا نظرة عامة على أبنية السريان في العراق، وما بين النهرين، وشمالي سوريا، وجدناها مستوفاة أصول الهندسة والإتقان، فهناك شاعت طرائقهم الرهبانية شيوعها في وادي النطرون بمصر، وهناك كثرت المناسك والأديار التي تجاوز عدد المترهبين في بعضها المئات بل الآلاف، وهناك كثير من هذه الأديار التي عني بعمارتها الملوك والأمراء والأعيان وأهل الثراء، نخص منها بالذكر: «دير اللج» الذي شيده النعمان بن المنذر، ووصفه ياقوت الرومي بقوله: «لم يكن في ديارات الحيرة أحسن بناء منه.» ثم «دير الأعور» المنسوب إلى النعمان الذي تنصَّر وزهد في الدنيا، ودير «الجرعة» المنسوب إلى عبد المسيح بن بقيلة الغساني، ودير «هند الكبرى» شيدته أم عمرو بن هند «أمة المسيح وأم عبده وبنت عبيده»،٦ وكان جميع مؤسسي تلك الأديار من السريان.
ولا شك أن مشيدي تلك الأديار لم يدخروا وسعًا في إتقان بنيانها وحسن هندستها؛ لأنهم كانوا من ذوي المكانة والغيرة واليسار، وفيما تبقى من آثارها حتى اليوم ما يشير إلى فخامتها وعظم شأنها. وذكر الكتَّاب عشرات الأديار نعتوا بعضها بأجمل النعوت، وهناك ما أثبته ياقوت عن دير الرصافة قال: إنه «من عجائب الدنيا حسنًا وعمارة.»٧

وما قلناه عن أديار السريان يصدق بحذافيره على كنائسهم الوافرة العدد؛ فإنها كانت غالبًا هياكل واسعة الأرجاء، شاهقة البنيان، ذات أسواق متعددة، جامعة بين المتانة وحسن الشكل، وقد وصف الكَتَبة والشعراء المسلمون كنائس النصارى ومحاربها وصلبانها وما ازدانت به من النقوش والزخارف، وخص الهمذاني بالذكر في كتابه جزيرة العرب «كنيسة الباعوثة في الحيرة»، وهي كرسي من الكراسي المطرانية عند السريان.

(٣) عناية المستشرقين وعلماء الآثار بدرس هندسة المعاهد السريانية

لا يزال بعض كنائس السريان باقيًا حتى الآن على رغم كوارث الدهر، فأخذ المستشرقون وعلماء الآثار يدرسون هندستها ويبيِّنون خواصها. منهم الكاتبة الإنكليزية الشهيرة المس بل Miss Bell التي صنفت كتابًا ضخمًا في وصف كنائس ما بين النهرين السريانية، التي سبق عهد البعض منها فجر الإسلام، فترتقي إلى القرن الرابع والخامس والسادس للمسيح، وقد نشرت هذه الكاتبة صورًا كثيرة من تلك الكنائس في كتابها المشار إليه.

(٤) مشاهير المهندسين السريان

أثبت التاريخ أسماء كثيرين من السريان الذين تجندوا لهندسة المعاهد العلمية والدينية، وخلفوا آثارًا شهدت لهم بالبراعة في هذا الفن، وممَّن اتصلت بنا معرفتهم:
  • (١)
    الراهبان شموئيل وشمعون: اللذان شيدا سنة ٣٩٧ للميلاد دير قرتمين المشهور في طور عبدين.٨
  • (٢)
    بطرس بن يوسف الحمصي: اختط سنة ٤٨٠م دير مار بسوس، وشيده بين أفاميا وحمص، وقد بلغ عدد رهبانه أيام عزه ستة آلاف وثلاثمائة راهب.٩
  • (٣)
    علي بن الخمار (†٩٧٧م): ابتنى قبة كنيسة القيامة في القدس الشريف، وجدَّد كثيرًا من الكنائس.١٠
  • (٤)
    يوحنا مطران ماردين والخابوو (١١٢٥–١١٦٥): تميَّز بفن الهندسة وأفنى عمره في عمارة المعاهد السريانية؛ فإنه شيَّد وجدَّد أربعة وعشرن ديرًا وبيعة في أبرشيته الفسيحة الأرجاء، نذكر منها تجديده دير مار حنانيا المشهور بدير الزعفران، وجلبه إليه المياه من ينبوع بعيد كما جلبها إلى دير مار برصوم١١ فطمحت فطمحت الأبصار إلى هذا المهندس الخبير الذي سجَّل لنفسه ببيض أياديه ذكرًا مخلدًا، وذاع صيته عند ملوك ما بين النهرين، وأحرز بذلك شرفًا عظيمًا وثروة واسعة أنفقها في وجوه البر.١٢
  • (٥)

    الربان حبقوق: شيَّد في القرن الثاني عشر كنيسة دير فسقين على ضفة الفرات، قرب دير مار أبحاي ببلاد جرجر، وبالغ في هندستها وإحكام بنائها.

  • (٦)
    القس يوسف وأبو الفضل وجبرائيل والأخ حسن: أتقنوا سنة ١٤٧٠ للإسكندر (١١٥٩م) هندسة جانب من دير مار بهنام بجوار الموصل.١٣
  • (٧)
    أبو سالم وإبراهيم أخوه: شيدا باب المصلى في دير مار بهنام المشار إليه.١٤
  • (٨)

    عيسى الرهاوي: كان نابغة في فن هندسة البناء، وهو الذي تولى سنة ١٢٤٤ عمارة كنيسة «سيس» الكبرى، وكانت من أفخم الكنائس وأروعها.

  • (٩)
    المطران جبرائيل البرطلي (†١٣٠٠): كان له حظ من فن الهندسة، وهو الذي تولى بناء دير الشهيدين يوحنا ابن النجارين وأخته سارا في برطلي سنة ١٢٨٤.١٥

هوامش

(١) تاريخ الرهاوي: جزء ١، صفحة ١٧٩. وابن حوقل: صفحة ١٥٤. وكتاب أحسن التقاسيم لأبي عبد الله المقدسي البشاري: صفحة ١٤١. وشرح المطرزي لمقامات الحريري: ٢٣٤، طبعة مصر.
(٢) تاريخ ابن عساكر: مجلد ١، صفحة ٢٠٢.
(٣) مجلة الآثار الشرقية: مجلد ٣، سنة ١٩٢٨.
(٤) تاريخ الرهاوي: جزء ٢، صفحة ٣١٤-٣١٥.
(٥) اللؤلؤ المنثور: صفحة ٥١٠.
(٦) معجم البلدان، لياقوت الرومي: مجلد ٢، صفحة ٧٠٩.
(٧) معجم البلدان: مجلد ٢، صفحة ٥٦٠.
(٨) اللؤلؤ المنثور: صفحة ٥١٢.
(٩) I. B. Chabot: La Legende Mar Bassus et son Couvent.
(١٠) يحيى بن سعيد الأنطاكي: جزء ٢، صفحة ١٢٥ و٢٤٠.
(١١) المكتبة الشرقية للسمعاني: مجلد ٢، صفحة ٢٣٠.
(١٢) مجلة الحكمة: مجلد ٤، سنة ١٩٣٠، صفحة ٢٠١.
(١٣) مجلة الآثار الشرقية: مجلد ٣، سنة ١٩٢٨، صفحة ١٩٦.
(١٤) مجلة الآثار الشرقية: مجلد ٣، سنة ١٩٢٨، صفحة ١٩٣.
(١٥) اللؤلؤ المنثور: صفحة ٤٣٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤