الفصل السابع عشر

فن الموسيقى عند السريان

(١) الموسيقى في الكتاب المقدس

يتقادم عهد استنباط آلات الطرب والأغاني الموسيقية في الأمصار الآرامية السريانية إلى أبعد العصور التاريخية، فقد ذكر الكتاب المقدس أن يوبال بن لامك «كان أبًا لكل ضارب بالعود والمزمار»،١ وجرى مجرى يوبال كثير من الأقدمين رجالًا ونساء، كمريم أخت موسى الكليم التي أخذت دفًّا بيدها، وخرجت النساء كلهن خلفها بدفوف ورقص٢ … إلخ.
ثم تجلت صناعة الموسيقى في عهد الملك والنبي داود بكل مظاهرها؛ فكان هذا الملك يدعو الإسرائيليين ويحضهم ليترنموا قدام الرب «بكل آلة عز وبالأغاني والعيدان والطبول والدفوف والصنوج والأبواق»،٣ وكثيرًا ما حث بني قومه ليسبحوا الرب بصوت البوق والرباب والعود والدف والأوتار والمزمار والصنوج.٤
ونهج البابليون نهج الأجداد، فاستعملوا «القرن والناي والعود والونج والصنج والمزمار»،٥ وقِسْ على ذلك سائر الأمم القديمة المتحضرة.

(٢) أصل الموسيقى عند السريان

أول سرياني بحت تعاطى نظم اللحون والأغاني هو وافا الفيلسوف الذي عاش قبل التاريخ الميلادي، وقد ذكره أنطون التكريتي الفصيح بما خلاصته معرَّبًا عن السريانية: «استعمل وافا الآرامي البحر الحادي عشر من الأبحر السريانية الستة عشرة، فأُطلِق عليه اسم «البحر الوافائي»، وأدمج فيه الناظم معاني غرامية وحربية جرى استعمالها في المآدب والأعراس، ولأجل ذلك أهمل أجدادنا هذا البحر ونبذوه ظهريًّا.»٦
ونسج السريان المسيحيون على منوال أجدادهم الأقدمين؛ فاتخذوا الأوزان الشعرية موقعة على آلات الطرب، واستعملوها في كنائسهم ومجالسهم، هكذا شاعت بينهم صناعة الألحان أو الموسيقى وذاعت في أنحاء بلادهم. قال يعقوب البرطلي: «تشبث المسيحيون بترنيم المزامير وترديدها لا في الكنائس فقط، بل في البيوت والساحات والطرق أيضًا، واستعملوا في إنشادها الكنارات والقيثارات والدفوف والصنوج والأبواق.»٧

وذكر التاريخ أن برديصان الآرامي السرياني (١٥٤–٢٢٢م)، نظم مائة وخمسين أغنية حاذيًا فيها حذو المزامير الداودية ووقعها على ألحان شتى، فتمكَّن بتلك الوسيلة أن يجتذب قلوب سامعيها من أبناء وطنه الرهاويين ليذهبوا مذهبه في الشيعة الديصانية المنسوبة إليه.

عند ذلك هبت أئمة السريان المسيحيين وشعراؤهم العظام، فشحذوا قرائحهم ونظموا أشعارًا أدبية وموشحات دينية عديدة، ووضعوا لها أوزانًا محكمة وقياسات مضبوطة ناهضوا بها أهل البدع، وقضوا على أغانيهم الفاسدة.

(٣) ناظمو الترانيم السريانية وأساتذتها ومنشدوها

  • مار أفرام الكبير: في طليعة مَن اشتهر بنظم الأنغام الموسيقية وتلحينها وتعليمها نذكر بالفخار مار أفرام، الذي أُطلِق عليه بكل جدارة لقب «صناجة الروح القدس»؛ فإنه أنشأ الشيء الكثير من الأغاني والترانيم التي استعملتها الكنائس السريانية شرقًا وغربًا، في أعيادها وتذكاراتها وحفلاتها منذ كان في قيد الحياة، وضمنها معاني سامية وتعاليم صافية بعبارات سلسة جزلة تدب في النفوس كالسلافة فتسكرها، وتهيم بها في العالم الروحاني.
    وأشار هذا الإمام في كثير من منظوماته إلى استعمال آلات الطرب حين إنشاده قصائده الرائعة، فقال: «إن المشارق تعزف بالأبواق، والمغارب بالدفوف، وأنحاء الشمال بالقيثارات، وأطراف الجنوب بالكنارات.»٨

    وإلى هذا العلَّامة الكبير نفسه يرجع نظم الأناشيد السريانية بأوزانها المختلفة الوافرة، وتعد مداريشه الرائعة في أول طبقة منها، وتليها الابتهالات (التخشفات) فالبواعيث … إلخ، وسيأتي ذكرها.

    وقد نظم الملفان مار يعقوب السروجي قصيدة عصماء عن النهضة المباركة التي قام بها مار أفرام المعظم في أناشيده العجيبة، قال ما مؤداه: «إن مار أفرام كنارة الروح القدس ضارع موسى الكليم وأخته مريم، بتلقينه العذارى والفتيات ولفيف المؤمنين أنغامًا محكمة بث فيها تعاليم الكنيسة الحقة، وأحرز بواسطتها إكليل الظفر والانتصار على أعدائها.»٩
  • أسوانا: نظم أسوانا أناشيد مؤثرة خصوصًا بالبحر السداسي وأجاد فيها، نذكر منها مرثيتين بليغتين تترنم بهما الكنائس في جناز الموتى، وقد نشرهما البطريرك أفرام رحماني في كتابه «الدروس السريانية».١٠
  • ربولا مطران الرها (†٤٣٥م): إلى هذا القديس الملفان يُنسَب نظم الابتهالات (التخشفات)، وقد أفرغها في قالب جزل وضمنها معاني سامية، وبلغ عددها ثلاثمائة ابتهال في أوسع كتب الأنغام وأقدمها.١١

    واشتهر هذا القديس الجليل بمناهضته بدعة نسطور، حتى إن مار قرلس الإسكندري أطلق عليه لقب «عمود الحق»، هذا عدا رسائله وخطبه وقوانينه المحكمة.

  • مار إسحاق الأنطاكي (†٤٦٠م): امتاز هذا العلَّامة القديس بدقة أبحاثه وبلاغة معانيه، فنظم عدة قصائد سبكها بعبارات جزلة برهنت على رسوخ قدمه في شتى العلوم الدينية والفلسفية والبيانية والرياضية والطبية … إلخ، وله قصيدة عامرة الأبيات عنوانها «التقاديس الثلاثة» بلغ مجموع أبياتها ٢١٣٦ بيتًا.١٢
  • مار يعقوب السروجي (†٥٢١): اقتدى هذا العلَّامة الكبير بمار أفرام الإمام، فنظم أناشيد جمة للأعياد السنوية، ولتذكارات الرسل والشهداء والأولياء، وشروح الكتاب المقدس … إلخ، منها ميمره في تكوين الخليقة، وميمره في آلام السيد المسيح، فقد أناف عدد كلٍّ منهما على ثلاثة آلاف بيت تستعملها الكنيسة في الأسبوع الأول من الصوم، وفي أسبوع الآلام العظيم، وقد أطلق عليه جمهور الكتَّاب بكل حق نعوتًا شريفة جمة، فسمَّوه «إكليل الملافنة» و«فخر العلماء». ونشر الأب بولس بيجان خمسة مجلدات من ميامره البليغة، فضلًا عمَّا نشره له من الميامر في مجلدات غيرها.
  • يعقوب الرهاوي (†٧٠٨م): أُطلِق على هذا العلَّامة الهمام لقب «محب الأتعاب»، واشتهر بغيرته الوقادة على حفظ القوانين البيعية، وصنف كتبًا في مواضيع شتى، ونقل عن اليونانية إلى السريانية تآليف جزيلة الفائدة، ونظم مداريش بديعة تُنشَد في أسبوع الآلام، وحوى مخطوط «بيتكاز الشيخ» مدراشًا أبجديًّا من نظمه في الحكمة والفلسفة،١٣ وليعقوب الرهاوي اليد الطولى في ترتيب الطقوس السريانية والحفلات البيعية.
  • سائر ناظمي الأنغام السريانية وأساتذتها وملحنيها: ما عدا من سبق ذكرهم. قام عند السريان شعراء كثيرون نبغوا في نظم الترانيم وتعليمها، فحفظ لهم التاريخ ذكرًا جميلًا طيبًا، نورد منهم أسماء قورلونا الرهاوي، وماروثا الميافرقيني (†٤٢١م)، وبالاي الحلبي، وشمعون القوقي وتلامذته، ويوحنا برافتونيا (†٥٣٨م)، وفولا مطران الرها (†٦٢٤م)، وجورجي أسقف الكوفة (†٧٢٤م)، والبطريرك جرجي الأول (٧٥٨–٧٩٠م) … إلخ.

(٤) أسماء الترانيم السريانية وتقاسيمها وعددها

تكملة للبحث الذي تحريناه في هذا الفصل عن فن الموسيقى عند السريان، نسرد ههنا أسماء ترانيمهم مع الإلماع إلى عددها ومزية كل منها، واعتمدنا في ذلك على مخطوطة دير الشرفة القديمة العهد الموسومة بعنوان «بيتكاز الشيخ»، وهي أغنى مخطوطة من نوعها.

  • المداريش: هي أقدم الأغاني السريانية عهدًا وأدقها معنى وأعذبها إيقاعًا، نظمها مار أفرام الكبير ووشحها بفني البديع والطباق، يبلغ عددها مائة وستة وخمسين مدراشًا١٤ لكل مدراش نغمة خاصة.
  • التخشفات: هي ابتهالات شجية خشوعية عددها ثلاثمائة ابتهال لكل منها نغمة خصوصية، تشتمل على تقريظ العذراء الجليلة والقديسين، وعلى التوبة، ومراثي الموتى … إلخ. أنشأ بعضها مار ماروثا مطران ميافرقين (†٤٢١م)، وأغلبها مار ربولا مطران الرها (†٤٣٥م)، وأضاف إليها يعقوب الرهاوي (†٧٠٨م)، وغيره من الآباء.
  • المعبرانات: المعبرانات ومعناها «المراحل»، هي ترانيم رثائية رخيمة تُنشَد في تشييع الموتى، وعددها مائة وسبع مراحل.
  • السهريات: هي صنف من الترانيم العذبة يبلغ عددها في الصحف القديمة مائتين وخمس سهريات، لكلٍّ منها ثماني نغمات أو أكثر، أغلبها معروف اليوم ويُترنم بها في الصلوات القانونية والاحتفالات البيعية.
  • البواعيث: البواعيث أو الطلبات تُقسَّم ثلاثة أقسام: أفرامية، ويعقوبية، وبالاثية؛ نسبةً إلى أفرام الكبير، ويعقوب السروجي، وبالاي الحلبي، ولنغماتها الثماني فروع شتى، وعددها ثمانون نغمة، وهي بأجمعها معروفة لهذا الزمان عند السريان.
  • العنيانات: العنيانات أو الأجوبة تشبه الأراجيز، وهي متساوية الوزن تُنشَد في الأيام الأسبوعية والأعياد الاحتفالية والسيامات الكهنوتية، عددها سبعة وثلاثون تُستعمَل حتى الآن ويتقدَّمها غالبًا آية من المزامير.
  • العونيثات: هذا الصنف من الترانيم له ردة خاصة يكررها الإكليرس والمؤمنون في نهاية كل بيت منها.
  • الغنيزات: معناها «الحجاب»، تُنشَد حينما يُسدَل سجاف المذبح، ولها نغمات عذبة لذيذة، أحصاها بعضهم ٧٢، وأحصاها غيرهم ٨٣، وغيرهم ١١٩، لكل منها نغمة خاصة.
  • الموربات: تفسيرها «التعاظيم»، وهي مختصة بالعذراء مريم، سُمِّيت هكذا لورود لفظة «تعظم» في فاتحة تسبيحة العذراء المجيدة، وهي مرتبة على ثمانية ألحان، لكلٍّ منها خمس نغمات أو أكثر، يبلغ عدد أبياتها في بعض الصحف مائتين وسبعة أبيات.
  • القوانين: نقلها السريان عن تآليف مار يوحنا الدمشقي والراهب قزما واندراوس الأقريطشي، وخصصوها بالأعياد السيدية والآحاد السنوية. عددها ثلاثة وأربعون قانونًا، لكلٍّ منها ثماني نغمات مختلفة، وقد أضاف إليها بعض أئمة السريان كيعقوب الرهاوي (†٧٠٨م)، وسعيد بن صابوني (†١٠٩٥م)، وغيرهما.
  • المعانيث: معناها «الأغاني»، صنفها البطريرك سويرا الأنطاكي (†٥٣٨م)، ونقلها إلى اللغة السريانية يوحنا برافتونيا رئيس دير قنسرين (†٥٣٨م)، ويوحنا خليفته، وفولا مطران الرها (†٦٢٤م) يوم كان في جزيرة قبرس، وقد نقَّحها يعقوب الرهاوي سنة ٦٧٥م على ما ورد في «بيتكاز الشيخ». ويبلغ عدد هذه المعانيث مائتين وخمسة وتسعين معنيثًا، بينها معنيث يقال في أول القداس السرياني نسبه بعضهم إلى سويرا البطريرك، وبعضهم إلى يوسطنيان الملك زوج الملكة ثئودورا السريانية.
  • القاتسمات: تفسيرها «المجالس»، وعددها مائة وسبعون قاتسمًا، أغلب نغماتها مفقود، وهي مقسَّمة للآحاد والمواسم على مدار السنة.
  • سائر الترانيم السريانية: نضيف إلى ما سبق أغاني أخرى مشهورة عند السريان هاك أسماءها: الزومارات عددها ٧٢٨ زومارًا، الشوباحات أعني التماجيد، القوقليونات وهي آيات من المزامير تتخللها لفظة هللويه، العطور والمتون تُنشَد عند التبخير، المنادات تُنشَد في الأعياد الحافلة، المعيدات تُتلَى كذلك في المواسم، الأدوار تُنشَد بعد تلاوة المزامير في صلاة الليل، الملحقات تُنشَد بعد المزامير أو القوقليونات وتبدأ بالمجدلة أي المجد لله، ثم القصائد تُنشَد بين جوقتين على سبيل الخطاب والجواب، التهاليل لها عشر نغمات رخيمة تُنشَد قبل ترتيل الإنجيل، الأسطيخونات تسبق بآية من المزامير وتُستعمَل في طقس الميرون وسيامة الأحبار.

(٥) تباين الترانيم السريانية واختلافها بتوالي الأجيال

تسلسلت الألحان السريانية قديمًا من أفواه الأجداد إلى الأبناء والحفدة بطريقة التقليد، ولم تكن حين ذلك مقيَّدة بضوابط تصونها من التغيير والتلف، ولأجل ذلك طرأ عليها بعض الاختلاف في عرضها لا في جوهرها باختلاف اللهجات في البلدان والمدن والقرى. هكذا أصبح لبلاد ما بين النهرين نغمة غير نغمة بلاد الشام وبلاد آثور، فنبرة الرها مثلًا غير نبرة نصيبين، ونبرة آمد (ديار بكر) وميافرقين غير نبرة جرجر، ونبرة ماردين غير نبرة طور عبدين، ونبرة تكريت غير نبرة الموصل وبغداد وقراهما، وقِسْ على ذلك نبرة حلب، فهي تتفق مع نبرات حمص وحماة والنبك وصور وسواحل لبنان، وقد أنشد بعضهم قائلًا:

بجرجر نبرة والشام أخرى
وآثور وميافارقينا

ونرى في المخطوطات القديمة بعض علامات مختلفة الألوان تنبه المنشد ليرفع صوته أو يخفضه، ولأغلب الألحان السريانية ولا سيما التخشفات والمراحل مدات في الصوت وليات ونبرات وعطفات يترنم بها أرباب الفن، فيستعذبها المستمعون وترسخ معانيها في ألبابهم.

(٦) آلات الموسيقى عند السريان

للسريان عدة آلات موسيقية استعملوها قديمًا في أناشيدهم وأنغامهم، منها آلات اتخذوها عن الكتاب المقدس، وقد سبق لنا سردها في مطلع هذا الفصل، ومنها آلات استنبطوها هم وتفردوا باستعمالها في عصورهم السالفة، وهاك أهمها: الكنارة المزدوجة، الدف المربع، القيثارة المفردة، المشروق أو المشروقيث وهو نوع من الأبواق، الزرناية، الصفارة، الهدرول، الصافون وهو آلة موسيقية لها عدة أنابيب، الناقوس وقد استعمله السريان أولًا من خشب ثم استعملوه من معدن.

فهذه الآلات الموسيقية يعثر القارئ على أسمائها في تآليف السريان وشروحهم ومعاجمهم، كمعجم ابن بهلول الذي اقتبسه عن معجم حنين بن إسحاق، ومنها معجم الربان أبدوكس الملطي ومعجم السروشي وغيرها.

ولما تسهلت المواصلات بين بلاد المشرق والمغرب، اطَّلَع السريان على علوم الشعوب الأوروبية وآدابها وفنونها وعاداتها، فاقتبسوا أغلبها وفي جملتها فن الموسيقى، ولم يلبثوا أن استعملوا بعض آلات الموسيقى الإفرنجية في كنائسهم وبيوتهم ومحافلهم، نذكر منها كنيسة السريان الكاثوليك في بغداد، وكنيستهم في حلب، ففي كلٍّ منهما تُستعمَل الآلات الموسيقية في القداديس الاحتفالية، والجمعيات التقوية، والتطوافات داخل الكنيسة وظاهرها.

(٧) الموسيقى المدنية عند السريان

تحدثنا حتى الآن عن الموسيقى الدينية عند السريان، أما الموسيقى المدنية فقد نبغ فيها عندهم جم وافر تفردوا برخامة الصوت، واستعمال آلات الطرب، وقد ذكر أبو الفرج الأصبهاني أسماء رهط من أهل الحيرة اشتهروا في صدر الإسلام بالأغاني الشجية والضرب على الأوتار، أخصهم برصوما المزمر١٥ وعون الحيري،١٦ ومنهم أيضًا حنين الحيري الذي عاش في عصر بني أمية١٧ وغيرهم.

(٨) المؤلفون في الموسيقى في عصر السريان الذهبي وبعده

  • سويرا سابخت (†٦٦٧): أقدم مَن تعرَّض للكتابة عن فن الموسيقى عن السريان هو سويرا سابخت النصيبيني أسقف دير قنسرين (٦٣٨–٦٦٧م)، فإنه وضع رسالة وافية بعث بها إلى إيثالاها أسقف نينوي، شرح فيها أصول الموسيقى وغيرها من الأبحاث.١٨
  • أنطون التكريتي الفصيح: اشتهر أنطون في الشطر الأول من القرن التاسع، وهو أول مَن ابتكر قواعد للفصاحة والخطابة عند السريان؛ فأطلقوا عليه بكل جدارة لقب «بليغ» أو «فصيح»، وقد أنشأ كتابًا فريدًا في هذه الصناعة قسَّمه خمسة أقسام، أفرد القسم الخامس منها للشعر والموسيقى، وهو القسم الذي نشره البطريرك أفرام الثاني رحماني في مطبعة الشرفة.
  • يعقوب بن الصليبي مطران آمد (†١١٧١م): خلَّف هذا المطران العلَّامة مؤلفات شتى أنافت على الثلاثين، بينها كتاب «شرح القداس»، ذكر فيه أن الكاهن السرياني قبل أن يرتل الإنجيل في القداس الاحتفالي يجب على الشمامسة أن يعزفوا بالأبواق والأعواد؛ اقتداءً بأهالي المدن عندما يستقبلون الملوك والأمراء والولاة،١٩ وألمع ابن الصليبي في كتابه «الفصول العشرة» إلى صناعة الألحان السريانية.٢٠
  • يعقوب البرطلي (†١٢٤١): لهذا المؤلف الجليل كتاب عنوانه «الموسيقى البيعية» بحث فيه الألحان وفنونها ومؤلفيها وزمان استعمالها في الكنيسة، وله مثل ذلك في الفصل ٣٨ من المقالة الثانية لكتابه المُعَنْوَن «الكنوز»، وله فصل في كتابه «ديالوغو» تناول فيه البحث أيضًا عن الموسيقى.٢١
  • ابن العبري (†١٢٨٦م): ذكر هذا العالم الشهير في كتابه «الأيثيقون» مقالًا ضافيًا عن الأنغام السريانية الثمانية وفروعها، وكيفية الترنم بها في المواسم والآحاد، وأجاز استعمال الأرغن أحيانًا في الكنائس السريانية،٢٢ واستنادًا إلى ذلك اتخذ مجمع دير مار متى عام ١٩٣٠ قرارًا يجيز استعمال الأرغن في أثناء القداس، ولا سيما أيام الآحاد والأعياد الرسمية.٢٣
  • البطريرك أغناطيوس أفرام الأول برصوم: نضم إلى هؤلاء الجهابذة الأعلام صاحب الغبطة البطريرك أغناطيوس أفرام الأول برصوم الذي قضى معظم حياته بدرس العلوم والآداب السريانية، وقد كلف بفن الموسيقة، كما صرح في مقالة له عن يعقوب البرطلي، نشرها في المجلة البطريركية السريانية بالقدس، ثم أجاد كل الإجادة فيما حبره عن الموسيقى الكنسية وعن نشأتها ومشاهير المشتغلين بها، وأفاض في سرد الترانيم السريانية المختلفة الأوزان، فأربى عددها على الألفين والسبعمائة ترنيمة.٢٤

(٩) المؤلفون في الموسيقى السريانية والمشتغلون بها في عصرنا

قام بين السريان في عصرنا مَن أغرموا بالأنغام البيعية، واستنفدوا الوسع في صيانتها ونشرها، فرأينا أن ندرج أسماءهم ونلمع إلى قسط كلٍّ منهم في هذه الصناعة:

  • المطران إقليميس يوسف داود (١٨٧٩–١٨٩٠): أولع بالموسيقى البيعية، فنظم جوقة من أرباب الكهنوت وشبان الموصل وعلَّمهم الأنغام الطقسية، ثم ألَّف نشائد بديعة على قدود رخيمة لأغلب أعياد السنة، ورتَّب قداسًا حبريًّا سريانيًّا على أصول الموسيقى الأوروبية، وقد عني بكل ذلك عندما كان قسًّا في الموصل مسقط رأسه.٢٥
    وخلف المطران يوسف داود في ذلك مخطوطًا ضخمًا، رفعه هدية بنوية إلى البطريرك أغناطيوس فيلبس الأول عركوس (١٨٦٦–١٨٧٤).٢٦
  • البطريرك أغناطيوس جرجس الخامس شلحت (١٨٧٤–١٨٩١): تفرد هذا الحبر الأنطاكي بصوته الرخيم وشغفه بالترانيم السريانية، فالتقفها عن أشهر أرباب الفن في حلب، والرها، وآمد، وماردين، وطور عبدين، والموصل وغيرها، ولقَّنها كهنة دير الشرفة وتلامذته، فنشروها بدورهم في أبرشيات الملة، ولولا جهوده المشكورة في هذا السبيل لقُضِي على كثير منها. وممَّن اقتبسوا عنه تلك الترانيم: المطران أغناطيوس نوري، والخوري فيلبس شقال، والقس أفرام مصري، والقس جبرائيل صالحاني، والخوري يوسف إسطنبولي، والخوري يوحنا حمصي، والقس حنا بنابيلي … إلخ.
  • الرهبان البندكتيون الفرنسيون: في السنة ١٨٩٤ ارتحل البطريرك أغناطيوس بهنام الثاني (بني) إلى روما على إثر ارتقائه إلى العرش الأنطاكي، فزاره رئيس الرهبنة البندكتية العام وعرض عليه أن يقوم أحد أبناء رهبنته بجمع الأنغام السريانية وضبطها بالعلامات الموسيقية الفرنجية؛ ذلك ضنًّا بهذه الثروة الفنية الثمينة وصيانة لها من الضياع، فرحَّب ذلك الحبر الجليل باقتراح الرئيس، وأثنى على غيرته ومحبته للطقس السرياني.
    وفي السنة ١٨٩٦ كتب الخورفسقفوس يوسف هبرا الوكيل البطريركي في روما، يبشِّر البطريرك المشار إليه باتفاقه مع الأب جوليوس جنان البندكتي المشهور بتضلعه من فن الموسيقى للنهوض بالمشروع المار ذكره.٢٧

    وفي السنة ١٨٩٧ قدِمَ الأب جنان إلى دير الشرفة، وباشر مهمته في التقاط الأنغام السريانية عن أشهر الأساتذة، كالشماس أنطون شبين، والقس ميخائيل بصال الحلبيين ودوَّنَها بالعلامات الفنية. وقد شاهدنا الأب جنان بعيننا ناهضًا بهذه المهمة، فأثنينا على نشاطه وغيرته وعلمه.

    بعد هذا يمَّم دير الشرفة عام ١٩٠٩ الأب أنسلمس شيباس لاسال، والأب جوليان بوياد البندكتيان، وأكملا ما كان قد شرع به الأب جنان، ثم تولى الأب أنسلمس عام ١٩٢٤ طَبْع الألحان السريانية بالعلامات الموسيقية، وعاونه في ذلك الخورفسقفوس زكريا ملكي رئيس دير الشرفة، ونجز طبع هذا الكتاب عام ١٩٢٨ في ٧١٠ صفحات، ما عدا مقدمة علمية تاريخية أنشأها الأب جنان مؤسِّس المشروع ونشرها على حدة،٢٨ وقد اقتنينا نحن من هذا الكتاب النفيس نسخًا عديدة وزَّعناها على معاهد شتى.
  • الخوري إسحاق أرملة: نشر على صفحات مجلة الآثار الشرقية مقالًا ضافيًا عنوانه «لمعة في المنظومات والأغاني السريانية»، أتى فيه على ذكر أصلها وأشكالها وقواعدها وضوابطها وأوزانها وأسمائها وعددها ومشاهير ناظميها،٢٩ ثم وقف على طبع كتاب الموسيقى الذي نشره الآباتي أنسلمس المشار إليه، وضبط الألفاظ والحركات السريانية.
  • الخورفسقفوس زكريا ملكي رئيس دير الشرفة: تلقَّى فن الموسيقى في الإكليريكية السريانية التي يديرها الآباء البندكتيون الفرنسيون بالقدس، وساعد رئيسها الآباتي أنسلمس في طبع كتاب الألحان السريانية كما ذكرنا، وما عدا ذلك فقد ضبط وربط بالعلامات الموسيقية ترانيم سريانية شجية لم تُنشَر بالطبع، التقطها من هواة هذا الفن في بلدان شتى، ثم لقَّنها تلامذة الإكليريكية المذكورة وإكليريكية الشرفة.
  • الخورفسقفوس جبرائيل حوري: عُيِّنَ وكيلًا بطريركيًّا في باريس عام ١٩٣٣، وتولَّى خدمة كنيسة مار أفرام في شارع الكرم، وانصرف إلى ضبط ترانيم القداس السرياني بالعلامات الموسيقية، وكتب الألفاظ السريانية بحروف لاتينية تسهيلًا لتعليمها لجوقة من الفتيان والفتيات المقيمين في باريس ليترنموا بها في الأعياد والمواسم الكبرى.
  • القس شمعون عبد الأحد: امتاز القس شمعون بصوت شجي رخيم، فدرس الترانيم السريانية على خاله الخورفسقفوس زكريا ملكي فأحكمها غاية الإحكام، ثم علَّم الشبان والشابات بعضها، وألَّف منهم جوقة تقوم بترنيمها في الحفلات والمواسم.

(١٠) مشاهير المرنمين ذوي الأصوات الرخيمة في عصر السريان الذهبي

نختتم هذا الفصل بذكر رهط ممَّن كلفوا بفن الألحان البيعية، وامتازوا بأصواتهم الرخيمة فبلغوا بها إلى أوج الكمال، ونعتقد أن أغلب ناظمي الترانيم منذ مار أفرام الكبير، ومار إسحاق، ومار ماروثا، ومار ربولا، ولا سيما شمعون القوقي وتلامذته، كانوا من أصحاب الأصوات الشجية، فلقَّنوها تلامذتهم وتلامذة تلامذتهم جيلًا بعد جيل، في البيوت والمدارس ولا سيما في أديار الرهبان،٣٠ وهاك على سبيل المثال بعض مَن اشتهروا برخامة الصوت، وأثبت ابن العبري أسماءهم في تاريخه:
  • (١)

    إيليا مطران كيسوم (†١١٧١): امتاز بنغماته الشجية وصوته العالي.

  • (٢)

    البطريرك ميخائيل الكبير (†١٢٠٠م): تفرَّد بقَدٍّ رشيق، ووجه صبيح، وصوت جهوري، ونغمات شجية.

  • (٣)

    ثئودورس مطران الرها: اشتهر بصوته الحسن، فأتقن نغمات القاتسمات.

  • (٤)

    الربان أبو الفرج بن اليشع: عاش في أوائل القرن الثالث عشر، وكان ذا صوت رخيم ماهرًا في صناعة الألحان، فأحكمها غاية الإحكام ولقَّنها الكثيرين حتى استحق أن يُسمَّى رئيسًا لصفوف المرتلين في عصره.

  • (٥)

    المفريان صليبا الرهاوي (١٢٥٢–١٢٥٨م): وصفه ابن العبري الذي خلفه في الكرسي المفرياني أنه كان طيب المحادثة، فصيحًا في السريانية والعربية، متضلعًا من الطب والفلسفة، بهيَّ الطلعة، رخيمَ الصوت.

(١١) مشاهير المرنمين السريان في العصر الحاضر

ما عدا البطريرك أغناطيوس جرجس الخامس شلحت الذي سبق لنا وصف صوته الرخيم، فقد تفرَّد أيضًا فريق من أرباب الكهنوت بنغماتهم الشجية، منهم: البطريرك أغناطيوس أنطون سمحيري (†١٨٦٤)، والمطران غريغوريوس متى نقار (†١٨٦٨)، والمطران يعقوب متى أحمردقنه (†١٩٠٨)، والخوري ميخائيل صائح (†١٨٢٨)، والخوري أندراوس طرازي (†١٨٥٩)، والخوري بطرس تفنكجي الآمدي (†١٩٠٩)، والخوري إبراهيم معمار باشي (†١٩١٣)، والخوري فيلبس شقال (†١٩٢١)، والخوري جبرائيل دقماق (†١٩٢٢)، والقس بطرس فرجو، والقس أنطون أرملة (†١٩٢٩)، والقس جرجس الرهاوي (†١٩٣١)، والخوري يوسف إسطنبولي (†١٩٣٤)، والقس إبراهيم حلوجي (†١٩٣٨)، والقس حنا حسن، والقس ميخائيل هندو، والقندلفت ميخائيل بن فرج الله هندية (†١٩٤٣) … إلخ.

واشتهر رهط كبير من ذوي الأصوات الرخيمة عند السريان الأرثوذكس لم نتوفق إلى العثور على أسمائهم، إلا أننا عرفنا بينهم السيد ديونيسيوس بهنام سمرجي مطران الموصل (١٨٦٧–١٩١١)، الذي كان له صوت يحاكي صوت العندليب إذا ما غرَّد على أفنان الشجر،٣١ ومنهم السيد غريغوريوس جبرائيل أنطو الذي ارتقى سنة ١٩٢٣ إلى كرسي مطرانية أورشليم، وامتاز بنغمات شجية كان السامعون يذرفون الدموع لرقتها وجزالتها.٣٢

هوامش

(١) سفر التكوين ٤–٢١.
(٢) سفر الخروج ١٥–٢٠.
(٣) ١ أيام ١٣–٨.
(٤) مزمور١٥٠: ٣–٥.
(٥) دانيال ٣–٥ و٧.
(٦) الخطابة والشعر، تأليف أنطون التكريتي: قسم ٥، عدد ٥، طبعة البطريرك أفرام رحماني.
(٧) كتاب الديالوغ: صفحة ١٧٨.
(٨) فنقيث ٥، صفحة ٢٦٨.
(٩) أخبار الشهداء والقديسين: طبعة الأب بيجان، مجلد ٣، صفحة ٦٦٥–٦٧٦.
(١٠) الدروس السريانية: مجلد ٥.
(١١) بيتكاز الشيخ: فهرس مخطوطات دير الشرفة، رقم١–٥، صفحة ٨٥.
(١٢) ميامر مار إسحاق الأنطاكي: طبعة الأب بيجان، صفحة ٧٣٧–٧٨٨.
(١٣) مخطوطة دير الشرفة: رقم ١–٥، صفحة ٩١.
(١٤) المخطوطة الفاتيكانية: عدد ٩٥.
(١٥) الأغاني ٥–٣٤ و٤٦.
(١٦) الأغاني ٢–١٢٥ و١٠–١٣٥.
(١٧) المجلة الأسيوية الفرنسية: سنة ١٨٧٣، صفحة ٤٢٥–٤٣٣.
(١٨) اللؤلؤ المنثور: صفحة ٢٨٤-٢٨٥.
(١٩) شرح القداس، لابن الصليبي: فصل ٥.
(٢٠) الفصول العشرة: فصل ٤.
(٢١) اللؤلؤ المنثور: صفحة ٤٠٥.
(٢٢) الأيثيقون: قسم ٥، فصل ٣، صفحة ٦٤-٦٥ من طبعة الأب بولس بيجان.
(٢٣) مجمع دير مار متى: قرار ٧.
(٢٤) اللؤلؤ المنثور: صفحة ٥٤–٥٦، و٩٠–٩٣.
(٢٥) القلادة النفيسة في فقيد العلم والكنيسة، لفيليب دي طرازي: صفحة ١١.
(٢٦) مخطوطات البطريركية السريانية.
(٢٧) أجمل زهرة في حديقة آل هبرا: صفحة ٢٦-٢٧.
(٢٨) الرهبنة البندكتية في فلسطين: ١٣-١٤.
(٢٩) مجلة الآثار الشرقية: مجلد ٢، سنة ١٩٢٧، صفحة ٢٣٣ فما بعدُ.
(٣٠) الأغاني ٢–١٤٦.
(٣١) مجلة الحكمة في القدس: مجلد ٤، سنة ١٩٣٠، صفحة ٧٥.
(٣٢) مجلة الحكمة في القدس: مجلد ٤، سنة ١٩٣٠، صفحة ١٨٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤