الفصل الحادي والعشرون

أشهر المكتبات السريانية في الزمان الحاضر، وعلاقة بعضها بالعصر الذهبي

نهض بعض الأحبار في القرون الثلاثة الأخيرة يفرغون الطاقة في إحياء آثار السلف، فوجَّهوا الهمم إلى التقاط ما تبقَّى منها، ثم أضافوا إليها مخطوطات حديثة كتبوها هم أو استكتبوها أحد الخطاطين، وانطوت تلك المخطوطات على مواضيع دينية وطقسية وتاريخية وعلمية … إلخ، لا حاجة إلى تعدادها. إنما رأينا أن نلمع في هذا الفصل إلى بعض تلك المكتبات التي حَوَتْ قسمًا من المخطوطات السريانية، بينها ما كُتِب في العصر الذهبي:

(١) مكتبة البطريركية السريانية في بيروت

عني بطاركة السريان الكاثوليك بإحراز مخطوطات ثمينة جمعوها في مراكز إقامتهم كحلب، وماردين، والموصل، وغيرها. ولما تولى الكرسي الأنطاكي مار أغناطيوس أفرام الثاني (١٨٩٨–١٩٢٩) وجعل مركز إقامته في بيروت، أنشأ في قلايته مكتبة معتبرة عُدَّتْ من أهم مكتبات بطاركة المشرق، وقد جمع أوفرها خلال رحلاته المتواترة في العراق وما بين النهرين وسوريا ولبنان، نذكر منها على سبيل المثال:
  • (١)

    مخطوطة على رق الغزال حَوَتْ بعض مداريش وميامر سطرنجيلية.

  • (٢)

    شرح مار أفرام لنبؤة أشعيا.

  • (٣)

    شرح دانيال الصلحي لسفر المزامير.

  • (٤)

    ديدسقالية الرسل.

  • (٥)

    ميامر مار يعقوب السروجي.

  • (٦)

    إنجيل ضخم طبقًا للترجمة الحرقلية دبجت هوامشه ببعض الشروح، وكُتِبت عناوينه بحروف سطرنجيلية ملوَّنة.

  • (٧)

    شرح ابن الصليبي للعهدين القديم والجديد … إلخ.

ولما شيد الكردينال البطريرك أغناطيوس جبرائيل تبوني الصرح البطريركي عام ١٩٣٠، خصَّص بالمكتبة جانبًا فسيحًا في الطبقة الثالثة يستوعب عشرات الألوف من المجلدات، ثم استحضر في الأعوام الأخيرة ما جمعه أسلافه في ماردين من مخطوط ومطبوع، وضمه إلى ما اقتناه سالفه المشار إليه، وبين ذلك كتاب رسائل مار بولس على الرق يرتقي عهده إلى القرن الثامن أو التاسع للميلاد. هكذا تألفت خزانة مخطوطات ومطبوعات ثمينة وافرة العدد تزيِّن اليوم كرسي البطريركية في عاصمة لبنان.

(٢) مكتبة دير مار أفرام الرغم بلبنان

ما كادت تنتهي عمارة دير مار أفرام الرغم في الشبانية عام ١٧٠٥ حتى أخذ الرهبان يزينون خزائنه بمخطوطات سريانية وعربية قديمة العهد، منها ما نقلوه من بلاد سوريا وما بين النهرين، ومنها ما التقطوه من أنحاء لبنان أو نسخوه هم في ديرهم المذكور، غير أن أثمن تلك الكتب وأقدمها ذهب فريسة النار في فتنة السنتين ١٨٤٠ و١٨٤١ ميلادية. وفي محفوظات دير الشرفة لائحة رسمية رفعها الخوري ميخائيل أزرق رئيس دير مار أفرام المشار إليه إلى والي سوريا، عدَّد فيها ما أُتلِف وأُحرِق من أمتعة الدير ومخطوطاته، وذكر أن عدد المخطوطات بلغ أربعمائة وستة وأربعين مخطوطًا، وقدَّر قيمتها أربعمائة ليرة عثمانية ذهبية.١ ولم يسلم من تلك الكنوز الكتابية إلا مجلدات معدودة سبق بعض الأحبار أو الرؤساء فنقلوها إلى دير الشرفة قبل حدوث الفتنة المذكورة.

(٣) مكتبة دير الشرفة في لبنان

نواة هذه المكتبة مخطوطات سريانية وعربية جمعها مار أغناطيوس ميخائيل الثالث (جروة) البطريرك الأنطاكي (١٧٨٢–١٨٠٠) منذ عهد كهنوته، ونقلتها خمسة قوافل عام ١٧٨٦ على ظهر البغال من حلب إلى دير الشرفة، وعلى إثر وفاة البطريرك المغبوط ضُمَّتْ إلى المكتبة مخطوطات جمة، حتى أربى عددها على ألف وستمائة مخطوطة، بينها أكثر من مائتي مخطوط أهديناها نحن إليها.

وتعتبر مكتبة الشرفة أغنى مكتبات لبنان الخطية بلا جدال، وقد أنشأ لها المؤرخ البحَّاثة الخوري إسحاق أرملة فهرسًا شاملًا، بلغ عدد صفحاته ٥٤٠ صفحة، ونشره عام ١٩٣٦.

(٤) مكتبة مار شليطا مقبس

دير مار شليطا هو باكورة أديار الموارنة في كسروان، أسَّسه عام ١٦٢٨ القس حنا بن المقدسي يوسف محاسب الغوسطاوي، واشتهر هذا الدير في عهد البطريرك أسطفان الدويهي (١٦٧٠–١٧٠٤) الذي اتخذه مركزًا لإقامته، وابتنى فيه قلالي للبطاركة خلفائه عام ١٦٧٢، واستمر مقيمًا فيه حتى قبيل وفاته سنة ١٧٠٤.

ونقل هذا البطريرك إلى خزانة مار شليطا مجلدات وافرة من المخطوطات السريانية والكرشونية كانت في دير قنوبين، ثم عزَّزها البطريرك يعقوب عواد (١٧٠٥–١٧٣٣) إذ أقام في هذا الدير من السنة ١٧٠٦ حتى وفاته، وعلى ممر الأيام لعبت الأيدي بمخطوطات هذا الدير حتى كادت تندثر؛ فاستدرك البطريرك إلياس الحويك (١٨٩٩–١٩٣٢) أمر تلك المكتبة، وأوفد الخوري بطرس شبلي خازن المكتبة البطريركية إلى ذلك الدير، فاستحضر بقية المخطوطات والمطبوعات ونضدها في خزانة بكركي.

وأهم تلك المخطوطات السريانية وأقدمها عهدًا مصحفُ إنجيل جميل في السطرنجيلية نسخ عام ١٣٠٢ للميلاد، وصلاة قانونية للقديسة مورا عام ١٤٦٨، يلي ذلك مخطوطات تضمنت الصلوات الفرضية للآحاد والمواسم نُسِخت في القرنين الخامس العشر والسادس عشر، وقد اطَّلَع عليها البحَّاثة الخوري إبراهيم حرفوش ووصفها في مقالٍ ضافٍ نشَرَه في مجلة المشرق عام ١٩٠٢ و١٩٠٣.

(٥) مكتبة الكرسي البطريركي في بكركي

لم يغمض بطاركة الموارنة في سالف الأزمنة عن ادخار المخطوطات السريانية والحرص عليها؛ فقد كتب البطريرك ميخائيل الرزي (١٥٦٧–١٥٨١) إلى رئيس الرهبنة اليسوعية العام يقول: «إنَّ كُتُبَنا بغير عدد.»٢ وعلى رغم ما أتلفه أو أحرقه الزوار الرسوليون من المخطوطات السريانية كما روى المؤرخون، فقد سلمت منها طائفة عظيمة بقيت إلى عهد البطريرك أسطفان الدويهي، وقد أحصى هذا البطريرك أسماء النساخ في القرن الخامس عشر ممَّن وقف على مخطوطاتهم، فإذا هم ينيفون على مائة وعشرة نسَّاخ.٣

ولا ريب في أن مخطوطات سريانية مارونية قديمة اندثرت وبادت بسبب تنقُّل البطاركة من دير إلى دير. ومما اقتناه أحدهم إنجيل سطرنجيلي بديع نمقته يد ربولا السرياني رئيس دير مار يوحنا في زغبة، وقد أصبح ذلك الإنجيل الفريد في حوزة مكتبة فلورنسا بإيطاليا.

واعتنى البطريرك أسطفان الدويهي بتعزيز المكتبة البطريركية بما اقتناه أو كتبه بخط يده، وأحرز خلفاؤه من بعده بعض مخطوطات تتضمن صلوات قانونية وسنكسارات وطقوس الأسرار، واشترى البطريرك بولس مسعد (١٨٥٤–١٨٩٠) بعض مخطوطات سريانية ملكية٤ ضمها إلى المخطوطات السابقة، وتحوي الآن خزانة بكركي زهاء مائتي مخطوط بين سرياني وكرشوني وعربي.

(٦) سائر مكتبات الموارنة في لبنان

طاف الأب أنطونيوس شبلي الراهب اللبناني أغلب أديار الموارنة عام ١٩٢٦، وألمع إلى ما عثر عليه فيها من بقايا المخطوطات السريانية، ونشر معلومات عنها في مجلة المشرق مدة ثلاث سنوات متوالية، وأقدم تلك المخطوطات لا يرتقي عمره إلى ما قبل القرن الخامس عشر، نذكر منها فنقيثًا في مكتبة دير مار اليشع منسوخًا سنة ١٤٥٩، ورد فيه ما يلي: «وقف هذا الكتاب المبارك … المقدمين عبد المنعم بن الدين، والحاج بدر بن قمر للقديس الفاضل المبارك مار برصوما المعمور بقرية بشري. أوقفه عن أنفسهم وأنفس أبهاتهم، وعن أولادهم، وعن نفس المقدم رزق الله، وعن ابنه يعقوب …»٥

ومنها أناجيل سريانية منسوخة عام ١٥١٧ و١٥٢٢، وفنقيث ثانٍ منسوخ سنة ١٥٣٠. وذكر الأب أنطونيوس أن بيعة مار سابا في بشري احتوت كتاب «الحاش»، وفيه ميمر لمار يعقوب أسقف مدينة سروج عن لص اليمين.

أما مخطوطات دير مار أنطونيوس قزحيا، فأقدمها منسوخ سنة ١٦٦١، أَضِفْ إلى ذلك مخطوطات خزانة سيدة نسبية ودير مار يوسف الحصن وعين ورقة في غوسطا، وقِسْ عليها خزائن عشقوت وريفون وفيترون ولويزة، فإنها اشتملت — ما عدا مخطوطات عربية عديدة — على مخطوطات سريانية في الطقوس البيعية والسيامات الكهنوتية وبعض نوافير وميامر.

(٧) المكتبة المارونية في حلب

من المقرر أن الموازنة دخلوا حلب عام ١٤٨٩ كما أثبت المطران جرمانوس فرحات في مخطوط يخص المكتبة موسوم بالرقم ٦٢١، وهو يحوي الصلوات القانونية من أحد تقديس البيعة إلى أحد الموتى. وأخذ الأساقفة الحلبيون الموارنة منذ ذلك التاريخ يعتنون بجمع المخطوطات في خزانة بيعة مار إلياس الحي، ضموا إليها ثلاثة وتسعين مجلدًا بين مخطوط ومطبوع سريانيًّا وعربيًّا، ولما تولى المطران جرمانوس أبرشية حلب (١٧٢٥–١٧٣٢)، عزَّز تلك المكتبة حتى أصبح عدد كتبها سبعمائة وثمانية عشر مجلدًا.

واشتملت تلك المكتبة على مجلدات شتى من مخطوطات الصلوات القانونية، ورتب الأسرار والاحتفالات البيعية، وأقدم مخطوطاتها السريانية إنجيل سرياني وكرشوني نُسِخ سنة ١٥٤٧، وكتاب أعمال الرسل ورسائل مار بولس سنة ١٥٥٥، وإنجيل ثانٍ تاريخه سنة ١٦٧٢، وقوانين يعقوب بن الصليبي مطران آمد يرتقي إلى السنة ١٦٢٠.٦ وقد أضيف إلى تلك المكتبة بعد المطران جرمانوس مجلدات شتى أغلبها في اللسان العربي ليس من شأننا البحث عنها.

(٨) مكتبة البطريرك أغناطيوس أفرام برصوم في حمص

للبطريرك العلَّامة مار أغناطيوس أفرام الأول برصوم همة عجيبة غريبة لا يأخذها كلال في الدراسة والكتابة والتأليف ليلًا ونهارًا، فقد كلف منذ حداثته بالبحث عن الآثار السريانية القديمة، وساعدته الحظوظ فتعهد أغلب مكتبات الشرق والغرب، واطَّلَع على ما في خزائنها الكتابية الثمينة، فجال في بلاد آثور، وطور عبدين، وما بين النهرين، وسوريا، ولبنان، وفلسطين، ومصر، وتعهَّد مكتبات الفاتيكان، وفرنسا، وإنكلترا، وألمانيا، وهولندا، وأميركا وغيرها من المكتبات العامرة، فنسخ أو استنسخ ما رآه ذا فائدة كبرى لدرسه ونشره.

وقد جمع هذا الحبر الأنطاكي الهمام من المخطوطات السريانية عددًا ليس باليسير، أشار إلى بعضها في هوامش دقيقة علقها على كتابه النفيس «اللؤلؤ المنثور في العلوم والآداب السريانية»، ويستفاد من تلك الهوامش أنه أفرغ جهودًا عظيمة، وأنفق أموالًا وافرة، وقام بأسفار شاقة حتى توصل إلى جمع ما لم يجمعه أحد غيره في يومنا من الكنوز الكتابية السريانية التي يتصل بعضها بالعصر الذهبي، وقد نظمها تنظيمًا فنيًّا، وزيَّن بها خزائن كرسيه البطريركي في حمص، فأحرز بذلك ذكرًا مستطابًا يدوِّنه التاريخ لغبطته على ممر الأجيال، أطال الله عمره مفخرة للعلم وعمادًا للوطن والملة.

هوامش

(١) فهرس مخطوطات دير الشرفة: رقم ٩–١٦، صفحة ١٩٤.
(٢) المشرق: مجلد ١٨، سنة ١٩٢٠، صفحة ٦٨٢.
(٣) تاريخ الطائفة المارونية، للدويهي: صفحة ١٣٩-١٤٠.
(٤) وصفها الخوري إسحاق أرملة في مقالٍ له نشرته مجلة المشرق عام ١٩٣٩.
(٥) المشرق: مجلد ٢٤، سنة ١٩٢٦، صفحة ٧٤٨.
(٦) راجع وصف البحَّاثة الخوري إبراهيم حرفوش لمخطوطات المكتبة المارونية في حلب: المشرق، مجلد ١٧، سنة ١٩١٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤