أصدقاؤه

وكانت علاقته بأم كلثوم علاقةً عائلية منذ طفولته الأولى؛ كانت صديقة والديه، وكانت تقضي شهور الصيف في رأس البر في عشةٍ ملاصقة لعشة دسوقي باشا والد ثروت، ورأته طفلًا شابًّا إلى أن ذاعت شهرته وكبر اسمه. ويحكي لي ثروت أن والدته دعت أم كلثوم على الغداء، وقالت لها: أنا عاملة لك مفاجأة على المائدة، رأت أم كلثوم طَبقًا مغطًّى فكشفته، ولما عرفت محتواه صرخت وقالت: «حمِّيض! أهلًا يا حميض، والله زمان يا حميض!» واستمرت في دعاباتها إلى آخر اليوم. والحميض هو نبات ينبت في الريف لا يعرفه أهل المدينة، ولكنها هي تربَّت عليه، فهو نباتٌ شيطاني يُصنع كما تُصنع السبانخ، ولكنه أكل الفقراء في الريف، وعندما أتت إلى القاهرة منعت دخول الحميض إلى بيتها نهائيًّا. وتذكرني هذه القصة بما قاله الدكتور طه حسين لثروت إنه كان لا يأكل إلا العسل الأسود أثناء دراسته بالأزهر؛ لرخص ثمنه، لكنه عندما استقرت حالته المالية منع دخول العسل الأسود إلى بيته على الإطلاق. وحكى لي ثروت أن أم كلثوم ذهبت مع أسرته إلى قريته غزالة لتقضي أيامًا معهم هناك وكانوا يسهرون حتى الصباح، وفي يوم وعند طلوع الفجر وقفت أم كلثوم في الشرفة وأذنت أذان الفجر؛ فتوافد أهل القرية إلى منزل دسوقي باشا، ووقفوا مذهولين يستمعون إلى صوت أم كلثوم وهو يعلو في أجواء غزالة.

وكان «عبد الله بك فكري أباظة» شقيق «دسوقي» باشا يدعو يوم شم النسيم من كل سنة أم كلثوم وأولاد إخوتها وأولاد إخوة زوجته وعائلة دسوقي باشا إلى قضاء يومٍ كامل على مركب في النيل، وكانت الرحلة تبدأ وقت طلوع الفجر وحتى غروب الشمس، وكانت أم كلثوم تضفي على الرحلة البهجة والمرح ثم تغني أجمل الألحان، وتسعد الحاضرين وتشجيهم طربًا، فمن منا لا يتمنى أن يكون من الحاضرين؟!

وحدث لثروت حادث سيارة بسيط من سنواتٍ بعيدة، وجاءت أم كلثوم وأمضت معه صباح يوم بأكمله، وكانا يتكلمان في الأدب والشعر والفن.

وعرف طه حسين، وبدأت هذه المعرفة الشخصية بأن جاءه صديقه «أمين يوسف غراب» بعد ظهور روايته «هارب من الأيام» وقال له تعالَ انزل معي لنزور الدكتور «طه حسين» فهو بعد أن قرأ روايتك وأُعجب بها يريد أن يراك، فأسرع ثروت والسعادة تملأ كيانه وذهب مع صديقه إلى بيت عميد الأدب العربي، ومن هنا بدأت بينهما علاقةٌ جميلة؛ فقد رعى عميد الأدب العربي «ثروت» وكتب عن رواياته «شيء من الخوف» و«هارب من الأيام» و«قصر على النيل» و«ثم تشرق الشمس» و«لقاء هناك» وقال بإخلاص: «إن ثروت أباظة أحسن من صوَّر الريف المصري.» واستمر في قراءة جميع رواياته بل ويعيد قراءتها من وقت لآخر، وأحبَّه حبًّا أبويًّا، وأعجب بأدبه وفنه وعظيم خُلقه، وظلت هذه العلاقة إلى آخر يوم في حياة طه حسين، وكان عندما يتأخر ثروت عن زيارته يقابله بهذين البيتين:

إن كنت أزمعتَ على هجرِنا
من غيرِ ما ذنبٍ فصبرٌ جميلٌ
وإن كنت تبدلت بنا غيرنا
فحسبنا الله وَنعمَ الْوَكِيل

وبعد رحيل الدكتور طه حسين أسرع ثروت إلى «راماتان» وقابلته زوجته وقالت بالفرنسية (مسيو أباظة، لقد كان يحبك كثيرًا). وأما الأستاذ الكبير والأديب العالمي نجيب محفوظ فمنذ زواجي وأنا أرى زوجي يرفع سماعة التليفون الساعة الرابعة من كل يوم ليتكلم معه، وظلت هذه المكالمة تحدث على مدى سنواتٍ طويلة إلى أن تعذَّر على الأستاذ نجيب محفوظ استعمال الهاتف. وكان ثروت يعتبر «نجيب محفوظ» من أستاذته والرائد في فن الرواية، ولم يترك حرفًا خطه قلم نجيب محفوظ إلا وقرأه بإعجاب. وكان ثروت يذهب كل يوم خميس إلى منزل نجيب محفوظ ثم يتوجَّهان معًا إلى قهوة في العباسية، وكانت السهرة حينذاك في منزل الفنان الكبير الأستاذ «أحمد مظهر» وكانت تدور بينهم أحاديثُ شيقةٌ ومتنوعة، أعتقد أن كل محبي الأدب يتمنون أن يستمعوا إليها.

وقد قال له الأديب العالمي مرة: «لو أن عشرة قراء يقرءون لي مثلك بكل هذا الوعي وبكل هذا التعمق لاكتفيت بهم.»

وفي سهرة من هذه السهرات قال زوجي لأستاذه: ألم يكتب أحد عن الشرعية في مصر فأجابه فعلًا لم يكتب أحد.

– إذًا فسأكتب أنا عنها.

وقرأ كتب الأئمة الأربعة باحثًا عن بطلان زواج البكر إذا تم بغير رضاها؛ وكانت رواية «شيء من الخوف».

وحينما تعرَّض نجيب بك لحادث الاغتيال أسرع ثروت إلى المستشفى ولم يتمالك نفسه من البكاء فقال الأديب العالمي: «هل أنت الذي أصبت أم أنا؟»

وكان حب ثروت لنجيب بك حبًّا نابعًا من أعماق قلبه وكان إعجابه به إعجابًا ليس له نظير وابتدأ هذا الإعجاب منذ ظهور رواية «القاهرة الجديدة» سنة ١٩٤٤م.

ولما حصل نجيب محفوظ على جائزة «نوبل» اهتزَّت مصر كلها فخرًا وفرحًا، وكرَّمه الرئيس حسني مبارك في حفلٍ كبير، تكلم فيه ثروت بدافع من حبه وعميق تقديره.

ولا يسعني إلا أن أقول: إن العلاقة بينهما كانت مبنية على الحب والتقدير المتبادل على مدى خمسين عامًا.

وأما علاقته مع الكاتب العظيم توفيق الحكيم فقد بدأت منذ طفولته عندما كان يقرأ كل الكتب التي تصدر في تلك الآونة من تأليف «عبد القادر المازني» و«طه حسين» و«توفيق الحكيم» وكان هذا الأخير له مكانٌ معروف في شارع قصر النيل يجلس فيه في الصباح، وكان «ثروت» يمرُّ به ويكتفي بالنظر إليه من بعيد، إلى أن جاء يوم وكان توفيق الحكيم خارجًا من مبنى الإذاعة فتعارفا، وكان مما قاله توفيق الحكيم لزوجي:

«إنني أستمع إلى تمثيلياتك عن أقاصيص العرب، ولا أخرج إذا عرفت أنها ستذاع.» ولم يصدق «ثروت» كما كان يقول لي.

وكانت هذه هي بداية الكاتب «ثروت أباظة»، وبعد ذلك بسنوات اتصل الود بينهما وأصبح توفيق الحكيم يَعتبر «ثروت» ابنًا له يأتمنه على أسراره المالية ويَكِل إليه رعاية صحته أيضًا، حتى إنه عندما كان يمرض كانت السيدة التي ترعاه وتقيم في المنزل تتصل بثروت في الهاتف حتى يسرع إلى نجدتها ويأتي بالطبيب، ورشَّح له الدكتور «أحمد عبد العزيز إسماعيل» الطبيب المشهور وأصبح المعالج له على مدى سنواتٍ طويلة.

وجاء الصيف وتوفيق بك يحب أن يذهب إلى الإسكندرية، ولكن الأحوال المالية لم تكن على ما يرام؛ فعليه التزاماتٌ كثيرة جدًّا لا يعرفها إلا المقرَّبون إليه، وتصادف أن طلبت ممثلةٌ معروفة من «ثروت» أن تشتري منه رواية لتمثلها في السينما وكانت تتصل به تليفونيًّا، وكنت أتلقى أحيانًا المكالمة ولكن لم ترحْني طريقتها، فقلت لزوجي: «لا أريدك أن تتعامل معها.» وهذا بدافع إحساسٍ داخلي لا أكثر ولا أقل، ولما ضيَّقتُ عليه الخناق رضخ لإرادتي وزارتْه هذه الممثلة في اليوم التالي في جريدة الأهرام وكررت الطلب فقال لها: «إن عند توفيق الحكيم بك رواية يريد أن يبيعها؛ فتعالي معي نذهب إلى مكتبه فهو مجاور لمكتبي.» فقالت له: «أنا لا أستطيع أن أدفع له ما سيطلبه مني.» فقال لها: «ضعي ما معك على مكتبه وسنرى ما يقول.» وعندما دخلا طلبت منه الرواية ووضعت نقودها أمامه؛ فتردد قليلًا ثم تمت الصفقة. وهكذا ارتاح توفيق بك وارتحتُ أنا.

وفي الإسكندرية كان ثروت يُخصِّص لتوفيق بك يومين في الأسبوع من الصباح وحتى المساء، يتناولان طعام الغداء في مطعم في وسط البلد، ثم يذهبان إلى السينما من ٣ إلى ٦، ثم يكملان السهرة في نادى السيارات. وحدث أن كان لي طلبٌ سريع لا يحتمل التأجيل ولكنه على الرغم من ذلك طلب مني تأجيله على رغم أهميته؛ لأن هذا اليوم هو يوم توفيق بك. ولا أخفي أنني ثُرتُ وغضبت وأعلنت غيرتي من توفيق الحكيم. رنَّ جرس الباب عندنا فردَّت أمينة، وسمعت خادمة توفيق الحكيم تبكي وتطلب أن ينجدها «ثروت» بطبيب، وكان في جلسة بمجلس الشورى بعيدًا عن أي تليفون؛ فأسرعت أمينة إلى سيارتها وقررت أن تذهب إلى أبيها، ولكنها لم تكن تعرف الطريق، ولأن في داخلها إصرارًا فقد انطلقت وسألت المارة وعساكر المرور حتى وصلت في النهاية، وما إن رآها أبوها حتى تملكه القلق وسألها في لهفة عن سبب مجيئها فقالت: «إن توفيق بك مريض ويريد طبيبًا.» فطلب فورًا الدكتور «أحمد إسماعيل» وتقابلا بعد دقائق في منزل توفيق بك الحكيم، وظل يعوده يوميًّا إلى أن تماثل للشفاء.

وأما الأستاذ الكبير «عباس محمود العقاد» فقد كان صديقًا لوالده «دسوقي باشا أباظة» وكان مثلًا أعلى «لثروت» من حيث الجرأة والشجاعة والخصومة الشريفة، وكان يحضر ندواته مع الشاعر الأستاذ «العوضي الوكيل». وحدث يومًا أنه حدَّد لناشر ميعادًا في بيته، ولكن الناشر تأخر خمس دقائق، فما كان من العقاد إلا أن أمر خادمه بأن يصرفه ويقول له إنه تأخر عن الموعد خمس دقائق وكاد الناشر أن يعود أدراجه لولا أن الخادم أخبر العقاد أن «ثروت أباظة» مع الناشر؛ فعاد إلى حجرة الاستقبال وأمرهم بالدخول، وقال: «لولا أن «ثروت» معك ما قابلتك.» والمعروف عنه الصراحة والاعتزاز بالنفس المبالَغ فيه. وله قصةٌ طريفة ومشهورة جدًّا، وهي أنه عندما كان مُقرِّرًا للجنة الشعر في المجلس الأعلى للفنون والآداب في الستينيات عُرض عليه شعرٌ حديث فنظر إلى الورقة وبسرعة قال: يُحوَّل إلى لجنة النثر.

وكان الصحفيان اللامعان «حسين وأحمد أبو الفتح» صديقين لأبي، واستمرت علاقتنا بهما حتى اضطرا إلى مغادرة مصر نهائيًّا بعد الثورة؛ لأن كتابات «أحمد أبو الفتح» كانت تحرج السلطة. فقد كان «أحمد أبو الفتح» يشارك الضباط الأحرار اجتماعاتهم وكان مثلهم ثائرًا على حكم الملك فاروق ومتَّفقًا مع مبادئهم تمامًا، ولكن بعد وصولهم للسلطة لم ينفذوا الديمقراطية التي كانوا ينادون بها؛ فبدأ «أحمد أبو الفتح» يكتب في جريدته المصري ويهاجم الدكتاتورية، وانتهى الأمر بمغادرته وطنه ليقيم هو وشقيقه حسين في جنيف لسنواتٍ طويلة.

وكنا حينما نزور «جنيف» نتصل بهما ويدعواننا دائمًا إلى منزلهما ويكرماننا ما وسعهما ذلك، وكانا يحتفلان بنا ليلًا ويتجنباننا نهارًا؛ خوفًا علينا من غضب الضباط في مصر، وخصوصًا أن سيدة من أصدقائهما اعتُقلت في مطار القاهرة لأنها كانت في ضيافتهما في جنيف. ومنذ ذلك اليوم تجنَّبا المصريين حتى لا يسببا لهم إحراجًا.

وكان لأحمد أبو الفتح آراؤه الخاصة؛ فهو معارضٌ عنيد، وكان «ثروت» يدخل معه في مناقشاتٍ سياسيةٍ ملتهبة، وكان «أحمد أبو الفتح» يتمسك برأيه، ولكن يناقش بهدوء في حين يتحمَّس ثروت، ويعلو صوته مُجلجِلًا، وأتوقع أنا أن تنتهي هذه الصداقة التي أعتزُّ بها وخصوصًا أن زوجة «أحمد أبو الفتح» «ثريا عكاشة» شقيقة العظيمَين «ثروت عكاشة» و«أحمد عكاشة» صديقةٌ قريبة إلى قلبي، وكنت أخشى على هذه الصداقة أن تُدمَّر من حدة المناقشات، ولكن في اليوم التالي تعود المكالمات التليفونية كما كانت وكأن شيئًا لم يكن، واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.

وكان له صلةٌ قويةٌ جدًّا بأستاذه الدكتور «عثمان خليل عثمان» وكان الدكتور عثمان يدرس له القانون الدستوري في كلية الحقوق، وكان يستضيفه في بيته ويشرح له ما استعصى عليه فهمه، وكان يتناول عنده كل ليلة طعام العشاء؛ فزوجة أستاذه «هدى أباظة» كريمة «عبد العظيم بك أباظة». ويستمر الحال على هذا المنوال إلى أن تقترب مواعيد امتحانات آخر العام، فيطلب الأستاذ من تلميذه أن ينقطع عن زيارته لأنه هو الذي سيضع الامتحانات، وقال له: «إذا أخفيتُ عنك أسئلة مما سيجيء في الامتحان أكون قد ظلمتك، وإن أطلعتك على هذه الأسئلة أكون قد خالفتُ ضميري.» وانقطع التلميذ عن زيارة أستاذه العظيم حتى انتهت الامتحانات.

وقد طلبت حكومة الكويت من الدكتور «عثمان خليل» أن يضع لهم دستورهم وسافر فعلًا هو وعائلته وأتمَّ عمله على أعلى مستوى، وبقي هناك أربعة عشر عامًا، وكلما أراد العودة إلى مصر استبقته الحكومة بإصرار، وقد أحاطته بكل تقدير واحترام.

وأما رجل الأعمال «طارق حجي» فقد أحبَّه «ثروت» واعتبره ابنًا له، وكان يستمتع بالحديث معه عبر التليفون الذي يدوم وقتًا طويلًا، ويتطرق الحديث إلى الأدب والشعر؛ فطارق حجي على رغم أنه اقتصاديٌّ معروف وكان أول رئيسٍ مصري لمجلس إدارة شركة «شِل» إلا أنه أديب وذواقة من الطبقة الأولى، وكنا إذا دُعينا عند «طارق حجي» في بيته مع شخصياتٍ أجنبيةٍ هامة كان يتركهم لفترة ويدخل مع ثروت في حوار عن المتنبي وابن الرومي والبحتري إلى أن يصلوا إلى أمير الشعراء أحمد شوقي، وكان هذا هو الحديث الممتع بالنسبة لهما، وكان طارق حجي يهدي «ثروت» كتبه عن الاقتصاد، وهي كتبٌ قيمة جدًّا يعرض فيها المشاكل وهي كثيرة ومعها الحلول والعلاج، وقد قرأناها وأعجبنا بما تحويه هذه الكتب من كنوز. وأما زوجته فهي سيدةٌ رقيقة وجميلة وعلى خُلق وقفت إلى جانبه منذ بداية حياته العملية وحتى وصل إلى هذه المكانة.

وأما عن موسيقار الأجيال الأستاذ محمد عبد الوهاب فقد عرفه ثروت وهو ما يزال طالبًا في كلية الحقوق، وكان قد دعاه الفنان الكبير إلى منزله في الهرم، وأسمعه مطلع قصيدة «مضناك جفاه مرقده» وكان لم ينتهِ من تلحينها بعدُ، وكان «ثروت» يقول لي: «لقد غنَّى عبد الوهاب لي وحدي.» وبعد ذلك اتصلنا عائليًّا عندما تزوَّج من السيدة «نهلة القدسي» ودعانا كثيرًا في بيته الأنيق في الزمالك، وكنا نقابل كثيرًا من كبار الصحفيين، ويسعد زوجي بلقائهم، وكانت السيدة نهلة القدسي تشعُّ على البيت أُنسًا ومرحًا فهي مضيافةٌ ممتازة تُشعِر كل مدعوٍّ بأهميته.

وعندما عُيِّن الموسيقار محمد عبد الوهاب عضوًا في مجلس الشورى كان الاتصال بينهما بالتليفون مستمرًّا.

وعندما كان يعود من باريس في نهاية الصيف كان يبعث له بأجمل الهدايا، وإذا مرض «ثروت» سأل عنه الموسيقار باهتمام وسأل عن أدق تفاصيل المرض، ودعوناه مرة على العشاء وكان اليوم قريبًا من يوم ميلاده ففاجأناه «بتورته» مكتوب عليها تهنئة له وبها شمعةٌ واحدة، وغنينا له «سنة حلوة يا جميل» وإذا به يشاركنا الغناء؛ فخفتت أصواتنا ولم يبقَ إلا صوته وكأنه آتٍ من السماء، وكان معنا المطرب «محمد ثروت» الذي تبنَّاه الموسيقار بعد وفاة المطرب «عبد الحليم حافظ» وكان يحتضن موهبته، وطلب منه في تلك الليلة أن يغني أغانيه القديمة مثل «مين عذبك» «لما أنت ناوي تغيب على طول» «امتى الزمان يسمح يا جميل» ويغني محمد ثروت ببساطة وتلقائية ولا يتعمد أن يرجوه المستمعون أن يغني، وكان عبد الوهاب عندما يتكلم فهو قيثارةٌ شجية ينطق بالحديث المنمق الجميل الساحر.

وقد حضرنا معه مرة حفلة في مسرح الموسيقى العربية وتكلم الخطباء والمثقفون، وتكلم عبد الوهاب فكان أكثرهم وضوحًا وأكثرهم تألقًا.

ولا أستطيع أن أتكلم عن أصدقاء «ثروت» ولا أذكر ذلك الصديق الوسيم المبتسم دائمًا ذا الوجه الطفولي والقلب الصافي وهو الكاتب الكبير «يوسف السباعي»؛ فقد كان صديقًا بكل ما تحمل هذه الكلمة من معانٍ، ووقف إلى جانب زوجي في الأوقات الحرجة، وقفات كلها حب ومساندة، وكانت تجمعهما كثير من الصفات المشتركة هي الطيبة وصفاء النفس ومساعدة العدو والحبيب.

وأذكر أن الكاتب العظيم الأستاذ «أنيس منصور» وكان رئيسًا لتحرير مجلة آخر ساعة أرسل لي صحفيًّا لأكلمه عن كتابي «أبي عزيز أباظة» وسألني الصحفي لمن تقرئين من الكُتَّاب؟ قلت أقرأ لنجيب محفوظ ثم لزوجي. وبعد شهور دعونا الكاتب الكبير «يوسف السباعي» وأسرته على الغداء، فما إن رآني حتى قال لي: «قرأت في آخر ساعة حديثًا أجروه معك ولم أرَ اسمي بين الكتاب الذين تقرئين لهم.» فأَسَرتْني هذه البساطة وهذه التلقائية؛ فهو لم يتردد في أن يعاتبني لأنه خالٍ من أية عُقد ويتكلم على سجيَّته. والحقيقة أنني لم أجد ردًّا، ولكن زاد إعجابي به وحبي له. وأذكر أنه كان في مستشفى الجمعية الخيرية الإسلامية لمدة شهر وكان «ثروت» يزوره كل يوم إلى أن عوفي وخرج وهو في صحةٍ جيدة، وكان أبنائي يحبونه — والصغار يشعرون بالصفاء والطيبة عند الكبار فينجذبون إليهم — ابنتي أمينة وهي في سن المراهقة لا تجد طريقة لتظهر بها حبها له إلا أن تهديه لوحًا من «الشيكولاته» وكان يسعد جدًّا بهذه الهدية، وكان يفخر جدًّا أنها تحرم نفسها منها ليفرح هو بها، وكان يحكي لي ولزوجي أثر هذه الهدية البسيطة عنده.

كان لثروت صلةٌ قوية بالكاتب الكبير «أنيس منصور» وفي فترة من الفترات كنا نُدعى عنده على العشاء مرة أو مرتين في الشهر، وكان هو وزوجته الفاضلة — وهي صديقةٌ عزيزة — يحتفيان بضيوفهما أيما احتفاء، وكنا نلتقي عندهما بالفنان العملاق صلاح طاهر وزوجته العظيمة رحمها الله، وكنا نسعد بأحاديث الوزير السابق «زكريا توفيق عبد الفتاح» وزوجته الصديقة العزيزة «فُتنة كامل» وكنا نستمتع بغناء «فايزة أحمد» الأصيل على نغمات عود زوجها الموسيقار الكبير «محمد سلطان» وقضينا عندهما أجمل الأوقات. وزوجة الكاتب الكبير أنيس منصور سيدةٌ عظيمة ومشرفةٌ ذكية وعطاؤها بلا حدود، والغريب أنها تجمع بين صفتَين قلَّما يخصُّ بهما الله شخصًا واحدًا وهما الجمال الباهر وخفة الظل.

وكان زوجي شديد الإعجاب بكتابات كاتبنا الكبير وكان دائمًا يقول في أحاديثه الصحفية والإذاعية إن كتاب «صالون العقاد» من أعظم الكتب التي صدرت في هذه الحقبة.

ويقول أيضًا إنه يعجب بغزارة قراءته وبتنوُّعها، وبغوصه في أعماق ما يقرأ، وبقدرته على الاحتفاظ بها في ذهنه ثم يبسطها ويسقيها لقراء عموده اليومي رشفةً رشفة؛ حتى تسهل على غير المتخصصين، وأما كتبه فهي خلق وإبداع، وقد اصطلى الأستاذ «أنيس منصور» بنيران حكم الستينيات، وكان ثروت معه بقلبه وبعواطفه.

والسفير «بكر عبد الغفار» كان زميلًا لزوجي في كلية الحقوق وصديقًا من أعز أصدقائه، والغريب أنهما ولدا في يومٍ واحد من نفس السنة، ٢٨ يونيو سنة ١٩٢٧م، وحدث أن دُعي ثروت إلى مؤتمر في إسبانيا، ودُعي في نفس المؤتمر المهندس الفذُّ العبقري «حسن فتحي»، وكلم «ثروت» صديقه السفير «بكر عبد الغفار» وطلب منه أن يحجز لنا في فندقٍ قريب من المؤتمر، فما كان من السفير إلا أن دعانا ومعنا أمينة للإقامة في منزله في مدريد، ولما وصلنا كان في انتظارنا في المطار السفير والسيدة الفاضلة حرمه وهي «رقية الباسل» حفيدة المناضل العظيم «محمد الباسل»، ومن أول لقاء لي معها قامت بيننا وحتى الآن صداقة أساسها التفاهم والتقارب والحب.

وأما الدكتور العالمي «أحمد عكاشة» فبدأت صداقة «ثروت» له بعد هزيمة ٦٧، فقد أحسَّ بانقباضٍ مستمر، وعدم رغبة في النوم، وعدم رغبة في الطعام؛ فتوجَّه إلى الدكتور «أحمد عكاشة». وبعلاجٍ طويل استطاع أن يشفيه من الاكتئاب الذي أصابه، واستمر على العلاج ثلاثين عامًا خوفًا من عودة الاكتئاب مرةً أخرى. وكان يقول لي: «أي مرض أهون عليَّ من الاكتئاب.» وبعد مدةٍ طويلة اشتكى للدكتور «أحمد» من عارض ألمَّ به فقال له سأُغيِّر العلاج، ولكن «ثروت» لم يستجب للأدوية الجديدة؛ مما جعله يذهب إلى طبيبه في بيته — وهذا ما لا يحدث مع الأطباء — ولكنْ للصداقة أحكام، واضطر الدكتور «أحمد» أن يعيده إلى دوائه القديم، واستمرت الصداقة واستمر الحب والإعجاب المتبادَل، كل هذا ولم تتدخَّل المادة في هذا العلاج الطويل الذي دام سنوات.

كانت صلته بالأستاذ المرحوم «عبد الفتاح الشناوي» صلة كلها عواطفُ جميلة، وكان مديرًا لمكتب أبيه عندما كان وزيرًا للأوقاف، كانا يعودان إلى الماضي أثناء مكالماتٍ تليفونيةٍ طويلة ويومية ويتذكران معًا شعر الشعراء الذين كانوا يتوافدون على منزل دسوقي باشا في العباسية، وصلةٌ أخرى تربط بالماضي وهي صلته بالأستاذ «السيد هاشم» وهو من ذوي قرباه نسبًا ومن أسرةٍ دينية في الشرقية. وكان عندما ينتهي اليوم الدراسي يتجوَّلان معًا في أجواء الشعر عامةً وأجواء شعر شوقي خاصة، وكانا في فترات الإجازة الصيفية يتولاهما ناظر مدرسة غزالة الإلزامية الأستاذ «أحمد الفراعيش» رحمه الله ويعلمهما ويُقوِّم لسانهما للنطق العربي الفصيح الصحيح، وأما في القاهرة فكانا يحضران المحافل الأدبية والندوات الشعرية، وأشرفا معًا على تلقين ممثلي الفرقة القومية نطق الشعر وحفظه على الوجه الأكمل عندما كانت الفرقة تمثل مسرحية «الناصر» الشعرية، تأليف أبي الشاعر «عزيز أباظة»، وظل الاثنان قرابة الشهر متفرغَين لهذه المهمة حتى ضجَّ مرتادو منزل «دسوقي باشا» من غياب زوجي عن البيت طيلة هذه المدة، وكتب له الأستاذ الشاعر «العوضي الوكيل»:

قد جئت أهفو للقاء فقيل عند زكي طليما
شهرًا هنالك ما سئمت ولا تركت هناك يومًا
يا بن الكرام، لكم نلوم وما نراك سمعت لومًا
لكنه دأب الشباب يعوم في الشبهات عوما

وكتب له أحد الشعراء عندما حصل على شهادة التوجيهية وهي تعادل الثانوية العامة الآن من باب المزاح:

نجحت في التوجيهي
ونلت ما تبتغيه
وصرت في العلم تحكي
عليَّ بن نبيه

وكان أحد الشعراء يمتدحه بما صاغه الشاعر العربي القديم في أحد الولاة:

بلغت لعشر مضت من سنيك
ما يبلغ السيد الأشيب
فحظك فيها جسام الأمور
وحظ لداتك أن يلعبوا

وكان «علي بك خليل» شيخ الإذاعيين عفيف اللسان رقيق المشاعر من أشد المعجبين «بثروت» كإنسان وككاتب، وفي كل يوم اثنين من كل أسبوع — وهو اليوم الذي تظهر فيه مقالة «ثروت» في الأهرام — يكلمه في التليفون مكالمة كلها حماس وإعجاب وحب، ويدعو له أن يظل يكتب بهذه الجرأة في السياسة، وبهذا الخشوع في الدين، وهو صادق وعادل في الحالتين، وبطبيعة الحال كان الإعجاب من الطرفين ﻓ «علي بك خليل» من رواد الإعلاميين في مصر ومن أعظم الشخصيات التي عرفناها.

وأما عن مجلس الشورى فقد عمل فيه ثروت ثمانية عشر عامًا وكيلًا له، وكان الدكتور «مصطفى كمال حلمي» رئيس المجلس بشخصيته المتواضعة وأدبه الجمِّ وقلبه الكبير المليء بالحب والصفاء؛ من أقرب الناس إلى قلب ثروت، وكان يكنُّ له بدوره احترامًا وحبًّا وإعجابًا لا مثيل له، وظلت هذه الأخوة وهذا التفاهم طوال هذه السنوات، ولا يمكنني إلا أن أذكر ما فعله الدكتور «مصطفى حلمي» في جنازة «ثروت» فقد سافر إلى «غزالة» ومشى من المنزل وحتى المقابر في طريقٍ طويلٍ جدًّا غير ممهد، ولكنه أصرَّ على السير حتى ودعه الوداع الأخير، ولن ننسى ذلك الموقف للدكتور الإنسان.

وقد قامت صداقةٌ وطيدة بينه وبين «فرج بك الدري» الأمين العام لمجلس الشورى، وكان أساس هذه الصداقة هو الإعجاب المتبادل، والحب المتبادل، وكان الاتصال التليفوني بينهما يوميًّا على مدى السنوات الطويلة التي قضاها ثروت في المجلس. وفي مرضه الأخير أحاطه المجلس ورئيسه والأمين العام بكل رعاية، وقدما له — وبطيب خاطر — كل ما احتاجه مرضه الطويل من تسهيلات، ومن تكاليف يعلم الله أنها باهظة، ولو لم يتحمل مجلس الشورى كل هذه الأعباء الرهيبة لما استطاع هو أن يتحمَّلها ماديًّا، ولكن الله شاء أن يظل إلى آخر لحظة في حياته عزيزًا مستورًا.

وكان «ماجد بك عمارة» هو المشرف على مكتب وكيل مجلس الشورى، وهو في درجة وكيل أول وزارة، وكان يعتبر «ثروت» أخًا كبيرًا له، وكان يسهل كل الأمور حتى إنني كنت أسميه بصانع المعجزات، وكان متديِّنًا ومخلصًا لعمله، وبعد وفاته حل محله «مصطفى بك عمر» وهو وكيل وزارة أيضًا وقد تفانى في عمله، واعتبر «ثروت» والدًا له وتعامل معه بضميره وقلبه وبكل إخلاص وحب، وكان «محمد بك عبد الحليم» وهو وكيل وزارة أيضًا من أعضاء المكتب، وقد مدَّ له «ثروت» مدة الخدمة بعد المعاش أكثر من مرة لأنه كفاءة وجدير بذلك. وأما الأستاذ «طارق حمودة» فقد كان سكرتيرًا خاصًّا له، وثقته بطارق كانت بلا حدود واستشفَّ فيه الذكاء وعامله كابن له أيضًا.

أما السيدات فكن السيدة «زينب الجرف» وهي وكيلة وزارة أيضًا، والسيدة «سهير مشهور» والسيدة «عزة محيي» والسيدة «نجلاء عبد الحميد» والآنسة «هايدي عوض» والسيدة «عزة أباظة» وكان مكتب ثروت تسوده روح العائلة ويملؤه التفاهم والوئام، وهكذا كان شأن ثروت؛ يشع الحب والأمان في كل مكان يحلُّ فيه.

وإذا تكلمت عن صداقته بالدكتور العملاق «عبد العزيز الشريف» فهي صداقة بدأت من أواخر الستينيات وفي أول زيارة للعيادة بدأ الدكتور يتكلم في مواضيعَ بسيطة، محاولًا أن يهدئ مريضه حتى يشعر بتحسن قبل أن يبدأ الكشف، وهذه ميزة ميَّزت الدكتور العظيم «عبد العزيز الشريف»، ثم يبدأ الكشف بكل دقة وأمانة، ثم يُشخِّص المرض بالعلم والمنطق.

وكان من مميزاته أيضًا أنه شديد الإيمان بالله ولا يبخل بوقته، ويُشعر المريض أنه إنسان وليس «حالة» ويسأله عن تفاصيل التفاصيل حتى يلمَّ بالحالة الصحية والحالة العامة، أما السيدة الفاضلة زوجته فهي ابنة خاله، وقفت معه وساندته حتى تخرج وسافر إلى لندن؛ ليحصل على الدكتوراه، وظلت إلى جانبه حتى أصبح أعظم طبيب في مصر.

وأما الدكتور «أحمد عبد العزيز إسماعيل» فهو زوج شقيقته الصغرى «كوثر» فكانت تربطه به صداقة من نوعٍ خاص؛ فكان كل منهما يحب الآخر ويُقدِّره ويعجب به، ولكنهما كانا دائمَي النقاش، فالدكتور أحمد يكتب في الأهرام مقالاتٍ طبيةً عظيمة، يطرح المشاكل ويطرح في نفس الوقت الحلول، وكان «ثروت» يقول له مازحًا: «مالك ومال الكتابة أنت طبيبٌ عظيم ومشهور؛ فاترك لنا الكتابة.» ولكن الدكتور «أحمد» لا يقتنع ويستمر في كتاباته.

وكان بين زوجي وبين الكاتب الكبير «عبد الرحمن الشرقاوي» صداقة من نوعٍ خاص، فهما مختلفان في الآراء السياسية بدرجةٍ كبيرة، ولكن يجمعهما الأدب والشعر وتعمُّقهما في بحور اللغة العربية، وكان يدور بينهما دائمًا نقاشٌ حاد تعلو فيه الأصوات، وتعلو حتى يصبح النقاش نارًا حارقة، ولا يتنازل أحدهما عن رأيه، وبعد قليل تعود الصداقة كما كانت والنار تصبح بردًا وسلامًا.

وكان ﻟ «أمين يوسف غراب» مكانةٌ خاصة في قلب ثروت، وكان يزورنا كثيرًا ويُحضِر معه دائمًا «شوكولاته» معينة لأولادي وكانوا يحبونها، وكانوا ينتظرون زيارته بفارغ الصبر، حتى إنه عندما زار أمينة في المستشفى وكان الجراح الشهير حينذاك الدكتور «مصطفى الشربيني» يستأصل لها الزائدة؛ حينما رأته — ولم تكن قد أفاقت من التخدير بعدُ — قالت له أين «الشوكولاته»؟ وعلى رغم نظرات أبيها لها فإنها قد أعادت السؤال مراتٍ متكررة، وعلى رغم أن عمرها لم يكن يتجاوز السابعة إلا أننا آخذناها على إصرارها في طلب «الشوكولاته» من أمين غراب.

ودامت علاقتهما طويلًا حتى وفاة «أمين غراب»، والواقع أن «أمين غراب» هو الذي عرَّف الدكتور طه حسين بثروت.

ومن معارفه المقربين أيضًا الدكتور «إبراهيم ناجي» الطبيب الشاعر، وكان عضوًا في جماعة أدباء العروبة التي كان يرعاها «دسوقي باشا أباظة»، وكان الدكتور ناجي يرى الطالع بالأرقام، ورآه لثروت وهو لا يزال طالبًا في الجامعة وقال له: إن اسمك سيجوب الآفاق وليس آفاق مصر وحدها ولكن ستتعدى حدودها، وستكون شهرتك واسعة وأنت في سن الشباب.

وكان من أصدقائه أحمد بك الطاهري ومحمود محمد محمود بك رئيس جهاز المحاسبة ابن محمد باشا محمود الذي عرض الإنجليز على والده محمود باشا سليمان الملك ولكن أبى، وكان يحب أن يمزح معهما وهو بطبيعته حاضر النكتة سريع البديهة، ولكن «محمد محمود بك» كان لا يتجاوب معه وكان يقول له: «يا ثروت بك ولدت في بيت لا يعرف المزاح ولم نمزح في حياتنا قط.»

وكان أصدقاؤه جميعًا أكبر منه سنًّا بكثير حتى إن صهره الدكتور أحمد عبد العزيز إسماعيل قال له ضاحكًا: «أنت لن يكون لك أصدقاء بعد قليل من الزمن لأنهم سيتركونك ويذهبون عند ربهم واحدًا تلو الآخر.»

ومن أصدقائه «أحمد باشا عبد الغفار» وهو صديق والده، وكان وزيرًا في وزارات ما قبل الثورة حين كان ثروت أباظة في المدارس الثانوية، ولكن أحمد باشا عبد الغفار عندما كان يدخل نادي السيارات في الإسكندرية في أوائل الخمسينيات كان يسأل بصوته الجهوري عن «الشلة»، وكانت «الشلة» مكوَّنة من محمد علي علوبة باشا، عبد المجيد إبراهيم باشا، جعفر بك النفراوي، برهان بك نور، والشاب ثروت أباظة الذي لم يكن قد بلغ الخامسة والعشرين.

وكان صديقًا على رَغْمِ صغر سنه لشعراءِ جماعةِ أدباء العروبة التي كوَّنها والده دسوقي باشا أباظة وكان رئيسًا لها، ومن هؤلاء الشعراء العوضي الوكيل — محمود غنيم — مصطفى حمام — طاهر أبو فاشا — أحمد مخيمر — أحمد عبد المجيد الغزالي.

وأشهد أن الكاتبة الكبيرة «إحسان كمال» والفنان الكبير «أحمد خميس» كانا مثالًا للوفاء والإخلاص وسمو الخلق والحب الصادق، كما لا يمر عيد أو مناسبةٌ دينية أو مناسبةٌ عائلية إلا وكانا أول المهنئين، حتى استطعت أن أميز صوتهما وأعرفه من قبل أن يذكرا اسمهما، وفي المرض كانا أول السائلين، ولم ينقطع سؤالهما عنه إلى آخر يوم في حياته.

وقد ساند «ثروت» شباب الأدباء في أوائل حياتهم الأدبية وخصوصًا الدكتور عبد العزيز شرف، والكاتب الصحفي فتحي سلامة، والكاتب المعروف عبد العال الحمامصي، والكاتب الصحفي فخري فايد، وتتبع أعمالهم ورعاهم إلى أن أصبحوا من كبار الكتاب، أما الكاتب الصحفي محمود فوزي فقد اقترب منه عندما ألف كتاب «ثروت أباظة الفلاح الأرستقراطي» وتقابل معه عدة مرات وعرف منه الكثير عن حياته الأدبية والعائلية، وبقي نفس الود والحب معهم جميعًا إلى آخر يوم في حياته، ولا يمكنني إلا أن أكتب عنهم؛ فهم قد تغلغلوا في حياته، وأصبحوا جزءًا منها، وللأسف ليس عندي تفاصيل عن مشوارهم الطويل معه، وقد حاولتُ أن أعرف منهم أكثر ولكن لم أتمكن من ذلك.

وبالنسبة للكاتب الكبير الأستاذ «يوسف جوهر» فقد كان يحمل له كل احترام وكل تقدير، وكان الأستاذ «يوسف جوهر» أمين صندوق اتحاد الكتاب، وظلت صلتهما قوية وودية إلى آخر يوم في حياة «يوسف جوهر»، وكان يداوم على الاتصال به في الأعياد المسيحية، وعندما احتاج إلى عمليةٍ دقيقة في عينيه طلب من ثروت أن يكلم رئيس الوزراء ليسافر على نفقة الدولة؛ وسافر فعلًا، وكان يكلمه من أمريكا ليشكره وعاد وقد نجحت العملية.

الأستاذ «صبري السيد» كان سكرتيرًا للكاتب الكبير «يوسف السباعي» ويوم اغتياله في قبرص كان ثروت في مبنى الأهرام فصُدم صدمةً مُزلزِلة، وتوجَّه إلى حجرة مكتب الفقيد وربت كتف الأستاذ صبري والدموع تنهمر من عينيه ثم عاد إلى مكتبه.

وبعد أيام قال للأستاذ صبري «لا أحد يعرف صلتك القوية بالفقيد مثلي فتعالَ واعمل معي.» وقد كان، وعمل معه، وكان كله وفاء وإخلاص، وكان موضع ثقة؛ حتى إن ثروت كتب له توكيلًا باستلام كل مستحقاته من الناشرين ومن الإذاعة والتليفزيون والسينما.

وظلَّا على هذه الحال من الحب المتبادل والثقة المتبادلة إلى أن ترك ثروت مكتبه في الأهرام وعُين وكيلًا لمجلس الشعب، وظل الود قائمًا.

وكان له صداقة مع الأستاذ «حمدي صالح» الذي عمل معه على مدى اثنين وعشرين عامًا، منذ كان سكرتيرًا عامًّا لاتحاد الكتاب، ثم نائبًا للرئيس، ثم رئيسًا له من ١٩٨٤م إلى أن قدَّم استقالته سنة ١٩٩٧م.

وكان الأستاذ «حمدي صالح» مديرًا عامًّا للاتحاد؛ الأمر الذي أتاح له أن يشهد عن قرب الجهود المخلصة المضيئة التي بذلها ثروت، والتي أثمرت كثيرًا من الإنجازات والخدمات الجليلة، التي كانت خير شاهد على حُسن قيادته للاتحاد وأعضائه إلى بر الأمان بشجاعته في اتخاذ القرار وبوقوفه دائمًا إلى جانب الحق، والتصدي بشدة لمواجهة الباطل وقهر الظلم. ولا شك أن كل هذه الصفات التي اتسم بها يسرت السبل للارتقاء بالاتحاد، والنهوض برسالته التي أنشئ من أجلها.

وقد كتب لي الأستاذ حمدي صالح عن أهم ما تحقق من أعمال، فقد أنشا مسجدًا في مدخل مقر اتحاد الكتاب، وعندما تم تأسيس الاتحاد لم يكن هناك مقرٌّ له، وكان الجهاز الإداري يقوم بأعماله في مكتبه بالمجلس الأعلى للفنون والآداب، وفي مقر دار الأدباء أيضًا، إلى أن استطاع «ثروت أباظة» باتصالاته الواسعة الحصول على شقة في شارع عبد الخالق ثروت، مارس الاتحاد أعماله وعقد اجتماعاته بها ثم استقر بنا المقام في المبنى الحالي بالزمالك منذ عام ١٩٨١م بموافقة من مجلس الشورى بوصفه المالك للعقار، وذلك بإيجار رمزي قيمته جنيه واحد سنويًّا استجابة لرغبة الأستاذ ثروت أباظة.

كان حجم المركز المالي للاتحاد هو مبلغ ٢١٤٩ جنيهًا لا غير، وكان للجهود المكثفة التي قام بها ثروت أباظة وسعيه الدءوب دون غيره الفضل في إصدار القانون رقم ١٩ لسنة ١٩٧٨م بتخصيص نسبة ٢٪ لصندوق الاتحاد من المؤلفات والمصنفات الأدبية، وكذلك ٥٪ من كتب التراث، بالإضافة إلى الدمغات التي فرضت لصالح الاتحاد بفئاتها المختلفة؛ مما أدى إلى دعم المركز المالي وزيادة موارده سنة بعد أخرى، إلى أن أصبح أكثر من المليون جنيه حين تركه ثروت أباظة سنة ١٩٩٧م.

واستطاع أيضًا الحصول على دعم من موازنة الدولة مقداره ٢٥٠ ألف جنيه ليكون أساسًا في صندوق للمعاشات والإعانات للأعضاء اعتبارًا من أول يناير سنة ١٩٩٥م، كما استطاع أن يحصل على إعفاء للكتاب والأدباء من ضريبة المهن غير التجارية، نتيجة للاتصالات التي أجراها كاتبنا الكبير بالسادة الوزراء المختصين، صدر القانون رقم ١٥٧ لسنة ١٩٨١م، بإعفاء الكتاب والأدباء من الضرائب عن التأليف والترجمة والمقالات والأحاديث الثقافية والإذاعية، ولا يزال هذا الإعفاء ناقدًا حتى الآن يتمتع به كُتَّاب مصر وأدباؤها، سواء كانوا من بين أعضاء اتحاد الكتاب أو من غيرهم.

علاج أعضاء الاتحاد على نفقة الدولة

لم يدخر الأستاذ ثروت أباظة وسعًا في الحرص على استصدار القرارات الوزارية اللازمة لعلاج المرضى من الأدباء على نفقة الدولة، داخل مصر أو خارجها وفقًا لظروف كل حالة، وقد استمر في حرصه على القيام بهذا العمل الإنساني النبيل، حتى بعد استقالته من رئاسة الاتحاد، لا بالنسبة لأعضاء اتحاد الكتاب فحسب ولكن لكل من يلجأ إليه من أدباء مصر وشعرائها.

إنشاء جمعية للإسكان التعاوني

قامت عدة مشروعات لخدمة الأعضاء وأسرهم من أهمها توزيع أراضٍ بمدينة ٦ أكتوبر بأسعارٍ رمزية.

إنشاء مكتبات ببعض المحافظات

كما قام بتأسيس وتجهيز عشر مكتبات في بعض محافظات مصر كنواة لتحقيق هدفٍ عام من أهم أهداف الاتحاد، وهو نشر الثقافة والتشجيع على القراءة والاطلاع.

الاتفاقيات والمعاهدات الثقافية

في هذا الصدد، وبمقتضى الاتفاقيات والمعاهدات التي أبرمت بين اتحاد كتاب مصر وعدد من اتحادات الكتاب الأجنبية، تم تبادل الوفود الأدبية وتنظيم اللقاءات الفكرية والأدبية بين المصريين والأجانب؛ مما كان له أكبر الأثر في التعريف بأدباء مصر ومفكريها وشعرائها والتعرف على نظرائهم من الأجانب.

سِجل الوصايا الأدبية للأعضاء

أنشأ ثروت أباظة سجل الوصايا الأدبية مستوفيًا بكافة الجوانب القانونية وما يترتب عليها من حقوقٍ مالية لأعضاء الاتحاد، وكان أول من تقدم بوصيته الأدبية في السجل الكاتب الكبير توفيق الحكيم، ثم تلاه الأديب العالمي نجيب محفوظ.

وبعدُ، فهذا قليل من كثير، وإذا كان اتحاد كتاب مصر لا يزال موجودًا على الساحة يواصل رسالته بعد استقالة ثروت أباظة، فذلك مرجعه إلى الأساس المتين الذي وضعه من اليوم الأول الذي تولى فيه مهامه ومسئولياته، كما تشهد بذلك جميع السجلات والوثائق الموجودة لدى الاتحاد، والتي ستظل تتحدث عن بصمات صاحبها وأياديه البيضاء، والتي حاولتُ — كشاهد عيان — أن أذكر بعضًا منها للحقيقة والتاريخ، فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ.

وفي آخر انتخابات له في اتحاد الكتاب نجح بإجماع الأصوات، ولكنه شعر بالغدر فقدَّم استقالته من الاتحاد؛ فإذا بخصومه الذين كانوا يعارضونه يندمون على أيام رئاسته ويتمنون لو تعود هذه الأيام التي كان فيها الاتحاد صلبًا متماسكًا.

رحم الله كاتبنا الكبير الغائب الحاضر المغفور له ثروت أباظة وأنزله منازل الصديقين والأبرار، إنه سميع مجيب.

•••

بدأت علاقة المستشار «على كمونة» به وهو لا يزال في المدارس الثانوية في السادسة عشرة من عمره، وكان شديد الإعجاب بجميع أعماله من مقالات، وقصصٍ قصيرة ورواياتٍ طويلة، ويحفظ أيضًا تاريخ صدورها، وكان يزوره في مكتبه في الأهرام ويسعد بالحوار معه، ثم استمرت الزيارات حتى عُين ثروت وكيلًا لمجلس الشورى، وفي يوم جرى الحديث عما حدث في روسيا مع سقوط الشيوعية فقال «علي كمونة»: أنت كتبت سنة ١٩٧٠م مقالًا تنبأت فيه بسقوط الاتحاد السوفيتي. فقال ثروت أنا لا أذكر هذا المقال، فجاء علي كمونة إلى مكتب ثروت في مجلس الشورى في اليوم التالي ومعه المقال فنشره ثروت في جريدة الأهرام وكتب في مقدمته هذا المقال كتبته سنة ١٩٧٠م وأنشره بدون تعليق.

وحدث منذ ثلاث أو أربع سنوات أن طلبه في التليفون المستشار «علي كمونة» مساءً وقال له «كل سنة وأنت طيب» فقال له: وما المناسبة؟ فأجابه عيد زواجك، فتضايق ثروت أننا نسينا هذه المناسبة وقال لي: اطلبي «تورتة» فورًا ولنحتفل بهذا اليوم. ولام نفسه ولامني على هذا النسيان وكانت هذه هي السنة الوحيدة التي نسينا فيها تاريخ يوم زواجنا.

ويقول لي علي كمونة وهو رئيس نيابة النقض إنه عندما قرأ كلمات السيدة عائشة رضي الله عنها التي قالتها على قبر أبيها أول الخلفاء الراشدين أبي بكر الصديق: «لما عشت للدنيا مذلًّا بإعراضك عنها وللآخرة معزًّا بإقبالك عليها صغر في عينك ما كبر في أعين الآخرين.» عندما قرأ هذه الأوصاف رآها تتمثل تمامًا في أخلاق ثروت، وأنه يمكننا أن نقول فيه نفس هذه الكلمات. وقال لي أيضًا إن زوجي قال له مرات متكررة إنه لو لم يتزوج مني لما تزوج أبدًا، وقال لي أيضًا: إن الأديب العالمي نجيب محفوظ عندما سمع بخبر الوفاة قال على الفور: أخلاقه ليس لها مثيل ولن تتكرر، وإن دوره في الرواية الطويلة يحتاج إلى بحثٍ مطول بعيدًا عن المذاهب السياسية.

وكان يقول لزوجي: إن أغلب الكتاب يبدءون فقراء ثم يصبحون أغنياء إلا أنت بدأت غنيًّا ثم انتهى بك الأمر إلى الفقر؛ وذلك لأنك بعتَ أرضك لتعيش، لأن قلمك كان حرًّا جريئًا لم تنافق السلطة، ولم تحنِ رأسك، ولم تتنازل عن رأيك ولم تكتب إلا ما يمليه عليك ضميرك.

وقال لي علي كمونة أيضًا إنه سمع من ثروت أنه بعد صدور كتاب «ابن عمار» وهو أول كتاب له قابله النقاد بسكوت تام فقال لتوفيق بك الحكيم عما في قلبه من هذا السكوت، فأجابه الكاتب الكبير: لو كنت ذهبت إلى كازينو وتشاجرت هناك لكتبتْ عنك كل الصحف والمجلات، ولكن لم يمر وقتٌ طويل حتى قررت وزارة التربية والتعليم كتاب «ابن عمار» على تلاميذ الشهادة الإعدادية في الستينيات؛ وكان تعليق توفيق بك «مبروك يا ثروت لكن كيف أخذوا كتابك ولم يأخذوا كتابًا من عندي؟» وقال لي علي كمونة أيضًا إنه زار يومًا ثروت في مكتبه في مجلس الشورى ودخل عليهما المستشار «فرج الدري» أمين عام المجلس وقال ﻟ «ثروت» لقد وصل المجلس سياراتٌ جديدة ولك بطبيعة الحال واحدة منها فشكره ثروت وقال: «إن سيارتي ما زالت في حالةٍ جيدة ولا داعي للسيارات الجديدة.» ولكن السائق استاء من هذا القرار لأن السائقين يفخرون بأنهم يقودون سيارة «آخر موديل».

وسمع علي كمونة من ثروت أن الأستاذ لويس عوض قال له مرة: أتعرف لماذا نحن لا نكتب عنك؟ طبعًا أدرك ثروت أن (نحن) تعود إلى النقاد اليساريين وقال له: لا، لا أعرف.

– لأن الدكتور طه حسين كتب عنك مقالاتٍ متعددة في بداية حياتك الأدبية فهل ولدت عملاقًا كالتليفزيون؟

قد ساعدني الأستاذ «علي كمونة» في البحث عن مقالات أريدها بالذات، ولا أجد الشجاعة في البحث عنها في مجلدات أعمال ثروت الكاملة التي أصدرتها هيئة الكتاب، ولكنه أحضرها لي بعد بحثٍ طويل ومجهودٍ شاق.

وقد أمدَّني أيضًا بمعلومات عن زوجي لم أكن أعرفها، ولكنه عرفها من زيارته له في مكتبه بجريدة الأهرام ثم في مكتبه في مجلس الشورى، وقد استعنتُ ببعض هذه المعلومات في سياق الحديث عن زوجي ﻓ «لعلي كمونة» مني كل الشكر والعرفان.

وسأتوقف هنا ولا أتكلم عن العام الأخير الذي قضاه متنقلًا بين البيت ومستشفى الصفا، وكانت تدهشني تلك النظرة الحادة التي تنبعث من عينه، وكانت قبل مرضه نظراتٍ حانية بل مدلِّلة «بكسر اللام الأولى» لن أتكلم عن تلك الأيام العصيبة، ولكن لا يفوتني أن أذكر العناية الفائقة التي وجدناها في المستشفى ومن مديرها الدكتور أشرف المليجي ومن هيئة تمريضها سواء كانت في غرفته أو في العناية المركزة، ومهما قلتُ فلن أعطي الأطباء الذين عالجوه حقهم من الشكر والعرفان فقد عالجوه بعلمهم وبقلبهم وعلى رأسهم الدكتور حمدي عبد العظيم والدكتور محمد مشالي والدكتور مازن نجا والدكتور شريف سمير وبمباشرة الدكتور العظيم محسن إبراهيم.

ولا أنسى لثروت مدى وعيه وإدراكه وبُعد نظره بأن طلب أن يودع كل أعماله لدى دار المعارف لترعاها وتنشرها له، وكأنه كان يشعر باقتراب موعد الرحيل.

وكان في السنوات الأخيرة سريع التأثر لدجة البكاء، وهذه الحالة معروفة للأطباء، ولكن في شبابه لم يكن كذلك، وإنما رأيته يبكي أنا وأولاده في يوم هزيمة ٥ يونيو، فاجأناه جالسًا في الصالون ومعه الراديو يجهش بالبكاء بصوتٍ مرتفع؛ صعق الأولاد لأنهم كانوا يرونه دائمًا كالطود الشامخ، والمرة الثانية عندما شاهد في التليفزيون جلسة مجلس الأمة التي أعقبت عدول الرئيس جمال عبد الناصر عن التنحِّي ورأى عضوًا موقرًا يرقص في حرم البرلمان فرحًا لعودة الرئيس؛ بكى حزنًا على ما آل إليه الحال في بلده مصر التي يجري حبها في كل قطرة في دمائه.

ولكني أحاول أن أنسى هذه الفترة — ويا ليتني أستطيع — ولن أنهي كتابي عن زوجي إلا بالكلمات الجميلة فقد كانت فترة زواجنا غير تقليدية ولم يكن ما يربط أحدنا بالآخر العِشرة كما يقولون، وكما هو الحال في معظم الزيجات، وإنما كان يربطنا الحب الحقيقي، ولا يمكنني أن أقول إن اثنين وخمسين عامًا وهي عمر زواجنا كانت كلها سعادة في سعادة، ولكن أستطيع أن أقول إنها كانت كلها حب في حب فقد كان كل منا يحمل للآخر مشاعرَ جميلة وأحاسيسَ صادقة، استطعنا بها أن نجتاز الصعاب، وأن نواجه الأعاصير الجارفة التي تهب على كل البيوت فتقتلعها، ولكنها لم تستطع أن تقتلع الحب الذي بيننا، إلى أن ودع الحياة وتركني وأنا لا أذكر إلا أجمل الذكريات، ولن أنسى ما أحسسته في حياتي الزوجية من مشاعر وعواطف أعتبرها ذخري في الحياة وأغلى كنز يعينني على الأيام. وكانت خلافاتنا في أول الزواج تبدأ بأن تزلزل الأرض زلزالها، يتكهرب الجو، وتثور البراكين، ثم تخمد النار رويدًا رويدًا إلى أن يخيل إلينا أن النار لم تكن إلا ماءً عذبًا يترفرق في جدولٍ صافٍ.

وهكذا انتهى كتاب «زوجي ثروت أباظة» وطويت صفحاته، كأنها في لمح البصر، لكن تبقى كلماته وأعماله تملأ الدنيا، وتضيء في سماء الأدب العربي. وأحمد الله سبحانه وتعالى أن منحني في حياتي ما جعلني أفخر به؛ فقد كان أبي عزيز أباظة وكان زوجي ثروت أباظة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤