نبذة عن الحرية الفنية في الأمة الألمانية

لا تخلو الدنيا من فكرتين تتصارعان كما يقول هيجل فيلسوف الألمان الذي أشرنا إليه في كلمة البداءة، وإنما الغلبة الكاملة في هذا الصراع مستحيلة، فكل فكرة غالبة تفقد بعض الشيء وكل فكرة مغلوبة تغنم بعض الشيء. ثم ينتهي المطاف وفي الدنيا آثار مختلفات لجميع الأفكار غالبها ومغلوبها على السواء.

فإذا تحدثنا هنا عن تداول المدارس الفنية في الأمة الألمانية وجب أن نذكر هذه الحقيقة وألا ننسى أن الغالب منها لم يبقَ كل البقاء وأن المغلوب منها لم يزُل كل الزوال؛ ففي العصر الحاضر أثارة من الأساليب الرومانية والمدرسية والفرنسية والمستقلة والزوبعية التي شاعت بعض الشيوع في جيل جيتي، وفيه كذلك أثارة من الرومانية الحديثة والطبيعية وما تجدد بعدهما من شتى الأساليب.

وهذه الأساليب كلها قد تتلخَّص على سبيل الإيجاز في أسلوبين اثنين يتداولان الغلب من أقدم عهود الفن في الأمة الألمانية، وهما الأسلوب اليوناني البسيط الصريح المعروف «بالكلاسيكي» والأسلوب المجازي المركب المعروف «بالرومانتيكي». فكان الأسلوب المجازي المركب يستولي على أذواق الألمان في القرون الوسطى إلى إبان عصر النهضة والإصلاح. ثم ضعف سلطانه رويدًا رويدًا بعد فتح الترك يحملون كتب الإغريق وبقايا آدابهم الخالصة من شوائب العصور المظلمة، فراح القوم يطلبون الرجعة إلى أسلوب اليونان القديم أو الأسلوب «الكلاسيكي» الصريح.

وخير ما نفرق به بين الأسلوبين أو المدرستين — ولا سيما في النحت والتصوير — أن نسمي إحداهما البسيطة والأخرى المجازية، وخير من ذاك أن نثبت هنا كلمة الشاعر الألماني المبدع «هنريك هيني» في الفرق بينهما كما وصفهما في كتابه الشائق النافع عن البلاد الألمانية، فهو يقول: «إن الفرق بينهما هو أن الصور والشخوص في الفن القديم تمثل أصحابها والفكرة التي عناها الفنان؛ فرحلات «الأوديسي» مثلًا لا تعني شيئًا آخر غير رحلات الرجل الذي هو ابن «لايرتس» وزوج «بنيلوب» والذي اسمه «أولس». وكذلك تمثال باكوس القائم في متحف اللوفر لا يدل على شيء آخر غير ابن سيميل الجميل يطل الحزن الجسور من عينيه وتبدر الشهوة الملهمة من نعومة ثغره وتقويس شفتيه، أما الأسلوب المجازي فغير ذلك في مغازيه؛ إذ رحلات الفارس تنطوي على كنايات خفية وتشير إلى ضلالات الحياة ومتاهاتها في جملتها. والتنين المقهور إنما هو الخطيئة! وشجرة اللوز التي تزجى برياها الشذيِّ من بعيد إلى البطل الهائم إنما هي ثالوث الأب والابن والروح القدس: ثلاثة في واحد، كما أن القشر والليف والنواة ثلاثة في لوزة واحدة. وإذا وصف هومر درع ناضل فما هي في عُرف الأسلوب القديم إلا درعًا موضونة تساوي كذا من رءوس البقر، أما إذا وصف راهب القرون الوسطى ثياب العذراء في قصيدته فثق إذن أنه يعني بكل طية من طياتها فضيلة من الفضائل، وأن هناك سرًّا مكنونًا في ثياب العذراء الطهور، وإنها هي لزهرة اللوز إذا كان ابنها نواتها، وهذه هي سُنَّة ذلك الأسلوب من شعر القرون الوسطى التي نسميها المدرسة الرومانية.»

هذا هو تفريق هيني بين مدرستي القرون الوسطى، ولكنه يسري بعض السريان إلى فروعهما في العصور الحديثة؛ ففي المدرسة اليونانية حيث ظهرت بساطة وصراحة، وفي المدرسة المجازية حيث ظهرت لف ومجاز.

إلا أن طلاب العودة إلى البساطة في ذلك الزمن كانوا مقلِّدِين فلم يسلموا من غلطات التقليد التي لا محيص عنها؛ فكان الصواب الفني عندهم وقفًا على الأقدمين فلا يصيب الشاعر ولا المصور ولا الموسيقي إلا على نمط واحد هو نمط أولئك الأقدمين، كأنما الصحة الفنية ضَرْبٌ آخر من الصحة الحسابية كما قال بعض النقاد، فمسألة الحساب لا تصح إلا بجواب واحد وصورة الفنان كذلك لا تصح إلا على مثال واحد! ومن ثَمَّ جاءت القيود وكثرت الشروط، ولما أوشكوا أن يبرأوا من هذا الخطأ الجديد صدمتهم حرب «الثلاثين» في القرن السابع عشر فباءوا إلى فترة طويلة من الإعياء وضعف الثقة والركود.

خرجت البلاد الألمانية بعد حرب «الثلاثين» منهوكة العزم موهونة الرأي، فأقفرت المدن الحرة التي ظهرت فيها طلائع الاستقلال والنشاط، وخربت المزارع وكسدت التجارة، واشتد طغيان الأمراء كما يتفق أحيانًا في أعقاب الحروب الطوال الجوائح، فانكسرت النفوس وفترت الهمم وران على الأمة شَكٌّ وبيل في كل ما هو جرماني وكل ما هو بسبيل من الجرمانية، وراجت بينها محاكاة الأجانب ولا سيما الأمة الفرنسية التي كانت يومئذٍ في أوج عمرانها وبذخ سلطانها، وكان بلاطها قدوة الملوك والأمراء في الآداب والأزياء والسُّموت، فبطل الكلام بالألمانية في مجالس العلية والسروات حتى أصبحت الخطابة بها وصمة لا تليق بالرجل المهذب النبيل، وأضر هذا التقليد ضرره الذي لا ريب فيه ولكنه لم يخلُ من فائدة حسنة وتمهيد صالح؛ إذ كان الأدب الفرنسي في ذلك العصر حيًّا بمبتكراته ومنقولاته عن قدماء الإغريق، فانتفع به الألمان وكان له بينهم أثر حميد. ثم كثرت الترجمة من كل لغة لها أدب وكتابة حتى اللغات الشرقية، فنقلت مأثورات من لغات الإنجليز والأسبان والطليان، ونقلت مأثورات من العربية والفارسية والهندية، وكان لذلك كله أثره المنظور في توسيع النظر وتعديل المقاييس والآراء.

ثم تماسك الألمان وراجعتهم الثقة وبدرت بينهم بوادر الوحدة والعصبية، فكتبوا ونظموا في الأدب الرفيع باللغة الألمانية وتعلقوا بأساطيرهم القديمة وأقبلوا على جمعها واقتباسها، واشتط بعضهم فشنوا الغارة على كل أجنبي حديث! بل اجترأ بعضهم فلم يحفل بقيود الأدب القديم: تلك القيود التي كان لها السلطان النافذ قبل ذاك.

ويرجع الفضل في النهضة الألمانية الحديثة إلى أدباء كثيرين لا يسعُنا ذكرهم في هذا المقام أجمعين، فحسبُنا أن نذكر منهم من كان أقربهم إلى جيتي عهدًا وصلة بالسمع أو بالعيان، وهم جوتشيد منقي التمثيل في ألمانيا من السخائف والكثافات، و«لسنغ» الداعية الموفق إلى أسلوب الإغريق وأسلوب الابتكار، وونكلمان مؤرخ الفن القديم بوحي من روح العلم وروح الأدب، و«فيلاند» مطلق الخيال الألماني ومسدِّد خطاه ونافحه بحرارة الجنوب، و«كلوبستك» ملتون الألمان، وهردر الذي نهج بجيتي على النهج القويم في فهم اليونان وشكسبير والعودة إلى مآثر التيوتون، وكلهم سابقون لجيتي في الميلاد بزمن قصير.

على أن المدرسة أو الطريقة التي لا يحسن بنا أن ننساها في هذا المقام هي المدرسة التي عُرِفَتْ باسم الزوبعة وراجت في إبان نشأة جيتي أيما رواج، سميت باسم رواية تمثيلية للأديب «كلنجر»، ودلت تسميتها هذه على حقيقة ما ترمي إليه؛ فهي مدرسة جامحة لا تُذعن لقيد قديم ولا حديث، ورواية «جوتز» التي ألفها جيتي في شبابه هي إحدى ثمار هذه المدرسة بغير خلاف.

•••

هذه لمحة عاجلة — بل عاجلة جدًّا — عن تاريخ الحرية الفنية في الأمة الألمانية إلى عهد جيتي؛ وهي بمثابة تصوير اتجاه النهر دون تصوير فروعه وقنواته ومدنه، وربما حدث في مجاري الأنهار أن يتفرع عليها الجدول فيسبقها إلى الأمام أو يكر راجعًا إلى الوراء، فبينما النهر الأصيل متجه إلى الشمال إذا بفرعه الكبير أو الصغير يتجه إلى الجنوب.

وهذا الذي حدث في نهر الآداب الألمانية من بداية ينبوعه، فبقيت فروع منه في وادي المجاز حين تدفَّق مجراه إلى وادي الصراحة، وقامت مدائن منه على فرعين: أحدهما مجازي وثانيهما صريح! وما من أسلوب إلا رجع مرة بعد مرة على تفاوت في القوة والغزارة، فظهرت المجازية في عهد جيتي بليغة الرسالة أحيانًا عزيزة الأنصار، وجاءت في هذه المرة تحوم حول الكنيسة وتنادي بأن الفن لم يزهر قَطُّ بمعزل عن كِفالة الدين، ويرجع غير ذلك الأسلوب في ذلك العهد الحافل بالنقائض والبدوات، إلا أن شيئًا واحدًا تقوله في جميع هذه الأحوال وأنت على ثقة من الصواب، وهو أن الأغاني والأساطير القومية وأحاديث الأبطال الغابرين كانت تصاحب النهر أبدًا في كل مجرى وكل قناة، وشيئًا آخر تقوله أيضًا وأنت على ثقة من الصواب: وهو أن جيتي كان سليل هذه العناصر جميعها؛ ففيه مَشَابِهُ بارزة أو غير بارزة من قديمها وحديثها: يشبهها شبه الابن بآبائه وأجداده لا شبه المحاكي المفتون بمن يحاكيه، وفرق بين الشبهين جد بعيد، فإذا جاء الولد على آسال آبائه وأجداده فأنت لا تقول عنه إنه يحاكيهم ويتعمد مشابهتهم، بل ربما جاز لك أن تقول إنهم ينتسبون إليه كما تقول إنه ينتسب إليهم.

•••

وبعدُ فمن تمام الكلام في هذا السياق أن نعرض لحالة القصة والتمثيل قبل أيام جيتي بلمحة أخرى؛ لأنه ساهم في القصص وأصلح في التمثيل غير قليل وألف للمسرح واشتغل زمنًا بإدارته.

فأما القصة فقد كتب فيها بعض الأدباء النابهين كتابةً لا بأس بها بعد حرب الثلاثين، واتخذ لها من الفروسية العارمة المقتحمة موضوعًا يناسب القلاقل والمخاطر التي كانت فاشيَةً في تلك الأيام، ثم ركدت فترةً ريثما استوعبت الأذهان القصص المنقولة عن اللغات الأجنبية من طراز «روبنسون كروزو» الإنجليزية و«دون كيشوت» الإسبانية وروايات النخوة التي اشتهر بها إقليم بروفنس (Provence) في فرنسا، فتهيأ المقلدون لمحاكاتها وكثرت الكتابة القصصية وأخذت في التقدُّم، وهي مع هذا لا تسلم من عيوب الطريقة المجازية التي تلتزم المغزى والعبرة في كل رواية وفي كل نادرة، كأنما القصة عمل «وعظي» مقصود لهذا الغرض وليست عملًا فنيًّا تجيء فيه العظات اتِّفاقًا أو لا تجيء على الإطلاق، ونشأ جيتي فأدرك القصة الألمانية وهي على هذه الحال تتراوح بين العظات والفنون.

وأما التمثيل فقد أصلح فيه جوتشيد ولسنغ وونكلمان ما تيسَّر لهم أن يصلحوا، ولكنه بقي مع هذا فنين يكاد يستقل أحدهما عن الآخر، لا فنًّا واحدًا في تطور واحد كما كان عند الفرنسيين والإنجليز. فالعالي منه كان مقصورًا على مسارح الأمراء في قصورهم التي لا يدخلها غيرهم ومن يصطَفُونه لمجالسهم، أو مقصورًا على الطلاب في الجامعات يلهون به فترة بعد فترة على غير انتظام، والوضيع منه موكول إلى الفرق الطوَّافة التي لا كرامة لها ولا متسع للنبوغ فيها.

ثم تولته عناية الأمراء والأدباء رويدًا رويدًا حتى ارتقى بعض الارتقاء، ولكنك خليق أن تعلم مدى ارتقائه هذا متى علمت أن النظارة كانوا يعاقرون الخمر في ردهة دار التمثيل ويدخلونها بأطفالهم وكلابهم في أيام «فيمار» الزاهرة، وهي الأيام التي أشرف فيها جيتي على إدارة التمثيل.

•••

وإلى هنا يستريح ضمير الكاتب الأوروبي إلى السكوت وهو يصف العناصر التي اشتركت في تكوين جيتي فلا يزيد على ما تقدم.

إلا أن الكاتب العربي مطالب فيما نعتقد بكلمة أخرى قلَّما تعثُر بها في تراجم الأوروبيين لذلك الشاعر، فليس يسعه إلا أن يضيف إلى ما تقدم كلمة واجبة عن العناصر الشرقية التي اتصلت بجيتي وأثَّرت فيه بعض التأثير، فمما لا ريب فيه أن للعربية فضلًا لا يُنكَر في تثقيف جيتي وتغذية خياله؛ لأن آداب العرب وصلت إلى الألمان في العصر السابق لعصر جيتي من طريقين لا من طريق واحد: أحدهما مباشر وهو طريق الترجمة من العربية إلى الألمانية، والآخر غير مباشر وهو طريق الآثار التي تُرجِمت عن الإنجليزية والإسبانية والفرنسية وكانت فيها مسحة واضحة من الآداب العربية.

فقصة «روبنسون كروزو» — وهي من أهم ما أثر في القصص الألماني — مدينةٌ لرحلات السندباد وأسطورةِ حي بن يقظان الفلسفية اللتين ظهرتا في الإنجليزية قبل «روبنسون كروزو» بزمن وجيز. و«دون كيشوت» الإسبانية — وهي كذلك من أهم ما أُثِرَ في القصص الألمانية — عربية في الفكاهة والتقسيم، وتكاد تكون بعض أمثالها ترجمة حرفية للأمثال المعروفة عند الأندلسيين. وشعراء بروفنس — وهم أصحاب أثر واضح في القَصص الألماني — قد أخذوا كثيرًا من شعر الأندلس حتى أوزانهم التي تشبه أوزان أزجال ابن قزمان.

فاسم الأدب العربي لن يُنسى إذا ذُكِرَت اليوم أسماء الآداب التي مازجت عبقرية «جيتي» أو مازجتها تلك العبقرية العظيمة، وهو نفسه قد أدى شهادته لذلك الأدب بديوان طريف ظريف سماه «الديوان الشرقي» نسج فيه على منوال العرب والشرقيين في الغزل والوصف والحنين، وسنتكلم عنه بعدُ، ونترجم منه طرفًا في باب المختارات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤