الفصل الثالث عشر

العائلات والشركات

حدود الشركة

تعجُّ الأزقَّة في أيِّ مدينةٍ كبرى في الدول النامية بوِرَش صغيرة تُجرى فيها عمليات التصنيع وأعمال الصيانة وخدمات متنوعة على يد مجموعاتٍ من الناس من مختلف الأعمار، عادةً ما تربطهم صِلة قرابة. يؤدِّي الخيَّاطون، وميكانيكِيُّو الجراج، وجامعو أجهزة الراديو أو اللُّعَب البلاستيكية، والجواهرجيَّة، والمُراهنون أعمالهم لساعاتٍ طويلة كل يوم، وعادةً ما يطهون طعامهم ويَنامُون ويَغسلون ملابسهم في المبنى نفسه، بينما يُوفِّقُون بين حياتهم الأُسَرية وحياتهم العملية على نحوٍ مُعقَّد، وعلى نحوٍ يراه الموظَّف البيروقراطي فوضويًّا. هؤلاء الأشخاص يَعتمدُون على الأسواق لكسْب عيشِهم، ولكنَّ علاقاتهم بعضهم ببعض لا صِلة لها بالسوق؛ فهي محكومة بمنظومة تعليماتٍ تُمرَّر بين من يُمارِسُون السلطة ومن يخضعون لها، بدون تبادُلية واضحة، وبالتأكيد بدون منظومة تسعير لتنسيق أنشطتهم. وثمَّة شخص في موقع المسئولية دومًا، حتى وإن لم يكن بمقدور الشخص الغريب دومًا تخمين من هو هذا الشخص. في خِضمِّ بحْرٍ من علاقات السوق اللامركزية، ومع عدَم وجود شخصٍ في موقع المسئولية الشاملة، يُوجَد عددٌ لا يُحصَى من جزُر المركزية والتخطيط والتسلسُل الهرَمي. هذه الجزر ضرورية لتنظيم المجتمع الحديث بنفسِ قدر ضرورة بحر الأسواق. إحدى التحديات الكبرى التي تُواجه الحياة العصرية هي فهم أين ينبغي أن يكون الخط الفاصل؛ أين يجب أن تنتهي الجزُر ويبدأ البحر.1
والإجابة مُهمَّة لعدة أسباب، ليس أقلَّها أن الشركات العصرية مسئولة عن زيادةٍ مُذهِلة في قدرتنا على إنتاج البضائع والخدمات، أي اللوازم المادية والاجتماعية للحياة العَصرية. حدثت القفزة النوعية النَّفسية من حياة الصيادين وجامِعي الثمار إلى حياة البشر العصريِّين قبل عدة آلافٍ من السنين، وكان مواطنو اليونان القديمة أو باريس العصور الوسطى مُعتادين بالفعل على التعامُل مع الغرباء بطريقةٍ تجعلهم أقربَ إلينا من الناحية العقلية من أسلافنا المُشتركين من العصر الحجَري القديم؛ وذلك من الناحية النفسية. ولكن من ناحية الكمية الهائلة من الموارد التي نُسيطر عليها ونستهلكها، فإنَّ أهم التغييرات حدثت في المائتي أو الثلاثمائة عام الأخيرة، وبالأخص خلال القرن الماضي. يُنتج الجنس البشري حاليًّا حوالي خمسين ضعفًا من المُخرَجات، مُستهلكًا أكثر من خمسةٍ وسبعين ضعفًا من الطاقة وأكثر من ستِّين ضعفًا من المياه العذبة، مُقارنةً بما كنَّا عليه قبل مائتي عامٍ مضَت.2 ليس هذا نتيجة لتعامُلات السوق وحدَها، وإنما نتيجة لقدرة الشركات على التوفيق بين التبادُل السُّوقي والتنظيم الداخِلي في إطار شراكةٍ نشطة ومُثمِرة على نحوٍ غير مسبوق. كي نرى كيف حدث هذا، علينا أن نعرف كيف تَستجيب الشركات للفُرَص التي يُتيحها التبادل السوقي.
أحيانًا تُنَفِّذ المؤسَّساتُ العائلية الصغيرة، كتلك الموجودة في الشوارع الخلفية بجاكارتا أو مراكش، عملياتٍ من الأرجح أن تُنَفَّذ داخل مصانع كبيرة في الدول الغنية. وثمَّة مِثال على هذا هو تجميع الأجهزة الإلكترونية البسيطة؛ كأجهزة الراديو، والمُنبِّهات، ومُكبِّرات الصوت، ولوحات المفاتيح. في المُجمَل، تطوَّرت بمرور الوقت المؤسَّسات، التي تُؤدِّي الأعمال المُعتادة في المجتمع، من حيث الحجم والبنية، عادةً بطرُقٍ مُتشابهة في أنحاءٍ مُختلِفة من العالَم. عن طريق الخبرة أصبحت بعض أحجام المؤسَّسات وهياكلها تبدو أفضل تجهيزًا للنهوض بمهامَّ مُعيَّنة. باستثناء الفترات التي استُخدِمت فيها السُّخرة في الضيعات الكبيرة، تُعدُّ الزراعة نشاطًا يعتمد بالأساس عبر أغلب فترات التاريخ على العائلات؛3 أما المَزارع الصناعية الكبرى التي كانت مُنتشِرة في الاتحاد السوفييتي فكانت شذوذًا تاريخيًّا فرضَه ولَعُ المُخططين المَركزيِّين بالحجم بأي ثمن. على النقيض، بدأت صناعة السيارات على هيئة نشاطٍ صغير داخل الورش لكنه سرعان ما تطوَّر إلى نشاطٍ هيمَنَت عليه الشركات الكبرى، في ظلِّ النموذج الرائد لهنري فورد.4 بحلول عام ١٩١٣، كان فورد قد أنتج وحدَهُ نصف إنتاج صناعة السيارات الأمريكية تقريبًا، بينما أنتجت ٢٩٩ شركة أخرى النصف الآخر (بتوظيفِها ما يُوازي مجموعُه خمسة أضعاف العمالة التي وظَّفها فورد). وفي غضون سنواتٍ قليلة، كان مُعظَم تلك الشركات الأخرى قد اختفى. إذن، ما الفارق بين هذَين النوعَين من النشاط؛ اللذَين يُناسب أحدَهما ورشةٌ صغيرة، ويتطلَّب الآخر مصنعًا كبيرًا؟

الإجابة ليست بسيطة بحيث نختصرها في كلمة «التكنولوجيا» أو «التوحيد القياسي». بعض الأنشطة العالية التقنية، مثل صناعة الطائرات، تجري بالتأكيد داخل شركاتٍ كبرى؛ فمثلًا تُوظف شركة بوينج للطائرات أكثر من ١٥٠ ألف عامل. لكن أنشطة أخرى، مثل تصنيع الأجهزة الدقيقة، تُنفَّذ بحماسٍ في شركاتٍ صغيرة تضم ثلاثين أو خمسين أو على الأكثر مائة موظَّف. يعجُّ وادي السيليكون بمثيلات هذه الشركات، وكذلك المناطق حول كامبريدج بإنجلترا وميونخ بألمانيا. ويُناسِب التوحيد القياسي كلتا الحالتَين؛ فكما مَكَّن هنري فورد من تركيز الإنتاج في مصانع ضخمة، هو اليوم يُمَكِّن شركة نيسان من طلَب مواصَفات دقيقة جدًّا من مُورِّدي المكوِّنات، الذين ربما يُكوِّنون شركاتٍ صغيرة على بُعد مئات أو آلاف الأميال من مصنع التجميع الرئيسي.

ولكي نفهم الإجابة، علينا أن نعود بالزمن إلى الوراء، إلى العائلات، التي كانت في فجر التاريخ الشكل الوحيد الذي عرفته البشرية للمؤسَّسة ذات التنظيم المركزي. العائلات هي شكل من أشكال المُنظَّمات التعاونية التي تطوَّرت في الأصل من أجل الاهتمام بالأطفال، الذين يَبقَون بلا حَولٍ ولا قوة لوقتٍ أطول في الجنس البشري من أيٍّ من الكائنات الأخرى، فهو الثديي الصغير الوحيد الذي يَستلزم التغذية من الوالدَين حتى بعد فترةٍ طويلةٍ من فطامه. كانت التغذية والحماية المُتبادَلة مُهمَّتَين بإمكان الصيادين وجماعي الثمار أن يؤدوهما في عشائر صغيرة نسبيًّا، ولكن ما إن بدأت الزراعة المُستقرَّة، حتى صار بإمكان التغذية والحماية الاستفادة من التعاون المُنظَّم على نطاقٍ أكبر. كانت المهام المُعتادَة للزراعة — الحرث والبَذْر والجَني — وما زالت في متناول العائلات المُنفرِدة التي تعمل بمفردها، وأحيانًا تطلب المساعدة من الأصدقاء والجيران في فتراتٍ حرجة مثل وقت الحصاد. ولكن كما رأينا في الفصل الحادي عشر، أحيانًا يَحتاج الريُّ إلى تنظيمٍ أكثر تعقيدًا بكثير، خاصة عند تحويل مسار أنهارٍ كاملة عبر أنظمة قنواتٍ لري أرضٍ عطشى على مسافةٍ بعيدة. تطلَّبت الحماية أيضًا مبادَرة فردية وكذلك تضامنًا جماعيًّا. كانت كل أسرةٍ بحاجة إلى عنصر حيطة، وبعض مهارات القتال، وعلى الأخص، حُسن تقدير لمعرفة متى تُقاتل دفاعًا عن بيتها ومُمتلكاتها ومتى تفِر. اعتمدت بعض العائلات على الحيطة الفردية وحدَها، لتجد الحماية من خلال التخفِّي؛ مثل الحطَّاب في الغابة، وهي شخصية شهيرة في عددٍ لا حصر له من قصص الأطفال، الذي كان يأمُل ألا تظنَّ الجيوش المُغيرة كوخَه الحقير مكانًا يستحقُّ السطو وأن يكون بإمكانه الفرار والاختباء إذا ما فعلوا ذلك، وهو ما كان أمرًا مُستبعَدًا.

إلا أنَّ التضامُن كان في أحيانٍ كثيرة استراتيجيةً أكثر حِكمة. مثلما تجد سمكةٌ الأمان في الانضمام إلى السرب حتى وإن صار السرب أكثر لفتًا للانتباه نتيجة لذلك (ومثلما تُبحر السفن التجارية في وقتِ الحرب في حماية قوة عسكرية حتى وإن كان هذا يَجعلها أوضح للغواصات)، كذلك وجد عددٌ كبير من المزارعين الأوائل أن التكتُّل معًا والانضمام إلى مجموعاتٍ أكبر من العائلات كان يُعطيهم مزيةً مهمة في الدفاع. فالمزارعون مُلفتون للانتباه على أيِّ حال؛ لأن عملهم الجهيد بالحقول يترُك علاماتٍ واضحة في المشهد الطبيعي وكذلك لأنهم بحاجةٍ إلى مكانٍ لتخزين محاصيلهم وربط ماشيتهم. لذا، وفَّر تشكيل القرى والمدن وسيلةً لهم للتكتُّل معًا في حصنهم الخاص، ثم تشييد حصونٍ أصلب من أي شيءٍ يُمكن لأُسرة واحدة أن تستطيع تشييده بمُفردها. أرجع الباحثون تاريخ تأسيس أول قرية في أريحا إلى ما قبل عام ٩ آلاف قبل الميلاد، وفي غضون ألف عام كانت قد نمَت لتُصبح مُستوطنة كبيرة تضمُّ عدة هكتارات من البيوت المبنية بطوب اللَّبِن ذات جدران سميكة. وتعود الأدلَّة الأولى على أسوار المدينة الشهيرة إلى أوائل القرن الثامن قبل الميلاد، وثمَّة أدلة من القرن السابع تشهد على وجود خزَّانات مياه ضَخمة، لأعمال الري على الأرجح. وحفر خندق ضخم، بعُمق ثلاثين قدمًا وعرض عشرة أقدام، في الصخر بدون استخدام معداتٍ معدنية. وما كان بمقدور أسرة واحدة أن تستطيع الحماية والتحصين على هذا المستوى مُطلقًا.

استغرق نموُّ القرى والبلدات والمدن وقتًا. كانت الحصون استثمارًا كبيرًا للوقت والطاقة للناس الذين كان لديهم حاجة أكثر إلحاحًا لزراعة الغذاء أو البحث عنه. وكان من الممكن للحصون الواضحة للعيان في حدِّ ذاتها أن تجتذب الهجوم كما كان من المُمكن أن تردَعَه، لأنها كانت تُشير إلى وجود شيءٍ يستحقُّ السرقة. دُمرت أسوار مدينة أريحا وأُعيد بناؤها مرَّاتٍ كثيرة. كانت المُستوطنات بحجم أريحا نادرةً للغاية قبل حوالي عام ٣ آلاف قبل الميلاد (كانت جاتال هويوك بتركيا مُستوطَنة أخرى، ازدهرت في الألفيَّتَين السابعة والسادسة قبل الميلاد). لكن ببطء أصبحت مزايا الحجم الكبير تبدو قاطعةً لبُناة المدن أولئك الذين كان بإمكانهم تعبئة القوى العاملة الضرورية، وهو اكتشاف بَلْوَر على خريطة العالَم الحضارات المدنية في كلٍّ من بلاد الرافدين ومصر ووادي الجانج وكريت المينوسية والصين، وجميعها كانت قبل نهاية الألفية الثانية قبل الميلاد. مع الدفاع أتت زيادة هائلة في تعرُّض كل أُسرة للغرباء، الذين أتَوا بغرَض التجارة والإعجاب والاستجداء، وكذلك الغزو أحيانًا، والذين جلبوا معهم حيواناتهم وطعامهم الغريب وأمراضهم، وكذلك أفكارهم الغريبة وأحيانًا الجميلة. مع الدفاع أيضًا أتى الخضوع لقوانين وأهواء الحكام.

وعلى الرغم من أن قدرًا كبيرًا من الاعتماد المُتبادَل بين البشر منذ مولد الزراعة كان الدافع وراءه هو التجارة الثنائية (عن طريق ما أطلَقَ عليه آدم سميث نزعة البشرية نحو «المُقايضة، والمُبادلة، والتبادُل»)، فإن تأسيس القرى والبلدات والمدن هو علامة على وجود الكثير من الأمور المُهمة التي لا تستطيع التجارة الثنائية بين العائلات أن تُحقِّقها. هذه الأمور هي مهام تحتاج إلى عمل جماعي على نطاقٍ أكبر، وعلى مرِّ أغلب التاريخ المُسجل، اشتملت هذه المهام على ما يُعرف ﺑ «الحوكمة»، أي تأسيس الأصول الجماعية للمجتمع وإدارتها والدفاع عنها. تضامنت الأُسَر معًا للصيد والبناء والدفاع عن أنفسها وإقامة المهرجانات ومناقشة وإنفاذ القوانين التي تحكُم مجتمعاتها المحلية، بما فيها القوانين التي من خلالها تتمُّ التجارة الثنائية وتُنفذ اتفاقياتها. هذه المهام — إرساء البنية التحتية المادية والاجتماعية للحياة المعاصرة — هي موضوع الفصل السادس عشر.

على النقيض من مهام الحوكمة الجماعية الكبرى، ظلَّت تلك المهام الخاصة بالأنشطة المعتادة — الزراعة، النسج، الحلب، الصهر، الطهي، التجارة، الحلاقة، ابتكار السِّلع والبضائع التي تُثري حياة الأفراد والأسر — طيلةَ أغلب التاريخ في مقدور أُسرة عادية القيام بها. قد يكون للجيوش الكبرى تاريخ قديم بقدْر قِدَم تاريخ المدن؛ ولكن الشركات الكبرى، مع وجود استثناءاتٍ نادرة، هي اختراع يعود إلى الثلاثمائة أو الأربعمائة سنة الأخيرة ولم تُصبح شائعة إلا منذ حوالي قرنَين من الزمان.5 لماذا ظلَّت هذه الأنشطة قاصرةً على العائلات لفترةٍ طويلة جدًّا، ولماذا لم تعُد كذلك؟ تأتي الإجابة في كلمةٍ واحدة هي التصنيع، رغم أنها إجابة تُثير أسئلةً جديدة كثيرة. على أي حال، التصنيع هو الذي يُفسِّر كيف صارت بعض المُنظمات، التي تأسَّست لمجرَّد أن تمارس عملًا تجاريًّا، هائلة، من حيث النطاق والتعقيد، بما يكفي لأن تتحدَّى سلطة الحكومات.
في الحقيقة، وجدت الشركات الكبرى مَوطئ قدمٍ في الحياة العصرية جزئيًّا من خلال تطبيق بعض الدروس المُستفادة من جيوش الماضي الناجحة، لا سيما اكتشاف أن يُمكن تبسيط مَهام مُعينة وتنميطها بحيث يسهل على فريق ضخم من الناس تعلُّمها وتطبيقها بفعالية.6 حسبما تذكر إحدى دراسات القوات البحرية الأمريكية: في معسكر التدريب، عقيدة المُتدرِّب هي: «إذا رأيته مُتحركًا، حيِّه. وإذا رأيته ساكنًا، أمسك به. وإذا لم تستطع الإمساك به، فادهنه باللَّون الأبيض.»7 حتى إن بعض أُولى الشركات الكبرى التي تأسَّست في فترة حديثة مُبكِّرة كانت تخضع لوصاية شِبه عسكرية، مثل شركة الهند الشرقية، التي تأسَّست عام ١٦٠٠ بميثاقٍ من المَلِكة إليزابيث الأولى لأداء المهام التجارية، بل كانت مُخوَّلة أيضًا لسنِّ القوانين وتنفيذها في الأقاليم التي دخلَتْها (اتَّسمت شركة خليج هدسون التي تأسَّست عام ١٦٧٠ وشركة رويال أفريكان كمبانٍ بوصايةٍ مُشابهة ذات هدف مزدوج). إلا أن أغلب الشركات الكبرى، رغم أنها ليست ذات دورٍ عسكري فِعلي، لدَيها الكثير من القواسم المشتركة مع القوات المقاتِلة. كان القاسم المشترك بين الشركات والجيوش هو الالتزام بالسيطرة على أفرادها، والإصرار على الإشراف على أنشطتهم، وسلوكياتهم، وحتى على عاداتهم الشخصية. ونعود مُجددًا لنستشهِد بدراسة البحرية الأمريكية: «القاعدة [البحرية] هي مكان قصَّات الشعر القصيرة والعُشب المجزوز. هنا يُتَحَكَّم في شكل الطبيعة والبشر، ويُضْبَطَان، ويُهَذَّبان؛ بحيث يكونان جاهزَين لترك انطباعٍ جيد.»8 استحث نفسُ الطموح بعضًا من أوائل شركات الثورة الصناعية الأوروبية.

التوحيد القياسي والمراقبة

يقدِّم المصنع الملكي بقرية فيلنوفيت، بجنوب غرب فرنسا، مثالًا مُبكرًا على هذا التطوُّر في مجال العمل. اليوم هي قرية هادئة تغزوها الحشائش والأزهار البرية وتَزخَر بالمباني المُتداعية، التي خضع بعضها لأعمال الترميم من أجل إيواء الفنانين وعُمَّال الحرف اليدوية الذين يبيعون أعمالهم للسياح القادمين للاستمتاع بسِحر الريف في القرية. ولكنها كانت في الماضي مركزًا لنشاطٍ صناعي مُكثف. لم تُقدِّم القرية، التي أسَّسها كولبير، وزير مالية الملك لويس الرابع عشر، في أوائل القرن السابع عشر، موقعًا يُمكن القيام فيه بنشاط صناعة الملابس، النسج والصباغة فحسب، وإنما أيضًا موقعًا لإيواء العمَّال وإطعامهم والإشراف عليهم أثناء العمل وكذلك في ساعات فراغهم القليلة. كانت القرية مثالًا رائدًا لمدن المصانع في القرن التاسع عشر، مثل قرية بورنفيل بالقُرب من مدينة برمنجهام ومنطقة بولمان خارج مدينة شيكاغو،9 التي كان لها هدف أبوي مُعلَن؛ وهو الاعتناء برفاهية العُمَّال؛ لأنَّ من شأنهم أن يكونوا أكثر إنتاجيةً إذا ما تلقَّوا التغذية الجيدة وحظوا بصحَّة جيدة وخضعوا لرقابةٍ عن كثب. تعيَّن على المشرفين التحقُّق من أحوال أُسَر العاملين، وإجبارهم على التردُّد على الكنيسة، والأهم من ذلك مراقبة علامات الإفراط في تناول الشراب. إذ كان يُعتقَد أنَّ الإنتاجية كانت تستلزِم استثمارًا في الشخص ككل، وليس مجرَّد حضوره وجهده أثناء ساعات العمل.
ورغم ذلك، كانت قرية فيلنوفيت، ومكان أو مكانان آخران مِثلها (مصانع الحرير بشمال إيطاليا مثلًا) يُمثِّلون استثناءً في أوروبا في ذلك الوقت.10 ومع بدء انهيار نظام نقابات القرون الوسطى، لم يَخْلُفها الإنتاج الصناعي مباشرةً وإنما خَلَفَها نظامٌ مرنٌ ولامركزي (عُرف في إنجلترا باسم «التعاقد من الباطن»)، والذي كانت تُنفذ فيه مهام الغزل والنسج والصباغة والتفصيل في بيوت الأفراد. كان من شأن الوسطاء المُختلفين — التجَّار والخبراء الماليين والقائمين على التنظيم العام — تنسيق تسليم المواد الخام وجمع المُنتجات النهائية. شكَّل هذا النظام، مع بعض من الاختلافات المحلية، قوام صناعة المنسوجات في دولٍ كثيرة بأوروبا وكان سائدًا في اليابان حتى أواخر عشرينيَّات القرن العشرين. بدأ يفسح المجال أول مرة أمام نظامِ المصانع في إنجلترا في القرن الثامن عشر، تحت تأثير الاختراعات التقنية (مثل الإطار المائي، وهي آلة لغزل القُطن ذات بكرات) وكذلك اختراعات داخل منظومة المصانع. سار الأمران جنبًا إلى جنب؛ فكان ريتشارد آركرايت، صاحب براءة اختراع الإطار المائي (مع أنه كان قد سرق الفكرة من شخصٍ آخر، كما تبيَّن في محاكمة شهيرة عام ١٧٨٥)، مُنجذبًا إلى الاختراع ويرجع ذلك بقدْر كبير إلى أنه أتاح مركزية الإنتاج ووضع القوى العاملة تحت سقفٍ واحد كبير. أتاح هذا الانخراط في مراقبةٍ صارمة للعُمَّال. لاحظَ أحدُ شِبه المعاصرين أن:

الصعوبات التي واجهها آركرايت في تنسيق نظامِ مصنعِه كانت أكبر مما هو مُتَخَيَّل عادةً. في المقام الأول، تعيَّن عليه تدريب القوى العاملة لديه على الدقَّة والمواظبة اللتَين لم تكونا معروفتَين من قبل، واللتَين كانت عاداتهم الكسولة والمُضطربة في حالة تمرُّد مُستمر عليهما؛ وفي المقام الثاني، تعيَّن عليه تكوين هيكلٍ ميكانيكي دقيق، مختلف تمامًا عن الأيادي الغليظة التي كانت تُرضي صاحب المصنع حينئذ.

حسبما وصَف المؤرخ سيدني بولارد: «ما كان مطلوبًا هو الانتظام والتركيز الدائم محل التصميم الفردي؛ والاعتناء بالمعدات والمواد بدلًا من التفاخُر بأدوات الشخص … لم تكتسب القوى العاملة الجديدة أيًّا من هذا بسهولة.» وبكلماتٍ أكثر شرًّا لمؤرِّخ آخر: «في مختلف أرجاء المقاطعات الصناعية، واجَه مُلَّاك المصانع مشكلة الإبقاء في العمل المُنتظم على رجالٍ كانوا يُحبُّون استقلاليتَهم وشرابهم.»11
ومنذ ذلك الحين احتدم الخلاف واستمرَّ حتَّى يومِنا هذا حول ما إذا كانت عادات العقل والجسم الضرورية للتصنيع مُتوافِقةً مع الكرامة الإنسانية. اشتهر كارل ماركس باعتقاده بأن التصنيع «أبعد» البشرية عن طبيعتها الحقيقية، رغم أنه كان شديد الإعجاب بالزيادة المهولة للإنتاجية التي كانت الرأسمالية قد جعلتها مُمكنة. كان لينين من كبار المُعجَبين بمبادئ فريدريك تايلور العِلمية والصناعية (واشتهر بإعادة تعريف الاشتراكية باعتبارها «السلطة السوفييتية إلى جانب الاستعانة بالكهرباء»)، رغم أنه يبدو أن ما كان مُعجبًا به هو الإنتاجية فحسْب؛ فلم تكن روح لينين تعرِف شيئًا سوى التنافُس. وجاء أحد أكثر الدفاعات الرصينة عن تأثير نظام المصانع على عُمَّالها من هنري فورد:
لقد سمعتُ أنه يُقال، وفي الواقع أعتقد أنها فكرة رائجة إلى حدٍّ ما، إننا انتزعنا المهارة من العمل. ولكننا لم نفعل. لقد أدخلنا المهارة. لقد أدخلنا مهارةً أعلى إلى التخطيط، والإدارة، وبناء الأدوات ونتائج تلك المهارة يتمتَّع بها من لا يمتلك المهارة.12
بالتأكيد، لم يكن نظام المصانع مَعنيًّا بتوحيد عادات العمل لدى الأفراد فحسْب. وإنما كان مَعنيًّا بالتوحيد في أبعادٍ كثيرة أخرى أيضًا؛ فقد غيَّرت ابتكارات هنري فورد طبيعة تصنيع الأجزاء تغييرًا جذريًّا. «صُنعت الأجزاء بدقة شديدة للغاية، حتى إنه يُمكِن تفكيك عدة سيارات، وخلط أجزائها وإعادة تجميعها مرةً أخرى؛ وقيل إنَّ هذا مُستحيل في حالة أي سيارة أخرى زهيدة السعر قبل عام ١٩١٣.»13 لم تكن الفكرة في حدِّ ذاتها جديدة؛ فالأجزاء الهندسية الدقيقة القابلة للتبادُل كانت قد أُدخلت على صناعة الأسلحة في نيو إنجلاند قبل ذلك بقرن،14 وكان ما يُعرَف باسم «النظام الأمريكي» مصدرًا لقدرٍ كبير من العجب في المعرض الكبير لأعمال الصناعة بلندن عام ١٨٥١.15 الجديد في الأمر كان تطبيقه على نطاقٍ وشمولية لم يكونا قد تحقَّقا، أو حتى حاوَلَهُما أحدٌ، من قبل مُطلقًا.
للتوحيد تكاليفه بالتأكيد، أبرزُها اختزال تنوُّع السلع المنتجة. مُجدَّدًا يقول هنري فورد:
في عام ١٩٠٩، أعلنتُ ذات صباح، بدون سابق إنذار، أنه في المُستقبل سنُصمِّم نموذجًا واحدًا فقط، وأن هذا النموذج سيكون «موديل تي»، وأن هيكل السيارة سيكون مُتطابقًا تمامًا في كل السيارات، وعلقت قائلًا: «بإمكان أي عميلٍ اقتناء سيارة مَطلية بأي لونٍ يرغبه طالَما أنه اللون الأسود.» ولا أستطيع أن أقول إن أيَّ أحدٍ اتَّفق معي في الرأي.16
لقد أدرك فورد أنه بالاختزال الشديد للتنوع في الأشياء التي كان يُنتجها وفي العمليات التي كانت تُصنَع بها، كان بإمكانه أن يُنجز أكثر بكثيرٍ بعمَّاله وماكيناته التي جعلت ملكية سيارةٍ أمرًا في متناول الأُسَر العاملة العادية. على خلاف بعض أصحاب المصانع آنذاك، لم يكن فورد مُتغافلًا عن مناقِب التنوُّع. الأمر غير ذلك تمامًا؛ فقد عمل ذات مرةٍ عاملًا بمزرعةٍ وأعرب عن أملِهِ في أن تتمكَّن سيارته موديل تي من تحرير الفلاح الأمريكي ممَّا رأى فورد أنه النمطية المُحبطة في الحياة الريفية.17 لقد ربح رهانه، بل ربح ربحًا مُذهلًا، لأن النمطية التي فرضَها على عُمَّاله لم تكن هي العنصر الحاسم بقدرِ ما كانت الأجور التي قدمَّها لهم، والتي كانت أفضل كثيرًا من الأجور التي قدَّمَها أصحاب العمل الآخرين، بينما لم تكن النمطية في تصميم سيارته هي العنصر الحاسم بقدْرِ ما كانت الأسعار الأقل كثيرًا عن أسعار صنَّاع السيارات الآخرين.
وربما ربح الرهان في أمريكا على نحوٍ أفضل ممَّا كان يُمكِن أن يحدُث في أوروبا. كان أحد الأسباب أنَّ أوروبا كانت مُقسَّمةً أكثر بواسطة الحواجز القانونية والتنظيمية التي أقامتها تشكيلتها المُتباينة من الدول (القومية بشدةٍ غالبًا)، لذا كان ظهور سوقٍ ضخمة حقيقية عبر القارة أقلَّ احتمالًا بكثيرٍ مما كان عليه الأمر في أمريكا. وبدقةٍ أكثر، اقترح المؤرِّخ ديفيد لاندز أن أحد الأسباب الرئيسية في أنَّ الاقتصاد الأمريكي لحِق بالاقتصاد الإنجليزي أثناء القرن التاسع عشر، وتفوَّق عليه (من حيث دخل الفرد) قُبيل الحرب العالمية الأولى، هو أن أمريكا كانت مُستعدَّة على الصعيدَين الاجتماعي والثقافي؛ لأن تكون سوقًا ضخمة.18 كان ملايين الأمريكيِّين على استعدادٍ لاستساغة السيارات الموحدة، والملابس الرخيصة، والأثاث الرخيص؛ فكان يوجد ما يكفي من الزبائن المُحتمَلين بما يسمح بالإنتاج على نطاق قاري. إلا أن أوروبا ظلَّت قارةً تُقسِّمها اختلافات اللغة والطبقة الاجتماعية؛ حيث كان أولئك الذين يستطيعون تحمُّل تكلفة شراء سيارات، وملابس، وأثاث يُفضِّلون دفع أسعارٍ عالية مُقابل إنتاج يدوي يُعلِن التدرُّج الدقيق في جودته عن الطموحات الاجتماعية للمُشتري وإنجازاته. في عالم يتنافَس فيه كبار المُصنِّعين لخدمة نُخبةٍ ما، ربما لا يحظى المواطن العادي مُطلقًا بفُرصةٍ للتعبير عن تفضيل النمَطية الرخيصة والوفيرة.

ولكن، ما هي بالضبط الصِّلة بين التوحيد والإنتاج الواسع النطاق؟ أتاح التوحيد نطاقًا واسعًا وتطلَّبه كذلك. «أتاح» نطاقًا واسعًا؛ لأنه سمح بأن تكون العمليات آلية، غالبًا من خلال فصل المكوِّنات العديدة لنشاطٍ معقَّد، مما يُتيح تنفيذها على نحوٍ مُتكرِّر وبسرعةٍ عالية، بواسطة الأفراد أو الماكينات أو كليهما. استعرض آدم سميث نقاشًا شهيرًا في كتابه «ثروة الأمم» عن الطريقة التي يُمكن بها تقسيم تصنيع حتى شيء بسيط للغاية من الناحية الظاهرية مثل تصنيع الدبُّوس إلى عدة أنشطة مكونة (اليوم قد نُطلق عليها وظائف فرعية). هذا لا يجعلها ذات أداءٍ أسرع فحسب ولكن يجعلها أيضًا أسهل في التعلم، لا سيما للأشخاص الذين يَنقصهم تدريب حِرَفي. بالطبع، لعب نظام المصانع دورًا مهمًّا في نقل نوعيات مُعيَّنة من المعرفة من شخص إلى آخر، وهو دور أكثر أهمية في العالم المعاصر مما كان عليه في زمن سميث، وسنُلقي عليه نظرةً عن قرب أكثر في الفصل الرابع عشر.

«تطلب» التوحيد نطاقًا واسعًا أيضًا بسبب الحاجة إلى مراقبةٍ عن قرب لجودة العمل في كل مرحلة من مراحل عملية التصنيع. كان نظام التعاقُد من الباطن، الذي كان الناس يعملون فيه من بيوتهم، نظامًا جيدًا جدًّا إذا كان في مقدور أي أحد أن يحكم بنظرة واحدة على ما إذا كان عملهم جيدًا بالقدر الكافي لتأدية الغرض المطلوب. ولكن ما إن اكتسبتِ التفاصيل الأدق أهمية، تلك التي ربما لا تُلاحظها العين المُجرَّدة على الفور، صار من المُهم الإشراف على عملية الإنتاج أثناء سيرها، بحيث يُمكن تصحيح العيوب والأخطاء قبل أن تتسبَّب في أضرارٍ بالغة للمُنتَج الكُلِّي. هذا الدرس، الذي تعلَّمَه أصحاب المصانع الأوائل، لم يُقدِّره على الإطلاق ورَثَتُهم في نظام المصانع السوفييتية بعد مرور قرنٍ ونصف من الزمان؛ فتوحيد عمَّال المصنع تحت سقفٍ واحد كان يُعتبر مُهمًّا للسوفييت من أجل مراقبة الانضباط العام للعمال والجهد المبذول من جانبهم، ولكن ليس من أجل المراقبة التفصيلية للجودة. لم يكن أي أحدٍ يكتشِف ما إذا كانت الأجزاء الداخلية مَعيبة أم لا إلا بعد أن تخرج السيارة أو الدبابة من خطِّ الإنتاج (وأحيانًا بعد أن تصِل إلى المُستخدِم النهائي)؛ حينئذٍ يكون الضرر الواقع أعظم بكثيرٍ مما لو كانت اختُبِرَت كما ينبغي عند تصنيعها في البداية.

أحيانًا، بالطبع، يكون للنطاق الواسع مزايا أخرى لأنه يُتيح استخدام الماكينات أو المباني، وخاصةً الكبيرة أو غالية الثمن منها، بفعالية أكبر. تزداد، أيضًا، الشركات الكُبرى في العالَم المُعاصر التي هي في الحقيقة شبكات من المصانع التي ربما تكون منفردةً ذات حجمٍ متواضِع جدًّا. وحجم الشركة (خلافًا للمصانع) ضروري للاستفادة من بعض الأصول غير الملموسة وغير القابلة للتجزئة، مثل اسم العلامة التجارية، أو مجموعة من العلاقات مع البنوك والمستثمرين الآخرين، أو قدرة مُعيَّنة على إجراء أعمال البحث والتطوير، أو حتى ببساطة نطاق انتباه فريق إدارة موهوب على نحوٍ استثنائي. إلا أنه كثيرًا ما تدعو الحاجة إلى النطاق حين يُولي التوحيد أهمية قصوى للمراقبة الفعالة على الجودة، وحيثما يصعب مراقبة تلك الجودة عن بُعد. حسبما يَميل علماء الاقتصاد الدارسُون لخصائص المؤسسات المختلفة إلى القول، فإنه من المتوقَّع أن نرى شركاتٍ كبرى عندما تكون «تكاليف المعاملات» المرتبطة بالقيام بمختلف الأنشطة داخل الشركة أقل من تكاليف القيام بها عن بُعد، عبر السوق.

فيما يتعلَّق بالأنشطة التي يكون فيها النطاق أقلَّ أهمية، فعلى النقيض، قد يكون للأُسَر ميزة كبيرة تتفوَّق بها على الشركات الكبرى. عادةً، تتراجع أهمية النطاق حين لا يُمكن توحيد العمل؛ فربما يكون العمل عبارة عن خدمةٍ لا تتطلَّب الكثير من الدعم التقني ويكون فيها التواصُل الشخصي مع الزبون هو أهم شيء، أو تصنيع منتج لا بدَّ من تصميمه خصيصًا وفقًا لاحتياجات المشترين كلٍّ على حِدَة. تتراجَع أهمية النطاق أيضًا حين يسهل تحديد مُتطلبات الأداء بشكلٍ جيد، بحيث يُمكن القيام بالمهمة بعيدًا عن الشخص الذي يَرغب في إنجازها. وبدلًا من ذلك، لعل العمل يتألف من مهامَّ تتطلَّب خروج الناس لأدائها مثل حراثة حقل أو طلاء جدار. لا يُمكنك أن تأتي بالحقل أو الجدار إلى خط إنتاجك، ومع أنه قد يُساعدك امتلاك ماكينة لتساعدك، لن يعمل أناس كثيرون بالضرورة على نحوٍ متناسب بفاعلية أكثر من شخص واحد. (مثل هذه الأنشطة المُعدَّة خصيصًا، المحصورة في مجالٍ ما، يُمكن حتى أن تَشتمِل على تكنولوجيا متطورة جدًّا، مثل تصميم حزمة برامج لعملٍ تجاري غير مُعتاد أو ابتكار سلسلة من أجهزة قياس سرعة التدفُّق لمنجم تحت الأرض.) إذن، عندما تتراجَع أهمية النطاق، فمن الأهم أن يعمل مختلف أعضاء الفريق معًا على أساسٍ من ثقةٍ عامة في جُهد وحُسن نية كلٍّ منهم. على خلاف شبكات الغرباء، تعالج الأُسَر مُشكلة التعاون على نطاقٍ صغير منذ عصور ما قبل التاريخ. ومن المعروف أنها عادةً ما كانت تَفشل في هذا الصدد، إلا أن خبرتها الجماعية لا تضاهيها أيُّ مؤسسة إنسانية أخرى.

التخلُّص من هيمنة العائلات

تبدأ الشركات عادةً كاهتماماتٍ عائلية، في الواقع: حتى في الولايات المتحدة اليوم نحو ٩٠ بالمائة من جميع الشركات المُسجَّلة هي شركات عائلية، ومع ذلك تُشكِّل العَشرة بالمائة الباقية نسبةً كبيرة من النشاط الاقتصادي الإجمالي. السؤال المُثير للاهتمام هو ما الذي يجعل بعض الشركات تتخطَّى أصولها العائلية وتصلُ إلى نطاقٍ يتعدَّى قُدرة أي عائلة مُنفرِدة على الإدارة.19 إن الشركات التي تُعيِّن مائة شخصٍ أو أكثر، إذا ما أخذنا في الاعتبار قياسًا إحصائيًّا بسيطًا، تُمثِّل نسبة صغيرة — أقل من ٠٫٥ بالمائة — من جميع الشركات المُسجَّلة في الولايات المتحدة، إلا أنها ذات أهميةٍ كبيرة؛ إذ تُوظِّف أكثر من ٦٠ بالمائة من إجمالي المُوظَّفين وتُعتبر مسئولة عن ٧٠ بالمائة تقريبًا من إجمالي إيرادات المبيعات.20
إن تعدِّي نطاق قدرات العائلة هو أحد أهمِّ التحدِّيات التي يُمكن أن تواجهها الشركة العائلية. ذكَر المؤرِّخ ألفريد تشاندلر أنَّ فشل شركات بريطانية كثيرة في التخلُّص من هيمنة العائلات المُنفرِدة هو سبب مُهم في الأداء المُحبط للصناعة البريطانية في القرن العشرين مقارنةً بكلٍّ من ألمانيا والولايات المتحدة؛ حيث تولَّى مديرون محترفون زمام شركاتٍ مُهمة كثيرة في مرحلة أبكر نسبيًّا من تطوُّرها.21 لماذا إذن تختلف قُدرات الدول على مواجهة هذا التحدي؟ ذكر فرانسيس فوكوياما أن الثقافة القومية تترك تأثيرًا خفيًّا ولكنه مُهم جدًّا على حجم الشركات.22 أي شركة عائلية تدعوها الحاجة إلى الاضطلاع بأنشطة تتطلَّب نطاقًا واسعًا ستُواجهها الحاجة إلى الاستعانة بالغرباء في مواقع تتطلَّب التحفُّظ وتحمُّل المسئولية؛ ففي النهاية لن يوجَد العدد الكافي من أفراد العائلة للقيام بالعمل. ولكن الاستعانة بالغرباء أمرٌ محفوف بالمخاطر؛ فكيف تعرف بمَن تثق؟ ما قدْر المسئولية التي ينبغي لك أن تُخوِّلهم إيَّاها؟ وما الذي يُمكنك فعله إذا بدأ الشكُّ يُساورُك في ولائهم؟ في الواقع، كما يذكر فوكوياما، جميع الثقافات لديها عادات وتقاليد للتعامُل مع الغرباء، وبسبب هذه العادات والتقاليد يَبحث الناس عن نماذج حين يُفكِّرُون في كيفية هيكلة علاقاتهم مع الغرباء داخل سياق العمل. الأمر الأكثر وضوحًا هو أنَّ العائلات تستعين بالغرباء من خلال رابطة الزواج. وبعض الثقافات، كما في اليابان، تتعامَل على أساس أنه من الطبيعي أن يُشارِك أولئك الذين تجمعُهم رابطة زواج بالعائلة في أخذ قراراتٍ عائلية، وأن يُشاركُوا في ملكية أصولٍ خاصة بالعائلة، وأن يُستأمَنُوا على مواقع المسئولية العائلية. تُوجَد ثقافاتٌ أخرى، كما هو الحال في مُعظَم الصين، أكثر حمايةً لروابط القُربى، ومن غير الشائع أن تُعطِيَ العائلة الغرباء الذين تَربطهم بها رابطة الزواج الحقَّ في أن يكون لهم رأي في القرارات أو أن يكون لهم سيطرة فِعلية على الأصول. ربما يبدو الفارق دقيقًا (ويصعُب جدًّا توثيقه بطريقةٍ أكثر من مجرَّد الانطباعات)؛ وبالتأكيد يبدو أن هذا غاب عمَّن يتصوَّرُون وجود شيءٍ نستطيع أن نُطلِق عليه مجموعةً واحدة من «القيم الآسيوية». ولكن النتيجة هي فارق مُهمٌّ في متوسِّط حجم الشركات بين اليابان والمُجتمعات الصينية الرأسمالية نسبيًّا مثل تايوان، وهونج كونج، وسنغافورة. الشركات الكبرى أكثر شيوعًا في اليابان نسبيًّا، على حدِّ زعم فوكوياما؛ لأنه حين تفكر الشركات العائلية في التوسُّع، تكون لديها نماذج ثقافية لإدماج الغرباء ليست متاحةً لدى الشركات العائلية في الصين.
بالطبع، النماذج الثقافية ليست كل ما على العائلة التمسُّك به عند التفكير في الحجم المناسب لشركتها. يُوجَد أيضًا القانون. يلعب القانون دورًا مهمًّا على وجه الخصوص في حماية مصالح الأقلية من المساهمين؛ وهو المصير الذي سيئول إليه أفراد العائلة حتمًا بمجرد أن تتوسَّع شركتهم بالدرجة الكافية. لا يتطلَّب توسُّع الشركة فقط قوًى عاملة وإنما يتطلَّب أيضًا رأس مال؛ الموارد للأنشطة المالية الحالية والاستثمارات المستقبلية. ستُضطرُّ الشركة العائلية التي تنقصها هذه الموارد إلى البحث عن مُستثمِرين آخرين على استعدادٍ للتعهُّد بتقديم تمويلاتهم الخاصة. وسيَفعلُون ذلك بدورهم إذا اقتنعوا بالآليات التي تجعل من الأرجح استردادهم لأموالهم مرة أخرى. وبصفةٍ عامة، يُوجَد نوعان من هذه الآليات. الآلية الأولى هي الديون، وهي الآلية الأكثر شيوعًا في حالة الشركات الصغيرة. والدين هو قانونًا وعدٌ واجب التنفيذ بأنه إذا لم تَرُدَّ الشركة الأموال، يستطيع المُقرِض المطالبةَ إما بالاستيلاء على الأصول أو إعلان الإفلاس الكامل (أي، أن يتولَّى إدارة الشركة مسئول مُعيَّن من قِبَل المحكمة يعمل لصالح سداد مُستحقات دائني الشركة). الآلية الثانية هي حقوق المساهمين، التي يُقصَد بها حصة في التحكم في عمليات الشركة، ليس فقط في حالة عدم السداد وإنما بشكلٍ مُنتظِم، من خلال سلطة تعيين مجلس إدارة في اجتماع المساهِمين.23

عادةً ما تُواجه العائلات التي تطمح إلى التوسُّع في أعمالها خيارًا صعبًا. فالديون تُبقيها مسيطرة ولكن تُجبرها على إجراء عمليات سداد الدين بمُستوًى ثابت؛ لا يؤخَذ بعين الاعتبار الثروات المتنوعة الخاصة بالشركة (مع أنها قد تختلف باختلاف الظروف العامة في الاقتصاد). عدم مرونة هذه الوعود بالسداد يجعل العائلة عُرضةً لفقدان السيطرة تمامًا. من جهة أخرى، تشتمل حقوق المُساهِمين على قدرٍ أكبر من المرونة؛ فبإمكان الشركة أن تُعلنَ بكلِّ بساطةٍ عدم وجود حصة أرباح إذا كانت ظروف العمل سيئة في ذلك العام. ولكن هذه المرونة الأكبر تأتي بتكلفةٍ حقيقية؛ ألا وهي إتاحة حصَّةٍ من السيطرة اليوم، والآن.

السيطرة المشتركة هي مفهوم ذو طبيعة حسَّاسة. فأي شخصٍ يُسيطِر على أكثر من نصف حصص التصويت بالشركة يُمكنُه من الناحية النظرية أن يأخذ جميع القرارات دون مشورة أولئك الذين يمتلكون باقي الأسهُم. وهنا يأتي دور القانون. عادةً ما يحمي القانون (بدرجاتٍ مختلفة في نظُم قانونية مختلفة) حقوق الأقلية من المُساهمين. وأكثر الطرُق وضوحًا للقيام بذلك هي فرض نفس حصة الأرباح المُخصَّصة للسهم الواحد المُستحَقَّة لجميع المساهمين؛ إذ لا يجوز للأغلبية التصويت لنفسها بحصةٍ كبيرة من الأرباح بينما تُصوِّت بحصة صغيرة للأقلية. عادةً ما يحمي القانون الأقليات بطرُقٍ أخرى أيضًا، على سبيل المثال، من خلال ضمان أن مُقدِّمي عطاءات الاستحواذ لا بدَّ أن يُتيحوا عروض الأسهم للأقليات بموجب نفس الشروط مثل الآخرين. ومع ذلك، ربما تُحصِّن الأقليات نفسها — فيما يخص رأس مال الشركة — بأن تظل أغلبيةً فيما يخصُّ عمليات التصويت؛ فقد احتفظت عائلات كثيرة بحقِّ السيطرة على التصويت داخل شركاتها من خلال جمع رأس مالٍ خارجي قائم على أساس عدم إعطائه حق التصويت. وفي هذه الظروف، يحمي القانون الغرباء من أصحاب الشركة، وليس العكس.

يدور الكثير من الجدل حول ما إذا كان القانون مُحقًّا في تدخُّله بالتفصيل في الظروف التي في ظِلِّها ربما يجمع ملاك الشركة الحاليين رأس مال من الغرباء. يجادل البعض بأن القيود المفروضة على ما قد يفعله الأغلبية من المُساهمين قد لا تفعل سوى أن تحدَّ من مرونة الترتيبات المالية المُتاحة وحسب، دون تحسينٍ فِعلي في أوضاع المُستثمرين. على أيِّ حال، ربما يختار المستثمرون بعقلانيةٍ التنازُلَ عن الحماية القانونية الصريحة في مقابل عوائد أعلى، مثلما قد يَستثمرُون في الديون الأعلى خطورة (السندات الرديئة) في مقابل معدلات فائدة أعلى. ويرد البعض الآخر بأنه إذا كان نطاق مُستويات الحماية الممكنة كبيرًا للغاية، فقد يقع المستثمرون ببساطة في بلبلة، لذا من المهم ضمان مستوًى أساسي مُعيَّن من الحماية للجميع. كان لهذا الجدل صدًى مُهم في أوروبا، حيث في يوليو ٢٠٠١ ألغى البرلمان الأوروبي التوجيه بالاستحواذ المُثير للجدل الذي كان سيُسهِّل على مالكي الأسهم الخارجيين أن يحلُّوا محلَّ الأغلبية المسيطرة في الداخل بأضيق فارقٍ مُمكن من الأصوات؛ إذ تساوى عدد الأصوات بين الجانبين بواقع ٢٧٣ صوتًا لكلٍّ منهما.24 أيًّا كانت مزايا شكلٍ أو آخر من أشكال الحماية القانونية، من المُهم أن نرى الأساس الذي يدور حوله الجدل. إنه يدور حول ما إذا كان مؤسِّسُو الشركة (الذين يكونون عادةً، وليس دائمًا، عائلات)، والذين يحتاجون الآن إلى مساعدة من الغرباء من أجل تمويل توسُّع شركتهم، يحتاجون إلى حماية القانون أم قيده، أم إلى كليهما، من أجل إرساء قواعد الثقة المتبادلة الضرورية؟
كما رأينا في فصولٍ سابقة، تُتيح الأسواق سبيلًا للغُرباء لكي يتعاملوا بعضهم مع بعض. ويُمكن اعتبار المُؤسَّسات المعقَّدة التي تدعم الأسواق الحديثة سبلًا لإرساء قواعد الثقة التي تَستلزمها هذه التعاملات. وعلى نفس المنوال، تتيح الشركات الحديثة سبيلًا أمام الغرباء للتعاون في تلك المهام الإنتاجية التي تستلزم ما هو أكثر من التعامل، والتي من شأنها أن تكون مُستحيلة بدون مركزية وتخطيط وتسلسُل هرَمي على نطاق كبير. ويمكن اعتبار المؤسسات الرسمية وغير الرسمية الداعمة للشركات الحديثة (كل شيء بدءًا من قانون الشركة وأنظمة المحاسبة وصولًا إلى قواعد الزي وإجراءات السلامة والمصطلحات الإدارية) سُبلًا لجَعل الثقة قابلةً للتحقيق بين الغرباء. فهي تُتيح للأشخاص الذين لا تربطهم صِلة قُربى ولا يعرف بعضهم عن بعضٍ سوى القليل أن يضعوا مواردهم ورفاهيتهم وأحيانًا حتى حياتهم رهن تصرُّف الآخرين. ومع ذلك، تبقى مزايا الإنتاج الواسع النطاق موضوعًا شائكًا. فلا أحد يشكُّ فيها حين يتعلق الأمر ببناء طائرة أو إدارة نقل الكهرباء، ولكن في مناحٍ حياتية كثيرة أخرى لا تُضاهي الشبكات المُعقَّدة للثقة المُصطَنعة التنوُّع التلقائي المباشر. ما زالت المطاعم في أغلبها شركاتٍ صغيرة. وتلك التي ليست كذلك (مثل ماكدونالدز) تُروِّج للعملاء التوحيد بدلًا من التدقيق أو الإبداع.25

التكنولوجيا وحجم الشركات

كيف تُغيِّر التكنولوجيا الحديثة كل هذا؟ قبل أن نُلقي نظرة على تكنولوجيا المعلومات وغيرها من عجائب الشركات الحديثة، يَجدُر بنا إلقاء نظرةٍ إلى الوراء على الطريقة التي أثَّرت بها الثورات التكنولوجية المُبكِّرة على نطاق العمليات التجارية. فضَّلَت تكنولوجيا القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الأنشطة الواسعة النطاق، وبطريقتَين رئيسيتَين هما: تمكين التوحيد عبر الهندسة الدقيقة وتسخير كفاءة الطاقة الأكبر للماكينات الكبيرة المنفرِدة، سواء كانت بواخر أو سككًا حديدية أو معدات مصانع. كان للتطورات اللاحقة في مجالي الكهرباء والاتصالات في مطلع القرن العشرين تأثير أكثر إبهامًا؛ فلم يعُد من الضروري أن تجري عملية الإنتاج بالقُرب من العميل ومن ثَمَّ يمكن تركيزها في بضعة مراكز صغيرة، ولكن في الوقت نفسه، لم يَعُد من الضروري أن يتجمَّع نشاط الورش الصغيرة حول مصادر الطاقة والمعلومات؛ ومن ثَمَّ أمكنها التنافس بكفاءة مع مراكز إنتاج أكبر. ومع ذلك أكد ألفريد تشاندلر أنه لم يكن يُوجَد شيء تلقائي فيما يتعلق بالفوائد من نطاق الإنتاج. أولًا: يكون الإنتاج على نطاقٍ واسع منطقيًّا فقط إذا كنتَ تواجِهُ أسواقًا كبيرة (من الواضح أن الشركات الأمريكية في القرنين التاسع عشر والعشرين كانت في وضعٍ أفضل من الشركات الأخرى الموجودة في دولٍ أخرى). حتى وإن فعلت ذلك، فإن الاستثمار في منشآت الإنتاج الواسع النطاق يستحق العناء فقط إذا كان لديك مهارات الإدارة اللازمة لتشغيل مصانعك بقدرة عالية والمهارات التسويقية اللازمة للوصول إلى العملاء الكثيرين الموجودين نظريًّا بالخارج.26 ما جعل شركات دو بونت، وجنرال موتورز، وستاندرد أويل، وسيرز روبوك، ويو إس ستيل مختلفةً عن غيرها من الشركات الأقل نجاحًا لم يكن أنها كان لديها فُرَص تكنولوجية مختلفة، وإنما أنه كان لديها القدرة التنظيمية والإدارية لاستغلال تلك الفُرَص إلى أقصى حد؛ فقد أكملت اليد الخفية للسوق باليد المرئية للإدارة («اليد المرئية» هو عنوان أشهر كتاب لتشاندلر).27 كان أحد تداعيات هذا أن شركات كثيرة صارت كبيرة ليس لمجرد أنها كانت تمتلك مصانع إنتاج كبيرة، وإنما لأن أفضل سبيل لضمان القدرة العالية لهذه المصانع كان بأن تتكامَل ارتجاعيًّا في إنتاج المواد الخام، وأن تتكامل إلى الأمام في التوزيع والتسويق (حاكى المُخططون المركزيون في ظلِّ الشيوعية هذا الاتجاه، على نحوٍ كارثي غالبًا، والذين ظنوا أن التكامل الرأسي، مشتمل على الخدمات الصحية ومنازل «الداتشا» لقضاء الإجازات، والمزارع المُنتجة لغذاء مقصف العمال، كان شرطًا كافيًا للإنتاج الكفء. أخبرني وزير الصناعة البولندي في مطلع تسعينيات القرن العشرين أن مصانع الصلب في منطقة نوا هوتا خارج مدينة كراكوف لم تكن بحاجةٍ إلا إلى تقوية سياجها المُحيط لتتمكن من إعلان نفسها دولة مستقلة).
نُشر كتاب «اليد المرئية» عام ١٩٧٧، ومن سخرية الأقدار أنه نفس الوقت تقريبًا الذي شرعت فيه الظروف الاقتصادية المتغيرة في كشف النقاب عن أوجه القصور في رؤية تشاندلر لقطاع الأعمال الأمريكي.28 ومنذ ذلك الحين، تزايد تدريجيًّا عدد الشركات الكبرى، بالأخص العاملة في قطاعات الإنتاج التقليدية، التي وجدت أن منافسين أصغر وأبرع تفوَّقوا عليها. يركز هؤلاء المنافسون أكثر على أنشطةٍ أساسية معيَّنة وينزعون إلى التنسيق مع مورِّديهم بطرُقٍ أخرى غير التكامل الرأسي الكامل. ولا ترجع أسباب هذا إلى مجرد التكنولوجيا. فعلى سبيل المثال، لقد أجبر تنامي التجارة الدولية وازدياد المنافسة في الداخل الكثيرَ من الشركات على التحلِّي بالصرامة بخصوص اختيار الأنشطة التي تنفذها بنفسها وتلك التي تَشتريها من الخارج؛ فالموردون الداخليون الذين يعجزون عن مواكبة المنافسة هم رفاهية تعجز الشركات بصورة مُتزايدة عن تحمُّلها.

ولكن التكنولوجيا مُهمة أيضًا؛ فلثورة المعلومات في أواخر القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين تأثير قوي على بنية الشركات. بدايةً، تُتيح تكنولوجيا المعلومات إنتاج سلعٍ بالطلب، بمواصفات شديدة الفردية، دون فقد الاقتصاديات الكبيرة الحجم. كما تتيح أيضًا التوريد إلى العملاء من على بُعدِ أيِّ مسافة، شريطة أن يتوصَّل العميل والمورِّد إلى اتفاقٍ بخصوص تلك المسافة، وكذلك ما يُشكِّل نوعية الجودة المقبولة. وهذا يتناسب مع البرمجيات؛ فكثير من البرمجيات المُستخدَمة في القطاع المصرفي الأمريكي يُنتَج في الهند. وهذا يتناسَب مع المكونات الهندسية الدقيقة التي يُمكن تسجيل حدود احتمالها واختبارها بموضوعية («بموضوعية» تعني أنه يمكن إجراء الاختبار في ميلان أو مانيلا، ومع ذلك نصل إلى النتيجة نفسها). وهذا يتناسَب — إلى حدٍّ مُعيَّن — مع الخدمات المالية. إلا أنه لا يتناسب مع شراء اللوحات الفنية أو الأسماك الطازجة. يُمكن شراء سمك السَّلَمون المُدخَّن عبر شبكة الإنترنت، ولكن لكي تَشتري السلمون الطازج، عليك أن تراه بنفسِك مباشرة. بالمثل، تُناسب شبكة الإنترنت شراء مُعظَم الكتب، ولكن لا تُناسب شراء معظم الملابس. وتناسب — إلى حدٍّ مُعيَّن أيضًا — شراء قطع الماس والمجوهرات الألماس ولكنها لا تناسب على الإطلاق شراء الألماس الخام، الذي لا يزال يحتاج إلى مُعاينة فعلية لتحديد سماته الطبيعية. في اليوم الذي أُجرِيَت فيه المقارنة، وصل سعر أغلى قطعة بين أكثر من ٦٨ ألف قطعة ألماس مصقول أو قِطَع مجوهرات ألماسية للبيع على موقع إيباي ٤ ملايين دولار، في حين كان سعر أغلى قطعة ألماس خام ٢٩٩ دولارًا فقط، وهي نسبة ضئيلة من المستويات التي تتبدَّل بها العطاءات على الألماس الخام في مزاد دي بيرز (المعروف باسم «سايتس») في لندن.

ما هو تحديدًا الجانب الثوري في ثورة المعلومات؟ جزء مما تُضفيه تكنولوجيا المعلومات على الشركات هو توحيد الإجراءات، مما يتيح نقل المعرفة الخاصة بعملياتها من شخصٍ إلى آخر دون تدريبٍ مهني مُرهِق على النظام الحِرَفي في كل مرحلة في السلسلة. وكما أشرتُ أعلاه، هذه ليست ظاهرة جديدة بالتأكيد؛ إنها وصف جيد لما جعل الجيش الروماني أقوى بكثيرٍ من أسلافه ومنافسيه. وكان نمو المؤسسات في أواخر القرن التاسع عشر يتمحوَر بالضبط حول استغلال هذا التوحيد. ولكن تُوجَد سِمتان جديدتان في هذه العملية حسبما نُعايشها اليوم. أولًا: لقد تعلَّمنا توحيد الإجراءات التي تتَّسم بمزيد من التعقيد والمرونة وذات المستوى الأعلى؛ ليس فقط تلك التي تتطلَّب ربط صمُّولة المسمار، على طريقة شارلي شابلن في أفلامه؛ وإنما تلك التي تتطلَّب إيقاف خط الإنتاج بكامله وإعادة تجهيزه لإنتاج طرازٍ مختلف من السيارات، وهي عملية يُمكن إجراؤها الآن على نحوٍ أسرع كثيرًا من ذي قبل. نتيجة لذلك، يُمكننا إلغاء مركزية عمليات داخل شركة واحدة أكثر تعقيدًا من مهام تصنيع الدبُّوس التي وصفها آدم سميث، مُستفيدين في العملية من مزايا التحفيز والتكيُّف دون التضحية بمزايا الإنتاج على نطاقٍ واسع.29 ثانيًا: من الأرجح أن يُسَجَّل هذا التوحيد للإجراءات عادةً على هيئة نموذجٍ رقمي يُمكن إعادة نَسخِه. هذا يعني أنه يُمكن بسهولة نقل المعرفة عبر الشركات وليس داخلها فقط، مما يؤدي إلى ظهور المزيد من أشكال المنافسة المُتقلِّبة وغير الخاضعة للسيطرة. ولكي تتعلَّم إجراءات الجيش الروماني، كان لا بدَّ أن تكون جنديًّا رومانيًّا، في حين أنه لكي تُحاكي النظام المحاسبي لشركةٍ منافِسة عليك فقط أن تشتريَ (أو تُقرْصِن) برمجيتها (بالطبع، أدَّت المُخططات الأولية والصِّيَغ الكيميائية دورًا مشابهًا على مدار عقود بل وقرون من الزمان، بينما سعت نُظم براءة الاختراع والتراخيص إلى الاعتراف بها).
التحويل الرقمي المتزايد يجعل حدود الشركة أكثر استيعابًا للمعلومات القيمة. يمكن أن تكون لهذا تأثيرات قوية على هيكل الشركات وليس فقط على الأنشطة التي تؤديها؛ فعلى سبيل المثال، أدَّى استخدام أجهزة الكمبيوتر التي تُرَكَّب على متن الشاحنات لمراقبة سائقي الشاحنات والتواصُل بين الشاحنات ومُرسليها إلى تراجع عدد الشاحنات التي يُديرها مالكوها وزيادة عدد شركات النقل بالشاحنات المُستقلة عن كبار المُصنِّعين.30 ومع ذلك، لا ينبغي أن نُبالغ بشأن مدى حداثة هذا الأمر. لقد حظي اختراع الطباعة بالتأثير ذاته على الكنيسة في القُرون الوسطى. فالحروف الأبجدية هي في حدِّ ذاتها شكل من أشكال التشفير الرقمي للأفكار، ولكن طيلةَ الوقت الذي كانت فيه إعادة إنتاج الكتب تعني نسخها باليد داخل حجرة نَسْخٍ في أحد الأديرة، أحرز نشر هذه الأفكار تقدُّمًا بطيئًا جدًّا خارج الكنيسة التي كانت تتحكَّم في عملية النَّسْخ ومعها حفنة من الأثرياء الذين كانوا في وضعٍ يُتيح لهم اقتناء المُنتَج. ولكن أتاحت الطباعة للأفكار أن تتسرَّب عبر جدران الكنيسة إلى من هم خارجها ولا يَدينون لتلك المؤسسة بأي ولاءٍ مُعيَّن؛ بما في ذلك منافسوها المباشرون في سوق الأفكار، وتحديدًا الكنائس البروتستانتية، التي أُنشئت باستقلاليةٍ عن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية مثلما تأسَّست شركات النقل بالشاحنات باستقلاليةٍ بعد عدة قرون لاحقة. ومنذ فجر التاريخ، انتشرت الاختراعات التكنولوجية غالبًا من خلال المُحاكاة خارج السياقات التي ظهرت فيها أولًا. نقل ترويض الخيول وتطوير العربات ذات العجلات مظاهر الرفاهية عبر أوروبا وآسيا أثناء الألفية الثالثة قبل الميلاد.31 بكل بساطة، لم تذهب أغلب فوائد اختراع تكييف الهواء إلى المُخترعين أو حتى إلى مُصنِّعي أجهزة تكييف الهواء وإنما آلت بدلًا من ذلك إلى مُلَّاك العقارات في أماكن مثل فلوريدا.32 في النهاية، ثبتَ أنَّ الأرض أكثر نُدرة من المعرفة الفنية اللازمة لتكرار هذه العملية القيِّمة ولكنها مُنخفِضة التقنية نسبيًّا.
لا ينبغي أن نُبالغ بشأن مقدار ما لدَينا من معرفة مفيدة يُمكن نقلها عبر العالم بنقرةٍ واحدة على زرِّ الماوس. فكما أشَرْنا في الفصل الأول، لن تُتقن تكنولوجيا المعلومات إجراءاتٍ كثيرة محورية للحياة المعاصرة في أي وقتٍ من المستقبل القريب؛ على سبيل المثال لا الحصر، تنظيف غرفة فندقية وإزالة الأعشاب الضارة من حوض زهور. لا تزال تكنولوجيا المعلومات تعجز عن إخبارك بكيفية تقييم الألماس الخام، أو ما إذا كانت رائحة السمك طازجة فعلًا، أو ما إذا كنتِ تَبدين رائعة في ذلك الفستان. وتَشتمِل ثقافات مؤسسية كثيرة على خصائص غير محسوسة ثبتت مقاومتها الشديدة للتقليد والمحاكاة (رغم أن ينابيع الأمل لا تنضب أبدًا، كما تشهد أرفُف كتب الأعمال التجارية في المطارات رفًّا تلو الآخر). أظهرت الأبحاث الأخيرة أن المسافة ما زالت تُشكِّل أهميةً كبرى في نشر المعرفة حتى داخل مجالات تتَّسم بالدقة العلمية العالية؛ فاستخدام تراخيص براءة الاختراع في الجامعات الأمريكية يَميل نحو التجمُّع بشكلٍ وثيق حول المواقع التي خرجت منها هذه الاختراعات.33 ويبدو التفسير أنه لا يُوجَد بديل عن التواصُل المباشر وجهًا لوجه عند نقل بعض الأجزاء غير الملموسة للمعرفة والمهارات؛ وبدون هذه الأجزاء غير الملموسة لن تعمل الأجزاء الملموسة على نحوٍ جيد جدًّا. التواصُل وجهًا لوجه، الذي يحدُث أحيانًا يجري من خلال سلسلةٍ معقَّدة من المسئولية والقيادة، هو ما يميز جزيرة الشركة عن بحر تعامُلات السوق المُحيط بها.

ومع ذلك، حتى وإن بدا أحيانًا كما لو أن لا جديد حقًّا تحت الشمس، يمكن أن يترك التأثير التراكمي للعديد من التغيرات الدقيقة أثرًا على المشهد المؤسَّسي. وإذا كانت الشركات في الكثير من قطاعات الإنتاج التقليدية آخِذةً في التقلُّص من ناحية الحجم وماضيةً في التركيز على أنشطتها الأساسية، فإن الشركات، في بعض قطاعات الخدمات وتلك القطاعات التي تمثِّل فيها العلامات التجارية أهمية، آخذةٌ في التنامي بدرجة كبيرة جدًّا. ثمَّة قوة في صالح الحجم هي حقيقة أنه يُمكن نسخ المعلومات الرقمية بلا تكلفةٍ تقريبًا. فشركة مثل مايكروسوفت يُمكنها تخصيص مليارات الدولارات لتطوير النُّسخة الأولى من مُنتَج برمجيات، ثم تصنع ملايين إضافية من النُّسَخ بتَكلِفة لا تزيد عن تكلفة إنتاج قُرْص مدمج. وهذا مفيد إذا كان يُوجَد عدة ملايين من المُستخدِمين المُحتمَلين للمُنتَج، ولكنه عديم الفائدة إذا كان هذا المنتَج الشديد التخصُّص مُوجَّهًا لقطاع صغير فقط من المستخدِمين. وثمة قوة أخرى للحجم تتمثَّل في أهمية الشبكات؛ إذ تعتمد شركة بطاقات الائتمان على قُدرة المستخدِمين على العثور على منافذ تقبل بطاقاتهم وعلى قُدرة المنافذ على إيجاد مُستخدمين؛ وتتزايد قيمة هذه الشبكة المترابطة نظرًا لأنَّ الناس يُسافِرون لمسافاتٍ أبعدَ وعبر مختلف أنحاء العالم على نحوٍ أكثر تواتُرًا. ثمة قوة ثالثة هي قوة العلامة التجارية؛ فزائر فندق الشيراتون أو مُشتري الكوكاكولا يحتاج إلى الشعور بالثقة بأن الخدمة التي يتلقَّاها أو المشروب الذي يشربه مُشابه على نحوٍ مُعترَف به لِما قد يتلقَّاه من نفس العلامة التجارية على الجانب الآخر من العالم. وذلك بدوره لا يكون ذا مصداقية إلا إذا كانت الشركات التي تَمتلِك هذه العلامات التجارية شركات كبيرة ومتماسِكة ومنظَّمة بطريقةٍ موحدة يُمكن الوثوق بها. ربما يكون فريق العاملين بفندق شيراتون هونج كونج قد تلقَّى تدريبًا في نيويورك؛ وربما يكون مشروب كوكاكولا المباع في أفريقيا مُعبَّأً في فرنسا. ونظرًا لأن وسائل التواصُل والبث المباشر تُوفِّر مساحة أكبر لسكان العالم كي يصلُوا إلى مجموعة مشتركة من المعلومات، يَزداد عدد الشركات التي تجد أنَّ من المُجدي أن تكون كبيرة الحجم.

ومع ذلك، ففي نفس الوقت الذي تُفضِّل فيه هذه القوى الحجم، تلعب التكنولوجيا الحديثة دورًا في تَشجيع التنوُّع. ربما تجعل شبكة الإنترنت المزيد من الأشخاص على عِلم بسلسلة فنادق شيراتون؛ إلا أنها تُمكِّن المُتصفِّح الذكي من معرفة أن جميع الفنادق ليسَت متشابهة وأن بعضها يعكس روحًا محلية على نحو أفضل كثيرًا مما تستطيع أي سلسلة كبيرة. عندما أسافر إلى دولة مختلفة في إجازة، أرغب في الاستمتاع بأشياء مشابهة لما هو موجود في بلدي؛ كمياه صالحة للشرب، ومُستوًى معقول من النظافة العامة، والسلام والهدوء. ولكن ثمَّة أشياء أخرى أودُّ على الأرجح تغييرها؛ مثل الطعام والمَشاهِد والديكور ومُقوِّمات ذلك العنصر صعب المنال المُسمَّى الجاذبية. غالبًا ما يُمثِّل اسم العلامة التجارية إشارةً صريحة؛ فهو يَعِدُ بالموثوقية من دون تنوُّع. لذا، قد أستخدم شبكة الإنترنت للبحث عن فنادق محلية أصغر. وهذا لا يَعني أن العلامة التجارية تصير غير ذات أهمية؛ بل على العكس، تتخصَّص بعض المواقع، مثل بعض سلاسل أدلة السفر، فيما يُمكن أن يُطلَق عليه «التمييز التجاري المحلي»، الذي تُقدِّم من خلاله للمُستخدِمين ضمانةً بأن الفنادق ستتمتَّع بقدر معيَّن من الجودة والجاذبية حتى وإن كانت تُعبر عن تلك الخصائص بطرقٍ مختلفة. الفكرة في هذا النوع من التمييز التجاري هي أنه إذا رغبَت الفنادق في أن تشترك مع سلسلة فنادق عالَمية في سماتها، فإن عليها أن تَنتميَ إلى الشركة نفسها، أو على الأقل إلى سلسلة فنادق ذات درجةٍ عالية من التنظيم. أما إذا رغبت، بدلًا من ذلك، في مجرد أن يكون لها نصيب من سِمة أصعب منالًا مثل «الجاذبية»، فيكفيها أن تَنتمي إلى شبكة المعلومات نفسها. إذن، يُمكن لتكنولوجيا المعلومات أن تُساعد بعض الشركات الكبيرة جدًّا، ولكن يُمكنها أن تمنح مزايا الحجم الكبير لشركاتٍ أخرى حتى وإن ظلَّت هذه الشركات صغيرة الحجم.

الشركات والقيود الخاصة ببيئتها

لنعود مرة أخرى إلى السؤال الذي بدأ به هذا الفصل: ما الذي يَجعل بعض الأنشطة مناسبةً للشركات الضخمة والبعض الآخر مناسِبًا للشَّركات الصغيرة؟ وهل يُمكننا فعلًا تفسير نمو الشركات الضخمة بأنه ظاهرة مُتجذِّرة في قوام الحياة الاقتصادية؟ هل لا يعدو الأمر أن يكون مجرَّد صدفةٍ تستند إلى نمطٍ أو ميثاق أو سعي للسلطة من جانب أولئك الذين يُديرون تلك الشركات؟ لن يُنكر سوى قلَّة ممَّن رسَّخوا أقدامهم داخل مؤسسةٍ حديثة أن السعي للسلطة دافع واضح يُشكل الحياة اليومية للأفراد. فالمديرون التنفيذيون مُتعطِّشون إلى قيادة الآخرين وفي الوقت نفسه يتملَّكُهم الشعور بالاستياء من الإهانات التي تأتي من الخضوع لأوامر الآخرين؛ وأحيانًا يعيش صغار المُوظَّفين طيلةَ حياتهم في إذعانٍ مُستمر لمُدرائهم. وتُوجَد أدلة وافرة من دراساتٍ أكثر منهجية، وكذلك من تقارير صحفية، على أن صفقات الاستحواذ والدمج المُبرَمة في قاعة اجتماعات مجلس إدارة الشركة يُمكن أن تكون ناتجة عن الجشع والغرور والرغبة في السلطة، والرغبة في إدارة شركةٍ ضخمة (بصرف النظر عما إذا كانت فعَّالة أم لا)، والرغبة القوية؛ لأن تكون رقم واحد، والحاجة إلى الانتماء إلى ما يُطلِق عليه رجال المصارف الاستثمارية «مؤسسة استثمار فائقة السمعة.» لا يَنبغي لأيٍّ من هذا أن يُدهِش أي أحد يألف المادة الخام للطبيعة البشرية. ولكن رغم أن لا شيء من هذا يُثير الدهشة، فإن مما يَبعث على الدهشة أن لا شيء من ذلك يُمكن أن يُشكِّل أهمية بالغة. قد تكون المشاعر المسرحية المُتكلَّفة هي التي تبُوح بالقصة، ولكنَّ قوى اقتصادية أكبر هي التي تكتب نَصَّها.

ما السبب؟ لطالَما كان الجشع والغرور والرغبة في السلطة دافعًا للبشرية في السعي نحو غزو البيئة الطبيعية، بَيْد أن ذلك الغزو يبوء بالفشل عادةً. وأولئك الذين نجحُوا لم يكونُوا بالضرورة أكثر جشعًا أو أشدَّ غرورًا ولا رغبوا في السلطة بحماسٍ أكبر من أولئك الذين فشلُوا. وإنما ببساطةٍ كانوا أكثر نجاحًا في تطويع تلك الدوافع لتتناسَب مع إمكانيات البيئة، بما في ذلك البيئة المُبتكَرة نتيجة لدوافع الآخَرين. والأمر نفسه يَنطبِق على عالم الأعمال التجارية. فليسَت الرغبة في إدارة شركة كبيرة هي ما يَجعلك قادرًا على القيام بذلك. وليس التعطُّش إلى السيطرة على منافس، أو إلى تنويع نشاطك التجاري داخل أسواق جديدة، هو ما يجعل هذه الاستراتيجيَّات قابلة للتطبيق. كما هي الحال في الطبيعة، لا بدَّ أن تَتناسَب الاستراتيجيات مع الفُرَص التي تُتيحها البيئة. قد تُثير الحيوانات الضخمة التي تجوب إقليم سيرينيتي في إفريقيا إعجاب المُنافسين أو علماء الحيوان أو السائحين؛ ولكنها أيضًا تستهلك كمياتٍ مهولة من الطاقة، ولا يستطيع حيوان ضخم أن يبقى على قيد الحياة ما لم تُوفِّر بيئته له الغذاء. ولهذا السبب، قلَّة قليلة جدًّا من الحيوانات في العالم، التي نجحت في التكيُّف، ذات حجم كبير جدًّا؛ ولهذا السبب ثبت أن أضخم الحيوانات، مثل الديناصورات، كانت مُعرَّضة جدًّا للوقوع ضحيةً لخطر الاضطراب البيئي؛ ولهذا السبب نجد أن أكثر البيئات مواتاةً للحيوانات الضخمة هي تلك البيئات الموجودة في أوساط المُحيطات المُستقرَّة نسبيًّا. وعلى المنوال نفسه، تستهلك الشركات الكبرى كمياتٍ ضخمة من الموارد لمجرَّد أن تُواصِل العمل، ولا تستطيع شركة كبرى البقاء لوقتٍ طويل ما لم تكن بيئتها — مُلَّاكها ومُستهلكوها وحكومتها — توفر لها الغذاء. فالشركات التي حاولت أن تنمو أكثر مما ينبغي — مثل إنرون وفيفندي وورلدكوم وليمان براذرز — غالبًا ما تراجعَت عندما نضبت إمدادات التغذية.

أحيانًا، تبقى الشركات، على الرغم من فشلها الذريع في التكيُّف مع بيئتها، قائمةً من خلال إيجاد داعِمين مُستقلِّين ذوي نفوذ. ففي منتصَف تسعينيات القرن العشرين، بعد مرور بضع سنوات على انهيار الشيوعية، زرتُ مصنعًا بالقُرب من العاصمة الأوكرانية، كييف. كنت مُعتادًا على زيارة شركات كانت تصنع مجموعة واسعة من المنتَجات؛ ومع ذلك فقد أذهلتني هذه الشركة. كانت تصنع معدات إرساء للمَحطَّات الفضائية. وكانت تصنع أثاث مطابخ خشبية. وكانت تُنتج مَحاقِن طبية بلاستيكية. وكانت تصنع ألعاب فيديو. وكانت تصنع طائرات. وكانت تُنتج معدَّات تعدين. وكانت تصنع لوحات مفاتيح خاصة بأجهزة الكمبيوتر الشخصية. وكانت تصنع أدواتٍ دقيقة. لم يكن أي من هذه الأنشطة معتمدًا على أي رؤية مُتَّسقة، ولا أدنى فكرة عما إذا كان ثمَّة أوجه تكامُل مُتأصِّلة بين المهارات اللازمة لتصنيع أدواتٍ دقيقة وتلك اللازمة لتصنيع أثاث خشبي. كانت الشركة تصنع أي شيء يروق لفريقها المكوَّن من ١٢٠٠ مخترع عبقري، بصرْف النظر عما إذا كان يُوجَد أي أحد يرغب في شراء هذا المنتج. لقد ظلَّت الشركة قائمة لأنَّ مديرَها كان لديه جهات اتصال ممتازة داخل وزارة الصناعة التي كانت على مدار عدة عقود على استعداد لإهدار المال على مشاريع لا جدوى منها.

بصُحبة المدير والعديد من زملائه، استمتعتُ بمناقشةٍ مطولة لنظريات عالِم الاقتصاد جون سوتون، الذي فعل الكثير — أكثر من أي باحث مُعاصر آخر — لتوثيق القوى المختلفة التي تجعل بعض الشركات تنمو والبعض الآخر يظلُّ صغيرًا.34 قال المدير: «قطعًا من المنطقي لنا أن نُبقيَ على قسم تصنيع الطائرات إلى جانب قسم تصنيع الأدوات الدقيقة. فهما على أيِّ حال يَندرِجان تحت بند التكنولوجيا المتطوِّرة.» كان من شأن سوتون أن يُشير إلى أن هذا الأمر لا يزيد في منطقيته عن افتتاح خياط من بوند ستريت، يصنع بِذلًا مُفصَّلة حسب المقاس، لمتجر في مدخل أحد متاجر ماركس آند سبنسر، على أساس أن «كل شيء يندرج تحت بند الملابس». حيث يتعيَّن على خياط بوند ستريت أن يتعامل مع القياسات والمتطلبات الفردية التي تختلف على نحو دقيق (أو غير دقيق للغاية) من عميل إلى آخر. أما سلسلة متاجر ماركس آند سبنسر فيُمكِن أن تتَّجه إلى الإنتاج بالجملة على نطاقٍ واسع، وتَستثمر في الإعلانات، وتخفض أسعارها، وتضع الكثير من المنتجات المتشابهة على الأرفف علمًا منها بأن الفوارق الدقيقة لا ينبغي أن تُشكل أهمية كبيرة، وأن المبالغ الكبيرة التي تُصرف على الاستراتيجية سيبررها اكتساب عدد كبير من العملاء الإضافيِّين الذين تجلبهم هذه الاستراتيجية. قد تبدو كلتا الاستراتيجيتَين منطقيتَين، بيد أنهما مختلفتان جدًّا عن بعضهما البعض، وعلى العملاء أن يعرفوا على أيهما يَحصُلون. إذا اشتريت بذلة من ماركس آند سبنسر، فقد أستطيع أن أطلب تعديل السروال بعض الشيء، ولكن إذا طلبت إجراء الكثير من التعديلات، فسيطلبون منِّي بكل أدبٍ التوجُّه إلى خياط. والأمر نفسه ينطبق على مجال الفضاء الجوي، الذي يميل إلى تصنيع الطائرات بأعدادٍ كبيرة من خلال إنفاق المال على مشكلة مُتعلِّقة بالتصميم (مثل كيفية نقل عدة مئات من الأشخاص لعدة مئات من الأميال بأقل تكلفة للوقود). وهذا يَختلف تمامًا عن الأدوات الدقيقة، التي هي عبارة عن أدوات مُصمَّمة حسب الطلب لتلبية الاحتياجات الدقيقة لعدد صغير من العملاء الفرديِّين. مُصنِّعُو الطائرات هم الثدييات الصيادة الضخمة في عالم الصناعة، بينما صنَّاع الأدوات الدقيقة بمثابة القوارض الصغيرة، الانتهازيِّين. ولا يستطيع أيٌّ منهما أن يظلَّ على قيد الحياة باتِّباع نفس النظام الغذائي الخاص بالآخر.

يُمكن ملاحظة تبايُنات مُماثلة في مختلف أنحاء العالم. كثيرًا ما عبَّر عمال الإغاثة والمسئولون الحكوميون في الكثير من الدول الفقيرة عن حالة ارتباك ويأس تجاه عجز المصارف المدعومة من الحكومة والخطط الائتمانية عن إزاحة المرابين التقليديين عن أماكنهم في الحياة القروية. بيد أن المرابين بمثابة قوارض صغيرة أيضًا؛ إذ يَستفيدون من الحصول على معلومات عن المُقترضين منهم بتفصيل أكثر مما يستطيع أي بنك، ويُعدِّلون استراتيجيتَهم، وشروطهم، وإمكانية إتاحة تمويلهم حسب احتياجات المُقترضين وظروفهم ونقاط ضعفهم. لدى البنوك الحديثة، بمكاتبها المُكيَّفة وسجلَّات الإقراض المُحَوسبة، مهارات جبارة؛ ولكنها بمثابة إحدى الثدييات الضخمة التي تشغلُ مكانةً بيئية مختلفة تمامًا. ولا يبدو أن أيًّا منهما على استعداد ليحلَّ محل الآخر مطلقًا.

أيضًا كشفت مُحادثاتي في أوكرانيا عن تشابهٍ مُدهِش بين عالَمَي السياسة والأعمال التجارية. تحت لواء الشيوعية، كانت الشركات الأوكرانية تُدار عبر شبكة خطوط استبدادية، تناسبَت مع أصولها السياسية القيصرية المُستبدة. ربما يكون المدير بذاته فردًا صالحًا أو فاسدًا، كادحًا أو مُلهمًا، ولكن ما كان يقوله (ولطالَما كان «رجلًا») كان قانونًا لشركته. على النقيض، الشركات في أمريكا أو أوروبا الغربية عبارة عن ائتلافات، نتاج لنظرية القرن الثامن عشر السياسية المُنادية بضوابط وتوازنات رقابية، والتي يرتكز عليها الدستور الأمريكي. وراء المخترع المُلهم يقف مُحاسِب يتساءل عما سيتكلَّفه المنتج، أو مدير تسويق يتساءل كيف سيَقتنِع أي شخص بشرائه، أو مدير شئون الموظفين يتساءل عن تأثيره على القوى العاملة. وهؤلاء بمثابة أصوات مُحبِطة يَسمعها المُفكر أو المخترع المبدع، وأحيانًا يكون من المُغري الاعتقاد بأن المجتمع الحديث سيكون أفضل حالًا بدونهم. قد ترى المُخترعين ورُوَّاد الأعمال كثيرًا على شاشات التليفزيون أو في أعمدة خطابات القراء في الصحف يتحسَّرُون على القيود الخادعة التي يضعها رجال المصارف والمحاسبون والبيروقراطيون والتي تعوقُهم عن المُضيِّ بإبداعهم إلى آفاقٍ مُلهمة حقًّا. وهم يستحقُّون نفس القدْر من التشكيك مثل الساسة الذين يتحسَّرُون على القيود التي يفرضها عليهم المُستشارون والبيروقراطيون والناخبون. ونظرة على الفوضى التي حدثَت داخل ذلك المصنع في مدينة كييف كافية لتبديد هذا الوهم.

لقد نتج كثير من أغرب إخفاقات الشركات في العصور الحديثة عن مُبدعين عظماء بدَّدوا جهودهم، وجزء من هذا يرجع إلى فشل آليات التقييد المعتادة للشركات الحديثة. وكما هي الحال مع القدرات الحسِّية الخاصة بالثدييات الضخمة والتي تُمكِّنها أن ترى أو تسمع أو تشمَّ الخطر قبل وصوله؛ ومن ثَمَّ ضبط الرغبة في التصرُّف بناءً على نزوات الشعور بالجوع أو الرغبة الجنسية، كذلك تُعتبر الضوابط والتوازنات الرقابية داخل المؤسَّسات الحديثة أدوات لاستشعار الكارثة قبل وقوعها؛ ومن ثَمَّ تقييد الرغبة في التصرف بناءً على نزوةٍ ما، حتى وإن كانت نزوة عظيمة وإبداعية. وعندما تبدأ الضوابط الداخلية للشركة في الفشل في أن تؤدي دورها، تكون أيامها معدودة بالتأكيد كحال تلك الثدييات الصيَّادة الضخمة التي تفقد حاسَّة الشم أو السمع. وكلما كان حجمها أكبر، كان نفاد الوقود اللازم لاحتياجاتها الأيضية اليومية أسرع.

ومن ثمَّ الإجابة عن السؤال الوارد في بداية هذا الفصل واضحة. أحيانًا تستطيع مجموعات من الغرباء أن تتعاون لأداء المهام الإنتاجية المعتادة للحياة الحديثة؛ ولكن لن تُهيمن المجموعات الكبيرة على المجموعات الصغيرة إلا حين يكون لديها استراتيجية أفضل تكيُّفًا مع بيئتها. فالقوة الغاشمة والطموح لا يَكفيان أبدًا. فقط حين تتطلَّب البيئة تعاونًا على نطاقٍ واسع، باستخدام مهاراتٍ يُمكن نقلها داخل المؤسَّسات من خلال التواصُل الشخصي على نحوٍ أكثر فعالية (و«بتكاليف تعاملات» أقل) من نقلها من خلال عمومية الأسواق وشبكات المعلومات، حينئذٍ ستتمتع المجموعات الكبيرة بميزة تصنيفية على المجموعات الصغيرة. وإلا ستسقط ضحية الشك المُتأصِّل بين الغرباء، والذي يرجع تاريخه إلى أصل نوعنا.

الشركات الحديثة ليست المؤسَّسات الوحيدة التي تُنسِّق تقسيم العمل خارج الأسواق. فالجمعيات الخيرية ومنظمات المافيا والهيئات الحكومية والكنائس والشبكات العرقية والجيوش جميعها تفعل شيئًا مُشابهًا تشابهًا واضحًا. كما رأينا في بداية هذا الفصل، الشركة الضخمة هي ابتكار حديث نسبيًّا، وقد حقَّقت نجاحًا لافتًا للنظر لا لشيء إلا لأنها أثبتت فعالية بالغة في ابتكار واستيعاب ونقل المعرفة والمهارة من شخصٍ لآخر. طيلة جانب كبير من التاريخ البشري منذ فجر الزراعة — أي تسعة آلاف وخمسمائة عام من العشرة آلاف عام الماضية تقريبًا — ظلَّ التحكُّم في المعرفة حقًّا مُقتصِرًا على الجنرالات والكهنة والحرفيِّين المهَرة (في الآونة الأخيرة). وكما سنرى في الفصل الرابع عشر، كان تحرُّر المعرفة من قبضة سيطرة هذه المجموعات هو ما أتاح أن يتَّخذ تقسيم العمل هذا الشكل المُعقَّد والثري والخطير في العالم المعاصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤