الفصل الرابع

كيف روَّضنا غرائز العنف؟

الحسابات الشخصية ومبدأ التبادُلية

كما هي الحال مع قرود الشمبانزي، يميل البشر إلى العنف إذا تيسر لهم الإفلات من العقوبة، ويصيروا مُسالِمين جدًّا عندما لا يُجدي العنف نفعًا. ومن ثَمَّ فالتفسير البسيط للتراجع الكبير في حالات العنف بالمجتمعات الإنسانية منذ فترة ما قبل التاريخ هو أننا تمكنَّا من التعاون بطرُقٍ مُتزايدة التطوُّر حتى صارت تسوية النزاعات بطرُق سلمية جذابة أكثر من اللجوء إلى العنف. بالطبع، هذا من شأنه أن يُعيدنا خطوةً إلى الوراء؛ لنطرح سؤالًا جديدًا: لماذا نجَحْنا في ترتيب المجتمع وفقًا لنموذجٍ أكثر تعاونًا عمومًا؟

بوسعنا أن نثقَ إلى حدٍّ كبير في أن أجدادنا تطوَّروا تدريجيًّا ليثقوا في أشخاصٍ مألوفين لا تربطهم بهم صِلة قرابة قبل أن يصِلوا إلى مرحلة الثقة في الغرباء. فحين يتوقَّع فردان أنهما سيلتقيان كثيرًا في المستقبَل، يكون لديهما دافع إضافي للوفاء بالاتفاقات؛ فالغشُّ قد يُحقِّق فائدةً على المدى القصير، ولكن من شأنه أن يُهدِّد إمكانية التعاون في المستقبل. وبشرط أن تكون فوائد التعاون المُستقبَلي كبيرةً ومؤكدة بدرجةٍ كافية، والمستقبل محل النظر ليس بعيدًا للغاية، ربما يُقاوم الأفراد إغراء الغش من أجل مكاسب قصيرة المدى. وعلى الأرجح، تطوَّرت هذه الميول التعاونية بطريقتَين أساسيَّتَين. أولًا: هذه الميول هي نتيجة ثانوية لتطوُّر الذكاء. ونظرًا إلى تطوُّر الذكاء الاجتماعي لدى البشر، استطاع الأفراد أن يَحسِبوا على نحوٍ متزايد فوائدَهم على المدى الطويل من الوفاء بنوعيةٍ معيَّنة من الاتفاقات بدلًا من خرقها، وتحديدًا تلك الاتفاقات مع الأفراد الذين كانوا يتوقَّعُون تكرار رؤيتهم مرةً أخرى في المستقبل القريب نسبيًّا والذين توقَّعُوا الاستفادة من مودَّتهم.

الطريقة الثانية، التي تطوَّرت بها تلك الميول التعاونية، جاءت من خلال انتقاء ما يُطلَق عليه «التبادُلية الصارمة»، أي الرغبة الغريزية في معاملة الآخرين مثلما يُعاملونك بالفعل (ويُطلق عليها التبادلية «الصارمة» لتمييزها عن نوعية التبادلية التي ربما تكون راجعة إلى حساباتٍ شخصية فحسب). فإذا أحسن الآخرون مُعاملتك، تُحسِن أنت معاملتهم بالمقابل؛ وإذا أساءوا إليك، تُسيء إليهم بدورك، بصرْف النظَر عمَّا إذا كنتَ تعتقِد أن هذا سيُفيدك بأيِّ شكلٍ من الأشكال أم لا. بالتأكيد العين بالعين، ولكن الحسنَةَ بالحسنة أيضًا.

كِلا هذين الدافعين للتعاون مهمَّان في تطور البشرية، وكلاهما يواصِل اليوم لعب دورٍ مُهم في الدافع البشري. ومن الوهلة الأولى، ربما يبدو التمييز بينهما أمرًا غير مُهم: ما الفارق الذي سيحدُث إذا كان الدافع للتعاون هو حسابات شخصية أم معاملة بالمِثل على نحوٍ غريزي، حين يكون الأشخاص الذين تتعامَل معهم هم أشخاصٌ تعاملتَ معهم في الماضي وتأمُل أن تُواصِل التعامُل معهم في المستقبل؟ وحتى إن كنت تعرف الفارق نظريًّا، فكيف يتسنَّى لك أن تعرفه عمليًّا؟ ولكن في الحقيقة التمييز أمرٌ مُهم؛ لأنه يُمهِّد السبيل إلى معرفة الكيفية التي تطوَّر بها البشر تدريجيًّا ليثقوا في أشخاصٍ غرباء عنهم تمامًا، أولئك الأشخاص الذين لم يلتقُوا بهم من قبل.

لقد أثبتت الدراسات، التي أُجريَت على السلوك التعاوني بين البشَر في العديد من السياقات المختلفة، بجلاءٍ أن التطلُّع إلى التعاون المستقبلي يلعب دورًا مُهمًّا في تعزيز التعاون في الوقت الحاضر. ومن المعروف أنَّ الأفراد يتعاونون أكثر حين يتفاعلون معًا على نحوٍ مُتكرِّر، وحين يكون لديهم الوسائل لمعرفة ما إذا كان الآخَرُون قد خدعوهم أم لا، وعندما تكون المكاسب المُتحقِّقة من التعاون كبيرة، مُقارنة بالعمل الفردي. وقد ثبتَتْ أهمية هذه العوامل في سياقاتٍ متنوِّعة مثل الاشتباكات العسكرية، والعناية بالبيئة، وفعالية تعامُل المؤسَّسات السياسية المحلية مع احتياجات السكان.1 ورغم ذلك، كان ثمَّة جدل كبير حول ما إذا كان لدى الناس أيضًا مَيل غريزي للتبادُلية الصارمة (استجابةً للطريقة التي عوملوا بها في الماضي بغضِّ النظَر عن احتمالات التعاون المُستقبلي). كان يُعتقَد أنه يستحيل فصل دافعٍ عن الآخر، حين تتضمَّن كل التعاملات البشرية تقريبًا انتقالًا سلسًا من الارتباطات السابقة إلى التوقعات المستقبلية.
أظهرت مجموعة من التجارب المعملية المُبتكرة التي أجراها أرنست فيهر وزملاؤه بجامعة زيورخ أن الأفراد الذين يتلقَّون معاملةً كريمة من آخرين لن يلتقوا بهم مُجدَّدًا عادةً ما يستجيبون بكرَمٍ في المقابل.2 على سبيل المثال، في تجربة كانت تُحاكي السلوك في أسواق العمل، لعب المشاركون إما دور العاملين أو الشركات؛ ووُضِعوا في أزواجٍ عشوائية بعضهم مع بعض دون الإفصاح عن الهوية (كان المُشاركون في التجربة طلابًا يُجرِّبون أجهزة كمبيوتر طرفية). كان بإمكان الشركات أن تختار دفع الحد الأدنى من الأجور أو أجرًا أعلى من الحدِّ الأدنى؛ وكان بإمكان العاملين أن يُحقِّقوا الحدَّ الأدنى من الاستثمار (المُقابل المالي ﻟﻠ «مجهود») أو مُستوًى أعلى من الحدِّ الأدنى. وبعد كل دور، كان يُعادُ تكوين أزواجٍ من المشاركين، ولم يعرِف أحد ما إذا كان المشاركون الذين جُمعَ بينهم على هيئة أزواج هم نفس المشاركين الذين جُمعَ بينهم من قبل أم لا.
ومع مضيِّ التجربة قدمًا، اتَّضح أنَّ الكثير من العاملين الذين تلقَّوا معاملةً سخيَّةً من جانب أصحاب العمل كان من المُرجَّح أن يُحقِّقوا مستوياتٍ عالية من الاستثمار. لم يُدِرَّ هذا الاستثمار عليهم أيَّ منفعة، حيث إنَّ الشركات التي شاركوا معها في المستقبل لم تكن تعرِف كيف تصرَّفوا سلفًا. ومن ثمَّ لا بدَّ أنَّ سلوكهم كان بسبب التعامُل بالمثل لا بسبب حساباتٍ شخصية. ومع ذلك، تعلَّمت الشركات بدورها تدريجيًّا الاستفادة من هذا؛ إذ كانت تكلفة دفع أجور عالية للعاملين تتضاءل أمام قيمة الاستثمار الإضافي الذي تَحصُل عليه كنتيجةٍ لذلك. ومن ثمَّ حقَّقت الشركات التي دفعت أجورًا عالية أرباحًا أكثر من تلك التي لم تدفع أُجورًا عالية؛ وهذه ليست وجهة النظر الرأسمالية التقليدية.3 لا تَزال ثمة مسائل غير محسومة بخصوص إمكانية تطبيق النتائج، المُستخلَصة في ظروفٍ معمَلية، على نطاقٍ أوسع، إلا أنَّ النتائج تكرَّرت منذئذٍ مرات كثيرة على أيدي باحثين آخرين لدرجة أنه لم يَعُد ثمة وجود لأيِّ شكوكٍ جدية بخصوص صحتها (وهي ليست بسبب الغش أو سوء التفاهم من جانب الطلاب، مثلًا، كما أن أموالًا حقيقية على المحك). ولا تُشير هذه النتائج فحسب إلى أن ثقافات التعاون قد تستمر من خلال التبادلية الصارمة وإنما تُشير أيضًا إلى أن الجماعات التي تطوَّرت فيها العادات التعاونية تُحقِّق نجاحًا اقتصاديًّا أكثر من تلك الجماعات التي يسود فيها السلوك النفعي الأضيق نطاقًا. ومن المُفارقات أن هامش الربح الضئيل جدًّا قد لا يكون سيئًا على مستوى الشخص فحسْب وإنما على مستوى المُحصلة النهائية أيضًا.
أيضًا أثبتت تجارب مُشابهة، أجراها فيهر وآخرون، نزعةً منهجية لدى الأفراد لردِّ السلوك الفظِّ بمثيلِه حتَّى حين لا يُحقِّق هذا أيَّ فائدةٍ لهم.4 ففي إحدى التجارب مع مشاركَين اثنين، طُلب من الأول أن يعرض اقتسام بيتزا بينهما، بينما كان بإمكان الثاني ببساطة إما قبول العرض أو رفضه (يُعرف هذا باسم لعبة الإنذار). وفي حالة الرفض، لا يحصُل أيٌّ منهما على شيء. مرة أخرى، تكوَّنت أزواج عشوائية وبدون الإفصاح عن الهوية، على أساس مشاركة لمرةٍ واحدة فقط، بحيث لم يكن بالإمكان تحقيق فائدة مُحتمَلة من السلوك الحالي من ناحية التأثير على التعاون المُستقبَلي. اتَّضح أن المشارك الثاني كان يرفض العرض على نحوٍ مُنتظم إذا ظنَّ أنه مُنح جزءًا ضئيلًا جدًّا، حتى وإن كان رفض العرض سيعني أنه لن يحصل على أي شيءٍ بتاتًا. ويُعرف مثل هذا السلوك أحيانًا بمبدأ «هدم المعبد على رءوس الجميع» — وهو وصفٌ يدلُّ على أنه تصرُّف غير عقلاني. وسواء أكان عقلانيًّا أم لا، فهو أمر شائع بكلِّ وضوح في الطبيعة البشرية. وإذ كان المشارك الأول يعرف ذلك، كان من المفترض أن يحرص على منح المشارك الثاني ما يكفي لتقليل احتمالات الرفض، رغم أنَّ هذا نادرًا ما كان ينطوي على قسمةٍ مُتساوية بينهما، لا سيما إذا كان المبلغ المالي كبيرًا.
غير أنَّ مجموعةً أخرى من التجارب التي أُجريت على الجماعات تُشير إلى أن وجود أصحاب سلوك التبادلية الصارمة (الذين لا يتعاملون بالمثل مع السلوك التعاوني فحسْب وإنما يساعدون أيضًا في مُعاقبة الآخرين على عدَم تعاونهم، حتى وإن جاء ذلك على حسابهم أحيانًا)، ربما يكون له أهمية بالغة لضمان ترسيخ العادات التعاونية. عندما يكون الدافع الوحيد للتعاون هو سخاء الآخرين سابقًا وعندما لا تُوجَد عقوبات للغش، قد تتفسَّخ تدريجيًّا فكرة التعاون المبدئي بين الجماعات مع خضوع الأفراد للإغراء. ولكن عندما يكون معلومًا أن بوسع الأطراف المُتضرِّرة أن تنتقم، وستفعل ذلك حتى ولو على حساب تكلفةٍ شخصية، فإن وقوع الغش في التجارب يُظْهِر تراجُعًا حادًّا.5
أصبح سلوك التبادُلية الصارمة موثقًا على نحوٍ مقنع في مجموعات واسعة النطاق من الأشخاص مواضيع التجريب وعبر مجموعةٍ واسعة النطاق من المجتمعات الإنسانية.6 وثمة أدلَّة متزايدة على دور الآليات العصبية المُختلفة في التأثير على السلوك الذي يتَّسم بالتبادلية الصارمة. على سبيل المثال، يميل المشاركون، الذين تُتاح لهم فرصة معاقبة الآخرين على ما يعتبرونه سلوكًا «مجحفًا»، إلى أن يكون لديهم نشاطٌ قوي جدًّا في منطقة بالمخ تُعرَف باسم النَّواة الذَّنَبِيَّة، المرتبطة بالمكافآت المُمتعة (ومن المعروف أنها تنشط إثر تناول مواد مثل الكوكايين والنيكوتين). وهذا يُشير إلى أنه حتى إذا كان سلوك التبادلية الصارمة لا يُحقِّق مصلحة شخصية من ناحية الحصول على مكاسب اقتصادية للمشاركين، فإنه ربما يكون مُجديًا على الصعيد النفسي. كما يحدُث أيضًا نشاط قوي في قشرة الفصِّ الجبهي حين يعرف المشاركون أن العقاب سيكون مُكلفًا لهم بصفةٍ شخصية، ممَّا يُوحي بأن المخ يُفاضل، بطريقةٍ تتَّسم بالتكامل، بين تكاليف العقاب ومكافآته.7 من المهم، مع ذلك، ملاحظة أن جميع المشاركين لا يتصرفون بهذه الطريقة؛ فبعضهم فقط يُطبِّق سلوك التبادلية الصارمة، وبعضهم فقط، كما سنرى فيما يلي، مُضطرٌّ إلى ذلك من أجل الحفاظ على التعاون في مجموعةٍ اجتماعية.
لماذا تُعَدُّ التبادُلية مُهمة من أجل القدرة على الثقة في الغرباء؟ أولًا: هي تُفسِّر لماذا لا تتفكَّك الشبكة المُعقَّدة للثقة، التي تُشكِّل أساسًا للحياة الاجتماعية الحديثة، بمجرد أن يُهدِّد أشخاص عديمو الضمير متانتها. يصِف عالِم الاقتصاد كاوشيك باسو مشكلةً بسيطة.8 افترض أنك تستقل سيارةَ أُجرة في مدينةٍ كبيرة غريبة عنك، وحين وصلتَ إلى وجهتك دفعتَ إلى السائق المبلغ الذي تَدين له به. لقد استفدت من استقلال السيارة ولن تلتقيَ بالسائق مرةً أخرى مُطلقًا، فلماذا تُبالي؟ (هذا النوع من الأسئلة هو الذي يُكْسِب علماء الاقتصاد سمعةً سيئة أحيانًا) (ليس فقط علماء الاقتصاد وحدَهم: إذ يحكي ويل ديورانت في كتاب «قصة الفلسفة» أنَّ الفيلسوف شوبنهاور اعتاد أن يترك بقشيشًا على طاولة المطعم في بداية تناول الوجبة ليُشجِّع النادلين، ثم يأخُذَه في النهاية).9 الإجابة، على الأرجح، هي أنك تفعل ذلك وحسْب؛ إذ يُراودُك إحساسٌ غريزي للمعاملة بالمِثل، إما على هيئة رغبةٍ في أن تتصرَّف بطريقةٍ لائقة مع من تصرَّفَ معك بطريقة لائقة توًّا، أو لأنك تؤمن بأنَّ عليك واجبًا أخلاقيًّا يدفعك للقيام بذلك (والأمران لا يختلفان كثيرًا عن بعضهما؛ لأنه يمكن وصف الأخير بأنه رغبة في التصرُّف «بطريقة صائبة» تجاه من تصرَّفَ نحوك بالطريقة نفسها). ولكن الآن افترض أنه لا يراودك ذلك الإحساس، وبدلًا من ذلك تسأل نفسك: «ما الفائدة التي سأجنيها؟» ستفكر على الأرجح في أنك إن رفضتَ أن تدفع الأجرة، فسيُثير السائق ضجةً كبيرة، وعلى الأقل سيُحرجك أمام المارة، وربما يُورِّطك في شجار، وقد يقودك إلى مشكلةٍ مع الشرطة. لا يُوجَد ما يستحقُّ العناء من أجل هذا المبلغ الصغير. إذن يبدو أنك لست مُضطرًّا إلى اعتبار سلوك التبادُلية الصارمة دافعًا؛ فالمصلحة الشخصية المَحضة كافية لتفسير سلوكك.

ولكن مهلًا! بوسع السائق أن يُثير ضجة حتى وإن «دفعتَ أُجرته»، وأن يُهدِّدك بالإحراج، وبالشجار، وبالشرطة لكي تدفع له أُجرته مرةً ثانية. ولن يعرِف أيٌّ من الأطراف الأخرى حقيقة الموقف. ولن يراك السائق مرةً أخرى أبدًا، إذن ما الذي يمنعه من محاولة إجبارك على دفع الأجرة مرةً ثانية؟ ربما تكون الإجابة، مرةً أخرى، أن السائق مدفوع بسلوك التبادُلية الصارمة؛ أو ربما يكون فقط قد خمَّن أنك سترُدَّ بعنفٍ إن حاول خداعك بهذه الطريقة. ولكن ما الذي يجعله يتوقَّع منك الردَّ بعنف؟ ومع ذلك، في مرحلةٍ لاحقة، سنمضي قُدمًا لنُثبت أن سلوكك أو سلوكه هما مجرد نتيجة مُترتبة على معرفةٍ مُستنيرة بأبعاد المصلحة الشخصية، فعند مرحلةٍ مُعينة لا يزال علينا أن نقبل حقيقة أن الناس، إذا شعروا بالخداع، يتصرَّفون بطريقةٍ مختلفة عما يفعلون إذا لم يشعروا بذلك. ونظرًا لأن أحدًا لم يلاحظ التعامل الذي حدث بينكما، لا يُمكن أن تفسِّر آلية التنفيذ المُتضمَّنة لأطرافٍ خارجية السببَ وراء تأثير ذلك التعامل على طريقة تصرُّفك لاحقًا.

حتى حين تلعب آليات التنفيذ الخارجية (مثل المحاكم) دورًا في تقوية شبكة الثقة، فإن سلوك التبادُلية الصارمة هو الركيزة التي تجعل هذه الآليات ذات مصداقية. لماذا يبذُل القاضي قصارى جهده ليحكُم في القضية بناءً على حيثياتها بدلًا من الحُكم ببساطة لصالح من يستطيع أن يدفع له أكثر؟ أعود وأقول إنه ربما يفعل القاضي ذلك، أو ربما يختار مصلحته الشخصية، بحجَّة أنه إذا ما قَبِل رشوة، فإنه حتمًا سيتحمَّل عواقبها. ولكن ما الذي يجعله يُفكر بهذه الطريقة، إلا إذا تصرَّف أناس آخرون (أولئك الذين يُبلِّغون عن تقاضيه رشوة، وزملاؤه الذين يُحقِّقون في الادِّعاءات) أيضًا بطرُقٍ تراعي الحقائق الجوهرية الخاصة بالقضية؟ ويمكن لكل شخصٍ في الشبكة، ممن يحسبون الأمور بناءً على المصلحة الشخصية، أن يفعل ذلك اعتمادًا فقط على افتراض أنَّ شخصًا آخر، في مكانٍ ما، لن يتصرَّف تبعًا للمصلحة الشخصية وحدَها.

لا تزال الآليات الرسمية لتنفيذ الاتفاقات بحاجةٍ إلى الاستفادة من الميول الغريزية والعفوية لردِّ الإحسان بالإحسان والإساءة بالانتقام، ما يُمكن أن تفعله هذه الآليات، مع ذلك، هو ضمان أن يكون للقليل من سلوك التبادُلية الصارمة تأثير كبير. تعتمد الحياة الاجتماعية الحديثة على عددٍ كبير من الاتفاقات البارعة لتعزيز سلوك التبادلية الصارمة إلى جانب المصلحة الشخصية. فعندما نلتقي بالغرباء ونتعامل معهم، لا نحتاج دومًا إلى أن نسأل أنفسنا أسئلةً لا حصر لها عن جدارتهم بالثقة في ذاتهم. ما دامت تُوجَد آليات تنفيذ، وما دام ثمَّة فرصة جيدة بما فيه الكفاية لوجود شخصٍ جدير بالثقة في ذاته في مكانٍ ما، فربما لسنا بحاجةٍ للقلق حيال ما إذا كان سلوك الغريب الواقف عند باب بيتنا أو الواقف أمام صندوق الدفع بالمتجر نابعًا من مبدأ التبادلية أم بدافعٍ من المصلحة الشخصية. فأيٌّ منهما سيُؤدِّي الغرَض المطلوب.10

لكن الأسئلة التي قد تبدو مُتشكِّكة في مجتمعٍ مستقر وجيِّد التنظيم بدرجة معقولة ربما تكون منطقيةً جدًّا بل ومهمةً في مجتمع يتَّسِم بالفقر والعنف. كان سلوك التبادلية الصارمة يشكل أيضًا أهمية كبرى في تاريخ البشرية؛ لأنه مَكَّن جماعات الصيد وجمع الثمار من اتخاذ الخطوات الحذرة الأولى تجاه التعامل مع الغرباء (حدثت تلك التعاملات، كما رأينا، قبل الاعتماد على الزراعة). من المؤكد أن بضاعة التاجر الجوال، الذي تعامَل لأول مرة مع جماعة مُنعزلة دافعها الوحيد هو المصلحة الشخصية، قد تعرَّضت للسرقة وكان من حُسن حظه أن ينجوَ بحياته. على أيِّ حال، لم يكن من الممكن للجماعة أن تَستنتج أن تقديم بضائع له في المقابل قد يُحقِّق فوائد على المدى البعيد؛ لأنه لم يكن لديها أي سبب يجعلها تتوقَّع مَجيئه مرةً أخرى في القريب العاجل، ناهيك عن أن يحدُث ذلك على نحوٍ مُتكرِّر، بالنظر إلى أنَّ هذه كانت المرة الأولى التي تلتقي فيها الجماعة به. من المؤكد أن سلوك التبادلية الصارمة، في عصور ما قبل التاريخ، هو ما أوجد التوازن بين التوجُّه العدائي تجاه الغرباء والاستعداد الحذر للتعامل معهم. غالبًا ما سيُقابَل ذلك الإقبال الشديد على الصداقة بالخيانة؛ مثلما اكتشف ذلك، بتكلفة رهيبة، كثيرٌ من الأمريكيين الأصليين الذين تعاملوا مع الزوَّار الأوربيين الأوائل. إلا أن حالتهم، مع كونها مأساوية، لم تُحْدِث في النهاية فارقًا لمستقبل المجتمع الإنساني مقارنة بالعكس؛ أي اكتشاف أن الرغبة في الثقة يمكن أن تُحقِّق مكاسب مُهمة لكِلا الطرفين. ولولا ذلك، ما كان بإمكان المجتمعات الحديثة أن تتطور مُطلقًا.

تسليط ضوء جديد على عملية التحضر؟

المعاملة الصارمة بالمِثل هي عاطفة، يُحفِّزها سلوك الآخرين. ربما من الأجدر أن ندعوها زمرةً من العواطف، وتحديدًا تلك التي تدفعنا نحو معاملة الآخرين بنفس الطريقة التي عاملونا بها في السابق. فحياتنا تتأثر بعواطف كثيرة، تشمل الغضب والحنين والحقد والحنان والغيرة والاشمئزاز والوله والكآبة والسخط والشهوة والإحراج والحسد والرهبة والحزن والسرور. وليس كل هذه الكلمات مصطلحات يستخدمها علماء النفس، لكن جميعها يشير إلى حالاتٍ ذهنية يمكن تمييزها لا نُحسِن فيها دومًا تقدير مصالحنا الفُضلى الراهنة. ولهذا السبب جزئيًّا، تمتلك الأعراف الفكرية الغربية تاريخًا طويلًا من التعامُل مع العواطف بعين الشك، باعتبارها أمرًا يجب على المنطق أن يكبته. إلا أنَّ الأبحاث الحديثة تُشير إلى أن هذا خطأ أخطر مما يُدركه أولئك الذين يخرجون من حينٍ لآخر عن تلك الأعراف.

وجدت الأعراف أحد أقوى مصطلحاتها الحديثة في أعمال عالِم الاجتماع الألماني نوربيرت إلياس، الذي نُشر أهم كتبه، «عملية التحضُّر»، باللغة الألمانية لأول مرة في عام ١٩٣٩، لكنه لم يكن له تأثير حتى إعادة نشره وترجمته إلى الإنجليزية بعد ثلاثين عامًا.11 ذهب إلياس إلى أن تراجُع العنف بين الأفراد في المجتمعات الأوروبية في فترة ما بعد العصور الوسطى كان جزءًا من تحوُّلٍ أعمق كان له سببان. كان السبب الأول هو التأثير المتزايد لعددٍ من المؤسَّسات على دوافع السلوك الفردي المُنظَّم؛ مؤسسات مثل المحاكم والجيوش والشركات. والسبب الثاني كان التمدُّد التدريجي لمُثُلٍ عُليا معينة خاصة بالسلوك؛ مُثُل عُليا مثل ضبط النفس والحصافة وحُسن الخلق، بدايةً من طبقات المجتمع العُليا وصولًا إلى طبقات المجتمع الدنيا. وكانت نتيجة هذين الاتجاهين هي أن الحصافة تفوَّقت على الشرَف من ناحية التأثير على السلوك. وتراجعت أهمية الولاء إلى الأقارب تدريجيًّا أمام معايير النزاهة (في مجال إقامة العدالة مثلًا). أصبح يُنظر إلى المنطق باعتباره أمرًا أكثر استحقاقًا للثناء من العاطفة، وإلى العدالة باعتبارها أمرًا له أولوية على الانتقام.
لقد خضعت عدة جوانب من نظرية إلياس للنقد بالتفصيل. على سبيل المثال: زعم عالم الأعراق والأنثروبولوجيا الثقافية الألماني هانز بيتر دوير أن إلياس قد قلَّل من قدْر نطاق تأثير ورُقيِّ القواعد التنظيمية للسلوك الاجتماعي التي كان معمولًا بها في أوروبا منذ فترة طويلة قبل العصور الوسطى.12 كما أن الفكرة القائلة بأن مهمَّة العقل هي السيطرة على الانفعالات الجسدية غير العقلانية هي فكرة غير حديثة؛ فهي تعود على الأقل إلى عصر نظرية أفلاطون عن الروح المذكورة في كتابه «الجمهورية» بل حتى إلى الفيثاغوريين من قبله. لم يُنكر إلياس أيًّا من ذلك؛ وإنما كان التساؤل المطروح للنقاش يتعلَّق بما إذا كانت تلك القواعد التنظيمية قد صارت أكثر شمولًا وفعالية منذ الفترة الأولى المُبكِّرة من العصر الحديث بأوروبا. أشارت الأدلة المُتراكمة على تراجع مستويات العنف بين الأفراد إشارةً قوية إلى أن الإجابة عن هذا التساؤل كانت بالإيجاب (كما أكَّد مانويل إيزنر في بحثه حول مُعدلات جرائم القتل)، وهكذا صارت فرضية إلياس ذات تأثيرٍ هائل. فقد وضعت إطارًا للنقاش الدائر حول الدور النِّسبي الذي لعبته القيود المؤسَّسية والمُثُل العُليا للسلوك على أجيالٍ من الباحثين الذين ليسوا بالضرورة مُدركين إدراكًا مباشرًا لتأثير إلياس. على سبيل المثال، ذهب جريجوري كلارك في كتابه «وداعًا للهبات» إلى أن الثورة الصناعية كانت ناتجةً عن تحوُّلٍ في التوجُّهات نحو العمل والادخار والرُّشد الاقتصادي، وهو تحوُّل ناجم عن النجاح الإنتاجي المتزايد للعائلات الميسورة اقتصاديًّا، والتي نشرت تدريجيًّا القيم، التي تُشكِّل أساس نجاحها، على نطاقٍ أوسع عبر النظام الاجتماعي. ويَمضي في مُعارضته لأولئك الذين قد يستشهدون بالتأثير الذي أحدثته المؤسَّسات الأكثر تعقيدًا؛ فيكتب أن: «بحلول عام ١٢٠٠ كانت مجتمعات مثل إنجلترا قد حظيَت بالفعل بجميع الشروط المؤسسية اللازمة للنمو الاقتصادي التي أقرَّها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.» ويُشير إلى أنه، بناءً على ذلك، ما كان يَنْقُص تلك المجتمَعات هو القيم والتوجُّهات والمُعتقَدات.13
ولقد طُرحَت نقاشات أخرى يبدو أنها تدعم وجهة نظر إلياس. فقد ذهب آزار جات إلى أن الحروب صارت أقل إغراءً ما أإن حَقَّق البديل، أي السلام، ازدهارًا حقيقيًّا. ولكي يَحدث ذلك، كان يتعيَّن على العالم الفرار من المنطق المالتوسي الذي يقول بأنَّ الازدهار المؤقت قاد إلى مجرد زيادة في النمو السكاني ولم يُحقِّق أي مكاسب حقيقية للسكان على المدى الطويل.14 ولكن ما إن حدث ذلك، حتى قدَّم دافعًا عقلانيًّا للمجتمَعات لتنظم نفسها مما أدَّى إلى تقلص التأثير المدمر للعنف الفردي إلى الحد الأدنى.

ولا يُمكن إنكار أنَّ ذلك العنف قد تراجَعَ تراجُعًا مذهلًا منذ عصور ما قبل التاريخ، كما رأينا من قبل. إلا أن وجهة نظر إلياس، القائلة بأن هذا حدثَ لأن العقل «حلَّ محل» العاطفة تدريجيًّا في السلوك الخاص بالحياة البشرية، تبدو خاطئة. ولقد تبلوَرَت، في السنوات الأخيرة، وجهة نظرٍ بديلة ترى أن العقل لا يُنظِّم الحياة الاجتماعية للبشر بالاستعاضة عن العاطفة بل «بتسخيرها». وإليك السبب.

تُذكِّرنا قصة كاوشيك باسو عن سائق السيارة الأجرة، التي ذكَرناها في الفصل الثالث، أن الثقة لا يُمكن أن تكون فقط نتيجةً لسلوكٍ يسعى إلى تحقيق المصلحة الشخصية في ظلِّ وجود مؤسسات رسمية لإنفاذ القانون مثل الشُّرطة والمحاكم. ونظريًّا، هذا قد يحدث شريطة أن يكون سلوك الجميع مُتسمًا بالشفافية التامَّة أمام الآخرين. حينئذ تُحقِّق الثقة ما يُطلق عليه واضعو نظرية الألعاب نقطة تَعادُل السلوك الاجتماعي، التي يكون فيها الأفراد جديرين بالثِّقة لأنهم يخشون العقاب المفروض من قِبَل الآخرين إن خانوا تلك الثقة، بينما سيُعاقبهم أولئك الآخرون خشية أن يُعاقَبوا بدَورِهم، وهلمَّ جرًّا. ولقد ذهب بعض الباحثين إلى أن هكذا بالضبط بدأ التعاون في الماضي بل وهكذا هو مُستمر اليوم. على سبيل المثال، ذهب واضع نظرية الألعاب كين بينمور إلى أن السبب وراء اهتمام الأبناء بآبائهم كبار السن هو «أنهم سيقعون تحت طائلة اللَّوم من قِبَل مجتمعِهم إن فشلوا في أداء الدور المُكلفين به بموجب العقد الاجتماعي.»15 ويرى أن المراقبة المُتبادَلة لطالَما كانت فعَّالة بالدرجة الكافية في المُجتمَعات الإنسانية منذ عصور ما قبل التاريخ للحفاظ على الثِّقة في موضعها الصحيح أغلب الوقت.
ورغم ذلك، تُذَكِّرنا قصة السيارة الأجرة بأنه ما دامت تُوجَد بعض التفاعلات التي لا تتَّسم بالشفافية التامة أمام الآخرين، فإن الأمر يقتضي أن يتصرَّف شخص ما في هذه المجموعة وفقًا لسلوك التبادُلية الصارمة؛ وإلا لن نجد أحدًا لديه دافع المصلحة الشخصية المحضة للتعاون في مثل هذه السياقات بتاتًا. ولقد برهن هربرت جينتيس على نحوٍ مُقنع على أنه لو اهتمَّ الجميع بالمصلحة الشخصية فحسب، فإن أيَّ خلل، ولو ضئيل في القدرة على ملاحظة سلوك الآخرين، من شأنه أن يقود إلى انهيارٍ تامٍّ لمنظومة التعاون بين الجماعات حتى تلك الجماعات ذات الحجم الصغير جدًّا.16 ومن ثمَّ لا يُمكن أن يَبقى السارقون إلا تحت سيطرة قوات شُرطة أمينة، ولا يُمكِن أن تبقى الشرطة أمينةً إلا بيَقَظة المواطنين، ولا يُمكِن أن يبقى المواطنون يَقِظين إلا من خلال المزيد من اليقظة الدائمة من جانب جيرانهم، وهلمَّ جرًّا. وفي النهاية، سيعاقِب الجميع بعضهم بعضًا طوال الوقت بناءً على تصوُّرٍ خاطئ لانتهاكات في قاعدة اليقظة المتبادلة، وهو ما يُمكن أن ندعوه في بعض روايات أدب المدينة الفاسدة بمُتلازمة السيطرة السويسرية المبالَغ فيها.

هذه مُشكلة خطيرة تُواجِهها أيُّ محاولةٍ لتفسير نشأة التعاون على أساس حسابات المصالح وحدها، حتى في جماعات الصيد وجمع الثمار. صحيح أنه، على عكس المجتمَعات المعاصرة، كان من شأن مُعظَم أفراد مجتمع الصيد والجمع أن يتعامَلُوا مُعظَم الوقت مع أفرادٍ يتوقَّعون رؤيتهم مرةً أخرى، حتى وإن لم يكن هؤلاء من أقاربهم. مع ذلك، قد يجد أناسٌ كثيرون أنفسهم كثيرًا وحدَهم وبعيدًا عن الأنظار، وفي ظلِّ ظروف تُحقِّق فيها خيانة الجماعة مكاسب كبرى. كان من شأن ظروف بيئة الصيد والجمع، التي كانت بيئةً غير مُستقرَّة ولم يكن ممكنًا باستمرار التنبؤ فيها بمكان الصيد والغذاء النباتي والمجهود اللازم لتأمينه، أن تجعل ذلك أمرًا محتومًا؛ إذ كان من شأن جماعاتٍ صغيرة أن تخرج إلى الغابة، وتتفرَّق، وتتجمَّع مرةً أخرى؛ فكان يُمكن أن يتوجَّه بعض الأفراد في اتجاهاتٍ متنوعة ليمنعوا الفريسة من الهرَب، وهكذا. فإذا وجد فردٌ مخزونًا من العسل أو التوت كان يُمكنه بسهولةٍ أن يأكُل جزءًا منه ويُخبئ الباقي دون أن يُخبر الآخرين. ولكن لو كانت الخيانة سهلة، لانتشَرَ قطعًا الشكُّ والانتقام المغلوط.

غير أن القليل من سلوك التبادلية الصارمة كان من شأنه أن يكون كافيًا لجعل التعاون أمرًا جذابًا، حتى (أو لا سيما) لأولئك الذين لم يكونوا يتعاملون بهذا المبدأ. وحتى الساعون وراء المصلحة الشخصية المحضة يتوقَّعُون ردود أفعال الآخرين ممَّن يَتبعون مبدأ التبادُلية. ومن المُدهش أن تُلاحظ كيف أن مُعظَم النار من مُستصغَر الشرر. في الواقع، بالنظر إلى وجود ولو قلَّة من مُتبعي مبدأ التبادلية، تُصبِح المصلحة الشخصية لبقية رفقائهم في المواطنة قوةً دافعة لصالح الثقة؛ لا ضدَّها. وما يراه البعض على أنه حسابات شخصية فاترة وقابلة للتنبؤ، يصير فضيلة مهمَّة. كما يقول سكوبي بطل رواية «جوهر المشكلة» لجراهام جرين (١٩٧١، صفحة ٥٥):

لقد أفسدهم المال، أما هو فقد أفسدته العاطفة. كانت العاطفة أشدَّ خطورة؛ لأنك لا تستطيع تحديد سعرها. فمن يقبل الرشاوى يمكن الاعتماد عليه وشراء ذمَّته مُقابل مبلغٍ معيَّن، أما العاطفة فقد تتحرَّك في القلب بسبب اسمٍ أو صورة أو حتى رائحة.

باختصار، للحسابات الشخصية وسلوك التبادلية الصارمة فضائل يُكمل بعضُها بعضًا؛ فكلاهما يُسخِّر الآخر لخدمة الثقة الاجتماعية.

الابتسام والضحك والحاجة إلى إشاراتٍ دالَّة على الثقة

يَجدُر بنا أن نسأل ما هي تحديدًا هذه الفضائل المتكاملة للحسابات الشخصية وسلوك التبادلية الصارمة. فالحسابات الشخصية تُمكِّن الفرد من أن يثِق فقط فيمن يستطيع تحمُّل الثقة بهم، استنادًا إلى أفضل الأدلَّة، وألا يفعل للآخرين إلا ما هو في مصلحته الشخصية. إنها قدرة أساسية لفردٍ يواجه بيئةً طبيعية متغيرة وبيئة اجتماعية معقَّدة. ومن المُرجَّح أن زيادة حجم الدماغ البشري على مدى الستة أو السبعة ملايين سنة الأخيرة عكَسَت الضغوط الانتقائية الناجمة عن بيئةٍ أكثر تنوعًا وعن الحجم المُتزايد للمجموعات الاجتماعية. من المُرجَّح أنَّ مَن كانوا يَبقَون على قيد الحياة ويَتكاثَرُون هم الأفراد الذين كان بوسعهم أن يُجيدوا الحسابات الشخصية، والذين كان بوسعهم اتِّخاذ قرارٍ بشأن كيفية تعديل سلوكهم ليتناسَبَ مع الظروف المختلفة، والذين استطاعوا اكتشاف الخداع. وثمَّة دليلٌ قويٌّ على أنَّ لدى البشر حواسُّ مَضبوطة بدقة كبيرة بحيث تستطيع التقاط الإشارات الدالة على جدارة من حولهم بالثقة. وفي إحدى التجارب الشهيرة، أوضح عالِمَا النفس ليدا كوزميدس وجون توبي أنَّ المشاركين في التجربة واجهوا عادةً صعوبة في حلِّ أحد ألغاز المنطق الذي كان يُطلب منهم فيه التعرُّف على ورقة اللَّعِب المخالفة لقواعد اللعبة (وهذا يُطلَق عليه مسألة الاختيار لِواسون أو لغز الكروت الأربعة). ومع ذلك، عندما أُعيدَت صياغة نفس اللغز المنطقي على أنه مُعضلة تَعرُّفٍ على الأشخاص الذين أخفَقُوا في الالتزام بقواعد السلوك الاجتماعي، كان أداء المشاركين في التجربة أفضل كثيرًا. قاد هذا كوزميدس وتوبي إلى استنتاج أن قدراتنا المنطقية تتأثَّر بالسياق بطُرُقٍ من شأنها أن تكون مُفيدة بالنسبة لقُدرتنا على اكتشاف الغش والخداع على مر التاريخ التطوُّري.17

غير أن الحسابات الشخصية ليسَت من الفضائل المُوحية بالثِّقة في الآخرين بالضرورة. لنفترض أنني أعرف أن لديك قُدرة فِطرية على إدراك مصلحتك الشخصية، ولا شيء سواها. حينئذٍ سأتوخَّى الحذر حيال خداعك، ولكني سأتوخَّى الحذر كذلك حيال الوثوق بك. ولن أُبادر تلقائيًّا بمدِّ جسور الصداقة؛ لأنَّني أعرِف أن هذا لن يصنع فارقًا حيال الطريقة التي ستُعاملني بها لاحقًا، والتي ستتوقَّف على حساباتك بخصوص مصلحتك المُستقبَلية. بعبارةٍ أخرى، الحسابات الشخصية الصرفة تَعني مُمارسة الثقة بحكمة، ولكنها لا تبعَث على الثقة.

ويكاد سلوك التبادُلية الصارمة أن يكون بطبيعته أقلَّ حكمة. فهو يُشجِّع الأفراد على أن يكونوا كُرَماء مع الآخرين لمجرد ردِّ جميلٍ سابق، حتى حين لا يعود ذلك بأيِّ فائدةٍ مُستقبلية. كما أنه قد يُوقِع الأفراد في دوائر مفرغة من الانتقام النابع من إساءات الماضي. نظرًا لأن هذا المبدأ يَستند إلى العاطفة التي تُحفِّزها الأحداث الخارجية وليس إلى القرارات الواعية للفرد، فإن سلوك التبادُلية الصارمة عُرضة للتلاعُب من جانب الآخرين. ولكن عندما يرتبط الأمر بتشجيع الآخرين على الثقة، فإنَّ عدَم مراعاة هذا المبدأ للحسابات الشخصية هو تحديدًا نقطة قوته.18 إذا كنت أعرف أنَّ تعامُلي الكريم معك حاليًّا سيدفعك إلى مساعدتي في المستقبَل، بصرف النظر عن مصالحك الشخصية في الوقت الراهن، فسأكون أكثر استعدادًا للمُجازَفة بمُساعدتك. إنَّ استعدادك لاتباع سلوك التبادُلية الصارمة يجعلك شخصًا أجدر بالثقة من شخصٍ ليس لديه هذا الاستعداد. وباختصار، هذه السِّمة الشخصية تجعل قُدرتك على الالتزام تفوق الحسابات الشخصية البالغة التعقيد. إنها قدرة يُمكن أن تُقدرها الحسابات الشخصية رغم أنها لا تستطيع أن تسعى إليها؛ فقد يَثق من يعتمدون على الحسابات الشخصية في أصحاب سلوك التبادُلية الصارمة أكثر من ثِقتهم في الآخرين الذين يَعتمدون على الحسابات الشخصية مثلهم.
تُشير هذه الاعتبارات إلى أنَّ الأفراد الذين يُمكنهم، في آنٍ واحد، أن يُمارسوا الثقة بحصافة ويشجعون ثقة الآخرين فيهم، هم بحاجةٍ إلى أن يكون لديهم، بقدرٍ ما، نزعة تجاه الحسابات الشخصية في تعاملاتهم مع الآخرين؛ ولكن ليس أكثر من اللازم، وإلا لن يَثق فيهم أحد. كما أنهم بحاجة أيضًا إلى نزعة تجاه سلوك التبادُلية الصارمة، بقدْرٍ ما ولكن ليس أكثر من اللازم وإلا سيَستغلُّهم الآخرون، وستُلقي ذكرى أخطاء الماضي بظلالها على حياتهم لوقتٍ طويل جدًّا. إنهم بحاجة إلى طريقةٍ يَبعثُوا بها إلى الآخرين إشاراتٍ بأن لديهم مقوِّمات سلوك التبادلية الصارمة الذي يجعلهم جديرِين بالثِّقة، وهم بحاجةٍ أيضًا إلى إرسال هذه الإشارة بطريقةٍ يصعُب على أيٍّ من أصحاب الحسابات الشخصية الخالصة تقليدها على نحوٍ مُقنع. اقترح عالِمَا النَّفس مايكل أورين وجو آن باخوروفسكي نظريةً بارعة مفادها أن الابتسام والضحك لدى البشر ربما يكونان قد تطوَّرا كعلاماتٍ من هذا النوع على وجه التحديد.19 الابتسام والضحك قُدرتان بشريَّتان لا تُوجَد منهما إلا صُور بدائية إلى حدٍّ ما في الأنواع الأخرى.20 وكلاهما يبدو أنه يبعث بإشاراتٍ دالة على العواطف المُصاحبة للإعجاب بالآخرين والاستعداد للتصرُّف بكرَم تجاههم؛ وهو ما يُطلِق عليه علماء النفس «التأثير الإيجابي».21 ويبدو أن كليهما «يُثير» هذا النوع من المشاعر لدى الآخرين أيضًا.22 ويُشير أورين وباخوروفسكي إلى أن القدرة على الابتسام والضحك هي بمثابة إشاراتٍ قوية دالة على التأثير الإيجابي؛ ومن ثَمَّ على الجدارة بالثقة، مما جعل الأفراد الذين يستطيعون أن يَبتسمُوا ويَضحكوا أكثر ميلًا لاستخدام هذه القدرات. ولذلك، كانت أي طفراتٍ جينية لصالح هذه القُدرات تميل إلى الانتشار. ونظرًا لموثوقيَّتها من ناحية كونها إشاراتٍ دالة على الجدارة بالثقة، كان من شأن التطوُّر أن ينزع أيضًا بدوره إلى تفضيل ميلٍ للاستجابة بحرارة إلى هذه الإشارات.23

ورغم ذلك، أيُّ إشارةٍ تجعل الآخرين يظنُّون أنَّني شخص جدير بالثقة هي إشارة سيكون من المُفيد جدًّا لي أن أكون قادرًا على التظاهُر بها. وبتلك الطريقة يُمكنني أن أجعل الناس يثقون بي، ويُسدون لي خدمات، دون تكبُّد تكلفة إسداء خدماتٍ لهم في المقابل، إلا إذا كان يُناسبني فعل ذلك. ومن ثَمَّ يُشير أورين وباخوروفسكي إلى أنه بمجرَّد أن صارت الابتسامة إشارةً راسخة وموثوقًا بها إلى حدٍّ معقول على الجدارة بالثِّقة حتى صار من المُمكن أيضًا للبشر التكيُّف ليكونوا قادِرين على تكلُّف الابتسام. ومن المعروف أن الابتسامات الخاضعة لسيطرةٍ مقصودة تستخدم مجموعةً من الدوائر العصبية المختلفة عن الدوائر العصبية للابتسامات العفوية (تُعْرَف الأخيرة أيضًا بابتسامة «دوشين»، تيمُّنًا بعالِم النفس الفرنسي الذي كتب عن الفارق بين الاثنتين لأول مرة في القرن التاسع عشر). لا يستطيع الجميع تزييف الابتسامات بنَجاح؛ بالطبع الساسة غالبًا من بين أولئك البشر القادرين على ذلك. كثيرون (من بينِهم أنا نفسي) محرومون من دخول المِهَن السياسية بسبب عجزهم عن إظهار ابتساماتٍ مُقنعة أمام الكاميرات. إلا أن بوسع عددٍ كافٍ من الأشخاص فِعل ذلك مما يشير إلى أن تطوُّر محاكاة الابتسامة قد تقدَّم كثيرًا لدى الجنس البشري.

ولكن لا أحد تقريبًا يستطيع تزييف الضحك على نحوٍ مُقنع. إذ يعجز الكثيرون عن التفريق على نحوٍ موثوق به بين الابتسامات العفوية وتلك الابتسامات التي يَصطنعها المُمثلون الجيدون، ولكن يستطيع الجميع تقريبًا التمييز بين الضحك العفوي والضحك المُتعمَّد حتى من قِبَل مُمثِّلين موهوبين للغاية. فالضحك المُتعمَّد يستثير في نفوس من يسمعونه تأثيرًا إيجابيًّا أقلَّ ممَّا يَستثيرُه الضحك العفوي. قادت هذه الحقائق أورين وباخوروفسكي إلى القول بأنه من المُحتمل أن يكون الضحك قد تطوَّر في وقتٍ متأخر عن الابتسام (لا شكَّ في أن هذا جاء استجابةً إلى محاكاة الساسة الأوائل في فترات ما قبل التاريخ). أدَّى فقْدُ الابتسامة لموثوقيتها، لأنَّ الكثيرين باستطاعتهم تزييفها، إلى جعل العثور على إشارةٍ أخرى أفضل للدلالة على التأثير الإيجابي أمرًا مُهمًّا. ومن شأن احتمال أن يكون الضحك قد تطوَّر في وقتٍ لاحق أن يُفسِّر السبب في أنه لم يُتَح بعدُ الوقتُ لتطوُّر القدرة على تزييف الضحك على نحوٍ مُقنع.

أحد الأدلة القوية والداعمة لنظرية الإشارات الخاصة بالضحك هي الطريقة التي يَميل فيها الأشخاص، من جميع أنواع الثقافات في العالَم، الذين عقدوا صفقةً تجارية فيما بينهم، لإتمام الصفقة بتناول مشروبٍ كحولي معًا. فمن المعروف أن شُرب الكحوليات يؤثر على قُدرة الناس على إصدار الأحكام والتقديرات. في الواقع، الكحوليات مُهدئة للأعصاب لدرجة أنها لا تجعل الأفراد يشعرون بأن جميع المؤثرات أقل فعالية وحسْب؛ وإنما بوجهٍ خاصٍّ تجعلهم أقلَّ حساسيةً تجاه الآلام، بما في ذلك الآلام المُستقبلية.24 (والسبب وراء أنَّ الكحوليات تتسبَّب في حوادث السيارات لا يعود بالأساس إلى أنها تُبطِّئ زمن استجابة السائقين وإنما يعود إلى أنها تجعلهم مُتهوِّرين، من خلال تضاؤل الإحساس بالمخاطر المُستقبلية.) باختصار، لو كان الأفراد الذين بصدَد دخول علاقة عملٍ بحاجة إلى ذهنٍ صافٍ من أجل التدقيق في حساب التكاليف التي بإمكانهم تحمُّلها للوثوق بشركائهم الجُدد، فإن من شأن تناول مشروب كحولي أن يكون أسوأ طريقةٍ مُمكنة لإتمام صفقة.25 إلا أنَّ الكحوليات تُشتهر أيضًا بكونها تُفقد المرء التوازن والتحفُّظ. والأهم من ذلك، أنها تجعل الكثير من الناس يضحكون. ففي جميع الثقافات، يَقضي كثيرون من رجال الأعمال أُمسياتهم وهم يتبادَلُون النِّكات التي لا يراها أحد مُضحكة أصلًا، ولكن مع اقتراب نهاية الأُمسية تجد أن الجميع يَضحكون عليها في صخب. وفي الوقت نفسه الذي تعُوق فيه الكحوليات الآخرين عن ممارسة الثقة بحصافة، تُمكِّن الناس من بثِّ الثقة بتحفيز إشارة تأثير إيجابي ممتازة، ألا وهي الضحك الذي لا يخضع لتحكُّم إرادي مباشر.26

ومع ذلك، لا ينبغي النظر دومًا إلى المُحاكاة على أنها تنحو إلى إضعاف أو تقويض الثقة. فأول نوع من أنواع التفاعلات الاجتماعية التي يستطيع أطفال صِغار، بعُمرِ بضعة أسابيع، المشاركة فيها هو الابتسام لمن يَبتسمُون لهم. يتعلَّم جميعنا في مُستهل الحياة أنَّ الابتسامات هي علامة على حُبِّ أقاربنا وحُسن نواياهم، وبخاصة أبوَينا. ولا بدَّ أن التجار الأوائل، الذين نجحوا في التواصُل مع جماعات الصيد وجمع الثمار وأقنعوهم بالمقايضة بدلًا من القتال، قد حاوَلُوا جاهِدين أن يَبتسمُوا على نحوٍ مُقنع لكي يَستحثُّوا لديهم استجابة التبادلية. فبدون مُحاكاة ناجحة بقدْرٍ ما ربما كان من المستحيل أن تستمرَّ هذه المقايضات. وهنا، كما في الكثير من السياقات الأخرى، تكون الثقة في الغرباء بمثابة عملية محاكاة واعية وغير واعية للطريقة التي نَثِق بها في أسرتنا وأصدقائنا.

الثقة والعواطف

كما رأينا، لا يُقرِّر البشر التعاون على أساس تقديرات عقلانية محضَة للتداعيات المُحتمَلة للإقدام على ذلك. يُبيِّن وجود سلوك التبادُلية الصارمة أنه يُمكن حثُّ الكثير من الناس على التعاون من خلال كرَم الآخرين فحسْب، بصرف النظر عن أيِّ فوائد قد يَجنونها من ذلك. علاوة على ذلك، لا يقع السلوك التعاوني تحت سيطرة الأجزاء المسئولة عن الحسابات في الدماغ فحسْب. فلقد أظهرت دراسات حديثة أنَّ هرمون الأوكسيتوسين يزيد استعداد البشر مَوضع التجربة على الثِّقة في الآخرين، في تجارب تَعيَّن فيها عليهم أن يُقرِّروا اختيار إعطاء المال إلى شخصٍ آخَر على أمل تلقِّي مَبلَغ أكبر في المقابل. إلا أن مفعول هرمون الأوكسيتوسين السحري لا يتأتَّى ببساطةٍ عن طريق جعل الناس أكثر تفاؤلًا أو أقلَّ اهتمامًا بالمخاطر؛ فتحتَ تأثير هذا الهرمون، يكون المُشاركون في التجربة على استعدادٍ لإعطاء المال لمُشاركٍ آخر؛ لكن ليس لآلة (مثلًا) يتعيَّن عليهم توقُّع سلوكها.27 لا يزال الدماغ بحاجة لتَبيُّن أنه في مواجَهة شخص آخر، وبعد ذلك تصير الثقة قرارًا اجتماعيًّا تمامًا، تَتشابك فيه عناصر عقلانية وعاطفية تشابكًا وثيقًا جدًّا. وهذا يَجعلهم عُرضةً للتلاعب، إلا أن التلاعُب بعواطف الآخرين هو أساس التفاعُل البشري، مثل التلاعُب بمُعتقَداتهم، وهو ما نفعله طوال الوقت. وهذا ما نُطلِق عليه التواصُل.
يُمكننا الآن العودة إلى وجهة نظر إلياس عن عملية التحضُّر، ونرى العنصر المفقود في قصته. لم يَستلزم منَّا خفض مُستويات العنف في المجتمع الإنساني تهميش العواطف وإنما تسخيرها. يُمثِّل سلوك التبادلية الصارمة، على وجه التحديد، همزة الوصل التي تجعل الأفراد الذين يتَّخذون قراراتهم على أساس الحسابات الشخصية يُقرِّرُون أن بإمكانهم الثقة في مؤسسات العدالة الموجودة في عالَم لا تُراعى فيه الحقيقة إلا على نحوٍ منقوص. فربما تَنطوي العواطف على مُخاطرة التصرُّف على نحوٍ لا عقلاني، ولكن بدونها لم يكن من المُمكن أن تنجح منظومة التعاون الإنساني على الإطلاق.28 بالتأكيد، تُوجد أدلَّة على أنه كان الممكن أن يزيد انتشار العنف، ولا يقلُّ، في ظلِّ غياب استجاباتٍ عاطفية غريزية مُعيَّنة بين الغرباء. وفي تجربة سجن ستانفورد الشهيرة التي أُجريَت عام ١٩٧١، حيث لعب مُتطوِّعون أدوار الحرَس والسجناء (وهي تجربة تعيَّن إيقافها بسبب القسوة المُتزايدة في تعامل الحرس مع السجناء)، ارتدى الحرس نظاراتٍ فضية عاكسة للضوء وملابس عسكرية مُوحَّدة ساعدت في إضعاف التمييز لدى الأفراد، وأي استجابات عاطفية كان من الممكن أن تُخفِّف من حدة معاملتهم. سجل فيليب زيمباردو، الذي أجرى التجربة، تشابُهًا غريبًا مع حارسٍ بسجن أبو غريب قام بطلاء وجهِه باللَّونَين الفضي والأسود، ومع المُحقِّقين الذين أزالوا بطاقات أسمائهم، في محاولاتٍ واضحة لمحو أي أثرٍ يدلُّ على الهوية الشخصية أثناء مقابلتهم مع السجناء الذين كان مِن المُتوقَّع أن يتصرَّفوا معهم بعدوانية.29

ويُمكن التلاعُب بالعواطف لأغراضٍ خبيثة، ولكن يُمكن أيضًا استغلالها لصالح التكافل وتعزيز الثقة بين البشر. وبفضل تركيبتنا العاطفية، يُمكننا أن نتأثَّر بالدوافع المحركة لنلعب دورًا في المؤسسة التعاونية الكبرى التي هي المجتمع الإنساني المعاصر. لاحقًا في هذا الكتاب، سنرى كيف تتجسَّد هذه الدوافع في مجموعةٍ من المؤسَّسات التي تجعل التعاون الاجتماعي خيارًا جذَّابًا حتى لأقل المُتحمِّسين للعمل العام بيننا (خلافًا لوجهة نظر جريجوري كلارك، الحياة الاقتصادية المُعاصرة ليست فقط ثمرةَ القيم والمعتقَدات المُتغيِّرة). لكن قبل أن نفعل ذلك ما زلنا بحاجة إلى طرح سؤال جوهري: من أين أتت التركيبة النفسية الغريبة للبشرية؟ يتجلَّى واضحًا السبب في أنه كان من شأن موهبة اتخاذ القرارات بناءً على الحسابات الشخصية أن تغدو قادرة على التكيُّف في عصور ما قبل التاريخ. غير أن الأمر مختلف في حالة سلوك التبادلية الصارمة؛ فالتعاون حتى وإن لم يخدم مصالحك الشخصية، لا يبدو استراتيجية صالحة لترك الكثير من الأحفاد. فكونه عنصرًا جوهريًّا لتجربة مُستقبَلية في الحضارة ليس كافيًا لحدوث ذلك. إذن، لماذا تطوَّر سلوك التبادلية الصارمة وكيف حدث ذلك؟ وما الذي ساعد أصحاب هذا المبدأ من أسلافنا على البقاء على قَيد الحياة في عالَم عدائي؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤