الأدباء بين جيل وجيل١

من جيل إلى جيل

كم يبقى من حقائق التاريخ من جيل إلى جيل؟

بل كم يبقى من حقائقه في الجيل الواحد، بين المعلوم والمجهول، وبين المألوف والمستغرب، وبين حسن النية والنية التي تسوء وتسيء ثم تصر على السوء والإساءة؟

قصارانا بعد كل مقال وكل سكوت أن نقول: ويل من التاريخ ما أظلمه! أو نقول: ويل للتاريخ ما أثقل الظلم عليه!

جاءتني بعد مقال الأسبوع الماضي رسائل مختلفة سيطلع القارئ عليها وعلى تعقيباتها، ثم يرى فيها مصداقًا جديدًا لاعتقاد المعتقدين أن تمحيص التاريخ في أصغر المسائل من أصعب الصعاب، ودع عنك مسائله الكبار.

الأدباء والسياسة السرية

إحدى تلك الرسائل رسالة ذات شعبتين من طالب جامعي، يستغرب في أولاهما ما ذكرناه عن علاقة أدباء الجيل الماضي بالسياسة السرية، وعن مبلغ شأنها في تقدير أعمال الجيل كله، ويسألنا: لمَ لمْ يُكتب عنها شيء حتى الآن ما دامت بتلك الأهمية؟ ولِمَ لا نكتب نحن ما نعلمه عنها؟

والذي يستغربه الطالب الجامعي كان هو المألوف والشائع بين الأدباء النابهين في ذلك الجيل، فلم يكن فيه أديب واحد لا يتصل بقصر عابدين أو قصر الدوبارة في القاهرة، أو بقصر يلدز والمابين في الآستانة، ولم يشذ عن هذه القاعدة من طبقته وجيله غير حافظ إبراهيم؛ لأنه لم يكن من ذوي الجلد على الأسرار والمناورات.

على أن حافظًا نفسه قد أدخلته تلك المناورات في حبائلها على غير مشيئة منه، فسعى بعضهم في تزويده بقلب شاعر الخلافة من قِبَل السلطان عبد الحميد الثاني، وقامت القيامة هنا حتى احتال من يعنيهم الأمر على حرمانه من اللقب المنتظر، ودسوا عليه من يغريه بهجاء السيد «أبي الهدى الصيادي» نديم عبد الحميد، فانقطع الرجاء في تلقيبه بذلك اللقب الفخم الذي يتضاءل عنده لقب شاعر الأمير.

ولا يستصغرن الطالب الجامعي خطر تلك المناورات التي طالما اشترك فيها أصحاب الأقلام من الأدباء والصحفيين، فالحق أن تاريخ الجيل كله يتوقف على الإلمام بها، ولسنا نعرف شهرة واحدة لا يتغير تقدير الناس لها إذا انكشف الستار عن تلك الأسرار، ومنها شهرة أناس يُحسبون في الطليعة بين أبطال الوطنية، وتهبط بهم علاقاتهم تلك إلى ما دون أقدارهم المزعومة بكثير.

أما أن المؤرخين المعاصرين لم يكتبوا شيئًا عنها مع أهميتها، فسببه واضح: وهو أنها أسرار يُعنَى أصحاب الدولة القائمة يومئذ بكتمانها.

وأما إننا نحن نكتب عنها، فذلك ما ننويه ولا نحجم عنه كلما عرضت لنا مناسبة من مناسباته.

والشعبة الثانية من سؤال الطالب الجامعي عن معنى قول السيد البكري للخديو عباس الثاني: إنني وزير مثلك؟

ونحن نحيل الطالب على تاريخ تلك الفترة، ويكفي في هذا السياق أن نذكر له أن خديو مصر كان معدودًا من وزراء السلطان العثماني في الآستانة، وأنهم كانوا إلى عهد الخديو عباس يقعون في مشكلة من مشكلات المراسم كلما اتفق وجوده في الآستانة يومًا من أيام الأعياد، فيحار رئيس الديوان المابيني في وضعه قبل الصدر الأعظم رئيس الوزراء أو بعده في مراتب التشريفات.

ونحن فيها

نعم ونحن فيها، والضمير عائد على كل مسألة تتعلق بتصحيح التاريخ في الأدب أو السياسة، وفي الحاضر أو الماضي، وهي هنا تتعلق بنسبة بيتين من الزجل إلى قائل غير متفق عليه، رويت في الأسبوع الماضي نادرة لحفني ناصف مع حمد الباسل، حين زارهم على غير موعد فحضرهم في وليمة، وقال حمد بيتين من الزجل، فرد عليه حفني مشيرًا إلى طربوشه المغربي وهو يقول: «معلوم أدباتي!»

يقول الأديب مصطفى الصباحي تعليقًا على هذه النادرة في خطاب أرسله إليَّ:

… إن حمد الباسل باشا حين وجه إلى حفني بك هذا الكلام، إنما كان متمثلًا به ولم يكن هو مُنشِئَه …

قال: «ولهذا قصة طويلة، خلاصتها أن محمود باشا شكري كان رئيسًا لمحكمة طنطا، وأولم وليمة لقضاة محكمته دعا إليها حفني بك — وكان يومئذ قاضيًا لمحكمة طهطا، وكان اجتماع المدعوين في منظرة مجاورة للباب الكبير بمنزل الباشا، فلما صعدوا إلى غرفة الطعام دخل أحد اللصوص يسرق عصيهم ومظلاتهم وعباءاتهم، ولما عرفوا أمر السرقة أبلغوا البوليس، وصادف أن كان البوليس قد ضبط السارق يعرض ما سرق للبيع، ومنه عصا عليها اسم حفني بك، فرُدت المسروقات إلى أصحابها.»

«ثم عرف هذه القصة محمد باشا صدقي، وكان يشغل وظيفة مأمور تفاليس، وكان صديقًا لحفني بك وبينهما مساجلات زجلية غاية في الظرف والطرافة، ويوقع أزجاله هكذا: «محمد صدقي زجال جلالة حفني ناصف خان.» وقد بعث إلى حفني بك لهذه المناسبة زجلًا طويلًا لا أذكره كله، جاء فيه هذان البيتان اللذان تمثل بهما حمد باشا وأشار فيه إلى اجتماع قضاة محاكم طنطا وطهطا والسنطة فقال:

جمع محاكم حرف الطاء
طنطا وطهطا والسنطة

ورد عليه حفني بك بزجل بارع تجلت فيه الفكاهة على مذهبه الظريف بقوله:

مني لسيد الزجاله
ألفين سلام فوقهم بوسه
مالوش نظير في الرجاله
يخلق من «الهاب يك» دوسه

إلى أن قال:

كانون سعادتكم زرَّع
والتلج فوقه للسرَّه
مفيش نفر واحد يطلع
يقول أكل عندك مره

إلى آخر ما قالا، وإني لأرجو أن أعثر على هاتين الطرفتين فأتشرف بموافاتك بهما.»

هذا هو فحوى رسالة الأستاذ الصباحي، وإني — مع شكري على تعليقه — أرجح أن هناك مناسبتين مختلفتين، وأن البيتين كما رواهما حمد الباسل — رحمه الله — أقرب إلى موضع الاستشهاد؛ لأن هذه الرواية تُفسر لنا وصول حفني على غير موعد، كما تُفسر لنا تعريضه بالأدباتي في ردِّه على حمد.

وأقل ما في المناسبة كلها، أنها مثال للاختلاف على الروايات والأسانيد الأدبية في مدى جيل أو جيلين.

سحاب من عباب

أما صاحب الخطاب الذي وقعه بإمضاء «م. سلامة»، فجوابي الموجز على سؤاله الأول أنني لا أحفظ الكثير من نوادر حفني؛ لأنني كنت أتلقى أخباره على السماع، ومما سمعته غير ما ذكرته في مقال الأسبوع الماضي يبدو لنا تنوع المناسبات وتعدد مصادرها.

فقد سمعت من أديب قنائي إحدى هذه النوادر الكثيرة، وكان حفني قد انتقل إليها قاضيًا كما جاء في قصيدته المشهورة:

قالوا نقلت إلى قنا
يا مرحبًا بقنا وإسنا

حدثني الأديب القنائي قال: إن القاضي الشاعر كان مقبلًا على ديوان المحكمة يومًا، فاعترضه صاحب قضية من الفلاحين الذين يتربصون على أبواب المحاكم بكل قادم في زي الأفندية، ويحسبونه قادرًا على التوسط لهم في أمر من أمورهم عند الكُتاب والمحضرين؛ فما هو إلا أن بصر بحفني بك داخلًا حتى هرول إليه قائلًا: أنا لي دعوى.

فأجابه حفني وهو يهرول مثله ما استطاع: «وأنا ماليش دعوى»!

وحدثني أحد أبنائه أن أباه ضربه وهو صغير، فخرج يعدو إلى الشارع ونادى له بأول شرطي، فلما خرج حفني للشرطي وهو يدق الباب دقًّا شديدًا سأله: ما الخبر؟

قال: الخبر يا سعادة البك أن هذا الولد جاءني وهو يبكي، وقال لي إن في هذا البيت رجلًا كبيرًا ضربه واختفى.

فأجابه حفني كالمتهم المنكر: لا والله يا سعادة الجاويش، «هو الذي ضربني وجري.»

وحدثني أديب قاهري أن جماعة تبادلوا الرأي في فن الإلقاء أمام حفني، وتحمس أحدهم للفن الجديد، فاقترح أن يستعين به حفاظ القرآن الكريم في تلاوته حسب المعنى.

وسأله حفني: وكيف يكون تطبيقه في التلاوة؟

قال الأديب المتحمس للفن: بتصوير المعنى وتمثيله!

قال حفني: إذن ترينا أنت مثالًا لذلك في قوله تعالى: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ.

وسمعت عن الشيخ عبد العزيز البشري — رحمه الله — نادرة تُروى له مع الفريق إبراهيم فتحي، حيث قال له الفريق: قاض في الجنة، وقاضيان في النار. فذكره البشري بقوله تعالى: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ.

سألت البشري عن هذه القصة فلم يُثبتها ولم يُنكرها، ولكنه استطرد منها قائلًا: إن حفني ناصف هو السابق إلى جواب من هذا الباب؛ قال له بعضهم قاض في الجنة وقاضيان في النار، فقال: «والناصف هو الذي في الجنة!»

وكانت هذه النكتة في المجمع اللغوي مثارًا للخلاف على فعل «نصف» الثلاثي وفعل «أنصف» الرباعي، هل يتقاربان في المعنى؟ فتبين أن اللغوي العتيق — رحمه الله — لم يكن بعيدًا من الصواب.

ومن نكاته التي تشق طريقها في مقام الحداد أنه سُئل تاريخًا شعريًّا يُكتب على قبر عريان بك، فنظم هذين البيتين:

لقد هوى في أفق هذا المكان
بدر العلا عريان فخر الزمان
ومذ أتى الجنات أرخته
«عريان أضحى في ثياب الحنان»
١٨٨٨

إن هذه النوادر لا تضيف محصولًا كبيرًا إلى الذخيرة الحفنية؛ إذ تيسر جمعها من مختلف مصادرها، ولكنها قد تشير بتعدد مناسباتها إلى سحاب من عباب.

أما جواب السؤال الأخير من الرسالة — وهو تعليل ملكة الفكاهة عند حفني ونظرائه — فهو شرح يطول؛ وخلاصته في كلمات أنها ملكة لا غنى فيها عن الذكاء وعن المزاج، وأنها تنمو بالإضافة إلى ذلك مع مفارقات الحياة؛ لأن النكتة في جوهرها إنما هي التفات إلى المفارقات.

ولقد كانت حياة حفني كلها مفارقة تنتهي على مفارقة أعجب منها، هل يعلم القارئ مثلًا أن حفني ناصف كان في أول عهده بالتدريس معلمًا للخرس والبكم والعميان؟! أما إنه بدأ سيرته من رجال الشريعة وختمها بين القضاء الأهلي وأستاذية الجامعة فهو معلوم.

١  أخبار اليوم: ٥ / ١٢ / ١٩٥٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤