المنفلوطي والاشتراكية١

استمعنا إلى البرنامج العام لإذاعة القاهرة مساء يوم الأحد (١٦ / ٩ / ١٩٦٢) إلى حديث عن كتاب «المنفلوطي الأديب الاشتراكي»، قال فيه المتحدث إن المنفلوطي لم يعرف الاشتراكية بالمعنى العلمي الذي انتهت إليه الآن، ويرجع السبب إلى أن ثقافة المنفلوطي أزهرية إسلامية؛ وهذا يعني أن الاشتراكية بوجه عام أو الاشتراكية بمعناها العلمي الآن مذهب غريب عن الإسلام، فهل يتفق هذا مع ما نقرؤه من أن الإسلام دين الاشتراكية؟ أرجو جوابًا شافيًا في يومياتكم على صفحات الأخبار.

ج. م. ن.
بكفر الشيخ

إن الاشتراكية قد وجدت قبل أن يوجد اسم الاشتراكية.

وقد وجد اسم الاشتراكية قبل أن يوجد اسم الاشتراكية العلمية.

وأول من سمى مذهبه باسم الاشتراكية العلمية هو كارل ماركس، ولم يكن من العلماء بمعنى العلم المصطلح عليه في عصرنا، وهو اﻟ «ساينس» Science؛ لأن الموضوع الذي نال به شهادة الدكتوراه بالمراسلة، إنما كان بحثًا من بحوث الأدب اليوناني، ولم يكن بحثًا في الكيمياء أو الطبيعة أو الرياضة أو الفلك، ولا بحثًا في الاقتصاد أو الاجتماع على نهج قديم أو حديث.

وليس للاشتراكية مذهب واحد يقال إنه هو وحده المذهب العلمي وما عداه لا يُوصف بهذه الصفة، وإنما الاشتراكية العلمية — على اختلاف المذاهب فيها — هي هي الاشتراكية العملية التي يمكن تطبيقها بتنظيم رأس المال وإنصاف العمال وتحريم احتكار الثروة العامة، وهذه كلها مبادئ كان يعرفها المنفلوطي وأبناء عصره المطلعون، بين الأزهريين وغير الأزهريين، وليس أكثر من كتاباته التي تندد باحتكار الثروة واستغلال الفقراء والعمال، وله عدا المنثور من مقالاته في هذا الغرض شعرٌ يقول فيه على لسان العامل:

أقضي نهاري مقبلًا مدبرًا
كأنني الآلة في المعمل
وصاحب المعمل لا يرتضي
مني بغير الفادح المثقل
فإن شكوت النزر من أجره
برح بي شتمًا ولم يجمل
حتى إذا عدت إلى منزلي
وجدت سوء العيش في المنزل

وقد أكثر من ذلك حتى قال شوقي في رثائه كأنه يسأله:

من شوه الدنيا إليك فلم تجد
في الملك غير معذبين جياع؟
أبكل عين فيه، أو وجه، ترى
لمحات دمع أو رسوم دماع
لا الفقر بالعبرات خص ولا الغنى
غير الحياة لهن حكم مشاع
ما زال في الكوخ الوضيع بواعث
منها وفي القصر الرفيع دواعي

وليس في الاشتراكية قاعدة واحدة من قواعدها العامة كانت مجهولة في عصر المنفلوطي ومن في طبقته الثقافية بين أبناء جيله.

أما التطبيقات الحديثة، فتلك هي الاشتراكية العملية الواقعية، وليس المتحدث الذي أشرتم إليه بقادر على أن يزعم أنه يعرفها جميعًا، فضلًا عن معرفتها قبل اليوم بثلاثين أو أربعين سنة؛ لأن لهذه الاشتراكية — أو هذه الاشتراكيات على الأصح — عشرين تطبيقًا على الأقل في أنحاء العالم لا يتشابه بينها تطبيقان على نحو واحد؛ إذ كل أمة يناسبها نظامها الحكومي وظروفها الاقتصادية وعلاقاتها الخارجية التي لا تُناسب أمة غيرها، ولا يزال كل تطبيق من هذه التطبيقات قابلًا للتعديل بين عام وآخر، إلى غير أمد محدود.

وإنما صاحبكم المتحدث المشار إليه كمن يقال له إن طبخ الأطعمة عملية كيماوية، وإن مزج الأصباغ عملية كيماوية، وإن غسل الملابس بالصابون عملية كيماوية، فيصيح بملء شدقيه: ومن أين للأقدمين ذلك وهذه معامل الكيمياء وأدواتها لم تعرف على الطريقة العملية قبل هذا العصر الأخير؟

عجز عقيم عند هؤلاء العلماء «اللقبيين» يضيعون به الحقيقة في سبيل الاسم، ويجهلون به الجوهر؛ لأنهم ينظرون إلى العرض، ويرفضون من جرائه البضاعة المطلوبة؛ لأنهم يفرزونها بالعناوين على الصناديق، ويوشك العجز أن يخيل إلى هؤلاء أن «اللقب» الذي جعلهم من العلماء كهنوت جديد، يخلف الكهنوت القديم في أسوأ عيوبه وهو عيب «البركات الكهنوتية»، فلا يؤذن لرأي أن يكون «علميًّا» بغير رخصة منهم، ولا تحسب الاشتراكية اشتراكية رسمية إن لم تحمل «الدمغة» التي دمغتهم، وهذه آفة من آفات التفكير، لا تقل الحاجة إلى التخلص منها في عصرنا هذا عن تلك الحاجة الملحة التي اضطرت الأقدمين إلى الخلاص من كهنوت البركات!

فإذا كانت الاشتراكية عقيدة وغاية، وكانت عقيدتها أن الأمة مسئولة عن فقرائها وأغنيائها، وأن الغاية منها كف الاستغلال وإنصاف العمال؛ فالاشتراكية التي آمن بها المنفلوطي، مائة في المائة، اشتراكية صحيحة ولا تفقد واحدًا في المائة؛ لأن تطبيقاتها العملية كانت مجهولة عنده؛ إذ كانت تطبيقاتها العملية اليوم — ودع الغد وبعد الغد — مجهولة عند كثير من الأحياء، وممن يطبقونها اليوم من يجهل كيف يكون تعديلها بعد عشرة أعوام.

وليس متحدثكم بأهل للغبطة؛ لأنه يجهل الثقافة الأزهرية الإسلامية، فإنه لو عرف منها قراءة القرآن الكريم وحده لعرف قوله تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.

ولا ريب أن «الإسلام» بحروفه العربية لم يكن معروفًا بين العبرانيين أتباع إبراهيم، ولكنه كان مسلمًا بعقيدة الدين وغاياته، وهو المطلوب كما كان يقول لنا «العلم» بلسان «معلم» الحساب بعد كتابة الجواب.

اعرف نفسك

… سمعت في إحدى المناقشات بكلية الآداب من أستاذ من ثقات الفلسفة عندنا، أن سقراط لم يقل كلمة «اعرف نفسك» المنسوبة إليه، وأنه تأكد من ذلك بنفسه من زيارته الأخيرة لليونان، وكان هذا منه ردًّا على استشهاد باحث جاء ليناقش رسالة له للحصول على دكتوراه الفلسفة … فهل لي إذن أن ألجأ إليكم راجيًا توضيح هذا الأمر لنا، وأن تذكروا لنا هل كان سقراط هو صاحب هذه الكلمة حقًّا، أو أن الأمر كما يذهب إليه أستاذ الفلسفة بالجامعة؟

محمد محمد مرشدي بركات

إذا كان مقصد الأستاذ أن الكلمة لم تثبت نسبتها إلى سقراط وحده، فهو على حق؛ لأنها قد نُسبت كذلك إلى صولون وفيثاغوراس، ونسبها «ديوجين لايرتس» إلى طاليس.

وقد كانت هذه الكلمة «اعرف نفسك» شعار الرب الإغريقي أبولون في معبد دلفي، وقيل إن سقراط ذهب إلى المعبد ليسأل عن أحكم الناس، فقيل له هناك: «اعرف نفسك يا سقراط، فإنك أحكم الناس.»

ولكن الثابت من محاورات أفلاطون — باب المعذرة — أن شايرفون صديق سقراط هو الذي ذهب إلى الهيكل، وسأل عن أحكم الناس فقيل إنه هو سقراط، وقد جاءت الإشارة في الحوار إلى هذه القصة بعد وفاة شايرفون، ولكن في حياة أخيه الذي أحيل إليه السامع ليستوثق من صحة الرواية بهذا الإسناد.

ومما لا شك فيه أن «معرفة النفس» كانت هي لباب العلم والأخلاق في فلسفة سقراط، فلم يصل إلينا من أقوال الفلاسفة الذين نسبت إليهم الكلمة بحث أتم وأوفى من بحثها في محاورات أفلاطون منسوبًا، كما هي عادته، إلى أستاذه سقراط؛ ولهذا شاع أنه كان أول من نطق بها وجعلها شعاره، وهي ولا ريب أقدم تاريخًا من ذلك؛ لأنها سُمعت من رب دلفي قبل ميلاد الفيلسوف.

١  الأخبار: ٣ / ١٠ / ١٩٦٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤