فن جديد من فنون الدعوة١

وربما صح أن يسمى فن الإقناع الآلي، أو فن الاضطرار إلى الاختيار، ولكن لا بد — على أية حال — من التفرقة بينه وبين ضروب أخرى من المعارف والفنون، تشاركه في الإقناع وتختلف أحيانًا كثيرة في الوسيلة والأداة؛ ومنها علم المنطق وهو الإقناع بالبرهان، وفن الخطابة وهو الإقناع بالكلام المؤثر، وفن الدعاية وهو تصوير الأفكار والآراء على الصورة التي تسوق المخاطبين إلى القيام بعمل مرغوب فيه أو اجتناب عمل مرغوب عنه، فإن الفن الجديد من فنون الدعوة يعتمد على وسائل شتى للإقناع وتبديل الآراء والأخلاق غير البرهان والكلام المؤثر وأساليب العرض بالدعاية العامة، سواء منها أساليب الكتابة والخطاب وأساليب التصوير والتمثيل.

ويكفي أن نذكر فارقًا واحدًا تظهر منه سائر الفوارق بين هذا الفن الجديد وبين تلك الفنون، فنقول إن هذا الفن قد يصل إلى تبديل آراء الإنسان من النقيض إلى النقيض بعملية جراحية أو تبديل «الشخصية» في تكوينها العقلي، فلا يدري صاحب الشخصية كيف حدث التحول في تفكيره ومسلكه؛ لأنه من أثر علاج جسدي أو «دماغي»، كعلاج البتر وتبديل الأعضاء في بعض العمليات وأنماط العلاج بالعقاقير.

ويطلق أصحاب هذا الفن أسماء ثلاثة على هذه الدعوة الجديدة، تختلف باختلاف الوسيلة وقوة الفعل وحالة المعالج ومقدار خضوعه لمن يتولاه بالعلاج.

وهذه الأقسام الثلاثة هي:
  • أولًا: بث المذاهب والآراء، ويصح أن نسميه بالتلقين أو الإيحاء، ترجمة لكلمة Indoctrintion، ومعناها الحرفي «المذهبة» أو الإنظار من «النظر» أو النظرية.
  • ثانيًا: غسل الدماغ، ترجمة حرفية لكلمتي Brain Washing.
  • ثالثًا: توجيه الأفكار، ترجمة لكلمتي Thought Control، وقد تترجم بالسيطرة أو الرقابة على الأفكار.

والتلقين هو أهون هذه الأساليب؛ لأنه يستخدم في الحالات التي تحاط فيها قدرة الملقن ببعض القيود، فلا يستطيع أن يتسلط كل التسلط على الشخصية التي يحاول تلقينها ما يريد، ويلجئون إليه أحيانًا في معاملة الأسرى الذين يخشى آسروهم أن يشتدوا في معاملتهم؛ لأن أمثالهم من الأسرى موجودون في المعسكرات الأخرى، وقد ينتهي الأمر بعد فترة محدودة إلى تبادل الأسرى بين الطرفين. فإذا اشتد هذا الفريق في معاملة أسراه، فقد يشتد الفريق الآخر مثله أو يذيع الأمر في الهيئات الدولية إذا كان فيه شيء من المخالفة للمعاهدات والشرائع المتفق عليها.

وتقوم وسائل التلقين على الإكثار من الأسئلة، التي لا خطر لها في ظاهر الأمر غير استطلاع حالة المسئول والنفاذ إلى أسرار مزاجه؛ من مجرد ميله إلى التبسط في الكلام، أو إلى التحفظ في الجواب، أو إلى المراوغة التي يعرف لها سبب من الأجوبة نفسها، أو تدل على سبب يتيسر الوصول إليه من معاودة السؤال.

فإذا كتب السائل للمسئول مائة سؤال، فمنها السؤال عن اسمه وأسماء أبويه وإخوته، والسؤال عن معيشته الأولى وعن مسكنه وعن جيرانه وعشرائه في صباه، ومنها السؤال عن شعوره نحو نظام من النظم الاجتماعية أو نحو عظيم من عظماء قومه وعظماء الأقوام الآخرين، ومنها السؤال عن زواجه أو عن خطبته أو عن خطيبته أو عن أصهاره، ومنها السؤال عن علاقاته الجنسية، وعن رأيه في المحرم منها والمباح والمألوف منها وغير المألوف.

وقد يسأل الأسير عن أسباب وقوعه في الأسر، وعن الفرقة التي كان فيها عند أسره، وعن زملائه الذين وقعوا مثله في الأسر، أو تمكنوا من الهرب فهربوا ولم يستطع هو أن يهرب مثلهم لعجزه عن المقاومة أو قلة اكتراثه، أو غير ذلك من الأسباب التي تنم على معدنه ومزاجه، ولو عمد فيها إلى المغالطة واختلاق المعاذير.

فإذا اطلع الخبير النفساني على مائة جواب لمائة سؤال من هذا القبيل، لم يعسر عليه أن يتفهم طبيعة المسئول واستعداده لقبول بعض الآراء ونفوره من غيرها، وأن يتفهم منها مكامن الهوى الضعيف أو القوي، التي ينقاد منها للإغراء أو للخوف أو للتأثير أو للخداع أو للمطاوعة والنفاق؛ إيثارًا للعافية واستخفافًا بمسائل السؤال والجواب.

وهم يقسمون المسئولين إلى ثلاثة أقسام: أحدها عسير لا أمل في تحويله وقد يكون العناء في تحويله أكبر من الفائدة المرجوة من بذل ذلك العناء.

والقسم الثاني عسير يخضع للمعالجة بعد حين مع بذل بعض المجهود المستطاع.

والقسم الثالث سهل مطيع خاضع للإقناع والتأثير، وقد يبدو من أجوبته أنه راغب في التحول عن رأيه قليل المعارضة في موضوع السؤال، أو قليل المعارضة للمخالفين له على الإطلاق.

ومتى تم هذا التقسيم بدأت وسائل التأثير، واستخدمت فيها وسائل التخويف والإغراء؛ ومنها العزلة وزيادة المشقة والإذلال والتمييز في المعاملة، وأبلغ ما يكون الإغراء أثرًا حين يلمس كوامن الأحقاد الاجتماعية، والعصبيات القومية والدينية، ونوازع الغرور والعاطفة، وأبلغ من ذلك أثرًا حين يزلزل قواعد الثقة بالماضي والحاضر والمستقبل، ويعم فيه الشك والقلق حتى ينتزع من نفس الفرد كل طمأنينة إلى أمثاله وإلى المجتمع الذي نشأ فيه، وإلى الأمثلة العليا التي يعلق عليها آماله في الحياة، ويتم التحويل بمقدار نجاح الملقن في عزل «الشخصية» التي يعالج تحويلها، إلى أن تصبح هذه «الشخصية» على انفراد بينها وبين سائر الناس، فلا تنعقد الثقة بينها وبين أحد ممن حولها، ولا يكون العالم الإنساني في نظرها غير مجموعة من «النكرات» لا تتميز فيه الملامح والأشكال، ولهذا شوهد أن المقاومة تشتد وتستعصي على العلاج كلما بقيت للإنسان صلة دينية أو قومية أو فكرية على نحو من الأنحاء، وقد لوحظ أن الأسرى المسلمين في الحرب الكورية بطلت فيهم الحيل، فلم يفلح الملقن في استخلاص شيء منهم غير كلمات انتقاد لحكوماتهم، فاه بها اثنان بين مئات من الأسرى، وعاقبهما إخوانهما عليها بالمقاطعة والاحتقار، فندما على ما فاها به بعد أيام، وهذا مع نجاح الملقنين في تحويل ألوف من الأوربيين والأمريكيين، حتى رفض بعضهم أن يعود إلى وطنه بعد نهاية القتال.

أما وسيلة «غسل الدماغ»، فقد يقع فيها ما هو أعنف وأسرع وأبلغ أثرًا من التلقين بالإيحاء، وبث الأفكار في الجماعة على انفراد، وقد تستلزم سحق الشخصية حتى تعجز عن المقاومة بل عن مجرد الرغبة فيها، فيتقبل الإنسان كل ما يُلقى إليه، ثم يصدقه ويؤمن به ويتعصب له بعد معاودته لرغباته ونشاط فكره وجسده، ويخرج من العلاج مخلوقًا آخر غير المخلوق الذي بدأت معه المحاولة أول الأمر على غير هواه.

ومن وسائل غسل الدماغ إجراء عملية جراحية في مقدم المخ على الطريقة التي اتبعها بعض الجراحين في ترويض الحيوان الشرس أو الحيوان المريض.

ومن وسائله استئصال الغدد وحقنها بما يضعفها تارة، ويضاعف نشاطها تارة أخرى.

ومنها المعالجة بالعقاقير التي تشل الإرادة، ولكنها لا تشل الدماغ عن العمل والاستماع إلى التلقين والتوكيد.

ومنها استخدام العقاقير لتخدير المصاب واستعادة بعض المزعجات التي تغلغلت في باطنه، ثم إطلاق العنان لها لكي تبلغ مداها من الثورة الشعورية، فيستريح المصاب من المزعجات المكتومة بتصريفها وتحويلها من الباطن المجهول إلى الظاهر المكشوف، وتنجح هذه المحاولة في أحوال الخوف والغضب، ولكنها لا تنجح مثل هذا النجاح في أحوال السآمة والكآبة والاستسلام، بل لا بد في هذه الأحوال من رد المصاب إلى النشاط النفساني، ولو بتعريضه لتيارات الكهرباء، أو نقص بعض المقادير من المواد الجسدية وزيادة بعضها، على نسب مقدورة يختارها الأطباء المختصون لكل مريض على حسب الضرورة.

وقد يعمدون فيما يسمونه غسل الدماغ إلى تحطيم المقاومة الشخصية بالتعب المفرط، أو التهويل المرعب، أو بالتجويع والإظماء إلى المدى الذي يبطل بعده كل ثبات على المقاومة، ثم يعمدون إلى علاج العقاقير والكهرباء والوسوسة بالأفكار والنوازع النفسية خلال ذلك بغير إكراه ولا إظهار للرغبة في الإقناع؛ لأن المصاب ينتهي بعد ضروب العلاج المتقدمة إلى حالة كحالة الطفل الذي يحكي كل ما يراه ويسمعه حكاية آلية لا تفكير فيها، ثم يرسخ في طويته كل ما رآه وسمعه كذلك بغير تفكير.

وقد امتلأت مكتبة الدراسات النفسية بمئات المؤلفات، التي يكتبها علماء النفس والأطباء الجراحون وأطباء الأمراض العصبية والباطنية في موضوع التلقين وموضوع غسل الأدمغة، فثبت من هذه المؤلفات أن كثيرًا من التجارب التي أجريت بعد الحرب العالمية الثانية بصفة خاصة، كان لها أثر فعال في انتزاع الأوهام التي غرستها مخاوف الحرب في أذهان المقاتلين وغير المقاتلين، وأنها قد يساء استخدامها في محاولات غير مشروعة لتخدير الإرادة وإملاء الخواطر التي يرفضها المصاب كل الرفض لو رجع الأمر إلى اختياره، وقد يعالج بمثلها للخلاص مما أقحم على ذهنه من الدوافع والخواطر؛ ليملك حريته في العودة إلى ما كان عليه قبل إخضاعه لذلك «الإقناع بالإكراه».

أما المقصد الثالث من هذا الفن الجديد، وهو توجيه الأفكار، فالجديد منه محدود بما حدث من المخترعات، أو بما تداوله الاصطلاح العصري من أسماء العلل وضروب العلاج، ولا نذكر فيما عدا ذلك كشفًا جديدًا يزيد به المعاصرون على فنون الدعاية التي عرفها الأقدمون، وبخاصة دعاة الدولة الفاطمية قبل ألف سنة، فليس في دعاية العصر من جديد ذي بال يُضاف إلى دعاية السر والعلانية، التي حذقها أقطاب الدعوة الفاطمية في تخريج المريدين على درجات إلى التشويق بالأسرار والكنايات إلى اختراع النحل وتنظيم الندوات، وعرض المناقشات وتسيير المواكب وإقامة الموالد، واستغلال الخفايا والرموز، وتيسير وصول بعض الأفكار وتعسير وصول بعضها، أو الاحتيال على وصوله بعد إثارة الشكوك حوله وإحاطته بالتهم والشبهات.

وعلينا أن نذكر في هذا الصدد كما نذكر في كل معرض من معارض البحث ذلك السؤال الخالد: هل من جديد تحت الشمس؟

والجواب الخالد عن ذلك السؤال الخالد أنه لا جديد كل الجدة في أمر من أمور هذا العالم الإنساني المتكرر المتجدد المستعاد على شتى الوجوه والأشكال.

فماذا كان يصنع الوعاظ الأقدمون كلما أنذروا الناس وخوفوهم غضب السماء، أو شوقوهم إلى النعمة والغفران، أو استثاروا غضبهم على أعداء الحق وأشياع الباطل وفرقوا أمامهم بين حزب الله وحزب الشيطان؟

وماذا كان يصنع الناس والهداة كلما اعتصموا بالصيام والعزلة، وجاهدوا الجسم والنفس بالرياضة على الشدائد، والزهد في اللذة والراحة، والإعراض عن مزالق الإغراء، والترغيب والصبر على ألوان التعذيب والترهيب؟

إنهم جميعًا كانوا يعلمون أثر الخوف والغضب في تهيئة النفوس والأذهان للإصغاء إلى الوعد والوعيد، وكانوا يعلمون جميعًا أن زمام الروح مرهون بزمام الجسد، وأن الفكرة التي تكسر الشرة وتقمع الشهوة ضرورة لازمة لتمهيد سبيل الاعتقاد وتغليب العزيمة على وساوس الشك والغوية.

وقديمًا عرف الهداة كيف يغسلون القلوب أو يغسلون «الأدمغة» إذا طاب لنا أن نتحدث برموز العصر الحديث، ولكنهم أقنعوا الناس كما أقنعوا أنفسهم ولم يجعلوهم آلات تُدار إلى اليمين أو إلى اليسار.

١  مجلة الأزهر يونيو ١٩٦٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤