تاريخ المستقبل

وددت أعرض على القارئ تلك المقارنة البديعة، التي جاءت بها يراعة «ونتوورث دي ويت» Wintworth De witt، الفيلسوف المتخصص لدراسة أبيقور، لولا أنها مقارنة تستلزم منا تمهيدًا طويلًا في تصحيح أغلاط التاريخ عن «أبيقور»؛ الفيلسوف المظلوم الذي أصبح اسمه علمًا على «الشهوانية»، ولم يكن بين الفلاسفة من هو أبعد منه عن الشهوات.

يقارن دي ويت بين أبيقور والقديس بولس إمام المسيحية في القرن الأول بعد الميلاد، ويعزز مقارنته بالنصوص وشواهد الحياة، ويدع القارئ وهو على يقين من سخافة التاريخ وطهارة الفيلسوف المظلوم.

ولو اتسع المقال للتمهيد والتصحيح على هذه الوتيرة، لكانت هذه الأعجوبة سيدة الأعاجيب بين واردات الأدب الأخيرة، ولكنها أسلم وأوضح؛ حيث تأتي بعد تمهيدها الملائم، ومع تصحيحها المطلوب.

ونحن نستبدل بها هذه الخاتمة عن كتاب في تاريخ المستقبل، فربما كان الكذب على تاريخ المستقبل أقل كثيرًا من كذب المؤرخين على الماضي البعيد، أو على الحاضر القريب.

وأشهد بعد هذا أن الكتاب الأخير عن تاريخ المستقبل جد صارم، لا يأتيه الهزل من بين يديه ولا من خلفه.

غير أننا معشر الشرقيين سنضحك منه قبل أن نطويه ضحكة الرضا، وسيضحك منه معشر الغربيين ضحك الاستخفاف، ويتمنون له التكذيب من الغد؛ لأنهم لا يملكون في أمره غير هذا الضرب من الأكاذيب.

يتحدى الكتاب مصير الإنسان، ويستند في نبوءاته إلى الإحصاء وأطوار التقدم حسب الحقائق التي يعلمونها اليوم، أو الحقائق من طراز ١٩٥٤.

ويقول عنه العلامة آينشتين:

إننا خلقاء أن نشكر هاريسون براون على هذا الكتاب، الذي بحث فيه أحوال الإنسان كما تتكشف اليوم للناظر المثقف الجلي النظر.

ويشفق المؤلف على قرائه من جد العلم فيمزج فصوله بالشعر، ويخص الشعر الشرقي بقسط غير قليل، فهو يفتتح الفصل الأخير بأبيات الخيام التي يقول فيها:

آه يا حبيبي، ليتنا نضع أيدينا مع القدر على أداة هذه الدنيا المحزنة، فنحطمها بددًا ونعيدها على هوانا نشأة أخرى.

ويختتم الفصل بأبيات تاجور التي يصف بها العالم الإنساني كما يتمناه:

وحيث العقل لا يخاف والرأس مرتفع
وحيث المعرفة طلقة من قيودها
وحيث الدنيا لم تتمزق أشتاتًا ولم تنفصل بجدرانها الضيقة حول الأوطان
وحيث الكلم ينطلق من أعماق الصدق الصراح
وحيث الجهد يبسط يديه صوب الكمال
وحيث العقل جدول لم يضل سبيله إلى صحراء العادات
وحيث البصيرة تمضي بهديك إلى مجال من الفكر والعمل أوسع وأجدى
… إلى ذلك المصير … إلى تلك السماء الحرة أيقظ أمتي يا أبتاه

•••

غير أن العقدة كلها في الطريق قبل هذه النهاية
وفي الطريق يقول «المتنبئ العلمي»: إن الحضارة الصناعية ستنهار
تنهار لأنها تخلق السلاح
وتنهار لأنها تخلق النزاع بين الأمم والطبقات
وتنهار لأنها تستنفد المعادن التي لا غنى عنها لتسيير الطاقة والانتقاع بقواها
وتنهار لأنها أول هدف للمتقاتلين من المعسكرين
وتنهار لأنها تمسخ الإنسان وتصوغه في قالب الآلات والمصنوعات
هذه حضارة تنهار ولا فرار لها ولا قرار
فما الحضارة التي تخلفها مع الزمن، ويقوم عليها عمار الأرض، وتأمن عواقب الفناء؟

قال ونرجو له الصدق فيما قال:

إن الحضارة الآتية
إن الحضارة الباقية
هي الحضارة الزراعية كرة أخرى

ولا بد أن يضحك الشرقيون والغربيون راضين أو ساخرين، فقد لبثوا مائة سنة يسمعون أن الحضارات جميعًا صائرة على الصناعة والتصنيع، ويعلمون أنه رأي العلم وأنها نبوءة الواقع الملموس باليدين.

وبقي اليوم بعد قول الخيام وقول تاجور بيت واحد يقوله أبو العلاء:

تقفون والفلك المحرك دائر
وتقدرون فتضحك الأقدار

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤