الإيمان بين التفكير والفلسفة١

يُنسب إلى المعري أنه قال في اللزوميات:

قلتم لنا خالق حكيم
صدقتم، هكذا نقول
زعمتموه بلا زمان
ولا مكان، ألا فقولوا
هذا كلام له خبيء
معناه ليست لكم عقول

ويُروى «قديم» بدلًا من حكيم في البيت الأول، وهي رواية ضعيفة متناقضة؛ لأن من يقول بقدم الخالق لا يستغرب بعد ذلك أن يكون بلا زمان؛ فإن أقرب معاني القدم إلى الذهن ألا يكون مسبوقًا بما هو أقدم منه، إن لم يكن سابقًا للزمان.

ونحن على كلتا الروايتين نتردد في نسبة الأبيات إلى أبي العلاء؛ لسبب يتعلق بالصيغة في اللزوميات على الخصوص؛ فإن أبا العلاء إنما نظم قصائده التي التزم بها ما لا يلزم في القافية؛ ليتقيد بأكثر من حرف واحد في الروي، فليس من المناسب لهذا القيد أن ينظم ثلاثة أبيات: اثنان منها منتهيان بنقول وقولوا، وهما مضارع فعل واحد، ولم يكن عزيزًا عليه أن يتجنب هذا الإيطاء الذي يتجنبه الشعراء ممن لا يلتزمون في الروى والقافية ما كان يلتزمه رهين المحبسين.

وأيًّا كان قائل الأبيات، فهو ولا ريب من المفكرين الذين يتعرضون للفلسفة بغير أداتها، وقديمًا كان التفكير والفلسفة لفظين بمعنى واحد، يحل أحدهما محل الآخر بلا اختلاف في رأي الكثيرين، ولكن موضوعات التفكير قد تخصصت بعد تصنيف العلوم على أوضاعها الحديثة، فتعددت ملكات التفكير على حسب الموضوعات والعلوم التي يتصدى لها المفكرون.

هناك التفكير العلمي، ويكفي فيه أن تكون للباحث قدرة على ملاحظة التجارب المحسوسة والمقابلة بين المتشابه منها والمختلف، والإفضاء من هذه المقابلة إلى نتيجة عامة محسوسة قلما تتعدى الوصف والإحصاء.

وهناك التفكير الرياضي، ويكفي فيه أن يتفهم الباحث علاقات المدركات الذهنية، التي يسلمها العقل فرضًا وتقديرًا ولو لم يكن لها وجود في الخارج، وأكثر ما تكون الحقائق الرياضية تقديرات ذهنية لا تُرى بالحواس، بل لا يتصورها العقل إلا من قبيل التسليم بالفرض الذي لا بد منه، كالنقطة الهندسية التي لا طول لها ولا عرض ولا عمق ولا امتداد على الإطلاق، وكالبسيط الذي يُخالف المركب في الأشكال والأبعاد، فإن الذهن الرياضي يعقل من هذه الفروض ما لا وجود له في الطبيعة، ولا دليل عليه، إلا أنه مستلزم بحكم البداهة، وليس هذا الفرض من ضروب التفكير التي يطبع عليها من طُبع على جمع المعلومات بالمشاهدة والتجريب.

والتفكير الفلسفي ملكة أخرى لا تشبه كل الشبه ملكة العلم التجريبي وملكة الفروض الرياضية، ولكنها تشترك فيهما بنصيب لا غنى عنه، وقوامها الأكبر أن تحسن الفهم في المسائل المجردة، أو المفارقة، كما يقول المتقدمون. وهي بهذا قد تشبه الرياضة إلى حد بعيد، لولا أن الرياضة تنتهي إلى الفرض، ولا يعنيها أن تتصوره أو تحوم حوله بوجدان أو إلهام.

وصاحب الأبيات الثلاثة مفكر يعتمد على المشاهدة التجريبية في فهم الحقائق الفلسفية، فيستغرب البديهيات التي تنتفي بها الغرابة عند الفيلسوف، وهي استقلال وجود الخالق عن الزمان والمكان.

إن الذي استغربه قائل الأبيات الثلاثة هو الفهم الوحيد الذي يستطيع الفيلسوف أن يفهم به وجود الخالق المبدع لجميع الموجودات، ومنها الزمان.

فليس في وسع العقل الفلسفي أن يتصور خالقًا يسبقه زمان ويحيط به مكان، ولا بد للخالق من استقلال عن الوقت وعن الحيز المحدود، ولن يكون الحيز إلا في حدود، ولن يكون الخالق الأبدي إلا منزهًا عن جميع الحدود.

وإنما استغرب قائل الأبيات أن يتنزه الخالق عن الزمان؛ لأنه لا يفهم بالمشاهدة الحسية كيف يفرق بين الوجود في الزمن وبين الوجود بلا زمن، وهو الوجود الأبدي السرمدي؛ وجود الخالق المنزه عن الحدود والأشكال.

أما العقل الفلسفي، فإنه يستطيع على الأقل أن يفرق بين الوجودين، وأن يدرك أنهما نقيضان متقابلان في أهم الصفات، ولا يلزم من إدراكه الفرق بينهما أنه يحيط بهما تصورًا وتصويرًا للحسِّ أو للبديهة؛ لأن التناقض بين الوجود والعدم — مثلًا — معقول، وإن لم يكن في وسع العقل أن يحيط بماهية الوجود كله أو يدرك العدم على أي حال من أحوال الإدراك، غير إدراك الفارق بينه وبين الوجود.

وكذلك الأبد والزمن نقيضان؛ فالأبد لا يتصور مع الحركة، ولكن الزمن لا يتصور إلا مع الحركة.

الأبد لا تعقل له حركة في مكان؛ لأنه بلا بداية ولا نهاية، وبلا أول ولا آخر، وبلا حيز ينتقل من بُعد إلى بعد ومن موضع إلى موضع.

والزمن على نقيض ذلك؛ لا يتصوره العقل إلا مع الحركة التي لا يخلو منها مكان.

وهنا يشترك العقل الرياضي والعقل الفلسفي في ملكات التقدير الصحيح؛ فالعقل الرياضي يستلزم أن يفرق بين الزمن والأبد، ويستلزم أن يكون الزمن مبتدئًا، وأن يكون الأبد بغير ابتداء، ولا يستلزم أن يكون معهما ثالث بين هذا وذاك.

وعلى هذا النحو يدركهما العقل الفلسفي كما أدركهما حجة الإسلام الغزالي — رضوان الله عليه — فإنه استلزم أن يكون أبد، وأن يكون زمن لا زمن قبله، ولم يستلزم بينهما شيئًا ثالثًا؛ لأن هذا الشيء المقتحم من أغاليط الأوهام، كما قال — رحمه الله.

ويقال عن المكان ما يقال عن الزمان، وغاية الفرق بينهما أن أحدهما امتداد مع الحركة، والآخر امتداد مع السكون. وإذا كان العقل الفلسفي لا يحيط بحقيقة المكان إدراكًا وتصورًا، فإنه ليستطيع أن يتبعها إلى مقتضاها فيغنيه ذلك بعض الغنى عن الإدراك الشامل والتصور المحيط؛ إذ هو يستطيع أن يتبعه فيدرك أن وراءه شيئًا غير الامتداد الذي يتراءى للإنسان. فلا بد من شيء وراء النقطة الهندسية التي هي حقيقة من الحقائق، ولكننا لا نفرض لها امتدادًا على على الإطلاق، وكذلك الخط الذي هو مجموعة من النقط على هذه الصفة، وكذلك النهاية الصغرى التي لا نصل إليها بالحساب في الأبعاد ولا في الأرقام.

هنالك شيء وراء امتداد الحركة ووراء امتداد السكون.

ما هو على التحقيق؟

لا ندري، ولا يمكن أن ندري، ولكنه هناك!

وننتهي الآن إلى السؤال الذي لا مناص منه؛ وهو: كيف إذن يكون الإيمان بالحقائق الأبدية؟ وكيف إذن يكون الإيمان بالخالق الذي لا أول له ولا آخر ولا زمان ولا مكان؟

إن العقل لا يستطيع أن يحيط به إدراكًا وتصورًا على وجه من الوجوه، ولكنه يستطيع أن يدرك ضرورة الإيمان بغير شك وبغير محال.

إن الخالق الذي يستحق أن نؤمن به لا تكون له حدود ولا يحصره إدراك، ومن كان كذلك فهو أعظم من أن تحيط به العقول.

فماذا يكون حكم العقل في هذه الحقيقة التي يقررها ولا يسعه أن يقرر غيرها؟

هل يكون سبب الإيمان مانعًا للإيمان؟

هل تكون «الأبدية» مبطلة لوجود الخالق ومبطلة للإيمان به أو الإيمان بوجوده وهي شرطه وسببه وداعيه؟

العقل يدرك على الأقل أن الإيمان ضرورة «عقلية»؛ لأن سبب الشيء لا يكون مبطله وسبب إلغائه ونقضه.

والعقل إذن يستلزم التسليم بالإلهام والهداية الدينية في الأمور التي تمتنع الإحاطة بها؛ لأنها بطبيعتها وراء متناول العقول.

هل معنى ذلك أن العقل لا عمل له في الإيمان، ولا قدرة له على بلوغ الهداية؟

كلا! فإن القول بترك المجهود العقلي غير القول ببذل المجهود إلى غاية مداه والانتهاء من هذا المدى إلى ما يليه.

فرق بين أن يقال: إن الإيمان ضرورة عقلية، وأن يقال: إن الإيمان يناقض العقل، أو أن العقل لا يعمل شيئًا في السعي إلى الإيمان.

وحسْبُ العقلَ «أولًا» أن يعلم أن الوجود الأبدي ضرورة عقلية، وأن الإيمان به كذلك ضرورة عقلية، وأن هناك مطلبًا يسعى إليه ليدرك منه ما وسعه إدراكه وينتهي منه إلى الملكة التي تهدي إليه؛ فإنه يدرك هذه الحقائق «عقلًا» ولا يتسنى له «عقلًا» أن يهملها ويدع البحث عنها، ومتى آمن بذلك فقد أسقط الإنكار من حسابه، فليس في وسعه أن ينكر لسبب معقول، وقد جاء في الأثر أنه «كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك»، وما خطر على البال فهو موجود، وإن لم يكن له مثيل في الوجود.

١  مجلة الأزهر يوليو سنة ١٩٥٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤