البحث العلمي في تاريخ الأدب١

لنا رأي خاص حول فائدة البحث العلمي في تمحيص تاريخ الأدب، محصله أن استخدام هذا البحث قمين أن يبين لنا موضع الصحة وموضع التلفيق من كل خبر وكل رواية؛ لأنه يبين لنا صعوبة التلفيق، بل استحالته أحيانًا على من يريده ويتعمده، إذا تكشفت المقابلة بين الأخبار والروايات عن حقيقة علمية كانت مجهولة في الزمن الذي ترجع إليه.

وتتكشف هذه المقابلة بين أخبار امرئ القيس — الملك الضلِّيل ذي القروح — عن حقيقة القروح التي قيل إنه أصيب بها من أثر حلة مسمومة أرسلها إليه قيصر انتقامًا منه — لمغازلته بعض حرمه — فإذا بالإصابة كلها تتمشى بأعراضها من أيام صباه؛ إذ كان له — كما قالت إحدى صواحبه — عرق يفوح برائحة كلب، وكانت تلازمه حالة من حالات الخلل الجنسي تشاهد مع حالات الالتهاب الجلدي، ولا بد أن تنتهي — مع إهمال العلاج — إلى عواقبها التي ظهرت قبيل وفاته.

ونود أن نتبسط الآن بعض التبسط في أمثال هذا الخبر عن موت امرئ القيس، فإنني تبينت بعد المقابلة بين أخبار الكثيرين ممن توسعت في درس سيرتهم، وقيل عنهم بإجماع الرواة إنهم ماتوا مسمومين؛ أن الآفة كلها في هذه الأخبار إنما هي آفة العجز عن تطبيق النقد العلمي والتعجل في صرف الحوادث التاريخية بالعلل القريبة، على مثال التحقيقات الجنائية التي تختم بإحالة الأمر على القضاء والقدر؛ إيثارًا للسهولة وإخلادًا إلى العفو والعافية.

ومن أصحاب السير التي توسعت في درسها وانتهت حياة أصحابها على قول المؤرخين بدس السم لهم في الطعام أو الدواء؛ سيرة ابن الرومي في الأقدمين، وسيرة جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي في المحدثين، فإن أيسر مراجعة علمية للأعراض التي صحبت وفاتهم خليقة أن توجه النظر إلى تعليل الوفاة بأسباب غير السم، وأن تصحح أخطاء المؤرخين في أمور كثيرة ترتبط بتاريخ العصر كله ولا تنحصر في سير أولئك الأدباء والزعماء.

فالمشهور عن وفاة ابن الرومي كما جاء في تاريخ ابن خلكان وغيره: «أن الوزير أبا الحسين القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب، وزير الإمام المعتضد، كان يخاف من هجوه وفلتات لسانه بالفحش، فدس عليه ابن فراش فأطعمه خشكنانجة مسمومة وهو في مجلسه، فلما أكلها أحس بالسم، فقال له الوزير: إلى أين تذهب؟ فقال: إلى الموضع الذي بعثتني إليه. فقال له: سلم على والدي! قال له: ما طريقي على النار.»

وقد تداول المؤرخون من الشرقيين والمستشرقين هذه القصة، وأعجبهم موقع النكتة منها، مع وضوح الكذب فيها وسهولة الاهتداء إليه بالرجوع إلى تاريخ وفاة عبيد الله بن سليمان، الذي طلب الوزير إلى الشاعر أن يبلغه سلامه في العالم الآخر، فإنه كان حيًّا بعد آخر تاريخ ذكره الرواة لوفاة ابن الرومي بأربع سنوات؛ إذ مات سنة ثمان وثمانين ومائتين.

والعجيب في قصور وسائل التحقيق عند المؤرخين أنهم لو راجعوا شعر الشاعر لعلموا أنه عاش إلى ما بعد سنة ثمانين؛ لأنه بلغ الستين كما قال:

طربت ولم تطرب على حين مطرب
وكيف التصابي بابن ستين أشيب!
أما سبب الوفاة الصحيح فلا ريب عندنا فيه، وهو تسمم جرح فسد في جسم مريض مصاب بمرض السكر، وليس أوضح من ذلك عند مراجعة جملة الأخبار والحقائق التالية:
  • (١)

    كان ابن الرومي مشهورًا بالنهم والإفراط في أكل الحلوى والدسم.

  • (٢)

    أصيب بجرح غلط فيه الطبيب كما قال:

    غلط الطبيب عليَّ غلطة مورد
    عجزت موارده عن الإصدار
    والناس يلحُون الطبيب وإنما
    غلط الطبيب إصابة الأقدار
  • (٣)

    زاره صديقه الناجم في مرض وفاته فرآه يشكو من إلحاح البول وعنده ماء مثلوج، فلما لاحظ الناجم ذلك قال الشاعر:

    غدًا ينقطع البول
    ويأتي الهول والغول

وجعل الشاعر يشرب من الماء المثلوج ولا يُروى فقال:

وأراه زائدًا في حرقتي
فكأن الماء للنار حطب

ولا حاجة إلى غير المقابلة بين هذه الأخبار والروايات لنعلم أننا أمام حالة مرضية معروفة لا شك فيها؛ حالة رجل منهوم مفرط منذ صباه إلى شيخوخته في أكل الحلوى والدسم، ففصده الطبيب وهو لا يعلم خطر الفصد في مثل حالته، ثم فسد الجرح فاعتراه كل ما يعتري مريض السكر؛ من شدة الظمأ وإلحاح البول والشعور بمثل ما يشعر به المسموم.

وليس بنا — هنا — أن نُحاسب المؤرخين الأقدمين على قلة إدراكهم لهذه الحقيقة من جملة الأخبار التي رووها، ولكننا نستدل على صدق رواياتهم بهذه المطابقة بينها وبين الأسباب العلمية، ونخرج من ذلك إلى تحقيق جديد لرأي القائل: إن لسان الحال أصدق من لسان المقال، وإننا مطالبون بأن نستمع اليوم إلى لسان الحال قبل أن نستمع إلى أقوال المؤرخين وآرائهم فيما يقصدونه ويتعمدونه من العلل والتفسيرات.

•••

ولقد شاع عن أسباب وفاة السيد جمال الدين الأفغاني أنه مات بمرض السرطان في فكه، وأن هذا المرض أصابه من يد طبيب مدسوس عليه من قبل السلطان أو من قبل رئيس الشرطة.

لكن السرطان لم تكن له جراثيم معروفة يلقح بها المريض في أوائل القرن العشرين، وقد أصيب السيد بآلام في فكه قبل أن يعرض حالته على الطبيب، وقبل أن يسوء علاجه عمدًا أو خطأ، إن صح أنه ساء.

وليس من المستغرب أن يُصاب السيد جمال الدين بالتهاب الفك مع إفراطه في تدخين التبغ الحار وإفراطه في تناول الشاي المرير، وأن يتعسر بعد ذلك علاج الداء كما تعسر علاج داء قريب من هذا في فك «أحمد فؤاد»، ملك مصر السابق، مع الفارق الكبير في العناية بالحالتين، ومع التقدم في فنون العلاج خلال ثلاثين سنة بعد أيام السيد جمال الدين.

•••

وقد دعتني الكتابة عن الكواكبي إلى استقصاء الأخبار عن سبب وفاته، فكان أشهرها وأسبقها إلى خواطر أبناء عصره أنه مات مسمومًا، ولم يستطع شهود الوفاة من صحبه أن يعللوا وفاته بغير هذه العلة.

ولكنني راجعت تفصيلات الخبر في مراجع عدة، فرأيت الأستاذ محمد كرد علي يقول: «إنه شعر بالأمس بوجع في ذراعه وما عرف له تعليلًا.»

ورأيت الأستاذ صالح عيسى يقول إن السيد عبد الرحمن «استدعاني إليه وكنت جالسًا إلى قربه، وقال لي: أحس بوجع شديد في خاصرتي اليسرى.»

وجاء في خبرٍ نشرتْه مجلة الحديث الحلبية «أنه شرب قهوة مرة، وبعد نصف ساعة أحس بألم في أمعائه، فقام للحال وقصد مع ابنه السيد كاظم في عربة حنطور إلى الدار، وظل يقيء حتى قارب الليل منتصفه، فأصيب بنوبة قلبية ضعيفة …»

وليس يحق للمؤرخ أن يبعد من ذهنه علة الذبحة الصدرية وهو يقابل بين هذه الأعراض؛ من ألم الذراع وألم الخاصرة والنوبة القلبية على أثر القيء وألم الأمعاء. وقد ذكر الأستاذ محمد لطفي جمعة فعلًا في مقال نشره بمجلة الحديث سنة ١٩٣٧ أن الكواكبي «ذهب ضحية ذبحة صدرية.»

•••

تلك سيرٌ ثلاث، لم أتعهد جمعها من عصر واحد، ولم أبحثها في وقت واحد، ولكنها مصادفات، تدل كل مصادفة منها على فائدة البحث العلمي للتمييز بين مواضع الصدق ومواضع التلفيق في أقوال المؤرخين، وأن التاريخ بحذافيره وشيك أن يتغير إذا عرضناه على ضوء المعارف التي كانت مجهولة من قبل، ثم انجلت عنها غشاوة الجهل شيئًا فشيئًا، حتى بلغت مداها من الوضوح والثبوت في العصر الحاضر. ونعود في ختام هذا المقال إلى رأينا في ضرر التخصص الضيق للأدب أو للعلم في الثقافة العصرية، فلا بد لميزان النقد اليوم من تمام الأداة التي ينتفع بها في هذه الصناعة، ولا غنى للأديب ولا للعالم عن الإلمام بغير ثقافته الخاصة، لتصحيح الحكم على حقيقة من حقائق المعرفة العامة.

١  مجلة الأزهر مارس سنة ١٩٦٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤