عبث لا يسكت عليه١

وصلت إلينا تعليقات شتى على اليوميات، يتندر أصحابها بتلك الدعاوي التي يدعيها لنفسه الشيخ أمين الخولي متعالمًا بها على خلق الله أجمعين، من الأولين والآخرين.

وكتب إلينا السيد «محمد نجيب المطيعي» صاحب مكتبة المطيعي بشارع العباسية — وهو كما ينبئ عنه خطابه من المتتبعين لمراجع الأحاديث — خطابًا مطولًا عن أقاويل منسوبة إلى النبي — صلوات الله عليه — وإلى الإمام مالك وإلى الخليفة هارون الرشيد، يجترئ بها الشيخ أمين الخولي على حقائق التاريخ وعلى دعائم الإسناد، اجتراء لا يقل ما فيه من دلائل الجهل بالتاريخ على ما فيه من مساوئ التبديل والتحريف.

والحق أنه عبث لا يُسكت عليه لأحد، ولا يُسكت عليه — خاصة — لإنسان لم يكتب صفحة إلا ليتعالم بها على الناس؛ بدعوى التحقيق والتصحيح والفهم النافذ والعقل الرجيح، وليس يحتاج الناس إلى التحذير من أحد كما يحتاجون إلى التحذير من إنسان يتطاول ويتعالى باسم الأسانيد والمراجع، وهو بهذه الجرأة على ما يجهل وبهذه الجرأة على ما يعلمه، ثم يستطيل عليه بالتبديل والتحريف.

ومن الموضوعات التي تلقينا الرسائل في التنبيه إليها، ما ورد في باب «السياسة ومالك»؛ حيث يقول الشيخ أمين الخولي ما ننقله بحرفه:

وكذلك الأمر مع الرشيد، يوشك أن يشد فيتردد في إتيانه حينما دعاه وهو بالمدينة ثم يرخي ويأتيه أخيرًا، لكنه يشد في الحديث السفرجل؛ إذ أرسل إليه الرشيد ينهاه أن يحدث بحديث معاوية في السفرجل، وهي الشنشنة الحمقاء من الحكام دائمًا؛ إذ يحسبون أنهم يطمسون الحقيقة ويمحون ما في الكتب، وذلك أن حديث السفرجل هذا يذكر أنه أُهدي إلى رسول الله سفرجل، فأعطى أصحابه واحدة واحدة، وأعطى معاوية ثلاث سفرجلات، وقال له: الْقَنِي بهن في الجنة … وهو وجه من الفضل لمعاوية؛ رأس الأمويين أعداء العباسيين. فلما جاء النهي مالكًا تلا قوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون).

ثم قال: والله لأخبرن بها في هذه العرصة، حدثني نافع بن عمر قال: «كنت عند رسول الله فأُهدِيَ إليه سفرجل …» الحديث.

انتهى كلام الشيخ أمين الخولي سند الأسانيد ومعلم المؤرخين.

انتهى كلام الشيخ في خبر من أخباره المحققة، وأوجز ما يقال فيه أنه مكذوب على كل من ذُكر فيه: مكذوب على الله، وعلى النبي، وعلى مالك، وعلى هارون الرشيد، وعلى نافع، وعلى ابن عمر، وعلى المذكورين والمحذوفين ممن يُنسب إليه.

نعم، كل من ذُكر في هذا الخبر مكذوب عليه، حتى الله — جل وعلا — وحتى النبي — صلوات الله عليه.

«أولًا» حذف الشيخ أمين جزءًا في وسط الآية الكريمة التي نقلها، وهو قوله تعالى: «فِي الْكِتَابِ» بعد «مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ.»

وتمام الآية الكريمة بنصها هو: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ.

وإنما حذف هذا الجزء من الآية الكريمة وليس هو في نهاية الكلام؛ لأنه لو ذكر كما جاء في القرآن الكريم، لثبت افتراء الخبر على مالك — رضي الله عنه — لأن مالكًا يعف عن الخلط بين الحديث والكتاب، فلا يجترئ على جعل الحديث من الآيات المنزلة في القرآن.

وهذا هو الكذب على الله.

أما الكذب على النبي — صلوات الله عليه — فهو ثابت من الروايات الصحيحة جميعًا، وهو أثبت من ذلك بسند التاريخ الذي لا شك فيه.

فليس في روايات الحديث الصحيحة خبر عن هذه القصة بحذافيرها، وجميع المصادر المعول عليها التي ألفها الثقات عن الأحاديث الموضوعة قد ذكرتها بين الأحاديث المكذوبة، وعقب عليها بعضهم بلعن الكاذبين.

على أن كذب الخبر بالسند الذي لا شك فيه من التاريخ يغني عن النظر في أقوال الرواة الثقات وغير الثقات؛ فإن الخبر يُروى عن جعفر بن أبي طالب — رضي الله عنه — أنه أهدى السفارج إلى النبي — صلوات الله عليه — والمعلوم علم اليقين أن جعفرًا قُتل في غزوة «مؤتة» في شهر جمادى الأولى، ومعاوية بن أبي سفيان أسلم بعد فتح مكة في شهر رمضان، فبين مقتل جعفر وإسلام معاوية أكثر من خمسة شهور، ولا محل بعد ذلك للسؤال عن صدق الرواة للأحاديث؛ فإن كذب الخبر بالتاريخ المحقق ثابت ثبوت اليقين الذي لا يحتمل الخلاف.

والشيخ أمين الخولي — الذي وضع التاريخ كله جميعًا تحت حمايته — يحذف اسم جعفر من الخبر، فيقول إن النبي أُهْدِيَ إليه السفرجل بصيغة المجهول، فلماذا يختزل اختزاله حتى في نقله للخبر المكذوب؟! أيحذف الاسم هنا كما حذف الكلمتين من الآية الكريمة؛ لأن ذكر اسم جعفر قاطع في تكذيب ما رواه؟

قال الشوكاني في كتاب «الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة» بعد إيراد ذلك الحديث المكذوب: «وجعفر قُتل في مؤتة، ومعاوية إنما أسلم عام الفتح، فلعن الله الكذابين.»

•••

أما الكذب على الإمام مالك، فشاهده الذي لا حاجة إلى شاهد غيره أن «موطأ مالك» خالٍ من ذكره ومن الإشارة إليه.

وشاهده الذي هو أقوى من كل شاهد آخر، أن مالكًا — رضي الله عنه — لا يجعل الحديث من الآيات البينات المنزلة في القرآن الكريم.

ولا محل للإفاضة في بيان الكذب على الخليفة هارون الرشيد، الذي رماه الرجل الثبت المتحرج بالحماقة وهو يستند إلى كل تلك الأباطيل، فإن مالكًا — رضي الله عنه — لم يروِ الحديث ولم يكن للرشيد من داعٍ إلى الحجر على روايته، وليس الرشيد بالذي يجهل الخبر عن مقتل جعفر بن أبي طالب وهو على علمه وعلم عترته بتاريخ أهل البيت.

•••

وأما الكذب على نافع وابن عمر، فيكفي في إثباته أن الخبر لم يرد في موطأ مالك، ولم يأت له ذكر في غير رواية يعيش بن هشام.

والدارقطني يقول عن يعيش هذا: «إنه يروي الغرائب»، وكل أفراد إسناده بين ضعيف ومجهول.

والخليل يقول عن هذا الحديث: «إنه منكر جدًّا.»

والحافظ الذهبي يقول إنه موضوع.

والسيوطي يقول إنه لا أصل له.

ولم ترد الإشارة إليه حيث وردت من كتب التحقيق إلا ليتبع بإبطاله أو بتضعيفه أو بلعن راويه.

وهذه هي الأسانيد التي يحققها الشيخ أمين، ويحتكر من أجلها أن يلقن التاريخ كلمته الأخيرة في التراجم، ويتخذها قدوة للذين ينعى عليهم «الحاجة الشديدة للأصول التاريخية»، «والتغيير العنيف لصور المترجمين».

•••

نعم، هذه هي الأسانيد عند الشيخ أمين الخولي فيما يرجع إلى تحقيق النصوص، حتى نصوص القرآن الكريم.

والمسألة أعنف من هذا عند البحث عن «الحاجة الشديدة إلى الفهم» مع امتناع الأصول التاريخية.

فروايته عن أبي حيان ظاهرة التلفيق من كل خبر ورد فيها، بغير حاجة شديدة إلى إطالة التفكير أو إطالة النظر في مراجع التاريخ.

وهذه هي الرواية كما نقلها الشيخ أمين في تعليقاته على عبقرية الإمام: «لكن التاريخ ينكر هذه الصورة؛ إذ يعلن حكم الرسول — عليه السلام — أن عليًّا راجلًا — من المشاة — خير منه فارسًا. ويروي ذلك في حادثة كانت يوم بدر؛ إذ قال علي للمقداد: أعطني فرسك أركبه. فقال رسول الله : أنت تقاتل راجلًا خير منك فارسًا. فركب علي الفرس ووتر قوسه ورمى فأصاب أذن فرسه هو، فصرمه، فضحك النبي حتى أمسك على فيه، فلما رأى علي ضحكه غضب، فسل سيفه ثم شد على المشركين فقتل ثمانية قبل أن يرجع، فقال علي: «لو أصابني شر من هذا كنت أهله».»

وبهذا السند، يثبت «حامي التاريخ وملقنه» أن النبي حكم على الإمام علي بن أبي طالب بأنه راجل وليس بفارس مقدم، وأن هذه هي كلمة التاريخ التي لا مراجعة فيها.

والتاريخ يطأ هذه القصة بنعليه سبع مرات، إن كان له نعلان، أو بقدميه إن كان حافيًا، كما ينبغي أن يكون في صورة الغلاف، إذا كتب على هذا المنوال!

التاريخ يطؤها بنعليه، أو بقدميه سبع مرات، إن لم يشأ أن يزيد:
  • الأولى: هي الشك في رواية أبي حيان الذي اشتهر بين ثقات أهل السنة والشيعة بأنه ملحد زنديق. فإن كانت شهرته باطلة، فالصحيح الذي لا ريب فيه أن هذا الحديث عن النبي — عليه السلام — لم يرد قط في سند صحيح.
  • والثانية: أن حكم النبي للإمام علي بالفروسية نعرفه في توليته إياه قائدًا للفرسان في خيل اليمن — وفيهم خالد بن الوليد — بل نعرف أن النبي لا يحكم عليه بنقص الفروسية من رواية أبي حيان نفسه؛ لأن من يقتل ثمانية في كرة واحدة يصنع غاية ما يصنعه الفارس القادر على القتال.
  • والثالثة: أن الرواية تنفي عن علي أنه واتر إن صح ما زعمه راويها، فماذا بقي له بعد نفي الفروسية والرماية عنه؟ ولماذا يوتر الفارس القوس وهو على ظهر فرس يعدو به إلى ملتقى الصفوف؟
  • والرابعة: أن راكب الفرس لا يستطيع — حتى لو أراد — أن يصيب أذنه بوتر يطلقه من قوسه على أي وضع من الأوضاع؛ لأنه يرفع القوس ويمد يده مدًّا يجاوز المسافة بين مكانه على ظهر الفرس وموضع أذنيه، اللهم إلا إذا كان علي قد أراد أن يُضحك رسول الله عليه، فيستهدف الأذن عامدًا، وليست أذن الفرس من الطول بحيث تبلغ آذان الحمير.
  • والخامسة: أن عليًّا لا يعصي النبي، وأن النبي لا يستهزئ به، ولا يبلغ من استهزائه به أن يضحك منه حتى يمسك على فمه بيديه.
  • والسادسة: أن الإجماع متفق على أن النبي — صلوات الله عليه — لم يكن في وقعة بدر بالحالة التي يفرغ فيها لهذا الضحك وهذا الاستهزاء؛ فقد كان، كما جاء في أخبار السيرة، يُواصل الدعاء ويرفع يديه بالابتهال إلى السماء، ولا يني عن ذلك حتى قال له الصديق: بعض مناشدتك ربك يا رسول الله … إلى آخر ما جاء عن موقفه بالعريش، وبعد هزيمة المشركين.
  • والسابعة: أن عليًّا لا يقول «إنه لو أصابه شر مما أصابه لكان أهلًا له»؛ فإنه لم يصبه شر في تلك الكرة التي كرها على المشركين، وإنما أصاب المشركين هذا الشر بعد أن قتل منهم ثمانية في كرة واحدة!

هذه سبع مرات يطأ فيها التاريخ رواية أبي حيان، ونحن الذين نملي على التاريخ هنا عدد المرات كما نختارها نحن؛ لأننا لم نسلم بعد للشيخ أمين بالحق الوحيد في احتكار الإملاء على التاريخ المسكين، ولأننا سنعود إلى رسم الصور على الغلاف، بغير رخصة من فن الخولي أو فن أبي حيان.

•••

والحق — مرة أخرى — إنه لَعَبَثٌ لا يُسكت عليه، ولا يُسكت عليه — خاصة — لإنسان هو من أحوج خلق الله إلى العلم بقدْره والعلم بأقدار الناس. ولن يحتاج الناس إلى تحذير من كلام أحد في التاريخ وفي العلم، كحاجتهم إلى التحذير من مؤرخ يتعالى بدعواه ويحكم على الناس «بالحاجة الشديدة» إلى الأصول التاريخية، وهو يقرر رواياته فإذا بالرواية الواحدة تجمع الأكاذيب على كل من ذُكر فيها، ولا تسلم منها حتى أرقام السنين والشهور في التاريخ.

١  الأخبار: ١٩ / ١٢ / ١٩٦٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤