المتهافت بأنفاسه١

حكاية الأزياء الخمسة التي يتزيى بها الشيخ أمين الخولي، أو الشيخ «أمناء بالجملة»، كانت معروفة بين ركاب الترام بمصر الجديدة، وطلابِ الجامعة الذين سعدوا بتمثيل هذا المخزن المسرحي المجتمع في شخص واحد، ولكنها قد تكون اليوم معروفة بين الكثيرين من قراء هذه المقالات، ثم تظل معرفتهم بها محتاجة إلى بقية موجزة للاستفادة منها في المعرض الوحيد، الذي يجعلها حقيقة بأن تذكر وتفيد.

وهو موضع الدراسة النفسية في تلك الحالة التي تغني — إذا هي عرفت على حقيقتها — عن إضاعة الوقت في أخذها مأخذ الجد، وتحميل «الموضوع» ما لا يطيق من مناقشات العلم ومساجلات الأدب والتاريخ.

فالقصة التي أصبحت مشهورة الآن عن أزياء الشيخ الخمسة: كرافتة على الجبة والقفطان، وعمامة على «الشورت» والقميص المفتوح، وصندل إفرنجي — بدل القبقاب — مع الطاقية البلدية، ورأس عار مع القفطان الفضفاض، ولاسة مع البدلة الإفرنجية تارة والجلباب «المنزلي» تارة أخرى.

… قصة هذه الأزياء هي — من الوجهة الفنية الموضوعية — قصة مقتضبة، إن لم تلحق بها لواحقها وسوابقها من أزياء الشيخ «الموضوعية والوضعية»، منذ أيام طاقية الطفولة، إلى أيام طيلسان الأستاذية في الكهولة. ولا حاجة هنا إلى سند أو إسناد من الأحاديث العادية أو الأحاديث «فوق العادة»، غير عادات الشيخ فيما يكتبه بقلمه أو يصنعه بنفسه غير مكره عليه، أو يفتح منافذه لمفتاح شخصيته بيديه؟

فالشيخ الموقر هو الذي كتب عن نفسه في صباه، فقال إنه كان في الثانية عشرة أو الحادية عشرة يعجب كلما سمع فقيه المكتب يقول له وهو يطيل التأمل في عينيه: يا خوفي من هاتين العينين!

والشيخ هو الذي قضى بعد ذلك أربعين أو نيفًا وأربعين سنة وهو يطيل التأمل في شخصه، ولا يرى في الوجود شخصًا يجوز النظر إليه أو التحدث عنه غير أمين ثم أمين ثم أمين ثم أمين ثم أمين … خمسة أمناء على خمسة أزياء، أو على خمسين من الأزياء. فإذا اجتمع حوله نفر ممن يجتمعون على أمثاله، فليست لهم أسماء ولا صفات ولا ملامح ولا ذوات، ولكنهم حسبة مكونة من أمين واحد مضروبًا في خمسة أو خمسين. وهذه إذن — يكرم الله السامعين — هي جمعية الأمناء المكررين المعطرين المنجرين؛ وقاية لهم — بُعيد الشر — من حسد الحاسدين.

والمقصود من هذه الحكاية «الموضوعية» في الصميم، أن قصة الفقيه الذي أطال التأمل في عيني الشيخ، مضافة إلى قصة الأزياء الخمسة، مضافة إلى قصة الدنيا التي خلت من كل شيء غير أمين واحد ومضروب فيما شاء من الأرقام، مضافة إلى طول الأنفاس، في تسويد القرطاس بعد القرطاس، والهبوط إلى الأساس، أو الصعود إلى السقف بالسند والقياس، مضافة إلى كثير من صنف هذه الأشكال والأجناس!

«كل ذلك جميعه» إنما ينجلي عن حكاية كاملة شاملة، خلاصتها أننا أمام «ظاهرة نفسية» ينبغي أن تفهم فهمها وتوضع في موضعها، ولا حاجة بعد ذلك إلى إضاعة الوقت في معاملة لها غير هذه المعاملة؛ فإنها هي — دون غيرها — وجه الفائدة في الكلام عنها.

والأمر الذي يعنينا فيما نحن بصدده ملاحظتان:
  • إحداهما: أن أصحاب هذه الظاهرة لهم غصة واحدة تهون إلى جانبها «كل الغصص جميعها»؛ وهي أن يوجد في الدنيا إنسان يتحدث عنه الناس ويشغل الأسماع — كثيرًا أو قليلًا — عن مهمة التأمل الطويل في عينيها — أي عيني تلك الظاهرة — أو يشغلها عن مهمة تكرار الأمناء إلى غير انتهاء، أو يشغلها بزي واحد منظور أو مفهوم، لا تستغرقه تلك الأزياء!

    ولسوء حظ «الظاهرة إياها» أن كاتب هذه السطور كان ممن يُذكرون على ألسنة الناس ولا يزال، فكان من اعترافات الشيخ الأخيرة أنه غص بذكره منذ ثلاثين سنة، وكتب إليه وكتب عنه طوال تلك السنين، وهو لا يلتفت إليه …

  • والملاحظة الثانية: أن الظاهرة النفسية التي يستغرقها الولع بلفت الأنظار إليها موكلة بالظواهر والقشور تعيش فيها ومنها وعليها، ولا تنفذ من ورائها إلى أمر ذي طائل، فإنها كلما تجاوزت الظواهر إلى ما وراءها تهافتت بأنفاسها لاضطرابها وتناقصها وغلبة القشور عليها، وهذه هي الخصلة التي عرفناها من خصال الشيخ فأهملنا الرد عليه، وعلمنا أن كلام أمثاله «مردود عليه منه فيه»، فلا حاجة بنا ولا بالقراء إلى إضاعة الوقت في التعليق عليه، إلا أن يكون الكلام عنه فائدة للقراء على هذا المنوال.

والشيخ — عافاه الله — كفيل بإعفاء كل ذي قول من مؤنة الرد عليه في كل صفحة يسطرها بيمينه، فهو موفق أسوأ التوفيق لإثبات ما يؤخذ عليه من الخطأ والعبث والجهالة، وكل ما نحسبه قدرة عندنا على إقامة الحجة يتقاصر دون قدرته المعكوسة على إقامة حجتنا، تبرعًا منه غير مشكور عليه!

فهو — عافاه الله — ولسنا نحن، يثبت على نفسه بما يكتبه بقلمه:
  • أولًا: أنه يتصدى لتحقيق الأسانيد وهو يجهل تاريخ الرواة، وأولهم الراوي الذي اتهمه بالحديث المكذوب، وهو لم يرْوِه قطعًا كما اعترف الشيخ عند حكمه على الحديث بالتوهين؛ وأسخف السخف أنه يتهجم على الراوية الأمين بالتلفيق عليه وهو يجهل تاريخه ويزعم أنه مات — محدثًا — بمصر، وقد مات بالمدينة.
  • وثانيًا: أنه يتعمد حذف كلمتي «في الكتاب» من الآية القرآنية في الطبعتين، وهو ما يستحيل في الأخطاء المطبعية التي يتمسح بها، ولو لم يكرر هذا الحذف لما استطاع غيره أن يسجل نية الحذف عليه.
  • وثالثًا: أنه — وهو يتعالم — على الناس بفهم النصوص، يستند إلى حديث لأبي حيان ليس له من سند، وليس فيه خبر واحد لم يناقض الخبر الذي يليه.
  • ورابعًا: هو الذي يحيلنا على الكتب المخطوطة ليدعي على القاضي عياض ما ليس بالمعقول في حقه؛ وهو الشك في حديث يرويه نافع عن عبد الله بن عمر، وليس في علم القاضي عياض سند أقوى من هذا السند، حتى عُرف عن الرواة جميعًا بأنه أصح الصحيح؛ وأنه السلسلة الذهبية بإضافة الإمام الشافعي إليه.
  • وخامسًا: هو الذي أثبت على نفسه العجز عن فهم النصوص، عجزًا يقع به في الخلط بين جعفر الصادق وأبي جعفر المنصور، وأعجز الناس عن فهم النصوص — ودع عنك صدق الأسانيد — إنسان يفهم أن جعفر الصادق يأمر الأجناد والقضاة، ويضرب الأعناق، ويسأل الإمام مالكًا — تلميذه — عمن هو أعلم منه على ظهر الأرض؛ ويفوته أن الذي يفعل ذلك جعفر واحد ليس هو بجعفر الصادق؛ ولكنه أبو جعفر المنصور.
  • وسادسًا: هو الذي يثبت على نفسه أنه يلح إلحاحًا غريبًا في طلب المصادر الواهنة وتعزيزها بالأدلة التي تدفع الوهن عنها، ولو اقتضاه الأمر أن يسكت عن كلمات في الكتاب الكريم.

    وأعجب العجب في هذا كله جميعه، وإن لم يكن عجيبًا من تلك الظاهرة النفسية، أنه يبذل هذا الجهد لحمل القراء على تصديق الأكاذيب، ثم يعود فيعترف عليها بالتوهين، ويكرر هذا الاعتراف وهو يحاول إنقاذها من الشبهات.

  • وسابعًا: تتم هذه الأعاجيب، أو هذه النقائض، عندما يتكلم الشيخ أخيرًا لينفي الوهن عن الحديث الذي اعترف بتوهينه غير مرة، فيعمد إلى المغالطة الذميمة في أخبار صحيحة واضحة، لا تقبل المغالطة ولا التجاهل عند أقل الناس علمًا بمصادر الأخبار …

قلنا له أولًا وأخرًا إن حديث السفرجل باطل بطلانًا لا يقبل الشك ولا الريب ولا التردد ولا المحال ولا المحاولة؛ لأنه يسند إلى جعفر بن أبي طالب واقعة حدثت بعد مقتله ببضعة شهور. فمهما يكن من تلفيق الرواة، فالتاريخ الثابت يمنع أن يكون جعفر بن أبي طالب قد أهدى إلى النبي — عليه السلام — سفرجلًا يوزعه على المسلمين، ومنهم معاوية بن أبي سفيان.

ولو كانت «الظاهرة النفسية إياها» تستطيع أن تكف عن التناقض، لعرف صاحبنا هذه الحقيقة، وعلم أن تسليمها واجب عليه بعد تكراره القول ببطلان حديث السفرجل المزعوم.

ولكنه يكتب بعد ذلك كأنه يقرر الحديث ولا يبطله، ويقدم على كل ما يستطيع من المغالطة ليقول إنه صواب غير مكذوب.

وكذلك قال في الأخبار بنص كلامه: «إن هذا الذي لا شك فيه من خبر التاريخ فيه الشك كل الشك، بالذي يرويه ابن حجر في كتابه الإصابة من أن معاوية أسلم بعد الحديبية. ولو كان هذا كله خبرًا، أي خبر، لما جاز لذي ضمير أن يجترئ هذه الجرأة المريضة …»

والمسكين يتكلم عن الجرأة المريضة على الضمائر وهو يلطخ الصحيفة بهذه الجرأة التي جاوزت حد المرض إلى عفونة الموت، ويحذف ما شاء كما حذف من الآيات والبينات، ليحمل على ابن حجر وزره هو في الجهل والتلفيق.

ويعود القارئ إلى ابن حجر، فيعلم علم اليقين أن أخباره جميعًا تثبت الثبوت الذي لا شك فيه ولا ريب ولا تردد ولا محال ولا محاولة؛ أن حديث السفرجل مكذوب جد مكذوب.

فابن حجر يقرر أن «معاوية» من مسلمة الفتح؛ ويقرر أن الصحابة كانوا يصفونه بالكفر بعد الحديبية …

ويقرر أنه إذا صح ما يُدعَى عن إسلامه قبل الفتح، فهو شيء مجهول كتمه معاوية وأخفاه.

وهذا ما قاله ابن حجر عن معاوية بالحرف الواحد:

… حكي الواقدي أنه أسلم بعد الحديبية وكتم إسلامه حتى أظهره عام الفتح؛ وأنه كان في عمرة القضاء مسلمًا، وهذا يعارضه ما ثبت في الصحيح عن سعد بن أبي وقاص أنه قال في العمرة في أشهر الحج: فعلناها وهذا يومئذ كافر. ويحتمل — إن ثبت الأول — أن يكون سعد أطلق ذلك بحسب ما استصحب من حاله ولم يطلع على أنه كان أسلم لإخفائه لإسلامه، وقد أخرج أحمد من طريق محمد بن علي بن الحسين عن ابن عباس أن معاوية قال: قصرت عن رسول الله — صلى الله عليه وآله وسلم — عند المروة …

فهذه هي طريقة المسكين الذي يتكلم عن الضمائر المريضة في نقل الأخبار من مصادرها المعروضة عن الناس، وهذا كل ما يثبت عنده أن خبر السفرجل غير باطل وغير واهن؛ وأن توهينه يجوز الشك فيه.

وكل كلمة في كتاب الإصابة تنادي إن حديث السفرجل مستحيل على كل حال.

مستحيل؛ لأن معاوية أسلم في عام الفتح، كما هو الصحيح …

ومستحيل؛ لأنه — على فرض إسلامه قبل ذلك — قد كان يخفي إسلامه، فيكذب من قال إنه كان بين المسلمين جهارًا نهارًا تُوزع عليه سفرجلات ثلاث، وتُوزع على الآخرين واحدة لكل صحابي من الظاهرين بالإسلام في مجلس النبي — عليه السلام.

وإذا بقيت في النصوص بقية بجهلها الشيخ من مصادره «فوق العادة»، فقد فاته أن يجترئ اجتراءة أخرى على ابن حجر، فينسى أو يتناسى أن أستاذه الخطيب هو حجة الرواة في لعن الكاذبين بعد نقل حديث السفرجل، وينسى مصدرًا آخر من أهم المصادر عن الصحابة الذين أسلموا قبل الفتح؛ وذاك هو مصدر طبقات ابن السعد، وهي خالية من كل إشارة إلى معاوية في هذا الباب.

ولو لم يكن خلط الشيخ واضحًا كل الوضوح من النص الصريح في كتاب الإصابة وسائر مصادره، لوضح من الفهم السليم أن معاوية الذي كان يرجع إلى أبيه في لطمة تصيبه لا يعتزل أباه وأهله ليسلم وحده قبل إسلامهم، ووضح من الفهم السليم أنه لو أسلم قبل الفتح لكان من المهاجرين كغيره من الصحابة، ولم يكن بعد ذلك من المؤلفة قلوبهم، «وإذا لم يكن من المهاجرين فكيف لقي النبي ومعه جعفر بن أبي طالب في المدينة قبل فتح مكة؟» ووضح من الفهم السليم أن كلمة «مسلمة الفتح» كانت لقبًا يخجل منه الملقبون به؛ لأنه يُسجل عليهم التأخر عن السابقين بإحسان، كما يُسجل عليهم الإسلام خضوعًا للقوة، وهو أمر كان الكثيرون غير معاوية يدفعونه عنهم بما تحدثوا به عن إسلامهم في الخفاء، وشأنهم في ذلك شأن «المؤلفة قلوبهم» سواء.

•••

ونعود فنقول إن «الظاهرة النفسية» هي التي تلغو بمثل ذلك اللغو في مقام الجد والبحث عن الحقيقة، وإنها منذ الثانية عشرة هي التي تبيح لنفسها أن تطبطب على جانبيها، لتقول إن صحيفتها وحدها دون غيرها هي الصحيفة الباقية، وأما غيرها فلا تستحق أن يتأمل في عينيها الفقهاء …

والظاهرة النفسية هي التي تتوهم أننا نهملها ثلاثين سنة، لنكتب بعد ذلك في صحيفتها الباقية ما يكشفها لقرائها المعدودين، وأن من كان منهم أهلًا للقراءة لهو كاشف منها ما لا خفاء به ولا خير فيه.

والظاهرة النفسية هي التي تسول لصاحبها أن يعلن نفسه حاميًا للتاريخ، وحاميًا للعلم، وحاميًا للناشئة، وواعظًا للكتاب، ومعلمًا لهم كيف يكتبون ويقصدون في المقال.

وبعض ما قال الشيخ، صاحب الظاهرة إياها، في مقاله الأخير إننا «نشيع الضلال»، وإننا نتلقى سياط الحق — حقه هو بسلامته — من يد التاريخ، وإننا مصابون بالجرأة المريضة، وإننا «غير ذوي الضمير»، وإنه ينشر كلام المنقود بطينه، وإننا وإنه على ما قال من هذا القبيل في الصحف «غير الباقية» وفي مقدمة كتابه، وله طول البقاء!

إن «الظاهرة النفسية» هي التي تحسب أن هذا الأسلوب هو العفة وهو الأدب وهو التهذيب والنقاوة من الطراز الممتاز؛ لأنها هي — بسلامتها — تكتبه، وهي بسلامتها مسموح لها بما يسمح به «للمحروسين» في أعين الفقه والفقهاء.

ذلك هو الأدب المخصوص!

وما هو الأدب «العادي» الذي تولى صاحبنا حماية التاريخ والناشئين منه؟ هو ما ليس كذلك؛ لأنه هو الأدب الذي يضعه في موضعه بين الظواهر النفسية! بغير خروج من الموضوعية أو الموضوع!

١  الأخبار: ٢ / ١ / ١٩٦٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤