شخصيات أمام محكمة التاريخ١

كنت أعيش هذا الأسبوع في يوم واحد لم يحنْ بعد، وهو اليوم الحادي عشر من شهر يوليو.

إنه يوم لا ينسى في تاريخ مصر الحديث؛ لأنه يوم ضرب الإسكندرية وفاتحة أيام الاحتلال الذي دام بعد ذلك أكثر من سبعين سنة.

وإنه ليوم لا يُنسى في تاريخ النهضة الشرقية؛ لأنه يوم الذكرى لأكبر المصلحين المصريين الإسلاميين منذ القرن الرابع للهجرة، وهو الأستاذ الإمام محمد عبده — رحمه الله.

وإنه ليوم أذكره فيما أذكره من أعمال التأليف؛ لأنه يرتبط بقصة كتاب ألفته من اليوم الحادي عشر من شهر يوليو هذا، وكأنما كان منظورًا إليه بلحظ الغيب على حد تعبير أبي العلاء؛ لأنه صدر في اليوم الخامس من الشهر وصودر في اليوم السادس منه بأمر فاروق أو حاشية فاروق، ثم جاء اليوم السادس والعشرون من الشهر وفاروق في ديار غير هذه الديار!

محكمة تاريخية

كلما قلبت مراجع التاريخ في حادث من الحوادث المصرية الكبرى، خطر لي أننا في حاجة إلى محكمة عادلة تنظر في تاريخ ذلك الحادث نظر القضاة، وتدين من تدين وتبرئ من تبرئ بوثيقة القاضي المنصف وبينة الشهود العدول.

محكمة تستدعي الموتى كما تستدعي الأحياء، وتنيب عن الموتى من يحضر عنهم، للدفاع أو للمناقشة، كما تنيب المحاكم من يحضر عن الغائبين.

ما أكثر المجرمين الذين يخرجون يومئذ بهالة الشرف!

وما أكثر الأبطال الذين يخرجون يومئذ بوصمة العار!

وما أكثر «الشخصيات» التي تخلق في الأذهان خلقًا جديدًا يناقض كل ما عُرف منها قبل الآن! حتى كأنها كانت مرسومة على البعد بوحي الخيال في قصة من القصص، فولدت بعد ذلك في عالم الحقيقة بسيرة أخرى.

شخصيات

وقرأت عن اليوم الحادي عشر من شهر يوليو مشغولًا بهذا الخاطر، معتمدًا أن أشهد تلك المحكمة التاريخية كأنها قائمة بقضاتها وشهودها ترد الاعتبار وتدين الهاربين من وجه العدالة، وتخلق «شخوص» التاريخ على حقيقتها مبرأة من الزيف والمبالغة والتشويه.

ومرت بي «شخصيات» كثيرة لا تستغني واحدة منها عن شهود هذه المحكمة.

شخصيات تبرز في التاريخ بشارات المجد والعظمة، وليس أيسر من إدانتها بالخيانة العظمى، لو وقفت بين يدي ذلك القضاء.

وشخصيات تتوارى في التاريخ عن الخزي الذي يلاحقها ظلمًا وعدوانًا، وليس أيسر من إبرازها على قمة المجد أعلامًا يقتدي بها العاملون.

كم من هؤلاء! وكم من هؤلاء!

أيها التاريخ! ما أهون احتقارك على من يريد أن يهزأ بك ويشيح عنك ببصره!

وأيها الضمير! ما أحوج العاملين إليك كلما أشاحوا بأبصارهم عن التاريخ، ونظروا إلى المؤرخين بين جاهل ومعرض، ومأجور وسايح في بحر من الظلمات، لا يطلع عليه نهار!

عبد الله نديم

كثيرون وكثيرون، كثير من يدانُ بعد تشريف، وكثير من يعظم بعد هوان، وكثير من يخلق في الأذهان خلقًا جديدًا بعد الإدانة والتعظيم.

ومن هؤلاء الذين يخلقون خلقًا جديدًا في الأذهان رجل من أجدر الناس بالإنصاف بين أهل القلم، وهو الأديب الخطيب الصحفي الرائد عبد الله نديم.

لا تفهم من جملة الأخبار عنه إلا أنه داعية ثرثارة، أقرب إلى التهريج منه إلى الجد والرأي السديد.

ولا تكاد تعرفه بهذه الصورة التي لا تنصفه حتى يستوقفك بخبر صغير هنا أو كلمة عارضة هناك، فتبادر الصورةَ الشائهة قائلًا: قفي أنظر إليك نظرة أخرى، فما أنت على التحقيق بعبد الله المظلوم.

ونظن أنه يبدو كذلك لمن شاهدوه وسمعوه ولا يبدو بها لمن يقرءون تاريخه، وحسب، بعد سنوات وسنوات.

رآه «بكتال» المستشرق الإنجليزي الذي يعرف الشرق معرفة أبنائه، ويعرف اللغة العربية معرفة مكنته من ترجمة القرآن الكريم، ويعرف الإسلام معرفة حملته على الإيمان به والتعرض من جراء ذلك لكثير من المتاعب والمنغصات، ويعرف الثورة العرابية تلك المعرفة التي تظهر للقارئ من قصته عن أبناء النيل.

ووصف «بكتال» شخصية عبد الله النديم في قصته عن الثورة العرابية، فوصف لنا شخصيته تكمن فيها النار الملتهبة وراء صفحة من القداسة والخشوع، ويكاد يقول إنه كان يحرض على الفتك كما كان يحرض على الثورة، وإن القلم واللسان بعض أسلحته — لا كلها — في ذلك الصراع العنيف.

كان عبد الله نديم يحرض على الزحف بالجيش إلى ميدان عابدين، ويكتب في صحيفته عن ذلك الموكب الرائع أنه «كان زفاف الحرية في مصر.»

وكان يتكلم في الجماهير فكأنما يلقي النفط الملتهب على الحطب، ولكنه كان يحسن الإطفاء كما يحسن الإشعال والإيقاد.

قالت صحيفة مهملة من صحف تلك الأيام بأسلوبها الذي ننقله بحروفه: «لما كان حضرة الأستاذ النديم حريصًا على تنفيذ ما تعهد به عرابي من حفظ الأمن مراعاة للمصلحة، وتلاحظ له أن أفكار الأهالي متهيجة بسبب لائحة الدولتين ووجود أسطوليهما في مياه الإسكندرية، ويظهر له ذلك بما حدث من المتظاهرين أثناء مرور دولتلو درويش باشا، خشي منه أنه ربما وقع من بعض الرعاع ما لا ينطبق على تعهد عرابي ومصلحة الحزب الوطني، فاغتنم فرصة تجمهر الناس وبث فيهم بعض إخوانه يوعزون إليهم بالحضور إلى جهة الأنفوشي في مساء ذلك اليوم لسماع خطبة أدبية، وما جاء وقت العشاء حتى توافد الناس زمرًا إلى تلك الجهة، وقام فيهم الأستاذ المومأ إليه خطيبًا، فحضهم على استعمال السكينة والهدوء وترك السياسة لأربابها من رجال الحل والعقد، ولامهم على ما حدث منهم من التظاهر في هذا اليوم، وحرضهم على الالتفات إلى الأمور النافعة من الصناعة والتجارة إلى غير ذلك من النصائح المفيدة.»

قال الكاتب في صحيفة البريد: «ومما يضحك الثكلي ما زعمه ذوو الأغراض بعد دخول الإنجليز مصر أن هذه الخطابة كانت في تحريض الوطنيين على الفتك بالأجانب؛ مما نشأ عنه حادثة ١١ يونيو، مع أني كنت حاضرها وشاهدت نديمًا بعيني رأسي، وسمعت جميع ما فاه به مما لا يخرج عن موضوع ما فاه به آنفًا.»

وإنك لتكاد أن تعرفه بهذه الصورة مسلمًا له صناعة اللسان بشقيها من الإثارة والتسكين، إذا بخبر صغير في زاوية من زوايا الصحف يريك الرجل من ذوي الرأي والمشورة في مآزق الحرج، ويخيل إليك أنه لو أُطيع لتغيرت الحال بخير منها على الأقل في بعض الأمور.

كانت الضربة الكبرى التي زعزعت العرابيين وأوقعت الفشل في صفوفهم وجرت إلى الفتنة في الجيش المقاتل؛ «بَياننامة الخلافة» كما سميت في ذلك الحين، وهي المنشور الذي أعلن فيه السلطان العثماني عصيان عرابي وخروجه على ولي الأمر، ومروقه من حظيرة الشرع الشريف.

وكان رأي عرابي إخفاء هذه «البياننامة» والمبالغة في كتمانها.

أما «عبد الله نديم» فقد أشار بغير ذلك وألح على عرابي بوجوب نشر «البياننامة» مشفوعة برسائل التشجيع التي كانت ترد إليه من حاشية السلطان، وأن يعقب على هذا وذاك بالحملة على الدولة البريطانية ومشيري السوء من حول السلطان؛ لأنهم أكرهوه على توقيع ما كتبوه وتطاولوا على ذلك المقام الأعلى — مقام الخلافة — بالتهديد والإرغام.

قال عبد الله نديم: «إن البياننامة لا بد أن تصل بكل حيلة إلى داخلية القطر ويطلع الناس عليها، فتنفر القلوب وتتفرق الكلمة، بخلاف ما إذا عرضت عليهم مشفوعة بالرد عليها.»

وهكذا حصل؛ فإن الجيش فوجئ بالمنشورات، فأحدث فيه ما أحدثه رفع المصاحف على الأسنة في حرب علي ومعاوية، وكان لذلك أثره في اضطراب العزائم وتوهين الثقة بالطاعة الواجبة لقائد الميدان.

وقد شهد النديم بوادر هذا الاضطراب؛ لأنه لم يكن ينزوي في داره ليكتب صحيفته بين الجدران، بل كان ملازمًا لعرابي في خط النار، ليجبر بالخطابة والرأي العاجل ما تكسره نكبات الهزيمة والخيانة، وقد كان أكثر الهزيمة من خيانة الأعوان المتواطئين مع الأعداء، وبلغ منها أن الجيش الإنجليزي ضم إليه «البروجية» الذين لازموا قصر الخديو، فضربوا «نوبة» الارتداد التي لا يشك سامعها من المصريين أنها صادرة من معسكر القيادة، ولم ينكشف السر إلا بعد وقوع الفشل والاختلال.

والذي لا ينسى نسي!

أما اليوم الذي لا ينسى في تاريخ النهضة الشرقية، فقد نسي مع الأسف الشديد!

نسي حيث ينبغي أن يُذكر، وحين ينبغي أن يُذكر؛ لأنه في هذه السنة يوافق انقضاء خمسين سنة على وفاة الإمام الذي لم ينس إنهاض الشرق الإسلامي قط، فنهض لينساه!

إن هذا الموعد يتخذ في الشعوب الحية الذاكرة مناسبة لإحياء الذكريات والوفاء بالشكر لمن يستحقه من النوابغ والعظماء والمصلحين، وإن رجالًا أصغر قدرًا وأهون أثرًا من محمد عبده تُقام المحافل لذكراهم، ويُدعى إليها القريب والبعيد للمساهمة في هذا الواجب الذي يشرف الأمم قبل أن يشرف عظماءها في القبور.

وإن هذه المحافل لتنفع الأحياء ولا نفع منها للأموات؛ لأنها تنويه بالأمم التي تخرج للعالم ذلك العظيم، وتنويه بالخلق ينبهها إلى الحفاوة بذكراه.

وما من أمة في الشرق الإسلامي إلا وهي على أهبة لتلبية الدعوة إلى ذكرى الرجل الذي يتردد اسمه من أقصى المغرب إلى تخوم الصين.

ونحن نسمع اليوم بالحزب الإسلامي في أندونيسية، ونعلم أنه أقوى أحزابها بالعدد والصوت المسموع، ولا يعلم الكثيرون منا أن قادته يعترفون بالتلمذة لمحمد عبده، ويطلبون إلى اليوم كتبه وآثاره من الديار المصرية.

ومنذ سنتين كنت في إحدى المكتبات، فأقبل ثلاثة من حجاج الصين يسألون عن تفسير «محمد عبده»، ويقول لهم صاحب المكتبة: إنكم تسألون عن تفسير المنار. فيتشاورون بينهم هنيهة ولا يشترون التفسير حتى يعلموا أنه مقتبس من دروس الأستاذ، وأن صاحب المنار تلميذ من تلاميذه الكبار.

ومن المغرب إلى نيجيريا إلى إفريقية الجنوبية إلى إفريقية الشرقية، لا تُذكر النهضة الإسلامية إلا ذكروا معها اسم «محمد عبده» في مقدمة الأسماء.

ورجل مثل هذا تنقضي خمسون سنة على وفاته ولا يسمع هؤلاء الذاكرون لفضله أن فضل الرجل مذكور في بلده، وفي المعهد الذي نشأ فيه وتلقى الأذى كله في سبيل إصلاحه، ومات والعداوة تلاحقه من جراء هذا الإصلاح.

يا له من وفاء!

لقد كان أيسر شيء يستطيعه الجامع الأزهر أن ينهض بهذه الأمانة وأن يتخذ منها مناسبتها الحاضرة، وإننا لفي حاجة إلى خلق هذه المناسبات، لو لم تكن حاضرة بغير تدبير.

وكان هذا الواجب أوجب ما يكون على الجامع الأزهر؛ لأنه ظفر بالجهد الأكبر من جهود المصلح العظيم، ولم ينبغ فيه أحد في هذه السنين الخمسين لا يرجع نبوغه إلى غيرة ذلك الرجل وجهاده الذي أعناه في إبان القوة والمضاء.

ومنذ خمسين سنة فارق الرجل دنياه «مستحقًّا» كل عداوة الأقوياء في سبيل رسالته التي شملت بلاد الشرق الإسلامي من أقصاها إلى أقصاها، وثارت ثورة الأمير — وهو غائب عن مصر — لأن أناسًا من حاشيته ساروا في الجنازة ونسوا، كما قال في خطابه إليهم: «إنه عدو الله وعدو النبي وعدو الدين وعدو الأمير وعدو العلماء وعدو المسلمين وعدو أهله، بل وعدو نفسه، فلِمَ هذه المجاملة؟»

وصح من هذا كله أن الأمير عدوه الذي لم ينس عداوته بعد أن فارق الحياة؛ لأنه أراد للأزهر وللمعاهد الدينية وللمحاكم الشرعية نظامًا غير النظام الذي ارتضاه لها الأمراء منذ مائة سنة!

تلك عداوة الأمير للمصلح الكبير من أجل رسالته الباقية.

فأين الصداقة الباقية له بعد خمسين سنة؟

في ذمة التاريخ

ومهما يكن من غلط التاريخ، فلنحسب له من الحسنات أنه في هذا المقام أصوب من التلاميذ والمريدين، ومن الأحياء الذين لا يذكرون ولا يشكرون!

ولن يقول الناس: إن ذكرى «محمد عبده» ذهبت منسية لأنه لا يستحق أن يُذكر، وإنما يقولون إن الذين ينسونه هم المنسيون في حساب الحق والعرفان بالجميل.

وبين الحادي عشر والسادس والعشرين

ونختم الذكريات من هذا اليوم الحادي عشر، بعبرة الكتاب الذي صودر؛ لأنه أفشى قليلًا من الأسرار التاريخية التي لصقت بذلك اليوم العصيب.

علم الله أننا لم نقل في ذلك الكتاب كل ما ينبغي أن يقال، وعذرنا في ذلك أنه — مع هذا — لم يسلم من المصادرة السريعة، ولم تصبر عليه حاشية القصر بضع ساعات، ولا نقول بضعة أيام.

بل الشاهد بين يدي القضاء يقسم اليمين على أن يقول الحق وأن يقول كل الحق ولا يقول إلا الحق.

وأردت أن أقسم هذا اليمين بين يدي التاريخ، فأشفقت أن أكون بهذا قائلًا ما لا يقرأ ولا يسمع له خبر.

فاكتفيت بثلثي اليمين، وأقسمت أن أقول الحق ولا أقول إلا الحق، فكأنني لم أصنع شيئًا بهذا الاختصار.

حتى مضى أسبوعان اثنان، وكأنهم لم يصنعوا شيئًا بمصادرة الكتاب؛ لأن ما قيل بعد الأسبوعين في فاروق وأجداد فاروق طوفان من الأرض والسماء، إلى جانب ذلك الجدول الصغير عبرة لمن ينسون العبر، وقديمًا قيل:

ومهما يكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم

وسيخالونها تخفى على الناس ألف مرة وآلاف المرات؛ لأن التكرار لا يعلم أبناء آدم وحواء.

١  أخبار اليوم: ٩ / ٧ / ١٩٥٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤