المجتمع ووسائل الإنتاج

أين هم يا عدوي؟

قرأت أخيرًا مقالين للأستاذ … نبهني إليهما صديقان من الأدباء.

والذي يعني القراء من هذين المقالين موضوعان علميان؛ وهما موضوع الإنتاج المادي في الشيوعية، وموضوع الفرد وحقوقه في الوجودية، ويلحق بهما ذيل يتعلق بالأبرياء الذين يقول الأستاذ … إنني رميتهم بالشيوعية وهم لا شيوعيون ولا هم يطيقون الشيوعية من بعيد، ولا عمل لهم إلا أن يلعنوها في السر — في السر فقط — ويوافقوها في العلانية ممن قبيل المجاملة ليس إلا.

أما موضوع «رسائل الإنتاج المادي» فالأستاذ … يزعم أنني أنكر تأثيره في حوادث التاريخ، وهو زعم غير صحيح، لا أقول به ولا أعلم أن أحدًا من أصحاب المذاهب الاجتماعية قال به في عصر قديم ولا حديث.

فتأثير وسائل الإنتاج أو الماديات على الإجمال مسلم مقرر في أقدم الآراء، ولم يخترعه الشيوعيون أو الماديون التاريخيون، وإنما جاء الشيوعيون أخيرًا بإنكار كل شيء غير وسائل الإنتاج، فلا أديان ولا عقائد ولا آداب ولا فنون إلا من وسائل الإنتاج، وبغير وسائل الإنتاج لم يكن من الممكن ظهور الحقائق المجردة في الرياضيات، فإنها لولا الانتفاع بها في وسائل الإنتاج، لم يكن من المستطاع أن يدركها عقل الإنسان.

هذا الذي ننكره ونعلم أن كارل ماركس إمام الشيوعية يخلط فيه خلطًا ذريعًا لا يستقر على قرار.

فهو تارة يدعي أن وسائل الإنتاج هي التي تخلق الطبقة المسيطرة على المجتمع، وتارة يدعي أن الطبقة المسيطرة هي التي تخلق وسائل الإنتاج، وفي غير هذين الموضعين يقول إن المكنات ومصنوعاتها هي المهم في تطور التاريخ، وفي موضع آخر يقول إن المهم هو العلاقات الاجتماعية التي تربط بين المشتغلين بتلك المكنات والمصنوعات، ويهرب من مناقضة الواقع فيقول إن المؤثرات المادية القديمة قد تبقى بعد أوانها بحكم العادة، ولكنه لا يقول لنا ما هي تلك العادة التي تقاوم المؤثرات المادية الحاضرة بفعل المؤثرات المادية قبل خمسين أو ستين سنة.

هراء يحسبونه علمًا وهو أهزل من الهواء، وما كان لنا أن ننكر قولًا يعطي الماديات حقها من التأثير ولا يلغي كل ما عداها من عوامل التاريخ، فأما مذهب المادية الذي يفسر تحنيط الموتى وحرق جثثهم بسبب واحد، فنحن لا ننكره وحسب — كما يظن الأستاذ … متواضعًا في الظن — بل نحن نقول كما تقدم إنه هراء من أهزل الهراء، أو إنه بمرتبة دون ذلك أهزل من الهراء.

•••

ويرى الأستاذ … أننا أخطأنا في القول بأن الوجودية تقرر الفردية.

فليعلم الأستاذ … إذن أننا نتحداه أن يذكر معنى واحدًا للوجودية غير الفردية من الألف إلى الياء.

فالوجودية كما يدل عليها اسمها مأخوذة من الوجود Existence مقابلًا للماهية Essence.

ومعنى هذه المقابلة أن الموجود الحقيقي هو الفرد، وأن الماهية كلمة على اللسان لا وجود لها في الخارج.

فزيد وبكر وعمرو وخالد موجودون لا شك في وجودهم، ولكن «الإنسانية» التي تجمعهم في ماهية واحدة خيال في الذهن أو كلمة على اللسان.

إذا استطاع الأستاذ … أن يذكر للوجودية، على تعدد مذاهبها، معنى غير هذا فليتفضل بذكره وذكر مدلوله الذي يراه، وإنا لمنتظرون.

وبعد هذا نهلل قليلًا للأستاذ … لغيرته على الأبرياء المتهمين، ونصيح أو نهمُّ بأن نصيح: يا سلام! الدنيا بخير يا خلق الله.

ولكننا لا نذكر أننا تعرضنا للاتهام مرارًا من هؤلاء الأبرياء، حتى نعود إلى التهليل والتحبيذ مع إيقاف التنفيذ، فإننا لا ندري أين كانت غيرة الأستاذ … على الحق، يوم تطاول على كاتب هذه السطور من لا يرتفعون إلى مواطئ نعله فزعموا أنه كاتب مأجور.

وإلى أن يقول لنا الأستاذ … أين كان يوم كان أبرياؤه يقذفون بالإفك والبهتان؛ نحب أن نبلغه بعض الإشاعات عن مخلوق يقال له العنقاء تارة، ويقال له الشيوعية تارة أخرى بما لها في العالم من دعايات وأذناب ومأجورين.

لا يحتاج منا الأستاذ … إلى قَسَم لنقول له إن تلك العنقاء موجودة لا شك فيها، ولا يحتاج منا إلى قسم لنقول له إن هذه العنقاء لها دعاة منتشرون في أرجاء الكرة الأرضية، وإنهم — بغير قسم أيضًا — لم يغفلوا عن الديار المصرية بصفة خاصة؛ لأنها مفتاح الشرق والعالم الإسلامي والبلاد العربية والقارة الأفريقية في وقت واحد.

ولا يحتاج منا الأستاذ … مرة أخرى إلى قسم لنقول له إن الدعاة لهم عمل مطلوب منهم، وهو ترويج سياسة الكرملين والحملة على خصومه بكل حجة مدعاة إلا أنهم خصوم الشيوعيين.

والآن وبغير حاجة على قسم أيضًا، نتحدى الدكتور … أن يذكر لنا كاتبًا فردًا من أبريائه كتب حرفًا واحدًا يُخالف سياسة الكرملين في عهد من عهوده، وإنه ليعلم أن أبرياءه مصريون — مصريون جدًّا — ولكنهم لم يحملوا على الصهيونية مرة واحدة يوم كان مَرضيًّا عنها من الكرملين، ولم تكن حملتهم هنا إلا تابعة للحملة من هناك.

وهؤلاء الأبرياء — ويا للمصادفة البريئة — هم الذين يحملون على كاتب هذه السطور، ولا يعرفون سببًا للحملة عليه إلا ما يفترونه من الأكاذيب التي يظهر بطلانها من نظرة واحدة، بل يظهر أنها مناقضة للحقيقة في الجملة والتفصيل.

والعجيب أن أبرياءه هؤلاء لم ينبسوا بكلمة في نقد الشيوعية والتحذير من خطرها، وهم مع ذلك في رأي الأستاذ … لا شيوعيون ولا يطيقون رائحة الشيوعية من بعيد.

أفي وسْع الأستاذ … إذن أن يدلنا على أذناب الشيوعية أين هم إن لم يكن هؤلاء هم أولئك الأذناب؟

أفي وسع الأستاذ أن يفهم، ويريد منا أن نفهم، أن الشيوعيين لهم دعاة مأجورون ليخدموا الشيوعية بالدعاء في المساجد والكنائس وإقامة الصلوات في الخلوات والمحاريب.

الأبرياء الذين لا يخالفون سياسة الكرملين بحرف واحد، ولا يكفون عن الافتراء على خصومه، هم أبرياء والله العظيم.

سلمنا يا أستاذ.

فأين هم الشيوعيون غير الأبرياء يا ترى؟ أين هم بالله عليك؟

أغير موجودين؟ مستحيل!

أموجودون ولكنهم غير هؤلاء؟

لعلهم كذلك، ولعلهم يلبسون طاقية الإخفاء ويهمسون تحت الأرض، أو يخدمون الشيوعية بالصلاة والدعاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤