الشرق قبل ٥٠ سنة وبعد ٥٠ سنة١

من دلائل التطور في الوعي «الشرقي» سؤالان تلقيتهما على أثر ما كتبته في الأسبوع الماضي عن اليابان وما كان لها من الحب والكراهية في نفوس الشرقيين، وفحوى السؤالين متقارب في معناه؛ لأن الغرض منه فهم الموقف الطبيعي للشرق كله أمام دوله الكبيرة التي تتعرض لمطامع الغرب كما تتعرض لها أمم الشرق الصغيرة، ولكن الدول الكبيرة في الشرق قد تكون لها مطامعها أو سياستها الاستعمارية، فما هو الموقف الطبيعي لكل أمة شرقية بين الشرقيين؟

هذان السؤالان، كلاهما يذكرني بخطاب وصل إليَّ من إحدى المدن السورية «يشتمني» فيه كاتبه؛ لأنني أعربت عن خيبة الأمل في اليابان قبل عدة سنوات؛ إذ قلت إنها ترمي إلى استعمار القارة الآسيوية بدلًا من قيادة حركة التحرير فيها، وتنادي بأن آسيا للآسيويين وكأنها تفهم من ذلك أن آسيا لليابانيين.

وخلاصة الشتائم التي تضمنها الخطاب أن اليابان دولة شرقية عظيمة يشرف بها الشرق، فلا يجوز لنا أن ننحى عليها أو نلومها، كأنما نسي كاتب الخطاب أن الأمم التي تفتتحها اليابان وتخنق حريتها أمم شرقية، لو نهضت في طريق التقدم سلم الشرق كله، وسلمت اليابان في المقدمة من طغيان الاستعمار الغربي بمختلف الألوان والأسماء.

بين التاريخ وشهادة العيان

ولم يشعر أحد بخيبة الأمل في هجوم اليابان على أمم الشرق كما شعرنا بها نحن الذين شهدنا نهضتها وحضرنا طلائعها وعرفناها معرفة العيان، قبل أن تصبح من معارف التاريخ.

كنا في نحو الخامسة عشرة يوم نشبت الحرب بين اليابان وروسيا، وكنا نتلقف الصحف لنقرأ فيها أخبار انتصارها في البر والبحر، وأخبار وقائعها الحاسمة حول المعاقل الكبرى في الشرق الأقصى.

ولا نذكر أن الشرق من أقصاه إلى أقصاه شملته هزة من الفرح كتلك الهزة التي شملته أثناء الحرب اليابانية الروسية؛ لأنه اعتبرها حربًا شرقية غربية، وإن لم تكن روسيا مثلًا صحيحًا للغربيين أو للأوربيين.

مصطفى كامل يؤلف

لم يكن مصطفى كامل يؤلف الكتب لاشتغاله بالكتابة الصحفية والخطب الوطنية والسياحة في الغرب للحملة على الاحتلال البريطاني حيث استطاع، ولكنه بعد نشوب حرب اليابان ألف كتابه عن «الشمس المشرقة»، ويعني بها اليابان؛ لأنها تُعرف باسم بلاد الشمس المشرقة أو الشمس الطالعة، وقال في مقدمته: «كان البعض منا معاشر الشرقيين يقول، ويلقن هذا القول للصغار والكبار، إننا أمم انقضى دورها ودالت الأيام على مدنيتها ومحا الزمان وجودها السياسي، وليس في وسعها التسلح بمدنية أوربا ومقارنتها بها، وإنه لا بد لها من الاستسلام للغرب وقبول حكمه وسلطانه بلا عمل للحاضر وبغير جهاد في سبيل المستقبل، فقامت أمة اليابان مكذبة لهذه الدعوى، منادية الشرقيين أجمعين بأن طريق الارتقاء ميسر لقصاده، وأن من جد وجد وكل من سار على الدرب وصل وتساءل الناس بدهشة وعجب: من هذا الشعب الذي خرج من القبور ليزعج الأحياء بأصوات مدافعه وقنابله، وحركات جنوده في البحر والبر، ومطالب ساسته وتغلبه على الدولة التي ظنت وظن العالم معها أنها لا تغلب، وفوزه هذا الفوز الذي حارت فيه العقول وكادت الدنيا ترتاب فيه؟! وكيف أدرك هذا الشأو في سنوات قلائل، وجارى الغرب في أمور وسبقه في أخرى؟!»

وهذا الكتاب قد صدر قبل خمسين سنة، ولكنه أحد الكتب القلائل التي بقيت عندي ولم تذهب مع ما ذهب من كتبي المقتناه مرات بعد مرات.

وحافظ ينظم

ونظم حافظ إبراهيم أكثر من قصيدة في مفاخر اليابان، قال في إحداها على لسان فتاة يابانية:

إن قومي استعذبوا ورد الردى
كيف تدعونيَ ألَّا أشربا
أنا يابانية لا أنثني
عن مرادي أو أذوق العطبا
أخدم الجرحى وأقضي حقهم
وأواسي في الوغي من نكبا
هكذا «الميكاد» قد علمنا
أن نرى الأوطان أمًّا وأبَا
ملك يكفيك منه أنه
أنهض الشرق فهز المغربا

وقال في قصيدة أخرى:

أتى على الشرقي حين إذا
ما ذكر الأحياء لا يذكر
ومر بالشرق زمان وما
يمر بالبال ولا يخطر
حتى أعاد «الصفر» أيامه
فانتصف الأسود والأسمر

وهاجرت من مصر طائفة من الشبان للتطوع في جيش اليابان، وبقي منهم شاب هناك تزوج من يابانية، واسمه «محمد فضلي» على ما أذكر، فثابر على الكتابة إلى الصحف المصرية زمنًا، وبقي غيره ممن عاشوا هناك ولم يكتبوا إلى الصحف، وسمعنا أن بعضهم عاد بعد حين.

من هذا وأمثاله يستطيع الناشئ في هذا العصر أن يعرف مبلغ الأمل في نهضة الشرق على يدي اليابان.

مصيبة المظاهر

ولكن المصيبة كلها في المظاهر أو في «الوجاهة» المصطنعة، التي تنخدع بها الدول كما ينخدع بها آحاد الناس.

كان احتلال المستعمرات «وجاهة» عالمية في عرف الدول التي تريد أن تدخل في زمرة الدول الكبار.

مستعمرة، أي مستعمرة! مستعمرة والسلام، لا بل مستعمرة في الواقع والحرب الضروس والموت الزؤام.

وكثير من هذه الدول كان يستطيع أن يعيش بغير مستعمرات، لولا هذه الوجاهة المكذوبة التي اصطلحت عليها.

وكثير من عمد الريف عندنا كانوا يستطيعون أن يعيشوا بغير لقب الباشوية أو البيكوية، الذي خرب بيوتهم وبدد ثرواتهم وأغراهم بالمظاهر الكاذبة في غير حاجة إليه.

ويحسن الظن كثيرًا بالدول الاستعمارية من يظن أنها أرجح عقولًا من عمد الريف في مسألة المظهر والوجاهة.

كلهم والله قريب من قريب.

ولو أنك أحصيت ما أنفقته هذه الدول في القرن العشرين على السلاح والحرب وما كسبته من مستعمراتها، لرجحت كفة النفقات أضعافًا على كفة المكاسب والأرباح.

وهذا مع سفك الدماء وإفشاء القلق والاضطراب، وتعويق نهضات التقدم والعمران.

وهكذا أصيبت اليابان بحمى الوجاهة الكاذبة، كما أصيبت بها الدول التي ظهرت أخيرًا في المضمار، لتثبت «وجاهتها» ومساواتها للدول الكبار.

وهكذا أصبحت إيطاليا تستعمر طرابلس؛ لأنها ليست بأقل من فرنسا التي تستعمر تونس!

وهكذا أصبحت ألمانيا تستعمر المجاهل في القارة الأفريقية؛ لأنها ليست بأقل من إنجلترا التي سبقتها إلى استعمارها.

ولسوء حظ هذه الدول — من طالبات الوجاهة الاستعمارية — أنها جاءت في الزمن الأخير، والاستعمار كما كان خلال القرن الثامن عشر في دور الاحتضار، فنكبت جميعًا ولم تستفد من استعمارها كما استفادت الدول التي سبقتها في غفلة الزمن، مع جهالة الشعوب التي نكبت بغارات الغاصبين.

بديهيات لا نبوءات

ولا أريد أن أدعي أنني أتنبأ بما يحدث بعد سنوات، ولكنني أريد أن أقول إن البديهيات ظاهرة لمن يلتفت إليها، وقليلًا ما يلتفت الناس إلى المحسوسات، فضلًا عن البديهيات.

فمنذ عشرين سنة كتبت «رجعة أبي العلاء»، وتخيلت فيها المعري عائدًا إلى العالم يسبح في أرجائه، بعد أن حرم نفسه السياحة فيه أيام الحياة، وقلت عنه إنه «كان في أرض نيبون يتأفف ويتبرم من كل شيء ومن غير شيء، ولم يزل مع تلميذه على حذر وامتعاض حتى هجرا أرض نيبون إلى أرض الصين، وأقاما فيها برهة بين الفتن والثورات والمجاعة تارة والقحط تارات، ولكنهما كانا أقرب إلى راحة البال وشهود الأحوال؛ لأنهما كانا يشهدان في الصين جهدًا يسر الناظرين أن يبلغ تمامه، أما الجهد الذي كانا يشهدانه في أرض نيبون فقلَّ أن يكون في تمامه سرور للناظرين، ولا سيما الحكماء.»

ثم يسأل التلميذ أستاذه عن انتصار اليابان وهزيمة الصينيين، فيقول الأستاذ المعري:

وما يدريك لعل أهل نيبون يخدمون أهل الصين بهذه الهزيمة وهم لا يشعرون؟ لقد كان هؤلاء المنهزمون شتيتًا من الخلق، فجمعتهم الهزيمة فأصبحوا أمة تنضوي إلى لواء واحد، فإذا بالمنتصرين يخافونهم بعد همس سنوات تجردوا فيها لاتخاذ الأهبة، وتوحدوا أو كادوا يتوحدون، فكيف يكون شأنهم لو تجردوا لاتخاذ الأهبة متوحدين خمسين سنة لا خمس سنوات؟ … علم الله لولا أن أهل نيبون يخافونهم ويفزعون من غدهم، لما عاجلوهم بالعدوان، وما أخالهم مع ذلك آمنين عقبى الأمور.

وتركيا من قبل

لقد كنا نحذر هذه العقبى على بلاد الشمس المشرقة قبل عشرين سنة، وكنا نتمنى لبلاد الشرق كله أن تعصم نفسها عن غوائل الاستعمار وعواقبه، فتدفع عنها المستعمرين ولا تشتهي تلك الشهوة الخبيثة، التي تغريها بمحاكاة أولئك المستعمرين.

وقبل نكبة اليابان كنا نكتب في مجلة البيان — سنة ١٩١٢ — عن مستقبل الدولة العثمانية، فنقول بعد هزيمة البلقان: «لو كانت الدولة العثمانية شجرة لا تنبت إلا في أوربة، لحق لهم ألا يرجوا منها بعد الآن ثمرًا، ولكنها شرقية المنبت، وهذه أرومتها لا تزال في الشرق، وما هذه الولايات الأوربية إلا فروع منها لا يميتها انفصالها.»

ثم نقول؛ «ليس من حسن السياسة ولا مما يوافق الدولة أن تفسر شعوبها على الاندماج في بنيتها قوة وغضبًا، والعقل العصري لا يفهم من معنى الإخلاص أن يتقيد الشعب بالولاء لحكومة تحكمه لمصلحتها لا لمصلحته.»

سياسة الأحلاف

وأخوف ما كنا نخافه على أمم الشرق منذ ذلك الحين، سياسة الأحلاف بين المعسكرين، فكتبنا في ذلك المقال قبل نيف وأربعين سنة: «إن المحالفة لا تؤكد للدولة إلا عداوة من تخالفه، ثم إنها لا تكفل لها صداقة من تحالفه … وليعلم العثمانيون أن تلك الدول لا تعضدهم ولا تتخلى عنهم إلا لمصلحتها، فإن عنَّ لها وجه المصلحة في تأييدهم نصرتهم سواء كانت معهم أو عليهم، أو عنَّ لها وجه المصلحة في التخلي عنهم خذلتهم؛ سيان المحالف منها والمخالف، فخير للدولة أن تدير شراعها مع كل ريح من أن تتقيد بريح واحدة، وأنفع لها أن تكسب عطف الرأي العام في أوربا كلها من أن تكسب الود الظاهر من بعض حكوماتها.»

كتبنا هذا ووددنا لو تعول الدولة العثمانية على منبتها في الشرق قبل أن ينهض مصطفى كمال لتعمير آسيا الصغرى، وقبل أن يتخذ العاصمة الحكومية في أنقرة بثماني سنوات.

وكل ما نتمناه لمن ينظرون تحت أقدامهم ولا ينظرون إلى أمامهم، أن يبقوا بعد انتقادهم واعتراضهم، بضع سنوات على الدوام، فيروا بأعينهم أن مثالب الانتقاد والاعتراض ترتد إليهم ولا تصيبنا بشرار ولا دخان، فهم على خطر من روادع الزمن يحسبون أنهم على هدى وصواب.

خمسون سنة إلى الأمام

والآن وقد مضت خمسون سنة بين النصر والهزيمة والغرور والندم والعظة والنسيان، يستطيع الناظر إلى الماضي أن يقول عن يقين إن اليابان قد ضلت الطريق، وإنها سلكت على الطريق الخطأ، واغترت بمظاهر الوجاهة الكاذبة، فضيعت في سبيلها مصلحتها الحقيقية، وأنفقت ملايين الملايين من الأموال على عدة الحرب التي تتغلب بها على جيرانها، فلم تربح من هذه النفقات ما يساوي عشر معشارها، ولم تكن لتربح شيئًا يُذكر إلى جانب الخسارة لو أنها مضت في طريقها ولم تنقطع بها الهزيمة في وسط الطريق.

واليابان اليوم ضعيفة مفتقرة إلى العون، ولكنها لا تبقى على هذه الحال، ولا بد لها من عودة إلى القوة والثروة، فإذا عادت وجدت إلى جانبها في آسيا دولًا كبارًا تقوم بين أمم كبار، لا مطمع فيها لطامع من المشرق ولا من المغرب إلا على غرر وأخطار.

ستجد الصين ذات الملايين التي تزيد على أربعمائة، وتجد الهند ذات الملايين التي تقارب الأربعمائة، وتجد الباكستان وعدتها نحو مائة مليون، وأندونيسيا وهي في قرابة هذا العدد، وإلى جوانبها أمم لا تضارعها في الكثرة، ولكنها تضارعها في العراقة والاعتزاز بالحرية والكرامة.

فإذا كان للماضي عظاته النافعة، فأكبر العظات أن تتعلم الأمم الآسيوية الكبرى أنها مسئولة عن سلامة القارة كلها، وإلا جنت على نفسها وعبثت بسلامتها، ونكصت على عقبيها ولم تنتفع بتقدمها ونهوضها إلى مرتبة الدول الغربية العظمى.

وخمسون سنة على نهج الهداية تصنع المعجزات وتأتي بالأعاجيب.

قارة تتساند في وجه المطامع الغربية، تكف تلك المطامع عنها وأنف الغرب راغم، وتتجه بالعالم الإنساني وجهة الأمان والفلاح، وتتسلم الزمام من يد الحضارة الغربية التي اؤتمنت عليه، فلم تؤد الأمانة لأحد، ولم تحفظها لنفسها، وهي تحسب أنها حافظتها أبدًا دون سواها.

١  الأخبار: ١٩ / ١١ / ١٩٥٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤