من تاريخ عباس وكتشنر١

نشرت «أخبار اليوم» بيانًا عن القضية التي نظرت في أوائل أيام الحرب العالمية الأولى، وسميت يومئذ بمحاكمة «الخديو عباس الثاني»؛ لأنها كشفت عن خلل في حساب دائرة سيف الدين ودائرة صالحة هانم منسوبٍ إلى الوصي عليها «حسين محرم باشا»، ثم قيل إن لورد كتشنر هو الذي أمر بالتحقيق والمحاكمة؛ إظهارًا للغيرة «الاحتلالية» على نزاهة الحكم والإدارة.

وقد اقتبست «أخبار اليوم» بيانها الذي نشرته من أوراق مودعة بين محفوظات الزعيم الخالد «سعد زغلول» وتساءلت:

لماذا يا ترى عُني سعد بحفظ هذه الوراق، مع أنه لم يكن وزيرًا في أثناء المحاكمة؟

وكنا نعلم شيئًا عن هذه القضية، سمعنا بعضه من سعد، وسمعنا بعضه الآخر من المعاصرين الثقات، فكتبنا موجزًا مما نعلمه، وقلنا إن سعدًا قد احتفظ بالأوراق؛ لأن هذه القضية كانت سبب استقالته المشرفة من وزارة الحقانية، بعد اصطدامه بالخديو عباس وباللورد كتشنر معًا أثناء التحقيقات الأولية، التي أجراها على أثر مراجعاته لأعمال الدوائر والمجالس الحسبية.

سؤال مؤرخ قانوني

وصديقنا الفاضل الأستاذ «عبده حسن الزيات» المحامي، مؤرخ وقانوني، يعنيه تاريخ سعد زغلول خاصة في القضاء؛ لأنه كتب عن قضاياه التي نظرها كتابًا مستقلًّا، يعد الآن من المراجع القانونية والتاريخية، وهو فوق ذلك معني بجلاء الحركة الوطنية على حقيقتها في جميع أطوارها، وفيما يتعلق بدعوى الاحتلال عليها، وادعائه أنه ملاذ الإصلاح والنزاهة فيها.

فدعاه الاطلاع على بيان القضية، وعلى تعليقنا، إلى الاستفسار طلبًا للمزيد من الإيضاح، وفي كتابه الذي أرسله إلينا بهذا الصدد يقول:

إنني بمجرد قراءتي لتلك القصة قامت بعقلي شبهات، ولاحظت في الوقائع المسرودة تناقضات، أنهيتها في خطاب إلى الأستاذ مصطفى أمين، ثم قرأت تعقيبكم فاسترحت، خصوصًا حين قررتم أن محرم باشا كان صديق كتشنر؛ فقد كان بين ملاحظاتي على القضية، صعوبة التوفيق بين القول بأن الخديو أراد إرضاء كتشنر بتقديم محرم للمحاكمة كبشًا للفداء، وبين ما أثبته حكم البراءة — أن محرمًا هذا كان قد شكا إلى كتشنر تصرفات الخديو. فإن المعنى الخالص من هذا أن محرمًا ذو علاقة باللورد. ولكنني لا أكتب هذه السطور لمجرد الشك، إنما حفزني إلى كتابتها رغبتي أن تتفضلوا بزيادة القضية إيضاحًا، وأن تفردوا لها فصلًا خاصًّا يجلو على الناس هذه الصفحة الوضيئة من صفحات سعد، وينفي من نفوسهم هذا الوهم الضار؛ أعني غيرة المحتلين على العدالة ونزاهة الحكم.

نزاهة غير نزيهة

والأستاذ الزيات على حق في ملاحظاته وفيما استزاده من البيان عن دعوى الاحتلال؛ لأن الواقع المستفاد من جميع القضايا الكبرى، التي تعرض لها قياصرة الاحتلال باسم نزاهة الحكم، أن هذه النزاهة لم تكن نزيهة على الإطلاق، وإنما كانت سبيلًا للدعاية أو لتغطية الحقيقة التي تمسه وتمس أولئك القياصرة، وقد كان أنزه هؤلاء القياصرة — من الناحية المالية — لورد كرومر، الذي قضى في الوكالة البريطانية نحو ربع قرن، لم يكن له فيها دعوى غير النزاهة والتنزيه فيما يدور حول العدالة والمساواة، ولكنه لم يكن يعرف عدالة ولا مساواة حين تقضي الدعاية المغرضة قضاءها عليه في أظهر الأمور.

ومن قبيل ذلك أنه قام وقعد لاتهام «المنشاوي باشا» بضرب بعض اللصوص الذين سرقوا ماشية الخديو عباس في جواره، ولم يسترح حتى صدر الحكم بحبس الوجيه المتهم، ليصل من وراء اتهامه إلى اتهام الأمير وحاشيته.

وكرومر هذا بعينه هو الذي أمر بإشعال النار في الحقل الذي اعتصم به اللصوص عند البلينا فماتوا حرقًا، ومفتشه وأعوانه يحاصرون المكان ليضربوا كل من خرج منه بالنار.

وهؤلاء لصوص، وأولئك لصوص.

وهؤلاء في طريق المحاكمة، وأولئك في طريق المحاكمة.

ولكن العدالة وقوانين الحضارة الحديثة تسمح لكرومر بإحراق الأحياء، وتقيم القيامة للتشهير بالمصريين إذا اتهم وجيه منهم بجلد هذا أو ذاك من قطاع الطريق.

ولقد وقر في اعتقاد أناس، يعلمون تاريخ ضرب الإسكندرية والمذابح المدبرة، أن «المنشاوي باشا» حوكم لأكثر من سبب واحد في قضية الماشية المشهورة.

وقر في أذهانهم أنه حال دون استفحال المذابح المدبرة في إقليمه، واستحق من مؤتمر الأجانب الذي انعقد بفندق «أبات» بالإسكندرية أن يُوجه إليه رسالة الشكر الإجماعية، التي قالوا فيها: «إننا نحن الواضعين إمضاءاتنا بذيله، المستوطنين في القطر المصري، والتابعين لدول مختلفة، بناء على ما اشتهر لدينا مما أتيتم به من الإعانة والغيرة نحو ساكني طنطا، على اختلاف أجناسهم وأديانهم؛ قد رأينا من الواجب علينا أن نقدم لسعادتكم هذه العريضة؛ برهانًا على إقرارنا الأبدي بحميتكم وشكرنا الدائم لسعادتكم، وأنه ليسرنا ويعزينا كثيرًا أن نرى في القطر المصري، مع ما أصيب به من النوائب، رجالًا دافعوا عن حقوق الإنسانية، وراعوا زمام التمدن بحمايتهم أولئك الأبرياءَ.»

قال أولئك العارفون بتاريخ المذابح المدبرة يومئذ إن الرجل إنما سيق إلى السجن لحمايته الأبرياءَ لا لضربه اللصوص، وسواء صح تقدير أولئك العارفين أو لم يصح، فقد كانت معاملته للمجرمين أهون جدًّا من الإحراق بقيد الحياة.

أما نزاهة كتشنر

أما نزاهة كتشنر في قضية سيف الدين، فقد كانت كلها دعاية وتغطية من المبدأ إلى الختام.

كانت له علاقة وثيقة «بحسين محرم باشا»، تمتد إلى الرحلات والسهرات والزيارات الشخصية، وكان حريصًا على تغطية حسين محرم باشا، منذ عرضت أوراق الدوائر على وزير الحقانية — سعد زغلول — إلى أن استقال سعد من الوزارة احتجاجًا على التدخل في أعمال المجالس الحسبية.

وكان سعد قد أبدى رأيه عند مراجعة أوراق الدوائر بإحالة الوصي إلى القضاء، فوقف له كتشنر مباشرة؛ لأن مستشار الحقانية الإنجليزي كان يظهر الحيدة فيما يتصل بالمحاكم الشرعية والمجالس الحسبية، وقال كتشنر إنه لا يمنع المحاكمة، ولكنه يوجب على الوزير أن يتقدم بجميع الأدلة التي تثبت التهمة قبل إحالة الوصي إلى التحقيق، وهذا هو الذي سماه سعد بوضع المركبة أمام الحصان؛ لأن الأدلة القاطعة لا تجتمع بين يدي المحققين المسئولين قبل حجز الأوراق والمقابلة بين الحسابات، ولم تستطع دائرة المعارف البريطانية أن تخفي هذه الحقيقة، فقالت في طبعتها التي ظهرت بعد الحرب إن أدلة زغلول لم تكن كافية، ولكن التهمة كانت صحيحة كما وقر يومئذ في الأذهان.

وأبى سعد أن يقضي على الشبهات وهو مفتوح العينين، فاستقال وكتب في صحيفة الأهرام ردًّا على الذين خاضوا في أمر تلك الاستقالة، منذرًا بإعلان الحقيقة إذا أصر ولاة الأمر على اللجاجة فيها، فانقطعت الألسنة وتقصفت الأقلام!

ولم يكن كتشنر في مصر يوم نُظرت القضية بعد التحقيق فيها، ولكن القضية لم تُنظر إلا والخديو عباس معزول.

ولهذه المسألة في علاقتها بالمجالس الحسبية والقضاء الشرعي، شعب كثيرة يُحيط بها رأي سعد المعروف عن تنظيم المعاهد الدينية والهيئات القضائية، ولم يكن يقنع فيه بما دون الإصلاح الشامل الذي يتناولها جميعًا، لو انطلقت يداه بالعمل كما أراد.

وكتشنر كله دعاية

ومن عجيب أمر السياسة الاستعمارية التي كانت من خطط القوم في إبان عهد الاستعمار، أنها خلقت من كتشنر هذا كله دعاية طنانة، كأنها الطبل الجوف يُسمع من بعيد ولا شيء فيه من قريب.

ولا نعجب لأمر هذه الدعاية لأنها عجيبة من خطط الاستعمار، ولكننا نعجب لها لأن القوم يصدقونها ويجددون بها قصة أشعب في ساحة الجد والخطر، وهي كثيرة على اللعب والمزاح.

فقد كانت حرب الدراويش هي الفتح العظيم الذي طيروا به اسم الرجل في الخافقين، كأنهم كانوا يظنون أن القائد الذي يقاتل الأعداء بالمدافع الحديثة من بواخر النيل ومن معاقل الشاطئ؛ يأتي بمعجزة فنية خارقة إذا انتصر على أناس يقاتلون بالبنادق والحراب!

ثم أرسلوه إلى حرب البوير فأوشك أن ينهزم، لولا تفاوت القوة بين الدولة البريطانية وعصابات أفريقيا الجنوبية، وهي تتلقى العداء من الوطنيين السود ومن الإنجليز.

ثم ندبوه لتنظيم القتال في ميادين الحرب العالمية الأولى، فكانت الطامة الكبرى لولا أنه أزيح من مكانه بضربة من ضربات القضاء.

وإلى اليوم يعتقد بعض «الشكوكيين» أن الجاسوسية البريطانية لم تبذل عنايتها الوافية لحراسة القائد الكبير وهو ذاهب إلى روسيا لتنظيم الخطط الحربية هناك، فغرق عند جزائر شتلاند، وعرف الألمان موقع السفينة في سفرها من برقية لا تحتاج إلى فطنة كبيرة للعلم بما وراءها من الإيحاء.

وخلاصة القصة عن هذه البرقية أنها أرسلت من أحد العيون في البلاد الإنجليزية إلى زميل له في الخارج يسأله بما نصه:
Should Henry enter the law academy next December?

واسم جزائر شتلاند يتألف من أوائل الحروف في هذه الكلمات، وليس أيسر من ملاحظة التلفيق فيها لجمع الحروف التي يحتويها اسم الجزيرة؛ إذ ليس من العادة المألوفة في البرقيات ذكر أداة التعريف، وليست «الأكاديمي» علمًا على مدرسة الحقوق، ولا يلزم تحديد تاريخ الدخول بديسمبر القادم ولا بشهر من الشهور.

إلا أن العناية بكسب الحرب قد غلبت على العناية بحراسة كتشنر، فمرت البرقية بغير تدقيق!

وشاهد من أهله

وليس لنا في الرجل رأي غير الآراء المتفق عليها بين عارفيه من قومه، بعد مسح الطلاء المعهود في أمثال هذه الأوصاف والشهادات.

فاللورد كرومر يقول عنه كما روى مترجمه الفيكونت إيشر Esher: «إنه لا يُحسن الابتكار والإنشاء، ولكنه معاون نافع في التنفيذ.»

ولورد مورلي وزير الهند يومئذ يقرر بلهجة التوكيد على أثر المحادثة بينه وبين كتشنر «أنه لن يذهب حاكمًا للهند كما أراد أبدًا. لن يذهب إليها أبدًا.»

والمترجم نفسه يقول عنه: «إنه ينقلب فظًّا في بعض الأحيان، ولكنه يجيد الوقيعة والسياسة الميكافيلية.»

وتراجمه كلها تروي أخبار حنينه إلى المعيشة في البلاد الشرقية، التي يتولى فيها المناصب بغير رقابة من الرؤساء عن كثب؛ ومنها منصب السفارة في الآستانة، ومنصب حاكم الهند، ومنصب حاكم السودان. وعلاقاته الشخصية تفسر دعاية النزاهة التي تُذاع عنه تفسيرًا منزوع الغطاء، وسر «التغطية» التي يتكلفها لبعض الأشخاص مكنون كله في ذلك التفسير.

لا يعرف شكسبير

وثالثة الأثافي أن «القائد العظيم» كان من العامية والفدامة بمنزلة تذهل العقل ممن هو دونه في المقام بكثير، فضلًا عن هذا المقام الرفيع.

قال صاحب الأروقة الهامسة Whispering Gaileny:

لم يكن كتشنر يعير الثقافة الأدبية ذرة من الالتفات، وقد يقرأ بعض الكتب لاستقاء المعلومات ويندر أن يقرأها للمتعة؛ فإذا جرى حديث الثقافة، غاص في أعماق نفسه ولم ينبس بكلمة. وجرى الحديث يومًا عن شكسبير، فتداوله الحاضرون حتى لاحظ مورلي أن كتشنر شارد الذهن لا يُصغي إليه، فاجتهد في جذبه إلى المحادثة، وأفلح في لفت نظره إلى جلسائه بعد شروده بين الجدران، وسأله: ما رأيك بحق في شكسبير؟ وشاع في المجلس صمت الأموات، وكتشنر يقلب نظره من وجه إلى وجه بين الحاضرين، ثم استقر نظره على جون مورلي، فقال أخيرًا: شكسبير! ثم صمت هنيهة وعاد يسأل: أليس هو ذلك القائل الذي يتحدث عن الخيلاء والفخامة وميادين الحروب الظافرة!

وراغ الحاضرون عن الجواب.

•••

ولا نخال أن أحدًا يرتاب في فدامة مخلوق إنجليزي لا يعرف شيئًا أكثر من هذا عن شكسبير، ولو من المسارح أو الإعلانات أو الصحف أو أحاديث الدهماء، ولا نقول الخاصة والمطلعين.

وقد كان هذا الرجل يسلط على الشعوب والرجال في الأمم المنكوبة بالاستعمار، ولا معقب لحكمه ولا راد لقضائه في عظيم من أمرها أو حقير، وكان يستكثر على العظماء والرؤساء ألا يعاملوه معاملة الملوك أو الأرباب؛ لأنه كما قال عنه شرشل يعامل الناس كالآلات، ولم يكن في الوقت نفسه يتورع عن زيارة محتال مشهور في بيته للتفرج كما يقول على مجموعة السجاجيد، ولا كان يتورع عن إهداء الدبابيس المرقومة بحرفي اسمه ولقبه K. K. لأناس لا يلقاهم في مصلحة من المصالح العامة، ولا في شأن من شئون السياسة!

ويقال في أحاديثه وحوادثه بعد ذلك إنها قصة نزاهة وعدالة، وبينها وبين النزاهة والعدالة ما بين النقيضين.

١  الأخبار: ٢٤ / ١٢ / ١٩٥٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤