المحسوبية في بلاد الإنجليز١

ندر بين التراجم التي تؤلف عن ساسة الإنجليز المشهورين في البلاد الشرقية؛ أن نقرأ كتابًا يحتوي من الحقائق والأخبار الصحيحة ما احتواه هذا الكتاب في ترجمة السير ريجنالدونجت، الذي كان مندوبًا ساميًا لدولته في مصر أيام الثورة المصرية، وكان قبل ذلك حاكمًا عامًا للسودان.

ومن هذه الحقائق، التي جاءت في الكتاب على غير قصد من المؤلف، أن المحاباة أو «المحسوبية» التي يعيروننا بها داء قديم متأصل في الحكومات الغربية، لم تسلم منه أعرق البلاد في النظام البرلماني، وأشهرها بالدقة والضبط في معاملة الموظفين، وسيرة صاحب الترجمة من الأدلة الكثيرة على قدم هذا الداء — داء المحسوبية — في بلاد الإنجليز.

لقد كان «ونجت» هو المندوب السامي الوحيد الذي خرج من مصر مغضوبًا عليه، أو غير مشيع بعلامة من علامات الرضى والارتياح، فخرج كرومر منعمًا عليه بلقب اللوردية وربطة الساق وخمسين ألف جنيه، وخرج كتشنر منعمًا عليه بمثل ذلك، ولم يظفر ونجت باللقب ولا بالمكافأة المالية، وبقي على فقره محرومًا من وظائف دولته، حتى اضطر إلى العمل بإدارة إحدى الشركات.

ومع هذا كان «ونجت» أصوب رأيًا في السياسة الشرقية من جميع أسلافه ولاحقيه؛ فلم تختلف نظرتان في شأن خطير من شئون مصر والسودان، إلا كانت نظرته هو أصح النظرتين، وأبعدهما أمدًا في اتقاء العواقب وتذليل المصاعب، وكاد هذا الرجحان بالرأي الصواب يطَّرد في جميع الوصايا التي أشار بها على حكومته فأعرضت عنها، وربما «وبخته» من أجل بعضها في قالب التوبيخ المعهود بين وزارة الخارجية وأعوانها من كبار الرؤساء.

أنذر حكومته بالثورة في مصر إن أصرت على الإعراض عن مطالب المصريين، فجاءه رد من وزارة الخارجية تعجب فيه من هذا الإنذار الذي لا تسوغه بادرة من بوادر الواقع، فصح قوله وكذبت تقديرات حكومته، وظل الرجل بعد ذلك مغضوبًا عليه.

وأنذر سماسرة إسرائيل بسوء العاقبة إن لم يعملوا على مرضاة العرب، وقال لهم إنهم «معقولون» مجاملة لهم وللحكومة البريطانية التي أرسلتهم إليه، ولكنه شفع ذلك بقوله إنهم يجهلون كل شيء عن العرب وعن الشعور العربي و«العقلية العربية»، وإنهم لا يفلحون مع هذا الجهل في خطة من الخطط التي يرسمونها على البعد في الخيال.

ولما احتل الفرنسيون فاشودة، كان من رأي كتشنر أن يرفع عليها العلمين الإنجليزي والمصري كما فعل في الخرطوم، فحذره ونجت من ذلك وقال له: إن حجتنا إنما تنقض دعوى الفرنسيين إذا كانت هذه الأرض مصرية تحت الراية المصرية، ولكننا نقف منهم موقف المتنافسين على الأرض الأجنبية إذا رفعنا رايتنا على تلك البقعة. فأذعن كتشنر بعد لجاج طويل، وذهب إلى ملاقاة الضابط الفرنسي مرشان وهو يلبس الطربوش والكسوة العسكرية المصرية، وخرج كتشنر بفضلها وشهرتها، وبقي ونجت منسيًّا مغمورًا في هذا الحادث، على دأبهم معه في الحوادث الأخرى.

ولما اختلف كرومر وونجت على الخطة التي تتبع في السودان بعد الثورة المعروفة بثورة «الجبخانة»، كان كرومر يشير باستخدام العنف وتجربة فرقة من جيش الاحتلال على الخرطوم، وكان ونجت يشير بنقيض ذلك، ويوصي بحل المشكلة بالهوادة والمسايرة إلى حين، فنجح ونجت حيث أخفق كرومر، وقيل يومئذ إن سياسة كرومر هي التي أعادت السودان إلى الطاعة والهدوء.

ومن أخبار هذه الترجمة التي أشرنا إلى بعضها في كتابنا عن سعد زغلول، أن ونجت والسلطان فؤاد اتفقا على إدخال سعد وعبد العزيز فهمي في الوزارة، وكتب «المندوب السامي» إلى حكومته قبل أن يعرف من الوزيرين المرشحين قبول هذا الترشيح، فجاءه الرد من الحكومة البريطانية بالاعتراض على اختيار رجلين معروفين بمقاومة النفوذ البريطاني، في وقت تحتاج فيه الحماية البريطانية إلى المؤيدين.

وجاء في هذه الترجمة أن سعدًا كان يلقى ونجت بنادي محمد علي، فيفاتحه في أمر الجمعية التشريعية، وأن الاتفاق على المقابلة بعد إعلان الهدنة، إنما تم بينهما في نادي محمد علي دون أن يخبره سعد بالغرض منه حتى يكون معه صاحباه عبد العزيز فهمي وعلي شعراوي، ثم تمت المقابلة ودوَّن المندوب البريطاني أحاديثها بالتفصيل، فلم يختلف نصها ونص الزعماء الثلاثة إلا في القليل.

ونحن نقول إن الكتاب يحتوي من الأخبار الصحيحة ما لا تحتويه أمثال هذه الكتب، ولا نريد بذلك أنه صدق في أخباره جميعًا، ولا أنه خلا من الوقائع المحرفة أو المناقضة للواقع الثابت في أسانيدنا نحن المصريين؛ وإنما هي «الصحة النسبية» بالقياس إلى التزييف المتعمد من الألف إلى الياء في كل ترجمة يكتبها الإنجليز عن ساستهم في البلاد الشرقية، ولعل هذه الصلة أثر من آثار الإجحاف الذي حل بصاحب السيرة، ووسيلة من وسائل إبراز الكفاية التي لم يقدرها القوم تقدير الإنصاف والرعاية.

أما الأخبار التي وردت غير صحيحة أو غير محققة في هذه السيرة، فهي أكثر من الأخبار الصحيحة المحققة، ولا سيما أخبار الحوادث التي اشترك فيها ونجت، وحمل فيها بعض الوزر وبعض التبعة، متعاونًا مع زملائه بالسودان أو مع وكالة القاهرة ومكاتب دوننج ستريت.

قصة غردون مثلًا، أو فجيعة غردون، أو مؤامرة غردون.

ما حقيقتها بين القائلين إن غردون ذهب في الخرطوم المحصورة ضحية مقصودة، أو إنه ذهب في ذلك الحصار من جراء الإهمال والتقصير والجهل بدخائل السودان عند تسيير الحملة لإنقاذه، على الرغم من معارضته في الجلاء عن الخرطوم؟

هل مات غردون قصدًا أو مات عن جهل وسوء تدبير؟

اقرأ الوقائع في الكتاب تجد أن مؤلفه يحاول أن يصرف الشبهات جميعًا عن أبيه، وتجد أن ونجت نفسه يُدافع عن خطة التمهل والإبطاء في مسير الحملة إلى الخرطوم، ولكنك تستطيع أن تقول بعد مراجعة الوقائع جميعًا إن القصد أظهر من الإهمال، وإن الإبطاء لم تكن له ضرورة محتومة، سواء قبل اتخاذ القرار بتسيير حملة الإنقاذ أو بعد اتخاذ هذا القرار.

وهذه هي الوقائع مجردة من التعليق والزيادة نسردها، وندفع للقراء من المستعمِرين بكسر الميم أو المستعمَرين بفتح الميم أو الشهود من أصحاب الحيدة بين الطرفين، أن يفهموا منها ما تمليه ولا مبالغة فيه.

فأول ما هنالك من حلقات هذه السلسلة المترابطة أن لورد كرومر ترك قصر الدوبارة أيام الأزمة، ولم تجد حكومته وقتًا غير ذلك الوقت العصيب تدعوه فيه إلى المؤتمرات المالية، وتختاره هو دون غيره لحضورها وملازمتها.

ثم يتأخر صدور القرار بإرسال الحملة بعد فوات الوقت الملائم، ويصدر الأمر إلى قائدها لورد ولسلي بأن يحاول الوصول إلى دنقلة، ولا يتقدم خطوة واحدة وراءها.

ثم يكون ولسلي هذا من أجهل الناس بالسودان ونهر النيل، ويستبد برأيه فيقرر نقل المؤنة والأزواد في الزوارق الصغيرة، كما كان يفعل في أنهار كندا، ولا يخفى على حكومته — إن خفي عليه — أنه يعبر بهذه الزوارق خمسة شلالات!

ثم يصدر الأمر إليه بالتقدم في اللحظة الأخيرة وراء دنقلة، ولكن على شرط يزيل كل فائدة للتقدم؛ وهو الاقتصار على كتيبة صغيرة من مائتين أو ثلاثمائة كافية في زعمهم لاختطاف غردون من وراء الحصار، وهم يعلمون أن غردون يرفض النزول من السودان، وينتظر الحملة لفتح الخرطوم، فلو أمكن وصول الكتيبة الخاطفة إليه، لكان هو أول من يرفض مناورة الاختطاف.

وعلى كل هذا بقي في حساب الأيام يومان بغير عمل، يقول عنهما ونجت إن العمل فيهما توقف هنيهة؛ لأنه كان مجازفة لا تُؤمن عواقبها، كأنما هذه المناورات جميعًا لم تكن من المجازفات أو العبث الذي هو شر من المجازفة؛ لأن المجازفة قد تفلح في الأحايين.

وتتم الفجيعة بعد هذا كله بالصياح على غردون الشهيد، وبالحقوق الشرعية التي ترتبت على هذا الاستشهاد المطبوخ، وإن «فضل» المنقذين فيه لأكبر من فضل المعتدين.

•••

أما حادث الذخيرة، أو «الجبخانة» كما اشتهر في وقته، فهو أول ثورة مسلحة على الاحتلال، تعاون فيها الجيش المصري والجيش السوداني وشعب السودان.

ويعزوها ونجت إلى تحريض الضباط المصريين، الذين أدخلوا في روع الجند السودانيين أنهم سينقلون إلى أفريقيا الجنوبية لتسخيرهم في حرب الترنسفال، بعد الهزائم التي تعاقبت على الإنجليز بقيادة كتشنر هناك، وشاع على الألسن أن كتشنر طلب التعجيل بإرسالهم؛ لأنهم قاتلوا بقيادته وقاتل معهم، فاختبرهم واختبروه، فهم أنفع له في حرب البوير من الفرق الإنجليزية التي كان يقودها هناك.

إلا أن ثورة «الجبخانة» من الحوادث التي رواها الكثيرون، ووصفها الشاعر المصري الكبير حافظ إبراهيم بحذافيرها من المبدأ إلى الختام، وقد كان من شهودها كما كان من ضحاياها، وطابق وصفه لها روايات الشهود من المصريين والسودانيين.

قال حافظ إبراهيم في كتابه ليالي سطيح: «صدرت مشيئة القائم بالأمر في السودان بجمع ذخيرة البنادق من أيدي الجنود، فتساءل الناس عن هذا النبأ، ومشى بعضهم إلى بعض، وأرجفوا يومئذ بسقوط الوزارة وانحراف الأمير عن القوم، فكثر التأويل كما كثر القيل، فتنبأت طائفة منهم أن سبب هذه المشيئة هو التحرز والتوقي من انتقاض الجيش، وقد نمى خبر خذلانهم أو أوليات الحرب الترنسفالية، وظنت طائفة أخرى أن سببها هو ذلك الفتور الذي زعموا أنه وقع بين الأمير والقوم، وقال ذوو الأسنان إنها محنة من محن السياسة يبلون بها طاعة الجيش …»

وبين هذه الأراجيف التي أطال حافظ إبراهيم في التعقيب عليها، شاعت حقًّا مسألة الندبة إلى حرب الترنسفال، وكان المصريون والسودانيون جميعًا يعطفون على هؤلاء القوم؛ سخطًا على الاحتلال والسيادة الأجنبية، لا حبًّا للبوير، ولا معرفة بما هم أهله من العطف والمعونة.

وكان «ونجت» هو الذي تكفل باستكشاف أسرار المؤامرة كما سماها، وتهدئة الخواطر بغير حاجة إلى استخدام السلاح، كما خطر لكرومر حين أشار بإنفاذ فرقة أو فرقتين من جيش الاحتلال إلى الخرطوم.

فلا جرم تشاب الرواية هنا وفي مأساة غردون بشائبة الهوى، أو بحب الدفاع عن الخطة التي كانت له يد في رسمها وتنفيذها؛ بموافقة رؤسائه تارة، وبغير موافقتهم تارة أخرى.

مصر والعرب

ولكننا لا نختم الكلام عن الكتاب بحقائقه وأباطيله دون أن نعترف لمؤلفه رونالد ونجت بعطفه على الجانب المصري، حين يتفق العطف عليه مع الدفاع عن سياسة أبيه.

ومن مناسبات هذا العطف بين الحوادث التي رواها واستمر على روايتها بعد استقالة أبيه، أنه عقد المقارنة بين إنذار للورد اللنبي على أثر مقتل السردار، وبين إنذار النمسا إلى الصرب بعد مقتل ولي العهد في سراجيفو، وتحفز الدول لتأييد الصرب من جانب، وتأييد مطالب النمسا من الجانب الآخر.

قال المؤلف بعد الإشارة إلى الإنذارين إن إنذار اللورد اللنبي قبلته وزارة مصرية بعد رفض سعد زغلول لمطالبه التي تناقض الاستقلال … أما إنذار النمسا فقد كانت شدته البالغة سببًا لاشتعال الحرب العالمية، وما جرت إليه من الخسائر والنكبات.

الحكماء الطائشون

ويذكر المؤلف كيف قُبلت مطالب الإنذار في الوقت الذي وصلت فيه البرقية السرية من لندن بتعديل بعض هذه المطالب والعدول عن بعضها، وكانت حجة الساسة الحكماء عندنا في قبول ما قبلوه أنه «حكمة» تمليها الوطنية والبصر بدخائل الأمور، وهم كما تبين من أسرار هذه النكبة بعد ذلك أجهل الناس بالدخائل والظواهر، وأسرعهم إلى الاستخفاف بالوطنية وبالحكمة، وأجهلهم بما يريده الغاصبون حقًّا، وما يهولون به وهم فيه مختلفون.

وشيء لم يُذكر في الكتاب

وشيء لم يُذكر في الكتاب نضيفه إليه؛ لأنه مما نعلمه عن طرائف السودان، وقد يجهله المؤلف أو يعلمه ولا يملك المصارحة به في كتاب يترجم به أباه.

كان ونجت يتكلم العربية باللهجة السودانية كأحد أبنائها، وكان يتظرف بالتحدث بها إلى ضيوفه من مشايخ القبائل في الحفلات السنوية التي تُقام بقصر الحاكم العام لرؤساء العشائر والدواوين.

وفي حفلة من هذه الحفلات طاف بموائد المشايخ من أهل البادية، وسأل أحدهم بلهجته المحلية: كيف أنك يا زول؟

قال الرجل: زين يا جناب السردار، ما يصعب عليَّ غير حالك أنت والله!

فتشوَّف ونجت إلى استطلاع ما يريده هذا الشيخ الصريح، وسأله: وما لك صعبان عليك حالي يا زول؟

قال في براءة وطنية: أنت يا جناب السردار في هذا الملك الطويل العريض، ما لقيت لك زوجة غير هذه المرأة الشينة التي نراها معك كل عام.

فلم يتمالك ونجت نفسه أن أغرب ضاحكًا، واسترسل في الضحك حتى عجبت اللادي ونجت، واشتد بها الفضول إلى سر هذه النكتة التي تجود بها قريحة شيخ من شيوخ البداوة، وسألت قرينها عن سر ضحكه مع تقاليد «التوقر» الذي تفرضه عليه الرئاسة أو «الإمارة» في قصر «الدولة»!

وكانت في ونجت شيطنة دعابية، فلم يكتم عنها الخبر، وكانت السيدة كزوجها في هذه الخليقة، فضحكت معه وجعلت كلما لقيت ذلك الشيخ في وليمة من الولائم الرسمية، تطلب من المترجم أن يسأله: أما وجدت لجناب السردار زوجة أجمل من هذه المرأة الشينة؟ فيومئ الرجل إلى جناب السردار كأنه يتشفع به وهو يقول: الله يجازيك يا باشا! لا تكتم السر وأنت أبو «المخابرات».

١  الأخبار: ٧ / ١ / ١٩٥٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤