الناخب المصري وفلسفة أرسطو١

قرأت في هذا الأسبوع الكتاب الأول من «تطور الفكر السياسي»، الذي ألفه الدكتور جورج هولاند ساباين، وترجمه الأستاذ حسن جلال العروسي، ولخصه العلامة السنهوري في مقدمته البليغة بكلمتين؛ إذ قال:

إن الحكم الصالح لا تتلمسه فلسفة الإغريق في الحكم المطلق للفيلسوف، ولكن تنشده في مبدأ سيادة القانون.

من كان في شك من الحكمة السائرة التي تقول: «إن الإنسان إنسان حيث كان»، أو كان في شك من قول القائلين: «إنه لا جديد تحت الشمس»؛ فليقرأ هذا الكتاب فإنه سيعرف بين ما يعرفه من دروسه الكثيرة أن مسائل الحكم والسياسة قديمة في أصولها، وأن أنواع الحكومات وعيوبها جميعًا معهودة منذ العصور التاريخية الأولى، وأن أفلاطون وأرسطو ومن عاصرهما من فلاسفة اليونان لا يستغربون شيئًا لو انبعثوا من الأجداث ونظروا إلى العصر الحاضر كما نراه بمشكلاته ومعضلاته وحلوله وأحكامه، وتقلبوا في أرجاء العالم من مشرقه إلى مغربه ومن أرفع الأمم إلى أقل الشعوب والقبائل نصيبًا من الحضارة وشئون السياسة والحكومة.

مشكلة الحكم المطلق، ومشكلة الحكم الشعبي، ومشكلة التفاوت في الثروة، ومشكلة الطبقات الحاكمة، ومشكلة الانتخاب وأصحاب الحق فيه، ومشكلة الفارق بين حقوق الرجال وحقوق النساء، ومشكلة المَلكية والشيوعية، وغير ذلك من المشكلات التي تقرأ أخبارها في صحافة اليوم؛ هي هي هذه المشكلات التي يعرضها الكتاب؛ إذ يعرض لنا آراء أفلاطون وأرسطو، ويلم بما سبقها من آراء الإغريق والفرس التي لم يتغير منها إلا اتساع النطاق، وظهور الجسد القديم في ثوب جديد.

ومن المفيد للعقل الإنساني دائمًا أن يعرف أصالة المسائل التي يعالجها أو يفكر فيها، فإنه يفهمها خطأ ولا ريب إن فهم أنها بنت اليوم وأنها شيء لم يسبق له مثيل في الجملة والتفصيل.

أرسطو والناخب المصري

وأذكر على سبيل المثال مسألة كنت أعتمد فيها على أرسطو، وأرى الأدلة الوافرة على صوابها من تجاربنا العصرية؛ وهي مسألة الناخبين واختلاف حقوق الانتخاب بين المتعلمين والجهلاء.

إن التجارب العصرية جميعًا تثبت رجاحة رأي الفيلسوف الكبير في حقيقة الملكة الانتخابية، فهي مسألة بداهة وعادة وليست مسألة علم وفلسفة، أو هي مسألة تجاوب وامتزاج بين المعلومات، وليست مسألة آراء متفرقة ينفرد بها أصحابها هنا وهناك، دون أن تصهرها البوتقة العامة في بيئة تتخلق من بينها ويتخلقون منها.

وحدث كثيرًا أن بعض إخواننا في المجالس النيابية كانوا يقترحون تمييز المتعلمين بزيادة الأصوات، أو يقترحون حرمان الأميين من الانتخاب، فلم أكن أناقشهم برأي أرسطو؛ لأن الرد عليه سهل جدًّا على لسان العارف وغير العارف؛ وهو الابتسام مع القول بأن الفلسفة شيء والواقع شيء آخر، أو مع القول بأنها نظريات وأحلام «طوبية» لا تقبل التطبيق في العصر الحديث.

ولكنني كنت أناقشهم بالواقع المتكرر من تجارب الانتخابات بين المتعلمين وغير المتعلمين، وكنت أضرب المثل لهم بانتخابات المحامين والمهندسين والمعلمين والأطباء في نقاباتهم، وأسألهم: أتعتقدون حقًّا أنها خير من انتخابات المجالس النيابية، وبخاصة ما تقدم منها في تجاربها الأولى؟ فكان الواقع يضطرهم إلى الاعتراف بالحقيقة، ويقنعهم بأن العادة هنا أفعل من العلم الغزير والثقافة العالية، إلا أن تكون من قبيل الثقافة التي تسري بالقدوة والعدوى وعلى غير قصد في كثير من الأحيان.

الديمقراطية الصحيحة

وليس هذا كل ما يُقال عن خطأ القائلين بحرمان الأميين حق الانتخاب؛ فإن الأميين إذا كانوا في الأمة قلة لا تزيد على خمسة أو عشرة في المائة، فمن الجائز حرمانهم مع المحافظة على قواعد الديمقراطية؛ لأن رأي تسعين في المائة مقدم على رأي العشرة الباقية، ولا يخل بالحرية الديمقراطية أن يتغلب حكم الأكثرين على حكم الأقلين.

لكن الأمية في الشرق هي الكثرة الغالبة، وليس من الحرية الديمقراطية في شيء أن تجرد أربعة أخماس الأمة من الحقوق وأنت تفرض عليهم الواجبات، وأن تحملهم مهمة الدفاع عن الوطن وأداء الضريبة وتعاملهم معاملة الأجانب الغرباء أيام الانتخاب.

هذا إلى ملاحظة لا بد من الالتفات إليها في هذا الصدد، وهي سبب حرمان الأميين حق الانتخاب في بعض الأمم، ولا سيما الأمريكية، فإنه هنالك حيلة يقصد بها حرمان الهنود الحمر والزنوج حقوق المساواة دون التعرض لتهمة التمييز بين الأجناس، وليست هذه الحيلة مما يجوز بين أبناء الوطن الواحد والجنس الواحد والصفة القومية الواحدة، بل هي مما لا يجوز مع اختلاف الأجناس كما لا يجوز كل احتيال في هذا المقام.

الواقع قبل الفلسفة

على أن الواقع من تجارب الانتخاب في مصر يثبت لنا أن «الناخب المصري»، سواء كان من الأميين أو المتعلمين، قد أدى الأمانة في مواقف كثيرة على أحسن وجه يُراد من الناخبين في أرقى الأمم.

ولست أحب أن أصف الناخب المصري بصفة واحدة مطلقة تنطبق عليه في جميع الأوقات وجميع المناسبات، ولكني أذكر المواقف التي نعلم علم اليقين أنه بلغ فيها الغاية من الأمانة الانتخابية، ونبدأ من المجلس النيابي الأول قبل ثمانين سنة، وننتهي إلى تجاربنا الأولى في الجمعية التشريعية، ثم في البرلمان بعد إعلان الدستور.

قبل ثمانين سنة

رجعت إلى أسماء النواب المنتخبين لمجلسنا النيابي الأول على عهد إسماعيل ثم على عهد توفيق، وكانت شروط الانتخاب يومئذ ضيقة بالغة في الضيق، ولكنها على كل حال كانت عامة مطلوبة من جميع المرشحين بغير استثناء، ولم يكن في وسعي أن أتثبت من أحوال الانتخاب في كل إقليم، فاكتفيت بالأقاليم التي أعرفها وأعرف الأسر والمرشحين من أبنائها، وسألت من يعرف الأقاليم الأخرى هذه المعرفة، ويستطيع من شاء أن يتقصى الأمر في بلده على هذا النحو، فإن النتيجة التي تنتهي إليها بعد مراجعة أحوال الانتخاب جميعًا هي صحة التمثيل النيابي في القطر كله، بحيث يصدق القول على كل نائب وصل إلى المجلس أنه أحق أبناء إقليمه بالنيابة عنه في تلك الأحوال.

وفي الجمعية التشريعية

وننتقل إلى انتخابات الجمعية التشريعية منذ أربعين سنة، فإن وقائعها مذكورة بتفصيلاتها وعواملها الخفية والظاهرة، ولا سيما دوائر القاهرة والإسكندرية.

إن الناخب المصري قد قاوم من الضغط عليه في هذه الانتخابات ما يندر أن يقاومه ناخب في قطر من أقطار الحياة النيابية العريقة.

كان الخديو عباس ورئيس الوزراء محمد سعيد باشا والمندوب البريطاني لورد كتشنر؛ يحاربون سعد زغلول ويعملون جهدهم أن يحُولوا بينه وبين الوصول إلى الجمعية التشريعية.

ووقف هؤلاء جميعًا في جانب، ووقف الناخب المصري في الجانب الآخر، فانهزموا جملة ونجح سعد زغلول في دائرتين هما دائرة الإمام ودائرة السيدة زينب.

وكانت هناك قوة أخرى إلى جانب القوى التي تضافرت على مقاومة سعد في كل من الدائرتين.

كان المرشح أمامه رجلًا له صفة دينية في دائرته وهي مشيخة الإمامين، وكان الناس يذكرون حملات «ظلموك يا سعد»، التي كان الشيخ عبد العزيز جاويش يكتبها في اللواء — لسان الحزب الوطني يومذاك — فاستطاع الناخب المصري أن يحكم حكمه بين هذه العوامل المتألبة عليه، وكان آية في صدق البداهة الاجتماعية وأمانة الضمير الوطني، قبل أن يكون للجمعية التشريعية شأن في ميدان الوطنية.

ومما يُذكر من مفاخر تلك الانتخابات أن رجلًا «كوَّاء» من سكان المنشية عرضوا عليه جنيهين ثمنًا لصوته — وكان الجنيه في ذلك الحين بقيمة عشرة جنيهات على الأقل في الوقت الحاضر — فردهما وطرد المساوم له من دكانه شر طردة، ثم اتصل الخبر بسعد من بعض مريديه، فأبت نخوته إلا أن يذهب إلى دكان الرجل في جمع من كبار صحبه، ثم حياه ووجه إليه الخطاب كأنه يحيي أميرًا مالكًا في حشد عظيم.

ولقد بذل خصوم سعد كل طاقتهم في تلك الأيام لصرف الناخبين عنه وتحويلهم إلى مزاحميه، إلا وسيلة واحدة لم يستخدموها والشهادة للحق؛ تلك وسيلة التزوير في الأوراق، فلم يحصل قط تزوير من هذا القبيل، ولكن وسيلة التزوير ليست مما يُحسب على الناخب بأية حال.

سنة ١٩٢٤

واتفقت هذه القوى جميعًا على محاربة سعد وأنصاره بعد إعلان الدستور، فلم ينجح أحد في دوائر القطر غير أنصاره، ما عدا القليل الذي لا يزيد على أصابع اليدين، وكلهم ذوو «عصبيات محلية» لا يزاحمها أحد في إقليمها، ولم تكن الخصومة بينهم وبين سعد محور الخلاف بين الناخبين.

وأخفق رئيس الوزراء نفسه «يحيى إبراهيم باشا» في دائرته، وأخفق أذناب الخاصة الملكية في دوائرهم القليلة، وغلبت إرادة الناخب المصري كل إرادة في ذلك العراك العنيف.

لا بل تجدد الانتخاب وأعلن أصحاب السلطان أن سعدًا لن يعود إلى الوزارة، وقد كان الانتخاب على درجتين: درجة لانتخاب المندوب عن كل ثلاثين ناخبًا، ودرجة لانتخاب العضو لمجلس النواب، فاجتهد عمال المحافظة قصارى جهدهم لإسقاط سعد في دائرة المندوبين، فنجحوا لأنهم فرقوا الأسماء ذات اليمين وذات اليسار في كل اتجاه، ولكن الجهود كلها حبطت دون إسقاطه، وإسقاط الكثرة من أنصاره، فجاء مجلس النواب وفيه مائة وخمسة وعشرون من أنصار سعد، ولم يزد عدد الفريق الآخر على الثمانين، موزعين بين الحكوميين والاحتلاليين.

ثم تعطلت الحياة النيابية أكثر من سنة، وأنشئ حزب الاتحاد بسلطان القصر، فانتمى إليه المتزلفون في كل إقليم، ثم حان الموعد لكتابة دفاتر الانتخاب على حسب القانون الجديد، فأضرب العمد عن تنفيذ القانون، وسيقوا إلى القضاء، فخرج الكثيرون منهم بغير جزاء.

بداهة أرسطو

إلى هنا يحق لنا أن نقول إن الانتخابات المصرية حتى سنة ١٩٢٧ قد أسفرت عن تلك البداهة التي يلخصها صاحب الكتاب عن أرسطو فيقول: «إن الحكمة الجماعية لشعب من الشعوب أسمى حتى من حكمة أعقل المشرعين؛ فالأفراد في خضم الجماعة يكمل بعضهم بعضًا بصورة فريدة، ذلك بأن يفهم أحدهم جزءًا من مسألة، ويفهم الآخر جزءًا آخر، فيحيطون في مجموعهم بالموضوع كله.»

ولسنا نريد أن نطلق تلك البداهة وصفًا عامًّا للناخب المصري في جميع أوقاته وجميع حالاته، ولكننا نقرر الواقع الذي لا شك فيه حين نروي ما حدث في تلك الانتخابات، بما شهدناه وشهده غيرنا عيانًا وسجلته المصادر المختلفة بالأرقام.

وقد حدث غير ذلك في الانتخابات التالية، فلماذا تغير المسلك من فترة إلى فترة، خلافًا لما ينتظر من التقدم مع الزمن حقبة بعد حقبة وجيلًا بعد جيل؟

قبل أن نعلل ونفصل، علينا أن نرجع إلى الجو النفساني الذي أحاط بتلك الانتخابات؛ فإنه أهم عامل من عوامل الاتجاه السياسي في الجماعات.

كان جو الانتخابات بين أوساط القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين هو «القضية الوطنية»، بل جو الحماسة القوية لهذه القضية.

كان هذا الجو محيطًا بانتخابات المجلس الأول على عهد إسماعيل؛ لأن الأمة كانت في حالة ثورة نفسية أمام الطغيان الأجنبي من جراء الديوان والامتيازات.

وكان هذا الجو محيطًا بالانتخابات جميعًا، من أيام الجمعية التشريعية إلى أيام الانتخاب الأخير قبل وفاة سعد زغلول، وانضم إليه عامل آخر لا يقل عنه قوة وصدقًا في توجيه الشعوب، وهو عامل الزعامة الموثوق بها، بل الزعامة التي يرتفع الشعور بها من الثقة إلى الإعجاب والإيمان بقلة النظير.

•••

ثم ماذا جرى للناخب المصري؟

ثم حدث الانفصال شيئًا فشيئًا بين جو الانتخاب وجو الحماسة الوطنية والزعامة الموثوق بها أو الزعامة المحبوبة.

فلم ينجح زعيم قط في هذه الفترة؛ لأنه زعيم الشعب الموثوق به لخدمة القضية الوطنية، وإنما كان النجاح يتوقف على الأمل في الوزارة المقبلة، فكان صاحب الوزارة المقبلة على الدوام هو صاحب الكثرة في الانتخاب.

وكان الناخب يغالط سريرته كلما تحدث عن الزعامة الشعبية؛ لأنه لا يريد أن يقول عن نفسه إنه طالب منفعة، وإنه يساوم على صوته وضميره، فإن قال إنه يؤيد هذه الزعامة أو تلك، فإنما يدفع التهمة التي تلصق به لو أعلن أسباب هذا التأييد، وقد يغالط سريرته فيتوهم، أو يحب أن يتوهم، أنه يدين بالمبادئ ولا يدين بالمنافع والمساومات.

ويكذب على الواقع من يقول: إن النحاسيين أخفقوا في الانتخابات التي أجراها محمد محمود أو أجراها أحمد ماهر؛ لأنهم تعرضوا للضغط والإرهاب، فإن الضغط والإرهاب في هاتين المرتين كان أقل من كل ضغط وإرهاب حدثا في الانتخابات المصرية، وإنما كان النحاسيون يظفرون كلما قيل إنهم مطلوبون للوزارة، وكان عمل الموظفين والعمد وسماسرة الانتخاب في هذا التحول أكبر من عمل الآحاد المتفرقين.

هل نبرئ الناخب عامة من أجل هذا؟

هل نبرئ المرشحين؟ هل نبرئ الأحزاب؟

كلا، لا نبرئ أحدًا ولا ندين أحدًا، غير أننا نعلم كما يعلم الكثيرون من طبائع الناس أنهم قابلون للتضحية وقابلون للبطولة كلما وُجد السبب الذي يرتفع بهم إلى تلك الذروة، ولكنك تطلب كرامة القديسين إذا أردت من الناس في جملتهم أن يتغلبوا على مصالحهم لغير قضية عامة يفهمونها ويستثار بها شعورهم من ركود الحياة اليومية.

والخلاصة التي لا نشك فيها، أن الناخب المصري يقاوم كل محنة وكل إغراء في سبيل إيمانه بقضية وطن وعظمة زعيم، فإن لم يكن هذا، فالشرط اللازم لصحة الانتخاب أن يكون قيام الوزارة القادمة معلقًا على نتائجها، ولا تكون هذه الوزارة معلومة قبل إجراء الانتخاب، فإذا تيسر ذلك وسلمت للناخب حريته، فتمثيل الشعب في هذه الحالة أصح تمثيل مستطاع.

وهذا أيضًا في الدفتر

وأصحابنا الأقدمون لم ينسوا هذه الخصلة ولم يجهلوا خطرها في التربية السياسية؛ فقد كان الناخب الأمثل عندهم هو الناخب الذي يدين بالولاء للمدينة، وكانت المدينة عندهم مرادفة للوطن في الزمن الحديث، فكانوا يقولون إن الأثيني الحق من ينسى نفسه حين يعطي صوته، أو من يُوفق في حياته الخاصة وحياته العامة؛ فلا تجور إحداهما على الأخرى، وكانوا مع ذلك لا ينسون أن المواطن الصالح والإنسان الصالح وصفان لا يتساويان في المعنى إلا إذا ارتقى المجتمع إلى الأوج المثالي في الأخلاق والملكات العقلية، وهيهات.

قال المؤلف: «على هذا النحو كانت المدينة، كما يتصورها الأثيني، مجتمعًا يعيش أفراده معًا في تآلف وانسجام، ويتيح لأكبر عدد مستطاع من أفراده فرصة المساهمة الفعلية في الحياة العامة دون تمييز يرجع إلى ثروة أو جاه، كما يعطي لكل ذي كفاية مجالًا طبيعيًّا هنيئًا للعمل والازدهار، ويمكن القول إلى حد كبير بأنه ربما لا يوجد مجتمع آخر نجح في تحقيق هذا المثل الأعلى، مثلما نجح المجتمع الأثيني في عهد بركليس، ولكنها مع ذلك كانت مثلًا عليا لا حقائق واقعية، والديمقراطية في أفضل حالاتها لا تخلو من المثالب.»

والصحيح في التعقيب على هذا الرأي أن الديمقراطية كثيرة المثالب، ولكنها تمتاز من هذه الناحية بمزية لا تتوافر لغيرها من نظم الحكومات، فعيوبها هي عيوب الإنسانية أو هي عيوب الأناسي الذين يشتركون فيها، وفرق بين عيوب النظام من حيث هو نظام، وعيوب الناس التي لا يلام عليها نظام الحكم، ولكنها ترجع إلى طبائع المحكومين وأخلاقهم وعاداتهم، ولا أمل في صلاحها بغير التربية السياسية والتجارب المتعاقبة وتكرار الخطأ والتصحيح.

وإذا لاحظنا في كتاب «تطور الفكر السياسي» مأخذًا، فإنما نلاحظ عليه أنه خلا من الشرح الكافي للتفرقة بين الديمقراطية المعيبة والديمقراطية الممسوخة، التي كان الإغريق يسمونها «أوخلوكراسي» Ochloocracy ويعنون بها شيئًا قريبًا من فوضى الغوغاء، وهذا الفارق مشروح في كتاب المفكر السياسي بوليبيوس Polybius، الذي كان أحق المفكرين أن يعتمد عليه في هذا المقام؛ لأنه يوناني تربى في عاصمة الرومان وأحاط بتجارب النظم فلسفيًّا وواقعيًّا بين المدينة الإغريقية والدولة الرومانية، وكان أدق من أفلاطون وأرسطو معًا في التفرقة بين الديمقراطية المعيبة والديمقراطية الممسوخة، التي تشبه الحكم المطلق وتنتهي إليه، وتقوم على إنكار الامتياز والتسوية العددية، على خلاف الديمقراطية في صميمها؛ وهو اتساعها لشتى المزايا والاعتراف لكل مزية بحقها ومكانها من المجتمع، وقد كان تفصيل المذاهب التي أتى بها بوليبيوس في تاريخه دون قصد إلى البحث النظري والتقرير الفلسفي؛ أصدق بيانًا للنظم الحكومية جميعًا في سياق التطبيق والتنفيذ من معظم آراء الأبيقوريين والكلبيين.

والذي يشكره القارئ للأستاذ العروسي مترجم الكتاب، أنه أحسن التوفيق بين الدقة والوضوح والأسلوب السائغ في هذه الترجمة العلمية، وأنه أضاف بهذا الكتاب القيِّم ذخرًا جديدًا إلى المجموعة السياسية العلمية، التي بدأت عندنا بكتب جستاف لوبون وجون ستيوارت ميل وسبنسر وترجمة كتاب السياسة لأرسطو بقلم الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد، فليس ألزم للقارئ العصري من توسيع النظر إلى أصول المباحث الأولى والحديثة في مسائل الاجتماع والحكم والسياسة، وليس أدعى إلى صدق النظر فيما يُعرض عليه من الدعاوي والدعوات من علمه بعواقب أمثالها فيما تقدمت به تجارب الأمم، وقد يقال عن يقين إنه ما من جديد كل الجدة قط في هذه المذاهب السياسية التي تساق كل يوم مساقَ الجديد.

ولا نزيد على مثل واحد لبيان رأينا في أسلوب الترجمة كما اختاره الأستاذ العروسي حريصًا على الدقة والطلاوة، وهذا المثل الواحد يدل على غيره كل الدلالة، ويطمئن القارئ إلى الثقة بالمعنى مع اختلاف المشرب أو المنهج، فقد ترجم الأستاذ كلمتَي Happy Versatility بالتغير السعيد، ولا خطأ في معنى الكلمتين بهذه الترجمة، ولكننا نفضل أن نترجمهما «بالمرونة الموفقة»؛ لأن هذا اللفظ يؤدي معنى الاتفاق ويؤدي معنى السعادة دون أن يصل إلى طبقة السعادة في قوة مدلولها، وهي بلا شك أقوى من المطلوب بوصف التوفيق؛ إذ هو أقرب إلى الوصف المريح منه إلى الوصف السعيد.
١  أخبار اليوم: ٣ / ٤ / ١٩٥٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤