المساواة في الدين وفي الفلسفة المادية١

المساواة خير ومصلحة إذا أُريد بها أنها تعطي كل ذي حق حقه، وإنها تحول بين كل إنسان وبين العدوان على حق غيره، وتسوي بين جميع الناس في حدود المعاملة.

ولكنها شر ومضرة إذا أُريد بها أن تمنع المزايا والكفايات، وتجعل الناس جميعًا كأنهم فرد متكرر، لا فرق بينهم في الصفات، ولا اختلاف بينهم في الأعمال والأخلاق، ولا تمييز بينهم في التبعة والغاية.

وهذه المساواة على كونها شرًّا ومضرة، هي استحالة تامة من جهة، وحالة لا يتمناها العقلاء الراشدون لو جاز تحصيلها من جهة أخرى.

فهي استحالة تامة؛ لأن عوامل الاختلاف بين الموجودات جميعًا، ولا سيما الموجودات المركبة، أعمق جدًّا من أن يحيط بها سبب واحد أو جملة محدودة، ولا سيما تلك الأسباب التي يسمونها في مذهب الماديين بالأسباب الاقتصادية.

وحسبنا مثل واحد من كواكب الفضاء ونجومه وأجرامه المختلفة، فليست هناك أسباب اقتصادية كالأسباب التي تعمل في المجتمعات الإنسانية، ولكننا لا نرى بين ملايين الملايين من الكواكب نجمين اثنين، يتساويان في الحجم والضوء والسرعة والموقع والتركيب وسعة المدار.

فإن لم يكن هذا المثل كافيًا، فلننظر إلى مثل آخر من عالم النبات الذي يحسب من الكائنات العضوية.

فخذ من الغابة الواحدة شجرة واحدة، وخذ من الشجرة الواحدة غصنًا واحدًا، ومن الغصن الواحد فرعًا واحدًا، ومن الفرع الواحد ورقة واحدة؛ فإنك لن ترى لهذه الورقة شبيهًا قط في طولها وعرضها، وشكل استدارتها أو استطالتها، وخطوط نقوشها وحوافيها، ولن ترى ورقتين تتشابهان في الصبغة أو توزيع اللون بين أجزائها.

فإذا كانت أسباب التنوع بين الكائنات بهذا العمق الذي لا يسبر غوره، وبهذه الأصالة التي لا يحصرها سبب واحد، ولا جملة من الأسباب المحدودة؛ فمن المسخ المشوه لتكوين الأحياء الإنسانية على الخصوص أن نقصرها على شبه واحد، وهي — على تركيبها المتشعب — أحق بالاختلاف من أجرام الكواكب وأوراق الأشجار.

ولهذا تعتبر المساواة استحالة بعيدة كما تعتبر مصابًا حيويًّا غير مرغوب فيه إن تأتي، وما هو بالمتأتي على وجه من الوجوه.

وكل ما هو مستطاع ومرغوب فيه، فإنما هو منع الاختلاف الظالم بين الناس، وإطلاق عوامل الحياة الحرة، التي تؤدي إلى تنويع مزايا الحياة وتوفير نصيبها من الكفايات والصفات، وتوسيع مداها من الحقوق والواجبات.

وهذا ما صنعه الإسلام، ولم يصنعه ولن يصنعه مذهب هدام.

•••

يسوي الإسلام بين الناس جميعًا؛ فلا تمييز بينهم في حقوق الإنصاف وحقوق المعاملة، ولا فضل لأحد على الآخرين بغير أعماله وأخلاقه التي تجمعها كلمة التقوى، وهي كلمة تجمع فيها كل ما ينطوي في أداء الواجب ورعاية الحدود واجتناب المحظورات. يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ.

وهذا هو الإنصاف، أصدق الإنصاف وأنفع الإنصاف.

وأما ما عدا ذلك فالمساواة فيه ظلم وبخس للحقوق.

هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ.

فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً.

لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ.

وينشأ عن هذا التفاوت في الصفات ما لا بد أن ينشأ عنه من التفاوت في الأرزاق، ولكنه لا يبيح لصاحب المال أن يحسبه حكرًا له، ولا يأذن لطائفة من الناس أن تحصر الأموال بين يديها.

وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ۚ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ.

كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ.

هذه المساواة، هي الحق الواجب، وهي الرضا للناس آحادًا وجماعات، فما من مصلحة الإنسانية جمعاء أن يتساوى فيها العلم والجهل، والسعي والكسل، والطيبة والخبث، والفطنة والغباء، وما من أحد يرضى عن هذا التساوي ويطلبه ويجعله أساسًا للمعاملة في المجتمعات الإنسانية، إلا أن يكون من أراذل الخلق، الذين وطنوا أنفسهم على الإخلاد إلى الضعة، واستراحوا إلى نصيبهم من الجهل والعجز، وأضمروا الحسد والضغينة على من يسمو بهمته إلى نصيب فوق هذا النصيب.

•••

والمسألة هنا ليست بمسألة الأصلح الأنفع فحسب، ولكنها مع هذا مسألة الممكن الذي لا يتأتى غيره على طول الزمن، وما تأتي قط، ولو في زمن قصير.

فالمساواة التي يدعيها أصحاب التفسير الاقتصادي للتاريخ، لا تتم في مجتمع من المجتمعات الإنسانية ولو قبض على زمامه أصحاب هذا التفسير عشرات السنين، بل هم كلما تقدموا في مجتمعهم سنة، بعدوا به عن مساواتهم الموهومة، واضطروا — على الرغم منهم — إلى التسليم بالعوامل الحيوية والعوامل الكونية، التي لا تسمح لحظة واحدة بإلغاء الفوارق والمزايا بين الأحياء.

فلم يمض جيل واحد على مجتمع من المجتمعات التي يفرضون عليها مبادئهم المادية، إلا ظهرت فيه طبقات من الرؤساء والخبراء والمديرين والمدبرين، يتفاوتون قبل كل شيء في أحوال المعيشة الاقتصادية؛ من مسكن وملبس وطعام ورياضة ونفوذ وحظوظ من المال والمتاع.

وكل ما يستفاد من تلك المساواة الموهومة، أنها سلبت عشرات الملايين قدرتهم على التقدم؛ لأنها قتلت فيهم عوامل الأمل والحذر التي تستحث الخاملين والكسالى إلى السعي والطموح؛ إذ كان الباعث الأكبر على نفض الكسل والخمول أن يشعر الخامل الكسلان بالخوف من عاقبة الضعة، وبالحافز إلى التقدم واستثارة ما فيه من حسن الاستعداد للعمل وطلب المزيد، وإن الملايين من الخلق ليفقدون هذا الحافز الطبيعي إذا أيقنوا أنهم مطمئنون إلى مصيرهم، عاملين أو غير عاملين.

وينتهي الأمر بتلك المساواة المادية إلى ظلم محيط، لا تفلت الأمم ولا الآحاد من سوء عقباه. وأول المظلومين، أولئك الذين يتخيلون أنهم هم الموعودون بالإنصاف والعدل والرعاية؛ فإن العاجز الذي يحرمه المجتمع حوافز الهمة، لهو المظلوم المسكين الذي يبلغ من ظلمه أن يجهل أنه مظلوم ويرضى عن ظالميه.

وأقبح ما في هذا الظلم أنه نزول يأبى للنازل أن يصعد باختياره، وأنه يسوي الأعلى بالأدنى حيثما استطاع، فإذا نظر المتساوون إلى حضيضهم الذي يسمونه المساواة، لم يجدوا دونه منزلة يهبطون إليها، فهي مساواة ليس دونها مكان يتسع للمزيد من الهبوط، وهم يتجنبون فيها الأعلى على الدوام ولا يتجنبون ما هو أدنى.

وإنما المساواة شرف حين ترتفع بالأدنى إلى ما هو أعلى منه. وحين تعطي الرفيع حقه وتأبى عليه أن يجور على حق غيره، وحين تكون إنصافًا للعاجز؛ لأنها تستنهضه إلى القدرة، وإنصافًا للقادر؛ لأنها تكافئه على المزية ولا تعاقبه عليها بحرمانه من جزائها، وحين تكون في أعماقها إنصافًا للفطرة السليمة التي فطرت على التفاوت والتنوع من أجرام الفضاء إلى ذرات العناصر في المادة الصماء، وذلك هو إنصاف الحق والخير، وهو إنصاف الإسلام.

ذلك هو الإنصاف الذي لا يحرم الإنسان العاقل روحه وضميره، ولا يلغي فيه بواعث الهمة والطموح إلى الكمال، ونترجمه بلغة الاقتصاد فنقول: إنه يفتح ميدان العمل للعاملين، ويحميه غوائل الإفراط والتفريط من جانبيه، فيأبى على القادرين أن يحصروا الثروة بين أيديهم، ويأبى للعاجزين أن يفقدوا نصيبهم فيوليهم من ثروة الأمة كلها أكثر من ثلاثة في المائة بين زكاة ومعونة وكفارة ونافلة، محسوبة في كل عام من الثروة كلها، لا من ربحها الزائد في ذلك العام.

نوعان من المساواة تختار بينهما الإنسانية فلا تحار في الاختيار وفيها بقية من الخير.

١  مجلة الأزهر: نوفمبر ١٩٥٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤