أحد أقارب تشرشل كان يحمل البيكوية١

في الشهر الماضي ظهر الجزء السادس والأخير من تاريخ الحرب العالمية الثانية، الذي يكتبه السير ونستون شرشل رئيس الوزارة الإنجليزية في الوقت الحاضر، وكأنه قد ختم به تاريخه للحرب العالمية وختم به أعماله الوزارية أو السياسية، إذا صح ما أذيع من أنه ينوي اعتزال السياسة بعد شهور.

ومن المعقول أن يكون الخبر عن اعتزاله السياسة صحيحًا؛ لأنه لم يظهر على عادته ظهوره العنيف فوق المسرح منذ سنتين، وسيبلغ الثمانين في نهاية شهر نوفمبر القادم، فإذا انقضى الصيف واقترب عيد الميلاد المسيحي، واتفق مع ذلك أنه يحتفل بالذكرى الثمانين لمولده؛ فتلك مناسبة صالحة للاعتزال بعد طول النضال والنزال.

العبقرية وآفتها

هذا الجزء، كسائر ما يكتبه شرشل، مزيج من الأدب والتاريخ ومزيج من العبقرية وآفاتها، التي يقول النفسانيون إنها تلازمها.

قيل إن العبقرية لا تسلم من بعض الاختلال.

ويقول تاريخ أسرة شرشل إن جذور الاختلال كامنة في الآباء والأمهات؛ فالدوق مارلبرو الكبير قضى السنوات الأخيرة في حياته ذاهب اللب من أثر الصدمة التي مُني بها لإهماله بعد الإقبال عليه، والجدة سارة قيل عن كوارثها البيتية أنها أصابت رأسها كما أصابت قلبها، والجد الأمريكي القريب — جده لأمه — كان معروفًا بأغرب الغرائب في طموحه ومغامراته.

ولا شك في عبقرية شرشل.

ولا شك كذلك في لوازم هذه العبقرية، سواء كشفتها الوراثة، أو دل عليها بأطواره وأقواله وبعض كتاباته، ومنها ما تقرؤه في هذا الجزء الأخير.

بينه وبين ابن سعود

وهذا بعض ما تقرؤه في الجزء السادس عن مقابلته للملك سعود — رحمه الله — في إقليم الفيوم:
في السابع عشر من شهر فبراير أُعدت العدة لاستقباله بفندق البحيرة من واحة الفيوم، وأجلي من الفندق جميع النازلين به، ثم نجمت مسائل شتى من المشكلات الاجتماعية، فقد أخبرت أنه لا التدخين ولا المشروبات «الروحية» مما يسمح به في حضرته الملكية، وكنت أنا صاحب الضيافة في ذلك الاجتماع، فبادرت إلى إثارة المسألة مع المترجم وقلت له: إذا كانت ديانة جلالته تحظر عليه التدخين والمشروبات، فإن نظام حياتي يجعل من شعائري المقدسة تقديسًا مطلقًا Absolutly Sacred أن أدخن وأتناول الشراب قبل الوجبات وبعدها وفي الفترات بينهما. فتلطف الملك بقبول الموقف، وناولني ساقيه قدحًا من عين مكة المقدسة، كان ألذ ما تذوقته من الماء …
إلى أن قال:

وترك الملك ابن سعود في نفسي أثرًا بالغًا؛ فكان إعجابي به عميقًا لولائه الذي لا يتزعزع لنا، فقد كان على أحسنه في الساعات المظلمة، وقد بلغ السبعين ولكنه لم يفقد نشاط المقاتل المناضل، ولم يزل يعيش عيشة الملوك الشيوخ — أو الآباء — في صحراء بلاد العرب مع أبنائه الأربعين الأحياء وثلاث من زوجاته الأربع حسب وصفة النبي، وأحد الأماكن الأربعة خاليًا لا يزال …

هذه العبقرية بآفاتها كلها؟

فليس للنبي محمد — عليه السلام — «وصفة» تأمر المسلم بزواج الأربع.

وليس للسيد المسيح — عليه السلام — وصفة تأمر شرشل بالتقديس المطلق للشراب أو التدخين.

وقد كان في وسع شرشل أن يكتب هذه القصة بغير هذا الإيماء والإيحاء.

ولكن هل كان ذلك في وسعه حقًّا إن كانت الوراثة حاكمة وآفات العبقرية لازمة؟!

لا نظن، ولو أنه كان في وسعه أن يتجنبه لتجنبه، فما كان أحد ليضطره إليه، لولا أنه اضطرار لا حيلة له فيه!

مساومات السياسة

وليس من غرضنا أن نعقب بالنقد المفصل على أجزاء الكتاب، فإنه يبلغ أربعة آلاف صفحة لا تخلو إحداها من حادث أو خبر أو قضية، ولكن القليل منه قد يغني عن الكثير في بيان «أسلوب المساومات» بين سياسة الدول، ولا سيما هذه المساومات التي تجني على الأمم الضعيفة، وأولها المساومة على قناة السويس!

جرى ذكر الهيئات الدولية والأصوات المعدودة فيها فقال ستالين: «افرضوا أن الصين على اعتبارها عضوًا دائمًا بمجلس الأمن طلبت إعادة هونج كونج، أو أن مصر طلبت إعادة قناة السويس، فإنهما لا تنفردان، وربما كان لهما أصدقاء أو حماة في جمعية الأمم أو في مجلس الأمن.

فقال شرشل: على حسب ما أفهم لا يمكن أن تستخدم قوى الهيئة العالمية ضد بريطانيا إن لم تكن مقتنعة ورفضت الموافقة.

وسأل ستالين: أهذا صحيح؟ فأكدت له أنه صحيح.

وقال مستر إيدن موضحًا: إنه في هذه الحالة يحق للصين أو لمصر أن تشكو، ولكنه لا يمكن أن يُتخذ قرار يتضمن استخدام القوة بغير مراجعة حكومة جلالة الملك، وأكد مستر ستيتنكس أن العقوبات لا تُفرض إلا بإجماع الأعضاء الدائمين، وإن كان من الجائز تزكية المقترحات التي تُقدم للتسوية السلمية.

قال ستالين: إنه يخشى أن تؤدي المناقشات حول هونج كونج وقناة السويس إلى تمزيق الوحدة بين الدول الكبرى الثلاث.

فأجبته بأنني أقدر الخطر، ولكن الهيئة العالمية لا تعطل بحال من الأحوال على الاتصال الدبلوماسي بين الدول الكبار أو الصغار، وأن الهيئة العالمية منفصلة على حدة ولأعضائها أن يستمروا في بحث مسائلهم بينهم، ومن الحماقة أن تُثار داخل الهيئة العالمية مسائل تُمزق الوحدة بين الدول الكبرى.

قال ستالين: إن زملائي في موسكو لا يستطيعون أن ينسوا ما حدث في شهر ديسمبر سنة ١٩٣٩ خلال الحرب الروسية الفنلاندية، حين استخدم الإنجليز والفرنسيون عصبة الأمم ضدنا، ونجحوا في عزل الاتحاد السوفييتي وإخراجه من العصبة، ثم راحوا يؤلبون الأمم علينا، وتحدثوا في إعلان الجهاد على روسيا، أفلا نستطيع أن نحصل على بعض الضمانات التي تحول دون تكرار هذا مرة أخرى؟

قال مستر إيدن: إن الاقتراح الأمريكي يجعله من المستحيل.

فسأل ستالين: أليس من الممكن إضافة موانع أخرى؟

فقلت: إن هناك تدبيرات متخذة عن الإجماع بين الدول الكبرى.

قال ستالين: إننا نسمع اليوم بذلك للمرة الأولى.

فسلمت أن هناك مجازفة باحتمال إثارة التهييج على إحدى الدول الكبرى — كبريطانيا مثلًا — فيكفي أن أقول في هذه الحالة إن الدبلوماسية العادية تؤدي مهمتها في الوقت نفسه، ولا ينبغي أن أتوقع أن الرئيس يثير أو يؤيد حملة على بريطانيا العظمى، وأشعر بيقين أن كل شيء سيعمل لوقفها، كما أشعر في مثل هذا اليقين بأن المارشال ستالين لن يهاجم الدولة البريطانية — بالقول بداهة — قبل أن يتحدث إلينا أولًا ويجري البحث في وسيلة التسوية الودية.

قال ستالين: نعم …»

وهكذا يتفاهمون ويعقدون صفقات المساومة وتبادل الرضى بالعدوان على الأمم الصغيرة! «دعوا لنا فنلاندا وما شابهها، ندعْ لكم هونج كونج وقناة السويس وما شابههما … وتجري المهام الدبلوماسية أثناء ذلك على حدة باسم الوحدة العالمية.»

ولقد كتبوا ميثاق الأمم المتحدة على الورق، ولكن الميثاق الذي جرى عليه العمل بغير كتابة، هو هذا الميثاق الذي يفهم من وراء الجدران والأوراق.

شرشل بك

والمعلوم أن السير ونستون شرشل ينتمي إلى أسرة الدوق (مارلبرو)، وأن اسم شرشل أضيف إلى أعلام الأسرة بعد موت الدوق مارلبرو بغير عقب مباشر، ولكن المجهول أن سلفًا من أصحاب هذا الاسم أقام زمنًا في الشرق وتزوج منه وزوج بناته فيه، وأنعم عليه بلقب البكوية منذ مائة سنة، إن صح الخبر الذي قرأناه في مذكرات الدكتور شاكر بك الخوري، طبعت سنة ١٩٠٨ بمطبعة الاجتهاد في بيروت.

يقول الدكتور من الصفحة اﻟ (٤٥٦)، بعد رثائه للشاب فؤاد ابن الأمير سليم شهاب من السيدة جلنار ابنة شرشل بك الإنجليزي:

شرشل هو من أعرق الأسر الإنجليزية شرفًا، ولم تزل أسرته من اللوردات في إنجلترا، حضر إلى سوريا مأمورًا عسكريًّا سنة ١٨٤٦، وبقي فيها ولم يرجع إلى إنجلترا، وتزوج من النساء الشرقيات، وهو سياسي محنك خبير، رُزق ابنتان وغلام (هكذا) سماه ونستن عرفته جيدًا، وتزوجت بنتاه؛ الواحدة بالأمير شهاب، والثانية بالأمير سليم منصور شهاب والدة فؤاد، وكان لشرشل بك أخت في إنجلترا، أوصت بقسم من أملاكها أو قيمة أربعة آلاف ليرا إنجليزية لأولاد أخيها من زوجتها خانم، وبعد وفاتها دخلوا بالدعاوي، وأخيرًا اقتسموا المال حسب الوصية، ونالت زوجة الأمير عبد الله حصتها من الإرث، أما ولده فتزوج فتاة إفرنسية أتى بها إلى سوريا، ثم انفصل عنها وتوجهت لبلادها، غير أنه تبعها أخيرًا ولا أعلم ماذا صار به بعد ذلك، إنما بلغه أنه توفي بلا عقب.

أما الشاب الذي رثاه الطبيب الشاعر، فقد قال عنه في مذكراته قبل ذلك إنه: هو فؤاد بن سليم منصور الشهابي، كان شابًّا وحيدًا بلغ السابعة عشر وتعلم بمدرسة الآباء اليسوعيين، فمرض بداء الجنب وتوفي وله سبع شقيقات، هو وحيد بينهن، وقد حزن لفقده كل من عرفه، وقد نظموا له عدة «مراثٍ» وكنت من جملة من رثوه. أما والدته، فهي ابنة شرشل بك الإنجليزي الذي كان قائمقامًا في الجند الإنجليزية، وهو من أسرة عريقة في الشرف لم تزل إلى اليوم.

فها هنا اسم «شرشل» واسم «ونستون» ولقب اللوردية والعمل في الجندية، فمن يكون هذا الضيف الشرقي أو المستشرق من تلك الأسرة التي لا تذكره ولا تذكر الشرق كله بخير؟

إن صاحب المذكرات الدكتور شاكر بك الخوري قد يدعوك على الابتسام بأسلوبه الكتابي وغرائب عصره، ولكنه كان ولا شك من ذوي الاتصال الوثيق بتاريخ الأسر الشرقية، وكان من الطلاب اللبنانيين القلائل الذين سُمح لهم بحضور الدروس الطبية في مدرسة القصر العيني برعاية الخديو إسماعيل، ولما حضرت السيدة حُسن جهان قرينة الأمير بشير قاسم الشهابي إلى مصر، كان هو الطبيب الذي اختاره الأمير لمعالجتها والعناية بها، ثم ندب للسفر معها عند عودتها، ثم وقع عليه الاختيار لمصاحبة أسرة روزفلت في رحلتها النيلية منذ نحو خمسين سنة، وعلى رأسها السيدة روزفلت الأم ومعها ولداها: كرنيليوس، وفرنكلين الذي تولى الرئاسة وتوفي منذ بضع سنوات.

فإذا كتب رجل كهذا خبرًا عن أسرة شرشل وعلاقتها بالأسر الشرقية، فهي كتابة مطَّلع يعلم ما يقول، وأبعد ما يكون عن احتمال أن تكون القصة كلها من قصص المشابهة في الأسماء؛ لأن أسر النبلاء الإنجليز لم يتكرر فيها اسم أسرة شرشل واسم ونستون على الخصوص.

فمن يكون شرشل بك هذا من أسلاف السير وأبناء الدوق؟ ومن في لبنان اليوم من ذرية بناته أو من ذريته هو بعد زواجه من إحدى السيدات اللبنانيات؟ وكيف يكون الاتصال بين شرشل اللبناني وشرشل الإنجليزي إذا تعارفا اليوم معرفة الأقارب والأصهار.

إن وجد في لبنان من يذكر هذا النسب، فخير ما تصنعه لبنان أن تجنده لمفاوضة قريبه نصير الصهيونية في مشكلة إسرائيل، أو تجنده لإقناعه بحق الشرف وحق بنيه، ومنهم عمومة له وأخوال!

طرائف التاريخ القريب

على أن الدكتور شاكر الخوري جدير — بحقه الشخصي — أن يُذكر في سياق التاريخ وفي سياق اللغة وفي سياق الفكاهة، فإنه على أسلوبه المضحك يحسن الفكاهة ويقبلها إذا أصابته، وقد أصابه منها الكثير وضجر منه، ولكنه أحاله على الطبيعة المصرية التي لا تعذر أحدًا وقع في طريق القافية.

الحمار صاحب السعادة

ومن فكاهته أن الطبيب الكبير «محمد علي البقلي باشا» كان يُلقي درسه المشهور، وكان من هيبته يخيف الطلاب فلا ينبس أحدهم بكلمة في حصته، ويخيف الموظفين بالمستشفى فيمنعون كل ضوضاء فيه ومن حوله، ولكنهم في ذلك اليوم سمعوا ضجة عالية يتخللها نهيق حمير وصياح أناس هنا وهناك، فنظر الدكتور البقلي إلى طالب سوري اسمه بشارة وأمره أن يتعرف جلية الخبر، فجاءه بعد لحظة بخبر عن حمار الباشا، لم يدر كيف يلقبه وكيف يتكلم عنه وهو — في عرف الطالب — حمار لا يمكن أن يشبه الحمير.

قال: «إن سعادة حمارك عندما رأى دابة مصطفى أفندي ابتدأ بالنهيق.»

ونظر الباشا إلى صاحبنا يقول له سائلًا: يا شاكر! هل تمنحون الرتب والألقاب في بلادكم لحميركم؟

قال شاكر: نعم يا سيدي؛ ولذلك نقول لبشارة: يا بشارة أفندي.

العامية من جيل إلى جيل

أما فكاهة صاحبنا على الرغم منه، فهي فكاهة الأسلوب العامي أو المفردات العامية «كما تتطور» من جيل إلى جيل ومن بلد إلى بلد.

أراد أن يصف مستشفى قصر العيني كما وجده عند دخوله، فقال: «كان يسع لحد ألف فرشة، وتدخله جميع المرضى من جهادية وملكية.»

يعني «ألف سرير».

وأراد أن يذكر الطلبة وأدواتهم، فقال: «كان عدد التلامذة لحد مايتين للطب والصيدلة، وكان لبسهم لبس ضباط عسكريين، وكلهم كل سنة طقم جوخ وآخر كتان، وكل ما يلزم من الطربوش إلى السرماية!»

ولم يكن بالمدرسة ثلاجة، ولم يكن الحصول على الماء البارد ميسورًا بغير تبريده في «القلل» القنائية، قال: «وكنت في بعض الأحيان أستيقظ من النوم وأطلب الماء فأجد قلتي فارغة، ففي ذات يوم خطر لي أن أضع في الماء قليلًا من الطرطير المقيء، الذي يُسبب القيء ولا يضر …»

وبقية القصة مفهومة لا لزوم لشرحها في شهر رمضان!

التشريح القاتل

أما التطور في التفكير والفهم، على العموم، فيكفي في بيانه فرق النظر بين تشريح الجثث بين أمس واليوم، فقد روى الطالب أن أحد التلامذة يومًا ما، قدم عريضة إلى كلوت بك وهجم عليه بينما كان يقرؤها وضربه بالخنجر على رأسه فأخطأه، ثم رجع وضربه في صدره فتلقاه في زنده، وأخيرًا مسكوا هذا الخائن، وذلك بسبب التشريح.

قال: «إن معلم التشريح في ذلك الوقت كان رجلًا نمساويًّا، فمات أحد الخصيان من دائرة أحمد باشا في الاسبتالية، فأشهروا الخبر أن المعلم شرحه، فابتدروا يترصدون معلم التشريح لأجل إلحاق الضرر به، ففي ذات يوم وهو راجع ليلًا إلى منزله مار بقرب السرايا، وجده اثنان من الخصيان فسألاه إذا كان يعرف معلم التشريح الذي شرح رفيقهما، فأجابهما: نعم أعرفه، ماذا تريدان منه؟! فقالا: إنه شرَّح رفيقنا، مرادنا أن نُشرحه مثله. فقال: اتبعاني وأنا أدلكما عليه. فمشى إلى أن وصلا إلى داره، فدخلها وعرف اسمهما وقفل الباب وراءه، وفي اليوم التالي أخبر عنهما فعوقبا.»

ثم عقب صاحب المذكرات على الخبر قائلًا: «وكذلك كان المصبرون زمن الفراعنة عند المصريين مكروهين، وكانوا يرجمونهم بالحجارة ويخلصون من القتل بصعوبة، مع أنها عملية دينية.»

لا شهادة للمصريين

ومن أطوار الزمن أن شهادة الطب كانت تسلم إلى الطلاب الشرقيين إذا أتموا دراستهم، ولا شهادة للطلاب المصريين!

قال صاحب المذكرات: «وبعد الامتحان النهائي — أي بعد درس ست سنوات — تُعطى الشهادة إلى تلامذة الشوام فقط ولا تُعطى للمصريين؛ لأن هؤلاء يبقون في المدرسة بعد آخر فحص فتخبر عنهم عمدة المدرسة مجلس الصحة، وهذا يعينهم بالمأموريات اللائقة بهم ولو لم تكن بيدهم الشهادة؛ وذلك لأجل حصرهم في مصر بحيث لا يمكنهم مغادرتها؛ لأن الحكومة علمتهم مثل عسكرية، فلو هرب أحدهم إلى البلاد الغربية لا تمكنه المعيشة بلا شهادة.»

وهذا نص «شهادة الشوام»، على حد تعبير الطالب النجيب الذي نقلها بحرفها وهي كما يلي:

حمدًا لمن أعاد لمصر رونقها الأول بهمة عالي الهمة، الألمعي النبيه، من اقتدى في نشر المعارف والمنافع بجده وأبيه، أفندينا ولي النعم ذي الفضل الجزيل، خديو مصر وعزيزها؛ إسماعيل، حفظه الله وأبقاه، وأدام توفيقه وشكر مسعاه؛ فإنه جدد فيها أنواع المدارس، وأحيا كل علم رميم ودارس، فمن جملة هذه المدارس الجزيلة وأعظمها نفعًا، المدرسة الطبية التي أشرق في المشرق نورها حتى اهتدى بها كل قاصٍ ودانٍ، وأتاها القاصدون من أقاصي الأقطار والبلدان، وكان ممن سعى إلى هذه المدرسة المنيفة رغبة في تعلم صنعة الطب الشريفة، الفطن اللوزعي الأديب والشاب النبيل؛ شاكر أفندي الخوري ابن يوسف أفندي الخوري، أحد أعضاء المجلس الكبير في جبل لبنان …

ويلي ما تقدم بيان مفصل للدروس التي حضرها، وأسماء الأساتذة الذين حضر عليهم وتوقيعاتهم واحدًا واحدًا شهودًا بصحة ما جاء فيها من ذلك البيان، ثم يلي توقيعاتهم إقرار من «رئيس مجلس عموم صحة مصرية» يقول فيه:

نظرت هذه الشهادة الممهورة بأختام حضرات خوجات المدرسة الطبية بمجلس عموم الصحة المصرية، مصدقًا عليها من سعادة ناظر ديوان المدارس والأوقاف، ولأجل اعتمادها بمحل اللزوم لزم الشرح منا.

تاريخان

هذه المذكرات وما جرى مجراها تدخل في باب التاريخ «غير المقصود»، وهو في اعتماد الكثيرين أصدق وأولى بالثقة من التاريخ المقصود؛ لأن الفائدة منه منزهة عن التوجيه المدبر والأهواء التي تصطبغ بها أحكام المؤرخين، ولو أن صاحب المذكرات تعمد أن يكتب فصولًا في تطور الأفكار والعادات وقضية اللغة الفصحى واللغة العامية وعلاقات الأسر التاريخية؛ لما استطاع أن يعطينا من الحقائق ما نأخذه من سطوره ومن بين سطوره على السواء.

والعبرة البينة في أسلوب الكتابة أن لغة العلم والثقافة تتشتت وتتشعب إلى عدة لغات، على حسب اللهجات والأزمنة ومبلغ المعرفة عند كتابها، لو لم تكن هناك لغة فصحى تعتمد في الكتابة العلمية والثقافية وتتخطى قيود البيئة المحدودة والزمن الموقوت، ولهذا يصح أن يقال إن الكتابة باللغة الفصحى تفهم الآن خيرًا من الكتابة بلغة العصر الحاضر في قرية من القرى، ولو كانت اللغة الفصحى لغة الجاهلية قبل بضعة عشر قرنًا أو نحوها؛ لأن غاية ما نجهله منها كلمة تفسرها المعجمات، أما لهجات القرى فتنحصر في حدود كل قرية وليست لها معجمات، ولا يتأتى أن تُوضع لها معجمات تحفظها جميع القرى للمراجعة والاستشهاد.

وحبذا لو حفظ في متاحف اللغة أثر من آثار اللهجات العامية جيلًا بعد جيل؛ لتذكير الباحثين في اللغة بهذه الحقيقة كلما تعرضت للنسيان.

أين مذكرات سعد؟

وبين النظر في مذكرات الساسة ومذكرات الرحالين والسياح، يخطر لنا أن نسأل: هل قُضي بالكتمان على أهم المذكرات الوطنية والسياسية التي كُتبت في مصر في العصر الحاضر، وهي مذكرات سعد زغلول؟

لا نحسب أن سببًا من الأسباب التي نظر إليها سعد عند كتابة مذكراته قد بقي الآن حائلًا دون نشرها والاستفادة التاريخية منها؛ فقد ذهب الملك فؤاد وذهب وزراؤه من نظراء سعد ومنافسيه، وامتنعت العوائق التي كانت تقف في طريق ناشرها مهما يكن من حسن نيته أو سوئها، وليس في هذه العوائق بطبيعة الحال أن تشتمل المذكرات على آراء لا تُوافق مصالح النحاس، فإن سعدًا لم يعلم أنها ستئول إلى يديه ولم يُقيد نشرها بقيد من هذا القبيل.

فلماذا تُطوى هذه المذكرات؟ وإلى متى تظل مطوية عن أعين التاريخ وأعين المتطلعين إلى حقائقه وخفاياه.

لعله قد آن الأوان.

١  أخبار اليوم: ٢٢ / ٥ / ١٩٥٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤