مكتبة الإسكندرية١

… أصدر مكتب الاستعلامات بالإسكندرية كتابًا، جاء بالصفحة الثانية منه: وفي سنة ٦٤١ ميلادية استولى القائد المسلم عمرو بن العاص على إسكندرية، وحرق مكتبتها الشهيرة؛ تنفيذًا لأمر الخليفة عمر بن الخطاب، وقد استغرق حرق هذه المكتبة ما يقرب من ستة أشهر. ونحن نريد من أستاذنا بيان ما إذا كان القائد المسلم هو الذي أحرق المكتبة بأمر الخليفة، أم الذي جرى هو غير ذلك؟

محمد وليد سماقية
طالب بالإسكندرية

إن الرواية — كما هو ظاهر — منقولة من مصدرها الخرافي الذي لا يُعول عليه، وقد نفاه معظم المؤرخين الثقات من الأوربيين، فلا يجوز نقله بغير تنبيه إلى علاته الكثيرة، أو بغير إشارة إلى الردود الكثيرة عليه.

وخلاصة الرواية أن القائد عمرو بن العاص سأل الخليفة في أمر المكتبة، فأمره بإحراقها، فوزعت كتبها على حمامات الإسكندرية — وعدتها أربعة آلاف حمام — فأغنتها عن الوقود ستة شهور!

وبطلان هذه الرواية واضح من سياقها ومن نسبتها إلى مصادرها الأولى.

فهي «أولًا» لم تُذكر في مصدر يرجع إلى ما قبل القرن السادس للهجرة أو الثالث عشر للميلاد، وكانت تُنسب في روايتها الأولى إلى رجل لم يكن بقيد الحياة في إمارة عمرو بن العاص؛ وهو يحيي النحوي.

ولقد كذَّب الرواية أقطاب المؤرخين من أمثال جيبون وبتلر.

وقال شوفان Chauvin ساخرًا: إن هذا الوقود يستنفد على الأقل أربعة عشر مليون مجلد، وارتفع بها كازانوفا Casanova إلى اثنين وسبعين مليونًا، مع ملاحظة حجم اللفائف وعادات القوم في النسخ والتنسيق.
وثبت أن المؤرخين الذين اشتهروا بحب الكتب وزاروا مصر قبل الفتح العربي، لم يذكروا المكتبة ولا ما يدل على وجودها؛ مما يؤكد أنها أُحرقت أثناء حصار قيصر للإسكندرية، وبادت البقية الباقية منها أيام الثورة على العقائد الوثنية، وقد ذكر روسيوس Orosius الذي مر بالإسكندرية سنة ٤١٤ إحراق الكتب في عهد قيصر، وقال إنه رأى مواضع الكتب خاوية، ولكنه قال على سبيل الظن «إن المعقول أن غير هذه الكتب قد جمع للتعويض عن خسارتها»، ولم يذكر شيئًا عن موضعها المفروض، الذي يمكن أن تودع فيه ملايين المجلدات ولا يهتدي إليها المؤرخ الباحث عنها.

ومن الواجب أن نذكر أن المكتبة على أية حال لم تكن من الضخامة بالقدر الذي توهمه المؤرخون المتأخرون، ولا يمكن أن تكون بهذا القدر ولا بما يقرب منه؛ لأنها على أرجح الأقوال قد جمعها الكاتب ديمتريوس دفالير، الذي احتمى بقصر «بطليموس سوتر»، وأراد أن يحسن جزاءه بإنشاء مكتبة في جواره تُنسب إليه، ومهما يبلغ من سعة اطلاع هذا الكاتب، فالمسألة هنا مسألة المؤلفين الذين كتبوا التصانيف ووصلت إلى يديه فنسخ منها ما استطاع، وقبل أن نسأل كم مليون مجلد كان في مكتبة الإسكندرية، ينبغي أن نسأل: كم ألف كاتب ألفوها؟ وأين أسماء هؤلاء الألوف من الكُتاب والعلماء؟

إن لم تبلغ عدة المؤلفات في المكتبة سبعين مليونًا فلتبلغ سبعة ملايين، بل سبعة آلاف، بل سبعمائة تتكرر بالنسخ والشرح والتذييل، فمن أين جاء المؤلفون الذين كتبوها وشرحوها؟ ولماذا لم تُحفظ أسماؤهم كما حُفظت أسماء الذين نعرفهم الآن بغير مؤلفات على الرواية والسماع؟ وأين هي الكتب التي لم يحرقها عمرو بن العاص ولا وصلت إلى أيدي العرب؟ ولماذا يسكت عنها الغيورون على الثقافة ولا نسمع عنها مثل هذه اللجاجة من أولئك الغيورين المتخصصين للغيرة في شئون التاريخ العربي دون سواه؟

إن الخرافة حضرت تأسيس تلك المكتبة ولم تفارقها بعد زوالها، وقد عاشت فوق ما يحق لها أن تعيش، فإن قُضي عليها أن تقبر في ظلماتها فليس لنا نحن أن ننفخ فيها النفس الأخير بعد النفس الأخير.

١  الأخبار: ٩ / ٥ / ١٩٦٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤