جهل المستشرقين!١

لقد أثار هنا بألمانيا — بجامعة ماينز Mainz — أحدُ أساتذة الدراسات الشرقية في إحدى محاضراته عن القرآن الكريم، موضوعًا أعتبره نقطة ضعف وتناقض في محتوياته؛ إذ يقول إن بالقرآن الكريم بعض الكلمات غير عربية الأصل؛ مثل: هَيْتَ لَكَ في سورة يوسف، وَفَاكِهَةً وَأَبًّا في سورة عبس وتولى. واستشهد كذلك بألفاظ أخرى في مواضع مختلفة، على حين أن القرآن الكريم يقرر أنه عربي مبين؛ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا. وقال إن هذه القضية شغلت علماء المسلمين منذ وقت بعيد … وإني أكتب إليكم سائلًا عن رأيك في هذه القضية، شاكرًا لكم أن تتكرموا بالإجابة.
أحمد الزواوي

نستغرب أن يصدر هذا الرأي من عالم متخصص للدراسات اللغوية، فإنه خليق أن يعلم قبل كل شيء أن اللغة الحية الواسعة تشتمل على ألوف من الكلمات لا ترجع بالبداهة إلى مصدر واحد؛ سواء قصدنا المصدر مكان النشأة، أو قصدنا به السلالة البشرية، ويصدق هذا على الألمانية — لغة الأستاذ — كما يصدق على جميع لغات العالم؛ إذ توجد في هذه اللغة ألوف من الكلمات، تدخل في الألمانية كما تدخل في ألسنة الأمم الهندية الأوربية على تعددها وتباعد أوطانها، ولا ينتظر أن تكون اللغة العربية على غير هذه القاعدة المطردة في كل موقع وفي كل سلالة.

ومن العجيب أن يستشهد الأستاذ بكلمة «هيت»، وهي سواء حسبناها في أصولها من أسماء الأصوات أو من أسماء الأفعال أو من علامات التنبيه، لم تنفرد بها لغة محدودة بين اللغات الإنسانية؛ إذ يستخدم الناس الهاء الممدودة للتنبيه والاستدعاء، كما تدل على ذلك الضمائر وأسماء الإشارة في ألفاظ كثير من الأمم. وأعجب من ذلك أن يجزم الأستاذ بغرابة كلمة «الأبِّ» بمعنى العشب عن اللغة العربية، مع أن العرب أولى الأمم بهذه المادة؛ لحاجتهم القديمة إلى العشب، ودلالة «الأب والأباب» على العشب، والماء والسراب في لهجات قبائلهم منذ احتاجوا إلى التعبير عنها. ومهما يكن الرأي في أصول الكلمات، فلم يكن أحد ليفهم من وصف القرآن الكريم ﺑ «الكتاب العربي المبين» أن كلمات اللغة العربية وقف على الأبناء والآباء والأجداد، الذين يحملون شهادة ميلاد عربية منذ أول عهود النطق بالكلمات الإنسانية! إذ ليس في وسعنا أن نتخيل هذه النشأة اللغوية — المقفلة بين أهلها — ولو على سبيل الفرض والتخمين، ولكننا نفهم أن القرآن الكريم يكون عربيًّا على الوجه الوحيد الذي يمكن أن تتحقق به هذه الصفة، أو تتحقق به الصفة العربية في عقل من العقول، وهي الصفة التي تصدق على اللسان كله، كيفما كانت المفردات التي جرى بها ذلك اللسان.

وليست القضية أن نفهم القرآن الكريم على هذه الصفة، ولكنما القضية — حق القضية — أن نفهمه على النحو الذي يتوهمه الأستاذ وهو مستحيل، فكيف يريد صاحبنا أن تتحقق الصفة العربية للقرآن الكريم؟ إنها تتحقق على شرط واحد مستحيل كما قدمنا! وهو أن تنشأ اللغة العربية مقفلة معزولة من ألسنة الآدميين، لا ينطق أبناؤها بكلمة وجدت في لغة أخرى، وإلا فليست هناك لغة عربية ولا كلام عربي مبين!

إنها لقضية مشكلة بحق الله، ولكنها قضية الجهالة التي تقع فيها طائفة من المستشرقين، وليست بقضية القرآن ولا قضية المسلمين والمفسرين!

١  الأخبار: ١٠ / ٨ / ١٩٦٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤