تعليم الفلسفة أو الاقتصاد؟١

يقول الأستاذ حليم فريد تادرس، مدرس الفلسفة بالتعليم الثانوي:

إن بعض المهيمنين على شئون التخطيط بوزارة التربية والتعليم، يدْعون إلى الإقلال من دروس الفلسفة بالتعليم الثانوي، وجعلها مادة اختيارية؛ يختار الطالب بينها وبين مادة جديدة هي علم الاقتصاد … فهل تُحدثنا عن رأيك في هذا الموضوع؟

ومن المحقق أن قيمة الفلسفة في التعليم الثانوي لا تحتاج إلى رأي يعززها، ولا تقبل المناقشة الطويلة حول لزومها وضرورة العناية بها؛ في هذا العصر خاصة، وفي بلادنا الشرقية على الأخص، بعد أن طال الزمن في تاريخنا القديم على احتجابها بين جدران الهياكل، أو على سوء الظن بحقيقتها عند من كانوا يخطئون فهمها ويخطئون فهم الدين.

فالعلماء في هذا العصر «يفلسفون» العلم، ويعرفون للفلسفة محلها إلى جانب العلم، الذي يتقيد بوصف الواقع كما تثبته التجربة، ويدع الفروض الضرورية لتقرير كل تجربة أو تفسيرها، كي يتولاها أصحاب النظرات الفلسفية من المفكرين العلميين.

ونحن الشرقيين قد اتهمنا زمنًا طويلًا بالعجز عن التفكير المستقل عن المنافع العملية والمشاهدات الحسية؛ لأن علماءنا الأقدمين كانوا يحتجبون بعلومهم وفلسفاتهم وراء الهياكل والمحاريب، فلا يجمل بنا اليوم أن نؤكد تلك التهمة بتهوين شأن الفلسفة، أو اعتبارها ضربًا من ضروب الحذلقة وبابًا من أبواب الفضول.

ولكننا، على خلاف رأي الأستاذ حليم، لا نرى في العناية بعلم الاقتصاد غضًّا من قيمة الفلسفة، ولا نحب أن يهمل هذا العلم في دراساتنا الثانوية؛ لأن قضايا العالم كله في عصرنا هذا تتصل بالقضايا الاقتصادية أوثق اتصال، ولا يحسن بالطالب الثانوي أن ينتهي إلى التعليم الجامعي وهو خالي الذهن من قواعد الاقتصاد وعلاقتها بالسياسة العالمية وبأطوار التاريخ الحديث، وليس يخفى على الأستاذ حليم أن دراسة الفلسفة ودراسة الاقتصاد تلتقيان الآن في كثير من المباحث الهامة، التي يتطلبها فهم أحوال الجماعات البشرية، بل فهم العقائد والمذاهب التي يسمونها «الأيديولوجية»، ويقدرون لها السيطرة على النظم والأفكار وعلى العلاقات بين الأمم والجماعات.

فالاقتصاد والفلسفة يلتقيان عند البحث في أسرار الثقة وعلاقات المعاملة.

والاقتصاد والفلسفة يلتقيان عند البحث في مبادئ التصنيع والتعمير، وارتباطها باختلاف المواقع والأمم في موارد الثروة الطبيعية وموارد الأرزاق على العموم.

والاقتصاد والفلسفة يلتقيان عند المقارنة بين المذاهب المادية والمذاهب المثالية، وعند المقارنة بين مجال التخطيط والتأميم ومجال العمل الفردي أو مجال الحرية الشخصية في السياسة والاجتماع.

ولا يلزم — أثناء التعليم الثانوي — أن يستقصى الطالب مذاهب الفلسفة ومذاهب الاقتصاد خلال سنة أو سنتين، ولكنه ينال منهما الكفاية في سلك هذا التعليم إذا عرف موضوع هذه المذاهب، وعرف مسالك البحث فيها وأسباب العناية بها ومراجع التوسع في تفصيلاتها لمن يريد المزيد على البرامج المدرسية.

وما يقال عن علم الاقتصاد بالنسبة إلى الفلسفة، يقال عن علم الأخلاق وعلم الأجناس البشرية وما إليها من الدراسات المشتركة بين علوم الثقافة، فلا يقال إن العناية بدراسة من هذه الدراسات تغض من شأن الفلسفة أو تصرف الطلاب الناشئين عنها، ولكنه في الواقع عنوان واحد يتفرع عليه عدة عناوين.

١  الأخبار: ٣١ / ٨ / ١٩٦٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤