الأقطاب الثلاثة في فهم النفس البشرية١

كانوا ثلاثة من أركان مدرسة التحليل النفساني، التي اشتهرت بعد ذلك باسم مدرسة «فينا»؛ لاجتماع هؤلاء الأقطاب الثلاثة فيها، متفقين متفاهمين فترة من الوقت، قبل أن يرحلوا عنها مختلفين متضاربين.

هؤلاء الثلاثة هم: فرويد، وآدلر، ويونج؛ آخرهم الراحل في هذا الشهر إلى عالم الغيب، الذي كان يبحث عنه في كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة، كما كان يبحث عنه في كل سريرة من سرائر النفس البشرية.

كانت الغريزة الجنسية هي علة العلل لجميع مشكلات النفس البشرية، وهي أعمق الجذور التي تتشعب عليها جملة الفروع في مذهب فرويد.

وكان «آدلر» يقول إن طبيعة «النمو» بجميع معانيه هي علة العلل، وهي كذلك أعمق الجذور؛ فإذا اصطدمت «الشخصية الإنسانية» النامية بما يعطل نموها ويعوق ارتفاعها وامتدادها، فالعلل الباطنة التي تتخلف من هذه الصدمة تتطلب التعويض بحيلة من الحيل، لتغطية الضعف والتنفيس عن شعور الذل والحرمان، ولا سبيل إلى التفرقة بين العوارض الحيوية والعوارض الاجتماعية في تفسير هذا المرض وفي الاحتيال لعلاجه؛ لأن أحوال المجتمع هي التي تحدث الصدمة بين «شخصية الفرد» وبين سائر الشخصيات، ومن هنا يحدث الاضطراب ويحتاج علاجه إلى شيء في داخل النفس وشيء في البيئة الخارجية.

أما فقيد المدرسة الأخير فلعله أسلم الثلاثة تفسيرًا أو أقربهم فهمًا للنفس البشرية؛ لأنه يبحث عن أصل كل مرض نفساني في جميع الغرائز الحيوانية والإنسانية، ويذكر من هذه الغرائز — على التخصيص — غريزة التغذية وغريزة الجنس وغريزة القوة وغريزة الطبيعة الاجتماعية، ولا يسوي بين الناس في التعرض لأمراض النفس وعيوب الفطرة، بل يقسمهم إلى نماذج متعددة، على حسب ما يصيبهم في طفولتهم من عوارض تلك الغرائز الكثيرة، ولكنهم على الأكثر أربعة نماذج متميزة واضحة الفوارق بينها إذا تطرفت إلى الغاية من التطرف، وقد يلتقي منها نموذجان أو أكثر في بعض الأفراد، مع التوسط والاعتدال.

وهذه النماذج الأربعة هي: نموذج الإنسان المفكر، ونموذج الإنسان الحساس، ونموذج الإنسان العاطفي، ونموذج الإنسان الباطني، أو الإنسان الذي لا يكف عن طلب الغوامض والخفايا وراء حوادث الحياة وأعمال الأحياء.

وعن «يونج» أن جذور النفس البشرية لا تنتهي إلى غريزة من الغرائز التي يذكرها هو أو يذكرها صاحباه؛ لأن «الجذور» العميقة سابقة لوجود الحي بل لوجود الحياة، وخلاصتها عنده أنها هي «الإله» الذي لا يدرك بغير الرمز والتسليم، ولا يخرج عن عالم الأسرار إلا في صورة من صور العقيدة الدينية، وهي — إذا جاشت بها نفس الإنسان — حقيقة واقعة، لا تقل ثبوتًا وأصالة عن حقائق الطبيعة وحقائق المحسوسات والمعقولات.

ولقد كان «يونج» يدرس التنجيم والسحر وعلوم الرمل والاستطلاع، ويحسب أنها تفسر النفس الإنسانية وتكشف عن الجذور العميقة وراء العلم والمنطق، وإن لم يثبت منها شيء في معامل الطبيعة وقضايا الفلاسفة، فإنها لغة أخرى من لغات التفاهم بين عالم الغيب وعالم الشهادة، لا فرق بين إلغائها وإلغاء الحس والفكر؛ لأنها لم تكن لتوجد لو لم تكن معبرة عن معنى غير المعاني المعروضة على الحس والتفكير.

ولم يقل «يونج» قط إن الخرافة تحل محل البحث العلمي والقضية المنطقية، ولكنه كان يقول ويعيد أن البحث العلمي والتفكير المنطقي كلاهما جدير بتفسير الخرافة وتفسير البواطن التي تشير إليها، وأن الخطأ في تفسيرها أولى بالعقل من إنكار وجودها وإنكار حق النفس البشرية في التخبط بين غياهب الظلمات، كلما قصرت الأضواء عن بلوغ ذلك القرار.

وهذا هو عيب «يونج» مع الإفراط في مذهبه الذي انفصل به عن صاحبه.

فإذا كان إفراط فرويد يصور لنا النوع الإنساني كله مريضًا مصابًا بالهوس الجنسي والشهوات الحيوانية، وإذا كان إفراط «آدلر» يفتح الباب على مصراعيه للمرضى بجنون القوة؛ فها هنا إفراط غير مأمون العاقبة، قد يفتح الباب لإنكار المنظور المعلوم في سبيل المغيب والمجهول.

أما المذاهب الثلاثة — بغير إفراط — فأسلمها تفكيرًا وأوسعها أفقًا هو مذهب النماذج الإنسانية، التي تعطي كل غريزة حقها في العمل الظاهر والعمل الباطن، وتربط الصلة بين الإنسان وبين عالم الغيب المجهول، وهو عالم لا يغمط حقه في مذاهب «التحليل النفساني»، التي تبحث عن كلمة السر وتبتدئ منه وتنتهي إليه، ولن يكون سر النفس البشرية سرًّا يعتري إنسانًا واحدًا وينتهي كله هناك بمعزل عن غيره من الناس.

•••

ولا ندري هل هي مصادفة من مصادفات الحظ، أو هي طبيعة الهوس الجنسي أن يجتذب إليه المفتونين به، ويكشف عن أغراضهم وعاهاتهم حين تختفي أعراض المفتونين بدين القوة وأعراض المفتونين بالطلاسم والخرافات.

فقد احترس الناس من الإفراط مع آدلر في عبادة القوة؛ لأن سخافة هذه العبادة لم تغب عن الأذهان منذ أيام الحرب العالمية.

واحترس الناس من الإفراط مع يونج في مجاهل الغيب؛ لأن الخرافة لم تزل سيئة السمعة بعد تاريخها الأسود منذ أيام القرون الوسطى.

ولكنهم لم يحترسوا من الإفراط مع فرويد؛ لأنه — على ما يظهر — أشهر الثلاثة وأسبقهم، ولأنهم فهموا أقرب مقاصده إلى الحس والغريزة ولم يفهموا في الواقع لباب آرائه ومرامى مصطلحاته وتعبيراته.

وغير بعيد منا ما قد جناه التحليل الجنسي على الهستيريين؛ من هواة الأدب المكشوف أو هواة أدب الهدم والإفلات على حل الشعور.

فكل ورقة تخرج من مخادع هذا «الفن» الفراشي، فهي حالة «فرويدية» خالصة، لا تقترب من ناحية آدلر ولا من ناحية يونج، ولولا أن «فرويد» يسأل عما قال ولا يسأل عما يتقوله عليه الجاهلون بمرماه، لقلنا: جزاه الله بما جنت يداه على ضحاياه، إن كانوا ضحاياه ولم يكونوا ضحايا جنسهم إياه، شفاه الله!

١  الأخبار: ٢٨ / ٦ / ١٩٦١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤