بطلان علوم التنجيم١

كنت أطالع كتاب التنبؤ بالغيب عند مفكري الإسلام للسيد الدكتور توفيق الطويل، فقرأت في صفحة ١٣٤ منه أن هناك نوعًا من التنبؤ بالغيب يُنسب لأصحابه ويُسمى بالزايرجة، ولا سيما تلك التي تُنسب إلى محمد السبتي، أحد أعلام المتصوفه بالمغرب في أواخر المائة السادسة، ولا ينكرها بعض المفكرين استنادًا إلى ما فيها من تناسب هو السر في الحصول على المجهول من المعلوم كما يحدث عند أهل الرياضة، ولهذا نُسبت إليهم.

فما ترون في هذه الأقوال المنسوبة إلى طائفة من المفكرين والمستشرقين؟

محمد المهدي

هذه فاتحة خطاب السيد محمد المهدي، تليها شذرات مقتبسة من كتب الأقدمين والمحدثين عن بيوت الزايرجة وطوالع الفلك، تجري في مجرى تلك الفقرة المنقولة من كتاب الأستاذ الطويل، وخلاصة سؤال السيد «المهدي» عنها أنه يريد أن يتبين حكم العلوم العصرية في هذه الأقوال.

وليس السيد «المهدي» بالوحيد الذي يشغله هذا السؤال وأمثاله عن الطوالع السماوية وأثرها في الكائنات الأرضية، على رأي المنجمين الأقدمين ومن يقتفي أثرهم بين المحدثين في هذه المباحثات التي يطلقون عليها اسم العلوم.

ففي بلادنا وفي بلاد العالم ألوف يتطلعون إلى حقائق هذه العلوم المزعومة، وتتردد أخبارهم في صحف الغرب والشرق، ويبلغ الاهتمام بها عندهم ما لم يبلغ بعضه عندنا إلى الآن.

وقد عرضت إحدى مجلاتهم المشهورة — لايف — لهذه المسألة منذ شهور قريبة، فنشرت عنها البيانات المفصلة، التي يُفهم منها أن «علماء» هذا التنجيم يفتحون المكاتب، وينشرون الصحف لتلقي الأسئلة والإجابة عنها؛ فيما يدور على الطوالع والنبوءات، وأسرار الغيوب عن السعود والنحوس، وموافقة الحساب الفلكي لما ينويه السائل أو يشرع فيه من أعمال التجارة أو السفر أو المشاركة أو الزواج وما إليها.

ويسبق إلى الظن أن الكشوف الفلكية الحديثة وعودة الناس إلى الكلام على علاقات السماء بالأرض والأرض بالسماء، هي التي أثارت في الأذهان حب الاستطلاع عن حقائق التنجيم القديم، وكلها مما يدور على العلاقات المفروضة بين بني الإنسان فوق الأرض وتحت نجوم السماء.

ونحمد الله على أن حكاية التنجيم القديم يمتنع الخلاف عليها في العصر الحديث من الوجهة العقلية العلمية؛ لأن الخطأ فيها قد انتقل من دائرة البحوث والآراء إلى دائرة المشاهدة والعيان، فلن تبق عند العلماء المحدثين ذرة من الشك في بطلان كل أساس قامت عليه علوم التنجيم القديمة؛ لأن بطلان هذه الأسس ثابت كل الثبوت بحساب الأرصاد والأرقام، وثبوته هذا متكرر الشواهد في عدة مسائل مقررة لا تحتمل الجدال.

فلا خلاف في بطلان الدعاوي التي تقوم على معلومات الأقدمين عن السيارات والعناصر والبروج، وسائر هذه المعلومات التي ثبت اليوم أنها كانت ضربًا من التخمين يصطدم بالواقع الحسي قبل اصطدامه بوقائع الرأي والتفكير.
  • (١)

    فالطوالع القديمة كانت كلها معلقة على اعتبار السيارات السماوية سبعًا فقط، منها الشمس والقمر، وليست منها الكرة الأرضية.

    والمحقق اليوم أن السيارات تزيد على العشر وليس منها الشمس ولا القمر، وأن السيارات الصغيرة لا يحصرها الحساب، وقد يزيد عددها إلى الآن على ألف وخمسمائة، وقد ظهرت إلى اليوم ثلاث سيارات كبار لم يكن يعرفها الأقدمون قبل منتصف القرن الثامن عشر، وهي أورانيوس ونبتون وبلونس الذي كان مجهولًا منذ نحو ثلاثين سنة.

    فإذا كان علم المنجمين الأقدمين قاصرًا عن المعرفة بعدد السيارات نفسها فمن الوهم المطبق أن نستدل بطوالعهم الفلكية على الغيب المجهول.

  • (٢)

    وكان علم التنجيم قائمًا على أربعة عناصر أرضية؛ هي النار والتراب والهواء والماء، وعلى هذه العناصر الأربعة تبنى تقسيمات المنجمين لأصحاب الأمزجة من الناريين أو الترابيين أو الهوائيين أو المائيين، وعلى صلاح هذه العناصر للاتفاق يبنون نبوءاتهم على اتفاق أصحاب الأمزجة، كاتفاق الترابيين والمائيين مثلًا واختلاف الناريين والهوائيين.

    ولكن الثابت المقرر اليوم أن العناصر تزيد على التسعين في الطبيعة وتزيد على المائة في المعمل، وأن التوافق بينها مبني على خصائص كيمية أخرى يعرفها علماء الكيمياء ولا يعرفها المنجمون.

    فلا محل لسؤال المنجمين إذن عن التوافق المزعوم بين عناصر ليس لها وجود، وبخاصة حين يكون ذلك التوافق محسوبًا بحروف الأسماء وليس محسوبًا بفوارق الأمزجة المركبة في طبائع الأحياء.

  • (٣)

    وقد كان الأقدمون يعلقون طوالع الناس بمنازل الفلك ويحسبون أن هذه المنازل صور حقيقية في السماء، وأنها مستقرة في أماكنها بالنسبة إلى الأرض وما عليها، وأن طبائعها وطوالعها تناسب أسماءها؛ كما يتناسب الري وماء الدلو، والبحر وطالع الحوت، والسم وطالع العقرب، إلى غير ذلك من التوفيقات والتلفيقات.

والمحقق اليوم أن هذه الصورة وهمية لا وجود لها في الواقع على الإطلاق، وأن بروج السماء سُميت بأسماء حيوانات مختلفة في البلدان المختلفة، فليس لها طبع واحد مقرر لا يقع عليه الخلاف. وأدعى من كل ذلك إلى الجزم ببطلان العلاقة بين البروج وسكان الأرض، أن دائرة البروج تختلف في مواقعها من الأرض بين زمن وزمن؛ فلا تثبت ألف سنة متوالية على وضع واحد؛ فما يُشاهد اليوم تحت برج الحوت كان يُشاهد قبل بضعة قرون تحت برج الحمل، وهكذا يقال عن سائر البروج.

فليس أمامنا في هذا العصر علم يحتمل المناقشة العقلية لترجيح الآراء فيه بين الرفض والقبول، ولكننا أمام قاعدة منهارة على أساسها ينهار كل ما يُقام عليها قديمًا وحديثًا من محسوسات الواقع، فضلًا عن نبوءات الغيب.

إِنَّمَا الْغَيْبُ لله صدق الله العظيم.

١  الأخبار: ١٨ / ١٠ / ١٩٦١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤