المعرفة التامة مستحيلة١

… أستحلفكم أن تجيبوني على السؤال الآتي في يوميات الأخبار: إن الصراع في ميدان البحث الفلسفي يكاد يقضي على قيمة هذا البحث وعلى المتصارعين في نفس الوقت؛ إذ إن بعضهم يهجم في عناد على مباحث ما وراء الطبيعة؛ أي مباحث الميتافيزيقا، وبعضهم يرد هذا الهجوم بأعنف منه، ومنهم من يحاول تحطيم المنطق الصوري، والآخر يقف في وجه هذه المحاولة، حتى كاد الحق — وهو القيمة المقدسة — أن يذهب بينهم.

محمد محمد النجار
مدرس الفلسفة بخان يونس، قطاع غزة

هذه الأسطر من خطاب الأستاذ «النجار» كافية للدلالة على موضوع السؤال كله؛ وهو موضوع المعرفة وسبيل الوصول إليها، ونحمد الله على أن مسألة المعرفة، وهي أعضل مسائل الفلسفة، قد أصبحت من موضوعات الدراسة الثانوية والمطالعة الصحفية، وقد يكون ذلك خيرًا كثيرًا؛ لأنه يخفف شيئًا ما من رعب بعض الناس من اسم الفلسفة، وهي عند النظر إلى حقائقها من وراء قشورها «الكرنبية» تقارب ألغاز الحروف المتقطعة الأشكال المتفرقة وأسرار النجوم والكواكب وراء الستار وأمام الستار، إن لم يكن أقرب منها إلى عقول طلاب الألغاز والأسرار.

إن الصراع الذي يتحدث عنه الأستاذ مدرس الفلسفة عنيف جدًّا كما يقول، وكثيرًا ما يحدث بين أناس من المفكرين مشهود لهم بأصالة التفكير، وهذا يدل على أمر واحد سهل التفاهم عليه، وهو أنهم يختلفون في المقاصد وإن حصروا خلافهم في عنوان واحد وهو عنوان المعرفة، فلا يعني أحدهم بكلمة المعرفة ما يعنيه الآخرون، ولا يسهل عليهم الاتفاق على الدلول المشتركة؛ لأن المعرفة أوسع من أن تنحصر في جانب واحد أو تتيسر على درجة واحدة، أو تتساوى على حد واحد في جميع المعروفات وعند جميع العارفين.

ولكنني أجزم جزمًا، ولا أقول أزعم زعمًا، أن الاتفاق واجب على حقيقتين لا سبيل إلى الخلاف عليهما:
  • أولاهما: أن المعرفة التامة المطلقة التي ينتفي معها الجهل كل الانتفاء؛ مستحيلة على العقل البشري كل الاستحالة.

    وليست هي مستحيلة على العقل وحده، بل هي مستحيلة كذلك على الإدراك الحسي الذي يظن بعضهم أنه مقياس التحقيق والإدراك الصحيح؛ فإن القاتل الذي يبالغ في توكيد معرفته بشيء من الأشياء فيقول إنه رآه بعينه، إنما يدرك ذلك الشيء إدراك الحس الناقص الذي لا حيلة فيه؛ لأن الألوان التي تتمثل بها المرئيات للعينين لا وجود لها في الطبيعة، وليست معرفتنا الحسية لها غير المعرفة النسبية، التي تتيسر للمخلوق الآدمي ولا تتيسر أحيانًا لغيره من المخلوقات على هذا المثال.

    فإذا كانت المعرفة التامة المطلقة مستحيلة بالحس استحالتها بالعقل، فلا معنى لاختصاص «الميتافيزيقا» بالخروج من دائرة المعرفة الممكنة؛ لأن المعرفة الممكنة قاصرة عن المعرفة الكاملة المطلقة في جميع المعلومات وعلى جميع الأحوال.

  • والحقيقة الثانية: التي أجزم بها جزمًا ولا أقول أزعم زعمًا، أن عملية التفكير غير عملية الحس والشعور.

فليكن الحس هو مصدر التفكير كله، وليكن العقل خاليًا من كل إدراك غير الذي يتلقاه أصلًا من الأعين والآذان والأنوف والأذواق والجلود، فالنتيجة أن العقل حين يفكر يقوم بعمل آخر غير أعمال تلك الحواس متفرقات أو مجتمعات.

وعلى هذا النحو يمكننا أن نقول إن الدم في الجسم يتكون من مواد غذائية على اختلافها، ولكنه يؤدي عملًا في البنية لا يؤديه الخبز ولا اللحم ولا الثمرات النباتية أو المواد المعدنية التي يحتويها الغذاء، فليست وظيفة الدم محدودة بتحليل الأجزاء الكيمية أو الطبيعية في الأغذية التي تُخلق داخل البنية، وليست وظيفة الفكر محدودة بالمنظومات والمسموعات وما يقترن بها من سائر المحسوسات.

وليس من المعقول فكرًا، ولا حسًّا، أننا لا نفكر في شيء إلا إذا فكرنا فيه فوجدنا في النهاية أنه ينتهي إلى نتيجة قاطعة من المعرفة الكاملة المطلقة:
  • أولًا: لأن المعرفة الكاملة المطلقة ممتنعة في جميع المباحث والمدركات، فلا معنى لتخصيصها بنوع منها.
  • ثانيًا: لأن القول بأننا لا نفكر إلا إذا انتهينا بتفكيرنا إلى نتيجة قاطعة، كلامٌ غير مفهوم ولا معقول؛ لأنه يمنع التفكير بعد نهاية التفكير.

ومن أين لنا أن عادة التفكير نفسها لا تزيد الفكر قوة ودراية، وتعطيه الوسيلة التي لن يصل إليها عند الانقطاع عن التفكير؟

إنني لأذكر في هذا السياق قصة لمجذوب من مجاذيب الطريق، كان يزورني بأسوان ويطيب لي أن أجاريه في أحاديته؛ لأنها لم تكن تخلو من ملحة أو عبرة.

وزارني ذلك المجذوب ذات يوم وأنا أكتب خطابًا إلى الصديق المازني — رحمه الله — فسألني: ماذا تصنع؟

قلت: أكتب خطابًا إلى الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني، هل قرأت له شيئًا؟

قال: نعم، هذا الرجل قراءته حلوة، وصوته حلو، أين يسكن الآن بالله؟

قلت: في حي السيدة؟

قال: شيء لله يا أم هاشم. قل له بالله يقرأ لنا الفاتحة في مقامها!

قلت: وإذا أبى ولم يقرأ.

قال مدهوشًا: إذا أبى فلا ترسل إليه الخطاب … يا خال.

وكانت كلمة خال من لوازمه في نداء من يتحدث إليهم، فطاوعت وزدت القصة بتفصيلها في ذيل الخطاب، وقلت لأبي خليل: إن الخال عباسًا لا يرسل إليك خطابه هذا إذا فاتك أن تقرأ الفاتحة باسم الشيخ «أحمد الحفار.» ومن طرائف المازني — رحمه الله — أنه أرسل بالرد إلى عنوان الحفار كما أعلمني بعد ذلك، ولكنني لم أعلم نبأ هذا الرد من الشيخ!

وإنني لا أذكر هذه القصة في هذا السياق؛ لأن نهي الحفار عن إرسال الخطاب الذي لا يستجاب شبيه جدًّا بالنهي عن التفكير في المسائل التي يؤدي التفكير فيها إلى غير نتيجة!

فمن أين لنا أن قوة التفكير المنتج لا تأتي من التفكير بغير نتيجة عشرات المرات أو مئات المرات؟

لقد حاولت الزواحف أن تطير قديمًا فلم تجد من يقول لها إن ارتفاع الجسم في الهواء مستحيل؛ لأنه هو أثقل من الهواء، ولم تجد من يقول لها: إن الطيران قوة لم توجد فيك أيتها الزواحف الهوجاء. ولم يكن الطيران نفسه شيئًا معروفًا للجناحين ولا لغير الجناحين، قبل أن يوجد الجناحان.

وليس من يمنع التفكير بغير قوة الحس إلا كمن يمنع الطيران بغير قوة جناح، بل لعله يمنع كل معرفة يؤدي إليها الفكر؛ لأن الوصول إلى نهاية المعرفة غير مستطاع.

ولسنا بحمد الله من اللاأدريين حين نقول إن المعرفة الكاملة ممنوعة؛ فإن الفرق ظاهر بين من يقول إنه لا يدري كثيرًا ولا قليلًا، وبين من يقول إنه يدري على التحقيق دراية محدودة معروفة الحدود، ولو في حدود واحد من المائة أو المليون.

ونعود فنقول إن الدراية الناقصة على التحقيق أمر نجزم به كل الجزم ولا نقول إننا نزعمه زعمًا على طريقة «هز الوسط» إلى اليمين وإلى الشمال؛ فإن هذه البهلوانية الفكرية أبغض ما نبغضه من جماعة الشكوكيين، و«المحققين» المتحذلقين!

١  الأخبار: ٢٣ / ١٢ / ١٩٦١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤