أبطال القصة العربية بين التاريخ والخيال١

قرأت أخيرًا كتابًا بعنوان الإسلام والعرب للكاتب الغربي روم لاندو … ولفت نظري — مع إنصاف الكاتب — قوله إن الأدب العربي لم يخلق شخصيات فنية بارزة متفردة؛ مثل هاملت أو دون كيشوت أو إما بوفاري أو أنا كارنينا أو فاوست، إلخ من تلك الشخصيات التي إذا ذُكر اسم واحدة منها طفرت إلى الذهن صفات خاصة ومدلولات معينة، وهو يعلل ذلك بأن الإسلام ينظر للإنسان نظرة جماعية مطلقة، بعيدة من تلك النظرة الفردية التي تنظر بها الأيديولوجيات الغربية إلى الإنسان، فهل أجد عند سيادتكم تفسيرًا لهذا الرأي؟

محمد محمود شهاب
مصلحة الاستعلامات

إن «روم لاندو» من الكُتاب الأوربيين القلائل الذين يكتبون في هذا العصر عن الإسلام والمسلمين وتخلو كتابتهم من سوء النية، ومن نزعة التعالي والاستغراب التي تشوب أقوال بعض السياح الأوربيين وهم يكتبون عن الأمم الشرقية.

ولكنه يخطئ إذا فهم أن الإسلام ينظر تلك النظرة إلى الشخصية الإنسانية؛ لأن تواريخ العرب تحفل بالشخصيات المتميزة، التي تُعتبر كل شخصية منها عنوانًا لخُلق من الأخلاق أو لطائفة متعددة من الشمائل الإنسانية؛ فليس في تواريخ الغرب نماذج للأخلاق كنماذج الأحنف وحاتم وعنترة والشنفرى ومعن بن زائدة والحجاج وأشعب وحلاق بغداد، وغيرهم وغيرهم في الدلالة على الأطوار الإنسانية التي يتسم بها الفرد بين الجماعة.

ولما ظهرت القصص العربية قبل ظهور القصص عند الأوربيين، كانت شخصياتها الأسطورية أوفر وأوضح من شخصيات الأبطال في أمثال هذه القصص المتأخرة، كما يعرف كل من اطلع على حكايات ألف ليلة وسيف بن ذي يزن وذات الهمة وحمزة البهلوان والظاهر بيبرس وغزوات بني هلال، وسائر هذه القصص التي ازدحمت بنماذج الشخصيات في الشجاعة والدهاء والفكاهة وغرابة الأطوار، ومثلها تلك الشخصيات التي أبرزتها مقامات البديع والحريري، وعرضت فيها نماذج التجار والأمراء والأدباء المحتالين بالأدب على المعاش، ونماذج الأزواج والزوجات بين مختلف الطبقات.

وهناك نوع من «الشخوص» الفنية لا شك في كثرته وشيوعه بين الغربيين ولا في قلته وإهماله بين قراء العربية من أبناء الأجيال الماضية، ونعني بهذا النوع من «الشخوص» الفنية أبطال الملاحم الأسطوريين منذ أيام اليونان واللاتين، ولكن هذه الملاحم لم تظهر في اللغة العربية؛ لأن موضوعها لم يظهر في تاريخ العرب القديم، لا لنقص في الخيال ولا في التصوير النفساني كما خطر لبعض الواهمين من نقاد الآداب الأوربية.

وموضوع الملاحم — كما لا يخفى — هو موضوع الحروب «الأسطورية»، التي كانت تدور بين الأرباب وأبطال الإنس والجن من أنصاف الأرباب في عرف الأقدمين، وكلها حروب وقعت بين أمم الملاحم وبين الأمم «الأجنبية» عند اصطدام الفريقين، ولم تكن في تاريخ العرب الأوائل وقائع من هذا القبيل، ولا كانت لهم تواريخ خرافية توغل في القدم وتختلط بها الحوادث بتلفيقات الخيال، وإنما كانت أخبارهم كلها عن حروب قبائلهم، وعن الأزمنة التي يحفظها رواتهم ولا توغل وراء التاريخ إلى عهود الأسطورة والخرافة.

وقد يتبين خطأ القائلين بتقصير التاريخ الإسلامي في رسم الشخصيات من حقيقة قريبة المتناول، يدركها القارئ بعد تقليب صفحات قليلة من مراجعنا التاريخية؛ فإنها تذكر «الشخص» الذي تتحدث عنه، فلا تدع شيئًا من عاداته وحركاته وإشاراته، ولا من لوازمه وهو يتكلم ويومئ بيده أو يشيح بوجهه أو يبتسم أو يداري ابتسامه، على أشكال شتى من التصريح والتلميح لا نرى لها نظيرًا في مراجع التاريخ الأوربي قبل الزمن الأخير.

وغير صحيح إذن أن تقاليد الإسلام تمنع العناية بالشخصية الإنسانية، ولكنه خلط يدل عليه التناقص بين من يقولون بالنظرة الجماعية في الإسلام، ومن يقولون بأن الإسلام يعظم سلطان الفرد ويفني وجود الجماعة في ذوات حكامها المطلقين، وكلا القولين طرف من طرفي الخطأ البعيد في فهم الطبائع واستقصاء الأخبار.

١  الأخبار: ١٨ / ٤ / ١٩٦٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤