تمهيد

نريد بهذا العصر المدة التي استبد فيها الأتراك بالدولة العباسية، وهم الأجناد، تمييزًا له عن العصر العباسي الفارسي الذي استبد فيه الفرس، وهم الوزراء. وليس بين العصرين حد فاصل ينتهي إليه الواحد ويبتدئ منه الآخر، بل هما تعاصرا مدة كان الأول في أواخره، والآخر في أوائله.

(١) الأتراك القدماء

الترك أمة قديمة جدًّا مؤلفة من قبائل وبطون وأفخاذ، كانت مواطنهم على جبال الألطاي أو جبال الذهب في أواسط آسيا بين الهند والصين وسيبريا. وهم يذهبون في أصل اجتماعهم مثل مذهب الرومانيين في مؤسس دولتهم «روملس»، فيعتقدون أن برتزينا أول قوادهم رضع من ثديي الذئبة، فلما شب قادهم في الحروب والغزو بخيامهم وأنعامهم؛ لأنهم أهل بادية، فحاربوا الأمم المجاورة لهم وخصوصًا سكان الصين. وخلف برتزينا غير واحد من أبنائه، وكانوا قد شاهدوا مدن الصين وعمراتها فأحب بعضهم أن يبني المدن فمنعه بعض أمرائه، ومن نصائحه في هذا الشأن قوله: «نحن يا مولاي أقل من عشر أهل الصين عددًا وقوتنا إنما هي بإطلاق حريتنا، إذا رأينا في أنفسنا قوة على الحرب هجمنا وإلا رجعنا إلى البادية، وأهل المدن محبوسون داخل الأسوار كأنهم في قفص»، فأعجبه رأي الرجل وعدل عن التحضر. وتلك كانت حال العرب في صدر الإسلام، فإن بداوتهم كانت من أهم أسباب تغلبهم.

وما زال الأتراك أهل بادية وغزو وخيام، يزدادون قوةً وعددًا حتى اجتمع منهم نحو ٤٠٠٠٠٠ رجل حاربوا أهل الصين والفرس والرومان خمسين سنة، وظفروا في معظم حروبهم، وقد عقدوا مع الرومان في أيام جوستنيان صلحًا، وظلت العلائق حسنة بينهم وبين خلفائه، وتبودلت السفارات بين الأمتين غير مرة. وفي أيام خاقان ديزابول أرسل إليه الرومانيون في جبال الذهب وفدًا عقدوا معه محالفة على محاربة الفرس في زمن كسرى أنوشروان فلم يقووا عليه، وكانوا قد انتشروا في بلاد تركستان، وأقام بعضهم في المدن.

(٢) الأتراك بعد الإسلام

ولما ظهر الإسلام وانتشر العرب في أنحاء العالم، وطئت حوافر خيولهم بلاد الترك، وهم يعبرون عنها بما وراء النهر، ففتحوا بخارا وسمرقند وفرغانة وأشروسنة وغيرها من تركستان في أيام بني أمية. ولما تولى العباسيون كانت تلك المدن خاضعة للمسلمين يؤدون عنها الجزية والخراج، وكانوا يحملون في جملة الجزية، أولادًا من أهل بادية تركستان يبيعونهم بيع الرقيق، وهم في الغالب من السبي أو الأسرى على جاري العادة في تلك الأعصر. فضلًا عمن كان يقع منهم في أيدي المسلمين في أثناء الحروب بالأسر أو السبي ويعبرون عنهم بالمماليك، ويفرقونهم في بلاط الخلفاء ومنازل الأمراء. فأخذوا يدينون بالإسلام مثل سواهم من الأمم التي خضعت للعرب في ذلك العهد، ومنهم العبيد والموالي كما تقدم.

وكان الأتراك يومئذٍ يمتازون عن سائر الشعوب التي دانت للمسلمين بقوة البدن والشجاعة والمهارة في رمي النشاب والصبر على الأسفار الشاقة فوق ظهور الخيل، والثبات في ساحة الوغى مع قلة العناية بالعلوم ولا سيما الفلسفة والعلم الطبيعي، وقلما اشتغل أحد منهم بدرسها في إبان التمدن الإسلامي. واشتهر ذلك عنهم حتى أصبحوا إذا سمعوا بتركي يشتغل بالعلم الطبيعي ذكروه مع الاستغراب، كما فعل ابن الأثير لما أشار إلى معرفة قتلمش علم النجوم فقال: «ومن العجب أن قتلمش هذا كان يعلم علم النجوم، وقد أتقنه مع أنه تركي ويعلم غيره من علوم القوم». ويعرف الأتراك في تاريخ الإسلام بأسماء كثيرة تختلف باختلاف أصولهم، وفروعهم، وقبائلهم كثيرة مثل قبائل العرب.

(٣) الجند التركي في الدولة العباسية

(٣-١) المعتصم والأتراك

أول من استخدم الأتراك في الجندية من الخلفاء المنصور العباسي، ولكنهم كانوا شرذمة صغيرة لا شأن لها في الدولة، وإنما كان الشأن الأكبر يومئذٍ للخراسانيين «الفرس» والعرب. ولما اشتد التنافس بين العرب والفرس في أيام الرشيد، وذهبت سطوة العرب بذهاب دولة الأمين وتسلط الفرس أنصار المأمون وأخواله، واستبدوا في الدولة، كانت الحضارة قد أضرت بالمسلمين وأذهبت منهم قوة التغلب والفتح. ففكر المعتصم أخو المأمون في ذلك قبل أن تفضي الخلافة إليه، وكانت أمه تركية وفيه كثير من طبائع الأتراك التي ذكرناها مع الميل إليهم؛ لأنهم أخواله، كما كان يميل المأمون إلى الفرس. وشاهد المعتصم من جرأة الفرس وتطاولهم بعد قتل أخيه الأمين، حتى أصبح يخافهم على نفسه. ولم يكن له ثقة بالعرب، وقد ذهبت عصبيتهم وأخلدوا إلى الحضارة والترف وانكسرت شوكتهم، فرأى أن يتقوى بالأتراك وهم لا يزالون إلى ذلك العهد أهل بداوة وبطش، مع الجرأة على الحرب والصبر على شظف العيش. فجعل يتخير منهم الأشداء يبتاعهم بالمال من مواليهم في العراق، أو يبعث في طلبهم من تركستان وغيرها. فاجتمع عنده عدة آلاف، وفيهم جمال وصحة، فألبسهم أثواب الديباج والمناطق المذهبة والحلية المذهبة، وميزهم بالزي عن سائر الجنود.١ وأكثر الأتراك الذين اجتمعوا عنده ينسبون إلى فرغانة وأشروسنة.
فلما أفضت الخلافة إليه كان الأتراك عونًا له، وتكاثروا حتى ضاقت بغداد عنهم، وصاروا يؤذون العوام في الأسواق فينال الضعفاء والصبيان من ذلك أذى كثير، وربما أردوا الواحد بعد الواحد قتيلًا على قارعة الطريق. فاتفق أن المعتصم خرج بموكبه يوم عيد فقام إليه شيخ فقال له: «يا أبا إسحق!» فأراد الجند ضربه فمنعهم، وقال: «يا شيخ ما لك؟» قال: «لا جزاك الله عن الجوار خيرًا جاورتنا وجئت بهؤلاء العلوج من غلمائك الأتراك فأسكنتهم بيننا، فأيتمت بهم صبياننا وأرملت نساءنا وقتلت رجالنا»، والمعتصم يسمع ذلك، فدخل منزله ولم ير راكبًا إلى مثل ذلك اليوم. فخرج فصلى بالناس العيد، ولم يدخل بغداد بل سار يلتمس معسكرًا لأجناده، حتى أتى سامرًا فاتخذها معسكرًا فأعجبته وسماها سر من رأى، واختط فيها الخطط وأقطع أتراكه القطائع على حسب القبائل ومجاورتهم في بلادهم، وأفرد أهل كل صنعة بسوق وكذلك التجار. فبنى الناس وارتفع البنيان وشيدت القصور وكثرت العمارات واستنبطت المياه، وتسامع الناس إن دار الملك قد انتقلت إلى هناك فقصدوها، وجهزوا إليها من أنواع الأمتعة وسائر ما ينتفع به الناس، فكثر العيش واتسع الرزق. وما زالت سامرا قاعدة الدولة العباسية من سنة ٢٢١ﻫ إلى أيام المعتمد، فعاد إلى بغداد سنة ٢٧٩ﻫ، وهو أول من عاد إليها منذ بنيت سامرا.٢
وكان المعتصم ينظم المماليك فرقًا عليهم القواد منهم، مثل نظام الجند في ذلك الزمن. ولم يكتف بجمع المماليك الأتراك بالشراء أو المهاداة، ولكنه رغب أمراء الأتراك وأولاد ملوكهم في القدوم إليه والإقامة في ظله. وممن جاء منهم على هذه الصورة جف بن بلتكين من أولاد ملوك فرغانة، وكانوا قد وصفوه له بالشجاعة والتقدم في الحروب، فوجه المعتصم إليه من أحضره، وأحضر غيره من أبناء الأمراء فبالغ المعتصم في إكرامهم، ولما بنى سر من رأى «أو سامرا» أقطعهم فيها القطائع، وظلت قطائع جف تعرف باسمه هناك عدة قرون.٣

وكان أكثر الأتراك لما جمعهم المعتصم إليه يدينون بالمجوسية أو الوثنية على ما كانوا عليه في بلادهم، وفيهم جماعة قد دخلوا الإسلام. أما غير المسلمين فلما صاروا من جند الخليفة، وتربوا في ظل المسلمين أسلموا، وفيهم من أظهر ذلك تزلفًا للخلفاء كالافشين، وكان مجوسيًّا وأظهر الإسلام طمعًا في الكسب من الغنائم بالحروب.

وكان المعتصم شديد الرغبة في استبقاء أتراكه على فطرتهم، ويخاف تحضرهم واختلاطهم بالأمم الأخرى فتذهب عصبيتهم وتضعف نجدتهم، فابتاع لهم الجواري التركيات فأزوجهم منهن ومنعهم أن يتزوجوا أو يصاهروا أحدًا من المولدين، إلى أن ينشأ لهم الولد فيتزوج بعضهم إلى بعض، وأجرى للجواري أرزاقًا قائمة، وأثبت أسماءهن في الدواوين فلم يكن يقدر أحد منهم أن يطلق امرأته أو يفارقها.٤

(٣-٢) الجند التركي ومصالح الدولة

فاشتد ساعد الأتراك بذلك وقويت شوكتهم وغلبوا على أمور الدولة، وخصوصًا بعد أن أنقذوا المملكة من بابك الخرمي، وفتحوا عمورية ونصروا الإسلام فتحول النفوذ إليهم. وبعد أن كانت أمور الدولة في قبضة الوزراء الفرس أصبحت في أيدي القواد الأتراك، أو صار النفوذ فوضى بين الوزراء والقواد، واشتهر من الوزراء في أثناء تلك المدة جماعة من كبار الرجال، كابن وهب وابن الفرات وعلي بن عيسى وابن مقلة وغيرهم. وكانوا يسابقون الأتراك إلى النفوذ وابتزاز الأموال بالمصادرات ونحوها من المظالم كما سيجيء.

وكانت الدولة قد تجاوزت طور الشباب وأخذت في التقهقر، وانغمس الخلفاء في الترف والقصف وعجزوا عن القيام بشؤون الحكومة، فأصبحوا لا يبلغون منصب الخلافة إلا بالجند (الأتراك)، وهؤلاء لا يعملون عملًا إلا بالمال، فمن استطاع استخدام الجند ملك، ولا عصبية هناك ولا جنسية ولا جامعة دينية ولا وطنية. فأصبح الأتراك محور تلك الحركة وهم أهل شجاعة وحرب كما تقدم، فأصبح البطش والفتك أكبر عوامل السيادة.

وكانت جنود الدولة العباسية في أوائلها العرب من مضر واليمن، والفرس — ونريد بالفرس سكان ما بين العراق وأطراف خراسان شرقًا إلى نهر جيحون (الأندوس)، ويدخل في ذلك أهل خوزستان وفارس وكرمان ومكران وسجستان وقوهستان وخراسان وغيرها — وقد قام هؤلاء بنصرة المسلمين انتقامًا من بني أمية أو رغبة في الملك، ومعظمهم من الجنود الأحرار بلا بيع ولا عتق، وإنما سموا الموالي إشارة إلى أنهم ليسوا عربًا على اصطلاح ذلك العصر. واختار الخلفاء جماعة منهم قدموهم في مصالح الدولة، فنبغ منهم الوزراء والأمراء والعلماء، وولاهم الخلفاء الولايات، فاستقلوا بها وأنشأوا الدول المستقلة تحت رعاية الخلافة العباسية كما سيأتي.

فلما تولى المعتصم واقتنى الأتراك بالترغيب أو الشراء، أصبح الجند العباسي أكثره من المماليك الأتراك وأخلد الخلفاء بعده إلى نصرتهم واختصوا بعضهم بالخدمة في بلاطهم، وجعلوا من بطانتهم في جملة الخدم أو الحرس، وتقدم بعضهم في مناصب الدولة حتى قادوا الجند واستبدوا بالأحكام. فانتقلت سياسة الدولة من أيدي الموالي الفرس — وأكثرهم من الشيعة — إلى الجند الأتراك وأكثرهم من السنة. وتمكن هذا المذهب منهم منذ جاهر الخلفاء العباسيون باضطهاد الشيعة، وأولهم المتوكل على الله. ورسخ الأتراك في مذهب السنة من ذلك الحين، ولا يزالون عليه إلى اليوم.

أما استبدادهم في بلاط الخلفاء فابتدأ في أيام المتوكل؛ لأنه لما تولى الخلافة سنة ٢٣٢ﻫ، وكان ما كان من كرهه الشيعة واستبداده فيهم، زاد في تقديم الأتراك ورعايتهم فزاد طمعهم في الدولة. ثم أغراهم ابنه المنتصر بعده، ولم تطل مدة حكمه أكثر من بضعة أشهر فمات وضميره يخزه. وتولى بعده المستعين بالله سنة ٢٤٨ﻫ ثم المعتز بالله سنة ٢٥١ﻫ، وقد استفحل أمر الأتراك استفحالًا عظيمًا — ومما يحكى عن استبدادهم بالخلفاء أنه لما تولى المعتز قعد خواصه وأحضروا المنجمين وقالوا لهم: «انظروا كم يعيش الخليفة وكم يبقى في الخلافة …»، وكان في المجلس بعض الظرفاء فقال: «أنا أعرف من هؤلاء بمقدار عمره وخلافته …»، فقالوا له: «فكم تقول: إنه يعيش وكم يملك؟» قال: «مهما أراد الأتراك …»، فلم يبق في المجلس إلا من ضحك.٥
وقد قتلوا المعتز هذا شر قتلة، فإنهم جروه برجله إلى باب الحجرة وضربوه بالدبابيس وخرقوا قميصه، وأقاموه في الشمس بالدار فكان يرفع رجلًا ويضع أخرى لشدة الحر وبعضهم يلطمه بيده.٦ والمستكفي سملوا عينيه ثم حبسوه حتى مات في الحبس٧ وبلغ من فقر القاهر بالله أنهم حبسوه وهو ملتف بقطن جبة، وفي رجله قبقاب خشب٨ — فلا غرو إذا أصبح الخلفاء آلة في أيدي الأتراك: إذا تنازعوا على السلطة كان الخليفة مع الحزب الغالب،٩ وبعد أن كان القواد يحلفون للخليفة بالطاعة صار الخليفة يحلف لهم.١٠
فلما تقدم الأتراك في الدولة العباسية، وعلم إخوانهم في بلادهم بذلك، تقاطروا مئات وألوفًا يطلبون الارتزاق بالجندية، ورغبوا في الإسلام وجعلوا يدخلون فيه بالألوف وعشرات الألوف. فقد أسلم منهم سنة ٣٥٠ﻫ ٢٠٠٠٠٠ خركاه دفعة واحدة، والخركاه الخيمة ولا يقل أهل الخيمة الواحدة عن خمسة أنفس، فعدد الذين أسلموا في هذه الدفعة نحو مليون نفس. وأسلم سنة ٤٣٥ﻫ ١٠٠٠٠ خركاه من أهل بلاساغون وكاشغر دفعة واحدة، وضحوا عشرين ألف رأس غنم.١١
وكان الجند الأتراك يومئذ أشبه شيء بالفرق التي كانت عند الرومان، ويسمونها Praetorian أو هم كالباشبوزق في الدولة العثمانية يستخدمهم من شاء بالمال. فكل من وصلت يده إلى السلطة اقتنى الغلمان الأتراك إما بالشراء أو بالأجرة. وتألفت منهم الفرق بتوالي الأعوام، وكل منها تنسب إلى صاحبها كالساجية نسبة إلى أبي الساج، والصلاحية إلى صلاح الدين، وقس على ذلك الأسدية والنظامية وأمثالهما. وكثيرًا ما كانت الحروب تشب بين هذه الفرق تنازعًا على النفوذ أو على الأموال. ولما استولى الديلم على بغداد في أيام بني بويه توالت الحروب بين الترك والديلم وغلمان الخلفاء أو الموالي. وما من دولة قامت في ذلك العصر إلا استخدمت الأتراك في جندها، سواء كانت شيعية أو سنية. فكانوا يحملون إلى بغداد أو غيرها من المدائن الإسلامية تباعًا، وقلما يتوالدون فيها؛ ولذلك كانوا يتفاهمون بالتركية، وقد يتعلمون العربية ولا يتكلمونها تكبرًا.
وكان للأمراء والقواد عناية كبيرة في تدريب جنودهم الأتراك على الحركات العسكرية، فضلًا عن تعليمهم الفرائض الدينية. على أنهم كانوا يعلمونهم هذه الفرائض وهم أحداث — فإذا جاء التاجر بمملوك للبيع عرضه على الأمير أو السلطان، فإذا أعجبه اشتراه وأنزله في الطبقة التي يماثلها من مماليكه، وسلمه إلى الطواشي برسم الكتابة. فأول ما يبدأ به تعليمه ما يحتاج إليه من القرآن. وكان في دولة المماليك المصرية لكل طائفة من الغلمان فقيه يحضر إليها كل يوم ويعلمها القرآن والخط وآداب الشريعة الإسلامية وملازمة الصلوات. فإذا شب المملوك علمه الفقيه شيئًا من الفقه، فإذا صار إلى سن البلوغ أخذوا في تعليمه فنون الحرب من رمي النشاب، ولعب الرمح ونحو ذلك. وإذا ركب الأتراك لرمي النشاب أو اللعب بالرمح لا يجسر جندي ولا أمير أن يحدثهم أو يدنو منهم. فإذا أتقن فنون الحرب تنقل في أطوار الخدمة رتبة بعد رتبة، حتى يصير من الأمراء، ولا يصل إلى هذه الرتبة إلا وقد تهذبت أخلاقه وكثرت آدابه، وقد ينبغ منهم الفقهاء والأدباء والشعراء والحساب.١٢
على أن أهل البلاد كانوا يهابون الأتراك ويخافون بطشهم، فإذا جاءوا بلدًا خافهم أهله، إذ كثيرًا ما كانوا ينزلون في دور الناس١٣ ويتعرضون للحرم والغلمان، فأصبح عامة بغداد يكرهونهم كرهًا شديدًا.

(٤) الخدم ونفوذهم في الدولة العباسية

أقدم من سمعنا به من الخدم النابغين في الدولة العباسية مسرور خادم الرشيد، ولم يكن له شأن كبير. وأول من قرب الخدم واستكثر منهم الأمين بن الرشيد، فإنه لما تولى الخلافة طلب الخصيان وابتاعهم وغالى فيم، فصيرهم لخلوته ليله ونهاره وقوام طعامه وشرابه وأمره ونهيه، وعين منهم جماعة سماهم الجرادية وجماعة من الحبشان سماهم الغرابية. ولم يقرب الأمين الخدم لحمايته أو سياسة دولته، ولكنه فعل ذلك انهماكًا في الترف والقصف. ومن أقوال الشعراء في عصره يصفون انصرافه إلى اللهو بالغلمان ويسمون بعضهم قولهم:

ألا يا أيها المثوى بطوس
عزيبًا ما تفادي بالنفوس
لقد أبقيت للخصيان هقلًا
يحمل منهم شؤم البسوس
فأما نوفل فالشأن فيه
وفي بدر فيا لك من جليس
وما للمعصمي شيء لديه
إذا ذكروا بذي سهم خسيس
وما حسن الصغير أخس حالًا
لديه عند مخترق الكؤوس
لهم من عمره شطر وشطر
يعاقر فيه شرب الخندريس
وما للغانيات لديه حظ
سوى التقطيب والوجه العبوس
إذا كان الرئيس كذا سقيمًا
فكيف صلاحنا بعد الرئيس؟
فلو علم المقيم بدار طوس
لعز على المقيم بدار طوس١٤

وكان لهوه من أعظم أسباب سقوطه.

(٤-١) سبب نفوذهم

ولم يكن للخدم شأن في أيام المأمون ولا المعتصم ولا الواثق، فلما استبد الأتراك وعلت كلمتهم في أيام المتوكل فما بعده، وصاروا يولون الخلفاء ويعزلونهم أو يقتلونهم، كان في جملة ما استعانوا به على الاستبداد بهم أن يحجروا عليهم قبل الخلافة، ويحبسوهم في القصور ليزيدوهم ضعفًا. وكان الخلفاء من الجهة الأخرى يميلون إلى حبس أولادهم وأقاربهم١٥ خوفًا من تواطئهم مع بعض الأتراك على خلعهم أو قتلهم. ولا عشير لهم في أثناء الحجر إلا الخدم والخصيان، فألفوا أخلاقهم وتحققوا بالاختبار أن حياتهم تتوقف بالأكثر على أمانة أولئك الخدم لما آنسوه من غيرتهم عليهم، وخصوصًا الخصيان إذ لا عصبية فيهم تمنعهم من التفاني في خدمة أسيادهم ولا مطمع لهم في الملك لأولادهم وأهلهم. فأصبح ولاة العهد إذا أفضت الخلافة إليهم بالغوا في تقريب الخدم بالعطايا والإكرام، التماسًا لحمايتهم إذا أراد الأتراك الفتك بهم. فعمدوا إلى الاستكثار من الخدم، وكانوا يقدمونهم ويكرمونهم ويستشيرونهم في أمورهم، فازداد الخدم نفوذًا وسطوة حتى أصبح الأتراك يخافونهم، وقد ارتقى كثيرون منهم في العصر التركي من الخدمة في المنازل إلى قيادة الجند أو الإمارة على الأقاليم.

(٤-٢) فرق الخدم وطبقاتهم

ولما تكاثر الخدم في دور الخلفاء جعلوهم طبقات وفرقًا تعرف بأسماء خاصة، وفيهم الرومي والتركي والحبشي والأرمني والسندي والبربري والصقلبي، في فرق أشبه بفرق الجند ولهم الرواتب والجواري.

والمراد في الأصل بالخدم الغلمان أو العبيد أو المماليك الذين يقيمون في دور الخلفاء أو الأمراء للخدمة فيما يحتاجون إليه من مهام المنازل. فكانوا يبتاعون الغلمان وفيهم الحائك والسائس والحجام والخباز وغيرهم. ثم صاروا يستكثرون منهم للاستعانة بهم في حماية تلك المنازل أيام الشدة، على قدر ما يستطيعون بذله من المال في ابتياعهم. وأثمانهم تتفاوت من مئة دينار إلى ألف دينار أو أقل أو أكثر. وربما بلغ عدد الخدم عند بعض الأمراء إلى خمسمائة غلام أو ألف أو أكثر. فغلمان بغا الشرابي أحد قواد الأتراك بلغ عددهم ٥٠٠، وزاد عدد غلمان يعقوب بن كلس وزير الفاطميين بمصر على ٤٠٠٠.

أما في دور الخلفاء فكان الغلمان فرقًا تعرف بأسماء خاصة، كفرق الغلمان الأصاغر، والغلمان الحجرية، والرجال المصافية والركابية وغيرها. والفرق بين فرق الجند التركي وفرق الغلمان، أن الأجناد عساكر الدولة ينتظمون في خدمة المملكة، ويتقاضون رواتبهم من بيت المال، وفيهم المبتاع والمأجور، وأما الغلمان فهم مختصون بالأمير أو الخليفة لخدمته الشخصية أو حماية داره، وهم ملكه وينفق عليهم من ماله الخاص. وقد تتحول فرق الغلمان إلى فرق من الجند، أو يعملون معًا في خدمة الدولة على ما تقتضيه الأحوال. وقد يبتاع الخليفة العبيد؛ ليتقوى بهم على أعدائه مما لا ضابط له. وكثيرًا ما تستبد بعض فرق الخدم بالخليفة أو الأمير حتى تغلبه على أمره، وتفعل ما تشاؤه فيضطر الخلفاء أحيانًا إلى الفتك بهم غيلة بمساعدة فرق أخرى.١٦
وكان في دور الخلفاء صنف من الخدم الخصيان يغلب استخدامهم في دور النساء، وكانوا يستكثرون منهم أيضًا وأكثرهم من الطواشية السود. وكان أهل بغداد يسخرون بهم ويهزأون بأشكالهم ويتعرضون لهم في الطرق وينادونهم بعبارات التهكم كقولهم: «يا عقيق صب ماء واطرح دقيق … يا عاق يا طويل الساق»، وهم يشكونهم إلى الخلفاء، وأصاب الناس في أيام المعتضد شدة بسبب ذلك، فإن بعض أهل بغداد تعرضوا لبعض الطواشية السود سنة ٢٨٤ﻫ فاجتمعوا وكلموا المعتضد بما يلحقهم من ذلك، فأمر المعتضد بجماعة من العامة ضربوا بالسياط١٧ على أن الخصيان كثيرًا ما كانوا يرتقون في الدولة إلى مصاف الأمراء.

(٤-٣) القواد والوزراء من الخدم

وأول من استكثر من الخدم وقربهم ورفع منزلتهم المقتدر بالله، فقد تولى سنة ٢٩٥ﻫ وعنده من الخدم والخصيان ١١٠٠٠ خادم من الروم والسودان١٨ وكثير من المال والجوهر، فتمكن من الحكم ٢٥ سنة رد فيها رسوم الخلافة إلى ما كانت عليه. وكان يقدم الخدم ويستعين بهم، وقد ولاهم قيادة الجند وغيرها. وفي أيام نبغ مؤنس الخادم، فقدمه وكان يستشيره في أموره، فتصرف مؤنس في مصالح الدولة كما يشاء، وتولى رياسة الجيش وإمارة الأمراء وبيوت الأموال، واستبد بكل شيء، لكنه على الإجمال خدم الخليفة المقتدر خدمات ذات بال فلقبه الخليفة بمؤنس المظفر، ثم كانت بينهما وحشة تكررت حتى أدت إلى حروب انتهت بقتل المقتدر، وحملوا رأسه إلى مؤنس فلما رأى رأس مولاه بكى ولطم وجهه.

فالخلفاء إنما لجأوا إلى تحكيم الخدم والخصيان استبقاءً لحياتهم أو إحياءً لنفوذهم، ودفع استبداد جند الأتراك. ولم يكن ذلك خاصًّا بالدولة العباسية، بل شمل معظم الدولة الإسلامية المعاصرة. ولا هو من مخترعات الإسلام؛ لأنه كان شائعًا في معظم الدول القديمة، فاسطفان المعتق (المولى) استبد بشؤون الدولة الرومانية من قتل وتنصيب وعزل، وكذلك سليمان الخصي وغيرهما.

أما في الإسلام فاشتهر من الخدم في مناصب الدولة جماعة كبيرة، تولوا القيادة أو الإمارة أو بيت المال أو غير ذلك من المناصب الكبرى. فبدر غلام المعتضد تولى قيادة الجند ونقش اسمه على التروس والأعلام، وأبلى في خدمة مولاه بلاءً حسنًا حتى قتل في سبيل نصرته سنة ٢٨٩ﻫ١٩ وبجكم أصله من الغلمان، وارتقى حتى صار أمير الأمراء وهي أعلى رتب الدولة العباسية في عصرها الثاني٢٠ وجوهر قائد جند الفاطميين الذي فتح لهم مصر وبنى القاهرة في أواسط القرن الرابع للهجرة كان مملوكًا روميًّا، وبلغ من تعظيمهم أمره وإكرامه أنه لما أقلع عن المغرب قادمًا إلى مصر لفتحها ترجل أولاد الخليفة المعز وأهله، ومشوا بين يديه،٢١ وكان قبله كافور الأخشيدي، وهو خصي أسود ارتقى بمصر حتى استقل بأحكامها سنة ٣٥٥ﻫ، ويانس الصقلي الخصي أصله خادم مؤنس الخادم تقدم مع ذلك في أعمال الدولة، وعظمت منزلته حتى ولي الولايات وتداخل في السياسة. وبرجوان الستاذ كان خصيًّا أبيض ارتقى في الدولة الفاطمية إلى رتبة الوزارة، ووزر للعزيز بالله والحاكم وتلقب بأمين الدولة، وهو أول من لقب بذلك في الدولة الفاطمية٢٢ وقراقوش الطوشي وزير صلاح الدين الأيوبي بلغ أرقى مناصب الحكومة في الدولة الأيوبية. وعميد الملك أحد كبار القواد الأتراك كان من الخصيان، وكذلك شقير الخادم صاحب البريد في مصر والشام أيام بني طولون. ومؤتمن الخلافة في الدولة الفاطمية كان خادمًا خصيًّا، وقس على ذلك تقدم الصقالبة في دولة بني أمية بالأندلس، وتقدم الخصيان في دولة السلاجقة وبني بويه وسائر دول الإسلام في تلك العصور.

(٥) تأثير النساء في سياسة الدولة

للمرأة تأثير كبير في أعمال الرجل، مهما يكن نوعها وفي أي عصر كان وأية أمة كانت، وإن اختلف مقدار ذلك التأثير باختلاف عادات الأمم وآدابها. فإذا كانت الدولة ملكية مطلقة كان للمرأة شأن كبير في سياستها، حتى في الإسلام مع شيوع الطعن في آرائهن وقولهم: أن مشاورتهن في الأمور مجلبة للعجز ومدعاة إلى الفساد. وما من عظيم من عظماء الإسلام إلا ونهى عن مشورتهن وإدخالهن في الأمور. قال المنصور في وصيته لابنه المهدي: «إياك أن تدخل النساء في أمرك»، وقال النخعي: «من اقتراب الساعة طاعة النساء»، وقال أبو بكر: «ذل من أسند أمره إلى امرأة»، ولعلي أقوال كثيرة في النهي عن مشورة النساء، ومع ذلك فقد أثرت المرأة في سياسة الدولة تأثيرًا عظيمًا.

(٥-١) أمهات الخلفاء

وتأثير النساء في الدولة من قبيل تأثير الأم في الأبناء، وقد بينا ذلك في باب الأمومة، ويعظم أثره على الخصوص في تأثير أمهات الخلفاء على أولادهن، ولا سيما في أواسط الدولة عند احتجاب الخلفاء واستسلامهم إلى الخدم.

على أن العباسيين حتى في صدر الدولة كانوا يصغون إلى النساء، فأحرزت المرأة نفوذًا كبيرًا وخصوصًا أمهات الخلفاء، وأول من استبد منهن الخيزران أم الهادي والرشيد، وهي قرشية وكانت ذات نفوذ وقوة يخافها أولادها، ومن خالفها منهم أو اعترضها قتلته. وكانت في أيام زوجها المهدي صاحبة الأمر والنهي وهو يطاوعها، فلما تولى ابنها الهادي أرادت الاستبداد بالأمور دونه، وأن تسلك به مسلك أبيه، فلم يمض أربعة أشهر حتى انثال الناس إليها، وكانت المواكب تغدو وتروح إلى بابها فساءه ذلك، وكلمته يومًا في أمر فلم يجد إلى إجابتها فيه سبيلًا فقالت: «لا بد من إجابتي إليه فإني قد ضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك» فغضب الهادي وقال: «ويلي على ابن الفاعلة! قد علمت أنه صاحبها، والله لا أقضيها لك»، قالت: «إذن والله لا أسألك حاجة»، قال: «لا أبالي»، وقامت مغضبة فصاح بها: «مكانك … والله إنا نفي من قرابتي من رسول الله، لئن بلغني أنه وقف بباك أحد من قوادي أو خاصتي لأضربن عنقه ولأقبضن ماله. ما هذه المواكب التي تغدو وتروح إلى بابك؟ أما لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك أو بيت يصونك؟ إياك وإياك لا تفتحي بابك لمسلم ولا ذمي!»، فانصرفت وهي لا تعقل، ولم تنطق عنده بعدها. ثم إنه قال لأصحابه: «أيما خير: أنا أم أنتم، وأمي أم أمهاتكم؟»، قالوا: «بل أنت وأمك خير» قال: «فأيكم يحب أن يتحدث الرجال بخير أمه فيقال: فعلت أم فلان وصنعت؟» قالوا: «لا نحب ذلك»، قال: «فما بالكم تأتون أمي فتتحدثون بحديثها؟»، فلما سمعوا ذلك انقطعوا عنها فحقدتها عليه، حتى إذا علمت أنه يريد خلع أخيه الرشيد والبيعة لابنه جعفر أمرت بعض جواريها بقتله بالغم والجلوس على وجهه٢٣ فقتلنه.
فلما كانت أيام الرشيد استبدت الخيزران بالأحكام، واحتشدت الأموال فبلغت غلتها في العام ١٦٠ مليون درهم، أي: نحو نصف خراج المملكة العباسية في ذلك العهد، ولما ماتت توسع الرشيد بأموالها. وقس على ذلك ثروة سائر أمهات الخلفاء.٢٤
أما من حيث النفوذ فقد كان للسيدة أم المقتدر — وهي تركية — سطوة غريبة على رجال الدولة في خلافة ابنها، وكانت تتصرف في الأحكام دونه بالاشتراك مع الحجاب والخدم، وكان الوزراء يهابونها ويرتعدون خوفًا من ذكرها.٢٥
ويقال نحو ذلك في أم المستعين بالله المتوفى سنة ٢٥١ﻫ، وكانت صقلية الأصل، فأطلق المستعين في أمور الدولة يدها ويد اثنين من قواد الأتراك هما أتامش وشاهك الخادم، فكانت الأموال التي ترد إلى بيت المال من النواحي يصير معظمها إلى هؤلاء الثلاثة.٢٦

على أن تسلط النساء في الدولة العباسية كان على معظمه في أيام المقتدر، لتسلط الخدم والحجاب، وقد اشتهر من النساء في ذلك العهد السيدة أم المقتدر والخالة وأم موسى الهاشمية القهرمانة، فهؤلاء كن يرتشين بالاشتراك مع موسى الخادم ونصر الحاجب والكتاب ونحوهم، ويمشين الأمور كما يردن ويريد هؤلاء، وكان لأم موسى المذكور دهاء ونفوذ، حتى تكفلت مرة بالخلافة لأحد العباسيين من أصهارها، وأخذت تبذل الأموال للقواد وغيرهم، فوشى بعضهم إلى المقتدر فقبض عليها وأخذ منها أموالًا عظيمة، وقس على ذلك نفوذ نساء القصور في الدولة العباسية، وهو من قبيل نفوذ الموالي في هذه الدولة؛ لأن أكثر أولئك النساء من غير العرب.

(٦) فساد الأحكام في الدولة العباسية

(٦-١) التنازع على النفوذ

بلغت الدولة العباسية عصرها الذهبي في أيام خلفائها الأولين، وخصوصًا الرشيد والمأمون بتدبير الوزراء الفرس ولا سيما البرامكة. فاتسع سلطانها في أيامهم وامتدت سطوتها على معظم العالم المعمور في ذلك العهد، فبلغت الهند شرقًا والمحيط الأطلسي غربًا وبلاد سيبيريا وبحر قزوين شمالًا وبحر فارس وبلاد النوبة جنوبًا. وقد بينا أقسامها وجغرافيتها في الجزء الثاني. فلما نكب البرامكة ثم استبد الجند التركي بالحكومة أصبحت الأحكام فوضى، وخصوصًا بعد المتوكل؛ لأنهم أقدموا على قتله وكان ذلك فاتحة جرأتهم على الخلفاء بعده من عزل وتولية وقتل وسمل. فعجز الخلفاء عن القيام بشؤون الدولة، وهم أصحابها المسؤولون عنها والأحكام تصدر بأسمائهم، وإن كانوا مدفوعين إلى إجراءاتهم ببعض أرباب النفوذ في بلاطهم، من الوزراء والقواد. فأقدرهم على إرضاء الخليفة أو أشدهم دهاءً ومكرًا يفضي النفوذ إليه، فإذا ملك قياد الحكومة بذل جهده في حشد الأموال، إذ لا يأمن أن يستبدل هذا الخليفة بآخر لا يرضاه، أو لعل بعض أعدائه يغلبه بدسائسه وسعايته فيعزله، فإذا لم يكن له مال عاش ذليلًا مهانًا. على أن القواد كانوا يحاولون الاستئثار بالنفوذ في بلاط الخليفة بالتهديد أو بالوشاية، ويختلف ذلك باختلاف الأحوال والأشخاص.

ويقال بالإجمال إن النفوذ أصبح ضائعًا بين الوزراء والقواد، وكلاهما لا يرجون من وراء عنايتهم وجهدهم منفعة لأنفسهم، غير ما يكتسبونه من المال في أثناء نفوذ كلمتهم. فأصبح الغرض الأول من تمشية الأحكام إنما هو حشد المال. فالوزير الذي يتولى أمور الدولة ولا يدري ما يكون مصيره بعد عام أو عامين من عزل أو قتل أو حبس لا يهمه غير الكسب من أي طريق كان، ولا يبالي بما قدم يترتب على ذلك فيما بعد، عملًا بالقاعدة التي وضعها ابن الفرات كبير وزراء ذلك العصر، وهي قوله: «إن تمشية أمور السلطان على الخطأ خير من وقوفها على الصواب».٢٧
وانتبه الخلفاء إلى مطامعهم، فأصبحوا إذا عزلوا وزيرًا صادروه وأخذوا أمواله، وقد فصلنا ذلك في باب المصادرة في الجزء الثاني من هذا الكتاب، ثم عمت المصادرة سائر رجال الحكومة، حتى الرعية، وأصبحت بتوالي الأيام المصدر الرئيسي لتحصيل المال. فالعامل يصادر الرعية، والوزير يصادر العمال، والخليفة يصادر الوزراء ويصادر الناس على اختلاف طبقاتهم، حتى أنشأوا للمصادرة ديوانًا خاصًّا مثل سائر دواوين الحكومة٢٨ فكان المال يتداول بالمصادرة كما يتداول بالمتاجرة.

(٦-٢) أنواع المصادرة ومقاديرها

قال الوزير ابن الفرات: «تأملت ما صار إلى السلطان من مالي فوجدت ١٠ ملايين دينار، وحسبت ما أخذته من الحسين بن عبد الله الجوهري (ابن الجصاص)، فكان مثل ذلك» فكأنه لم يخسر شيئًا؛ لأنهم كانوا يقبضون بالمصادرة، ويدفعون بالمصادرة. وإذا صودر أحدهم على مال لم يكن في وسعه أداؤه كله معجلًا أجلوه بالباقي، وساعدوه على تحصيله أو جمعه برد جاهه وتغيير زيه وإنزاله في دار كبيرة فيها الفرش والآلة الحسنة؛ ليستطيع التمحل في جمع الأموال من الناس.٢٩
وتعددت أسباب المصادرة وجهاتها، حتى أصبح كل صاحب مال أو منصب عرضة لها. وهاك قائمة بما قبضه ابن الفرات من المصادرة على أيام الراضي بالله، ننشرها بنصها حرفيًّا أنموذجًا لأنواع المصادرات ومقاديرها:٣٠
دينار
٧٣٠٠ من أحمد بن محمد البسطامي عن النصف مما بقي عليه من مصادرته لسنة ٣٠٠ﻫ.
١١٠٠٠ من علي بن الحسين الباذبيني الكاتب عما تولاه بالموصل.
٣٠٠٠٠ من محمد بن عبد الله الشافعي عما تصرف فيه لعلي بن عيسى.
٨٠٠٠٠ من محمد بن علي بن مقلة عما تصرف فيه.
١٠٠٠٠٠ من محمد بن الحسين المعروف بأبي طاهر.
١٣٠٠٠ من الحسن بن أبي عيسى الناقد عما ذكر أنه وديعة لعلي بن عيسى.
٤٠٠٠ ومنه أيضًا عن نفسه.
٢٠٠٠٠ من إبراهيم بن أحمد المادرائي.
٣٦٣٦٠ من عبد الواحد بن عبد الله بقية مصادرة والده.
١٠٠٠٠ من أحمد بن يحيي عن مصلحة وجبت.
٦٠٠٠ من إبراهيم بن أحمد الجهبذ عن صلحه.
٤٠٠٠ من محمد بن عبد السلام عما عنده من الوديعة لمحمد بن علي وإبراهيم المادرائي.
٤٠٠٠٠ من عبد الوهاب بن أحمد بن ما شاء الله عن صلحه.
١٠٠٠٠ من محمد بن عبد الله بن الحرث عن صلحه.
٢٥٠٠٠٠ من محمد بن أحمد عما تصرف فيه بالموصل وغيرها.
١٥٠٠٠ من إبراهيم المادرائي عن الباقي عليه.
٣٠٠٠ من أبي عمر بن الصباح عن الباقي على ابن العباس أحمد.
٧٠٠٠ من علي بن محمد بن الحواري وقتل.
٧٠٠٠ من هرون بن أحمد الهمذاني.
٢٠٠٠ من عبد الله بن زيد بن إبراهيم.
١٥٠٠٠ من عبد الله بن زيد صلحًا عن نفسه.
٦٠٠٠٠ من علي بن مأمون الإسكافي وقتل.
٧٠٠٠٠ من يحيي بن عبد الله عما تصرف فيه مع حامد.
١٣٠٠٠٠٠ من حامد بن عباس وقتل.
١٥٠٠٠٠ من محمد بن حمدون الواسطي.
٤٢٠٠٠ من علي بن عيسى.
١٠٠٠٠ من إبراهيم جهبذ حامد بن عباس.
١٢٠٠٠٠٠ من الحسن المادرائي.
١٠٠٠٠٠٠ ومنه أيضًا.
١٠٠٠٠٠٠ من محمد المادرائي.
١٠٠٠٠ ومنه أيضًا بخط آخر.
درهم
٢٠٠٠٠ من أبي الفضل محمد بن أحمد بن بسطام.
٥٠٠٠٠٠ من علي بن الحسن الباذبيني صلحًا عما تصرف فيه بالموصل وقتل.
١٠٠٠٠٠ من أبي عمر بن الصباح عن ضمانة الباقي من مصادرة أبي ياسر.
١٠٠٠٠٠ من عبد الله بن أحمد اليعقوبي.
١٠٠٠٠٠ من الحسن بن إبراهيم الخرائطي صلحًا عما اقتطعه من مال الرئيس.
١٠٠٠٠٠ من الحسين بن علي بن نصير.
٢٠٠٠ من علي بن محمد بن أحمد السمان عن ورثة قرقر.
١٠٠٠٠ من أبي بكر الجرجاني من ضياع بن عيسى.
٢٣٠٠٠٠ من الحسين بن سعد القطربلي.
١٥٠٠٠٠٠ من محمد بن أحمد …
٣٠٠٠٠٠٠ من أبي الحسن بن بسطام.
٥٠٠٠٠ من أحمد بن محمد بن حامد بن عباس.
٢٣٠٠٠٠ من سليمان بن الحسن بن مخلد.

(٦-٣) ابتزاز الأموال

فالوزير يتولى الوزارة عامًا أو عامين، ثم يعزل أو يستقيل وله عدة ملاين من الدنانير، فضلًا عن الضياع والمباني، وقد اكتسب هذه الثروة بالرشوة ونحوها من أسباب المظالم. وكان الوزير لا يولي عاملًا على ولاية ما لم يقبض منه مالًا على سبيل الرشوة يسمونه «مرافق الوزراء». ومن أغرب حوادث التولية بالرشوة أن الخاقاني وزير المقتدر بالله ولي في يوم واحد تسعة عشر ناظرًا للكوفة وأخذ من كل واحد رشوة. وإذا لم يكن للعامل أو الناظر ما يفي المبلغ المتفق عليه مع الوزير، دفع بعضه معجلًا وأجل البعض الآخر إلى مدة معينة أو غير معينة، والخلفاء يعلمون ذلك ولا ينكرونه أو يرون فيه غرابة أو ظلمًا.

والعامل الذي يتولى عمله بالرشوة وهو لا يزال مدينًا ببعضها يهون عليه ابتزاز أموال الرعية — أو هو يطلب الولاية لهذه الغاية — فيأخذ العمال في حشد الأموال، إما بالتلاعب في جباية الحكومة، فينفقون دينارًا في بعض مصالحها فيقيدونها عليها عشرة دنانير، أو باستخراج أموال الرعية بالرشوة، أو بضرب الضرائب الفادحة على الباعة وأهل الأسواق في المدن٣١ أو بسلب الفلاحين في القرى بعض غلاتهم، وقد يقاسمونهم إياها فإن بعض العمال كان يبعث رجاله إلى البيدر فيقسمونه كما يشاءون، وإذا تكلم الأكار (الفلاح) شتموه وحلقوا لحيته وضربوه٣٢ وقد لا يرضيهم ذلك فيغتصبون الضياع برمتها.
ومن أغرب طرق الاغتصاب أن يغتصب العامل أو الوزير أو غيرهما من رجال الدولة ضيعة لبعض الناس، فيأخذها بغير ثمن ويستغلها لنفسه، وإذا استحق عليها الخراج أداه صاحبها الأول، مخافة أن يثبت الملك لمغتصبها إذ يدون خراجها باسمه في الديوان فيبطل حق مالكها في ملكيتها،٣٣ فيضطر المالك إلى دفع الخراج أعوامًا ريثما يتوفق إلى من ينصفه ممن يفضي النفوذ إليهم من أهل العدالة أو يهتدي إلى وساطة أو حيلة.
ناهيك بما كانوا يغتصبونه من أموال الرعية باقتضاء خراج الأرض مضاعفًا أو مكررًا، على أنهم قد يرون لهم نفعًا من ترك خراج بعض الأرضين، فيتركونه لأصحابها على أن يخدموهم في مصلحة لهم، وربما بلغ مقدار الخارج المتروك مالًا كثيرًا جدًّا. فقد كان لرجل يدعى أبا زنبور في وزارة ابن الفرات ضياع مساحتها مئة فرسخ بمئة فرسخ لم يأخذ منه من حقوق بيت المال درهمًا،٣٤ وكثيرًا ما كانوا يتركون أمثال هذه الضياع بلا خراج لأهل الوساطة أو الدالة أو النفوذ عند الخليفة أو غيره.

(٦-٤) الجاسوسية واللصوصية

ومن وسائل ابتزاز الأموال أن يقسط الوزير أو من يقوم مقامه على أرباب الدواوين والقضاة أو غيرهم مالا على وجه القرض، على أن يسبب لهم عوضه من أهل النواحي،٣٥ فتقع الخسارة على الرعية. فتضايق أهل الأسواق في المدن والفلاحون في القرى والرساتيق وضاقت أبواب الرزق على الناس، وأصبحت الحقوق فوضى، من استطاع حيلة في اختلاس المال سرًّا أو جهرًا استخدمها، وكثر العيارون والشطار في المدن، وتعدد اللصوص في القرى، وفيهم جماعة أصلهم من جنود الدولة، طمع الوزراء أو القواد في أرزاقهم فخرجوا يتعرضون للمارة ويسلبونهم أموالهم وأمتعتهم، وإذا عوتبوا أو حوكموا احتجوا بذلك. وكان قطاع الطرق يسطون على قوافل التجار ويأخذون أموالها باعتبار أنها حق لهم؛ لأن أصحابها لم يؤدوا زكاتها لبيت المال وقد منعوها، وتجردوا فتركت عليهم فصارت أموالهم بذلك مستهلكة، واللصوص في حاجة إليها بسبب فقرهم فإذا أخذوا تلك الأموال — وإن كره التجار أخذها — كان ذلك لهم مباحًا؛ لأن عين المال مستهلكة بالزكاة وهم فقراء يستحقون أخذ الزكاة شاء أرباب الأموال أو كرهوا؛٣٦ لأن الزكاة صدقة تؤخذ من أغنياء المسلمين وتفرق في فقرائهم، وكان لها شأن كبير في أول الإسلام ثم أهملت في أواسط الدولة العباسية، فاتخذ اللصوص ذلك حجة لسلب أموال التجار.
وزد على ذلك ما نجم عن فساد الأحكام من الضيق المالي وغلاء الأسعار في المدن، وما انتشب من الفتن بين الأحزاب ولا سيما السنة والشيعة، وراجت الدسائس وتكاثرت السعايات برجال الدولة، وانتشرت الجاسوسية في قصور الخلفاء ودواوين الوزراء والكتاب. وأصبح لكل منهم جواسيس على الآخرين ينقلون إليه أخبارهم، فتسابق أسافل الناس إلى السعاية بأفاضلهم، يرفعون إلى الخليفة أو إلى صاحب النفوذ في دولته كتبًا يختلقون بها المطاعن على الأبرياء للانتفاع بأذاهم. وأكثر ما تكون وشايتهم بأهل الدولة في حال اعتزالهم، أو فيمن يخافونهم إذا ألقيت مقاليد الأحكام إليهم، وقد يجتمع عند الخليفة أو الوزير صناديق مملوءة بتلك الكتب، فإذا تكاثرت أو ذهبت الحاجة إليها أحرقوها.٣٧

فلما فسدت الأحكام في دار الخلافة، واستبد الوزراء والقواد بشؤون الدولة، رأى العمال في الولايات أن يجتزئوا من ذلك الاستبداد في ولاياتهم، فأخذوا يستقلون فتشعبت المملكة العباسية إلى ممالك يحكمها الأمراء من الفرس والأتراك والأكراد والعرب وغيرهم. ومنها ما جاءها التغلب من الخارج ففتحها، كما أصاب مصر لما فتحها الفاطميون.

(٧) تفرق المملكة العباسية

لما أصبحت الدولة العباسية فيما تقدم من فساد الأمور، والفوضى في سلطتها وأحكامها بين الفرس والأتراك، أو بين الوزراء والأجناد، أو بين الخدم والنساء، وذهبت هيبة الخلفاء بما أصابهم من التضييق والاحتقار، هان على عمالهم في أطراف المملكة أن ينفصلوا عنهم بأحكامهم الإدارية والسياسية، وأن يستأثروا بجباية أعمالهم وهو الاستقلال. وكان أسبقهم إليه أبعدهم عن مركز الخلافة. وأسبق عمال العباسيين إلى ذلك إبراهيم بن الأغلب في شمال إفريقيا استقل سنة ١٨٤ﻫ، ولا يعد استقلاله من نتائج فساد الدولة؛ لأنه حدث في عصر الرشيد والدولة العباسية في معظم سطوتها، وإنما ساعده على ذلك بعده عن مركز الخلافة. وأم استقلال العمال بذهاب هيبة الخلفاء أو اختلال شؤون الدولة، فالأسبق إليه الفرس ثم الأتراك فالأكراد، مثل تواليهم في التغلب على الخلفاء. وتدرج كل من هذه الأمم من العمالة إلى الإمارة إلى الملك أو السلطنة. فأول من استقل من الفرس العمال، فأنشأوا الإمارات الصغرى ثم الدول الكبرى، وكذلك فعل الأتراك والأكراد. فنقدم الكلام عن الفروع الفارسية، ثم نذكر الفروع التركية والكردية. أما العربية فسيأتي ذكرها في الكلام على العصر العربي الثاني.

١  المسعودي ٢٤٦ ج٢.
٢  ابن الأثير ١٨١ ج٧.
٣  ابن خلكان ٤١ ج٢.
٤  اليعقوبي: تقويم البلدان ٣٣.
٥  الفخري ٢٢٠.
٦  ابن الأثير ٧٧ ج٧.
٧  ابن الأثير ١٧٧ ج٨.
٨  ابن الأثير ١٧٣ ج٨.
٩  ابن الأثير ٢٦٤ ج٩.
١٠  ابن الأثير ١٧٦ ج٨.
١١  ابن الأثير ٢١٠ ج٨ و٢١٦ ج٩.
١٢  المقريزي ٢١٣ ج٢.
١٣  ابن الأثير ٢٦٤ ج٩.
١٤  ابن الأثير ١٢٠ ج٦.
١٥  الفخري ٢٩٧.
١٦  ابن الأثير ١٢٦ ج٨.
١٧  المسعودي ٣٤٠ ج٢.
١٨  الفخري ٢٣٤ يريد البيزنطية.
١٩  ابن الأثير ٢٠٥ ج٧.
٢٠  ابن الأثير ١٣٣ ج٨.
٢١  المقريزي ٣٧٧ ج١.
٢٢  ابن الأثير ٩٤ ج٩.
٢٣  ابن الأثير ٤١ ج٦.
٢٤  الجزء الثاني من هذا الكتاب.
٢٥  تاريخ الوزراء ٦٧.
٢٦  ابن الأثير ٤٧ ج٧.
٢٧  تاريخ الوزراء ١١٩.
٢٨  تاريخ الوزراء ٣٠٦.
٢٩  الفرج بعد الشدة ٥١ ج١.
٣٠  تاريخ الوزراء ٢٢٤.
٣١  ابن الأثير ١٢٩ و٢٠٣ ج١٢.
٣٢  تاريخ الوزراء ٩٣.
٣٣  الأغاني ٤٧ ج٢٠.
٣٤  تاريخ الوزراء ٩٤.
٣٥  تاريخ الوزراء ٢٦٢.
٣٦  الفرج بعد الشدة ٥١ ج١.
٣٧  تاريخ الوزراء ٢٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤