انحلال الدولة الإسلامية

من قيام جنكيزخان سنة ٦٠٣ﻫ، حتى وفاة تيمور لنك سنة ٨٠٧ﻫ

قد رأيت فيما تقدم أن الدولة العباسية، لما فسدت أحكامها وضعف شأن خلفائها واستبد بها جندها وخدمها، ضعفت علاقة أطراف مملكتها بدار الخلافة، فتفرعت إلى فروع بعضها فارسي وبعضها تركي أو كردي والبعض الآخر عربي، وكلها تبايع للخليفة العباسي في بغداد، حتى نشأت الدولة الفاطمية في المغرب وخلافتها علوية، ففتحت مصر ونازعت الدولة العباسية على الشام وغيرها، ثم أصابها ما أصاب تلك فمالت إلى الشيخوخة مثلها، ولكنها انقرضت قبلها على يد صلاح الدين الأيوبي، وعادت مصر إلى مبايعة العباسيين.

على أن الخلافة العباسية كانت يومئذ قد بلغت منتهى الضعف، واستبد السلاجقة بمملكتها في الشام والعراق وفارس وما وراء النهر حينًا، ثم اقتسمها مماليكهم الأتابكة كما تقدم.

فانقضى القرن السادس للهجرة والمملكة الإسلامية قد تولاها الضعف والانقسام، ولا سيما في المشرق بمن تنازع على سلطتها من الأتراك قواد السلاجقة ومماليكهم، وأهمهم الخوارزمية في خراسان وتركستان، والخلافة العباسية قد تناهت في الضعف وبلغت الهرم، حتى أشرفت على الانحلال، وإنما استبقاها أصحاب الأطراف ليستعينوا بها على تأييد سلطانهم بالبيعة، وأصبحت مملكتهم الواسعة تتنازعها ثلاث أمم، كأنهم اقتسموها فيما بينهم، وهم:
  • (أ)

    الأتراك السلاجقة وقوادهم في المشرق.

  • (ب)

    والأكراد الأيوبية في مصر والشام.

  • (جـ)

    والبربر في المغرب والأندلس (الموحدون).

وقد ذهبت دولة العرب ذهابًا تامًّا إلا إمارات صغيرة بقيت في اليمن ونحوها. وهذه الدول على اختلاف أجناسها وأطوارها مجمعة على مبايعة الخليفة العباسي في بغداد على ضعفه وانحلال دولته، ولكنها تختصم على الاستئثار بالسلطة في العالم الإسلامي.

فلما رأى أعداء الدولة الإسلامية المحيطون بها ضعفها وانقسامها عمدوا إلى الانتقام منها، فأغاروا عليها من الشمال والغرب والشرق وكل منهم يريد اغتيالها. فهاجمها الكرج والأرمن واللان من الشمال هجوم الغزاة للسلب والنهب، حتى إنهم كثيرًا ما كانوا يدخلونها بعشرات الألوف فيكتسحون أذربيجان وما جاورها، يقتلون وينهبون ويعودون بالأسرى والسبايا والغنائم، وكانت سبايا المسلمين تزيد أحيانًا عن عدة آلاف غير القتلى١ — كما كان العرب يفعلون في أوائل دولتهم. على أنهم لم يستطيعوا فتحًا ولا رسخت لهم قدم في مملكة الإسلام.

وهجم عليها من الغرب أمم الإفرنج الصليبيين هجوم الفتح، وقد تكاتفوا لاكتساح المملكة الإسلامية بحجة الدين؛ لأن القبر المقدس فيها، ففتحوا فلسطين وبعض سوريا وملكوا بيت المقدس حينًا، ولو اجتمعت كلمتهم لافتتحوا ما وراء ذلك، ولكنهم انقسموا على أنفسهم وجاءهم صلاح الدين الأيوبي ببسالته ودهائه وتدبيره، فغلبهم على ما في أيديهم وأخرجهم من بيت المقدس سنة ٥٨٣ﻫ، فضعف أمرهم وأخذ المسلمون يستعيدون البلاد منهم شيئًا فشيئًا، حتى أزالوهم من الشام تمامًا على أيام الناصر قلاوون.

أما من الشرق فجاءها التتر أو المغول بقبائلهم وبطونهم، وهم في خشونة البداوة وقوة الأبدان، وقد توفقوا إلى رجل شديد البطش وهو جنكيزخان القائد الشهير، فحمل بهم من أواسط آسيا على العالم المتمدن في أوائل القرن السابع للهجرة، وليس للمسلمين يومئذ رجل مثل صلاح الدين، فدوخ جنكيزخان مملكة الإسلام من أقصى أطرافها الشرقية إلى حدود العراق، غير ما افتتحه من بلاد الهند والصين حتى بلغت مساحة مملكته ٤٠٠٠٠٠ ميل مربع.

١  ابن الأثير ١٢٨ ج١١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤