الفصل السادس

في تاريخ قدماء الرومان

(١) تأسيس مدينة روما

اعلم أن اللذين أسسا مدينة روما هما «رومولوس» و«ريموس»، من سلالة ملوك «ألب لالنغ» سنة ٧٥٣ق.م، ووضعا هذه المدينة على نهر التبر، ثم جعلاها بعد ذلك تختًا لملكهما، ثم قتل «رومولوس» أخاه «ريموس» وانفرد بالحكم، واشتغل بالجهاد والحروب مع من جاوره من الأمم لا سيما السابينيين، فإنه قتل رجالهم وسبى نساءهم وأدخلهم تحت طاعته، ثم قسم الأراضي بين رعاياه، وأسس مجلسًا مكونًا من مائة عضو، وسماه مجلس السناتو — أي مجلس الأعيان — ليقوم بخدمة المملكة، وقسم الأهالي ثلاثة أقسام؛ أشراف الناس، والشوالية، وهم اللذين يخرجون إلى الحرب بخيولهم. وفقراؤهم وعامتهم، ثم تجبر وتنمرد، فقتله أرباب المجلس، وأشاعوا أنه رُفع إلى السماء، فعبدوه وسموه «كيرينوس»، وذلك سنة ٧١٦ق.م.

وبعد موت «رومولوس» بقي التخت بلا ملك نحو سنة، وكان الحكم في هذه الفترة لأعضاء المجلس، ثم اتفق أهل المدينة على تولية رجل يدعى «تومامبليوس» ملكًا عليهم، فسار فيهم سيرًا حسنًا واجتهد في تهذيب أخلاقهم، ورتب لهم محافل دينية، وأسس طائفة الرهبان الوستالية — أي لعبادة الإله «وستا» — ومات بعد أن حكم ٤٣ سنة، وذلك سنة ٦٧٢ق.م ومن ملوك روما أيضًا تركان الثاني الملقب بالتكبر، وهو السابع من ملوكهم، جلس هذا الملك على تخت المملكة قهرًا عن أهل المدينة، حينما قتلت زوجته «توليا» أباها سيرويوس توليوس، ونفى رؤساء المجلس السناتو، وجعل معيته رجالًا أغرابًا، وجعل على الأهالي ضرائب مختلفة، فأذعنوا له وأدوها إليه، ثم إن ابنه سكستوس فحش بامرأة تسمى لوقريس، فقتلت نفسها، وأوصت زوجها أن يأخذ بثأرها، وعند ذلك بلغ نفور قلوب الأهالي منه منتهاه، فانتهز الفرصة نمونيوس بروطوس، وكان الملك «تركان» هذا قد قتل أباه وأخاه، فحرض أهل المدينة على العصيان وإشهار السلاح، ولم يكن الملك «تركان» وقتئذ بالمدينة، فأجمعوا على نفيه مع عائلته مدة حياته، وإبطال السلطنة الملوكية، ونشروا في ذلك قرارات، وذلك سنة ٥٠٩ق.م.

(٢) تأسيس الجمهورية الرومانية

وبعد طرد «تركان» سنة ٥١٠ق.م وخروجه من المدينة شرعوا في تأسيس الحكم بكيفية جديدة، فأجمعوا على عقد جمعية من مشاور الفرق المئينية؛ لانتخاب حاكمين — أي قنصلين — لإجراء الأحكام العليا، فكانت سطوتهما كسطوة الملوك، إلا أنهما لا يحكمان إلا سنة واحدة، فوقع الانتخاب أولًا على بروطوس وقللتان زوج لوقريس المذكورة، فلم يعد على الأمة من هذه التغيرات فائدة؛ لأنه بعد أن كان الظالم واحدًا صار متعددًا، وصار أهل المدينة حزبين أغراضهما مختلفة؛ أحدهما الأشراف، وغرضهم أن يكون الحكم لهم، والثاني الرعاع، ورغبتهم أن يكون لهم دخل في الحكم، ومكث تركان بعد طرده يحارب أهل المدينة مدة مديدة من الزمن فلم ينجح، وقيل إنه فتح المدينة لكن تركها لعصيان رعيته.

(٣) الشقاق الداخلي بين الرعاع والأشراف

لما صارت الحكومة جمهورية سطت يد القوي على الضعيف، وتجاهر بعض الأهالي بالعصيان، فحصل بروما نزاع عظيم بين رعاع الناس وأشرافهم؛ بسبب معاملة الأشراف لهم من شدة الظلم والصعوبة في الحكم، فخرجت الرعاع وتركت المدينة إلى جبل صغير مجاور لها يسمى الجبل المقدس، فلما شاهد ذلك مجلس السناتو التزم بأن ينتخب قاضيين يقومان بالمدافعة عن حقوقها؛ لأجل تهديد تلك الأمة، فصار بعد ذلك قاضيان نائبان عن الأمة، وصار الحكم في أيديهم يتزعزع كما كان في يدي مجلس السناتو، وانتهى أخيرًا بتفريق الجمهورية وشطاطها، وبعد مضي زمن قليل قالوا على حسب ما بدا لهم من رأي العين أن لا يحكمان بالقوانين الموضوعة في الأصل إلا بعد إضافة بعض أحكام أخر لها، ولأجل نهي ذلك الأمر أرسلوا رسولين إلى مدينة أتينا لإحضار قوانين سولون، وعند رجوع الرسولين من تلك المأمورية كلف عشرة رجال من الأشراف بتحرير تلك القوانين، وأطلقوا عليهم «جمعية انتخاب القوانين»، فعملوا ما أمروا به، ولكن درجوا ما ليس هو مدون فيه من الظلم والعدوان، فقامت عليهم الأمة لما ظهر لها من ظلمهم وجورهم وطردوهم، وأما المسيو «أبيوس كوديوس» الذي كان فائقًا في الظلم فكان عقابه الموت، وبعد ذلك حصل بين هاتين الأمتين معاهدات عظيمة، أهمها عقد الزواج بينهما، وبعد مضي ٧٠ سنة حصل من أحد قضاة الأمة المسمى سيسينوس ستولون هيجان عظيم، بقوله إن القانون لا يجوِّز لأي وطني أن يستأجر أكثر من ٥٠٠ فدان من الأراضي الميرية، ولا بد أن أحد القضاة يكون من أصاغر الناس — أي من عائلة فقيرة — فلم يقبل منه ذلك إلا بعد مضي عشر سنوات أي بعد انقطاع الشقاق الداخلي.

وفي سنة ٣٦٦ق.م كان أول قاضٍ في البلد هو سيكتيوس من أسافل الناس، وأخيرًا فإن صحة أقوال ذلك القانون تم قبولها بواسطة رعاع الناس بشرط أن يستحقوا ألقاب الشرف أو رؤساء الديانة، وقد انقطع من وقتئذ الشقاق الداخلي من تلقاء نفسه الذي جعل روما منذ مدة مديدة في اضطراب عظيم، وتقدمت في فتوحاتها من ذلك الوقت تقدمًا لا يدرك العقل سبيل كنهه.

(٤) إغارة الغول على روما سنة ٣٩٠ق.م

ولما كانت الحرب عند الرومانيين من أعظم الوسائل لاتساع مملكتهم، تقدم عندهم هذا الفن واشتهروا به، وحيث كانت مصاريف الحرب في أول الأمر على الأهالي فكانت أيامه قصيرة، وكانوا إذا مضى عليهم في الحرب عشرون أو ثلاثون يومًا قعدوا عنه وانصرفوا لأشغالهم، فأشار مجلس السناتو بترتيب ماهية للعساكر، فقبلت الأهالي منه ذلك وعدُّوه إحسانًا، وفي ذلك الوقت ابتدأت شوكة الجمهورية في الظهور لدوام جيوشها تحت السلاح، ولولا الوسائل التي بها حجز الرؤساء العسكرية تحت السلاح لما نجحوا في واقعة مدينة «وييس» التي مكثوا في محاصرتها عشر سنين، وكان الفخر في هذه المدينة التي هي قرينة مدينة روما لكاميل — أحد الجنرالات الرومانية — وذلك قبل المسيح بنحو ٤٠٥ سنة، فكوفئ هذا الرجل الشهير بالنفي؛ لأنه اتُّهم ظلمًا وعدوانًا بإخفاء جزء من الأموال المغتنمة من المدينة المذكورة، فلما حُكم عليه بالنفي ذهب إلى الأدرياتيين وأقام عندهم، وفي ذلك الوقت هجم جيش عظيم من الغول — وهم قدماء الفرنساويين — كان عبر جبال الألب تحت قيادة «برينوس» وأتلف كل ما مر به، وأفنى الجيش الروماني قريبًا من نهر الأليا، ودخل روما وكان قد تركها أهلها، وحرقت المدينة، وذلك سنة ٣٩٠ق.م، وكان مانيليوس في ذلك الوقت انضم إلى بعض الشبان الرومانيين وتحصن معهم في قلعة الكابيتول، فسدَّ الغول طرقها ومسالكها وضيقوا عليهم، ودفعهم مانيليوس مرارًا، فلما بلغ كاميل ما حل بأهل وطنه نسي ما كان وقع منهم في حقه من الإساءة، وخرج من عند الأدرياتيين لمساعدة وطنه، فقلده مجلس السناتو برتبة الدكتاتورية — ولي الأمر المنفرد بالحكم — فقيل إنه حاربهم وقطع دابرهم ولم يُبْقِ منهم من يبلغ خبرهم لأهل وطنه، فكان كاميل ومانيليوس هما اللذان أنقذا وطنهما من الغول إلا أن طمع مانيليوس كان سببًا في إلقائه من أعلى قلعة الكابيتول.

(٥) الحروب القصصية

(٥-١) الحرب الأولى

قد ذكرنا فيما تقدم أن قرطاجة قد أسسها جملة من المهاجرين الصوريين سنة ٨٦٩ق.م، وكان الرومانيون قد عقدوا جملة معاهدات تحالفية وتجارية مع أهل قرطاجة، ثم إن كلًّا من هاتين الأمتين كان متطلبًا الاستيلاء على جزيرة سيسيليا، فصار ذلك منشأ لوقوع الشقاق بينهما، فلما استولى المامرتينيون على مدينة مسينا وهي إحدى مدن تلك الجزيرة، حاربهم هيرون ملك سيراقوزة «بالجزيرة عنها»، فأتى القرطاجيون وأعانوهم عليه، إلا أن المامرتينيين لخوفهم من عدوهم هيرون المذكور وغَدْرِ القرطاجيين لهم دخلوا في حماية روما، وفي سنة ٢٦٤ق.م ذهب القنصل أوبيوس قلوديوس إلى سيسيليا وكسر القرطاجيين والملك هيرون، فتعصب الفريقان على روما، فاقتضى الحال محاربة الرومانيين مدينة قرطاجة التي كانت لها الشوكة القوية والمكانة العلية عند من جاورها من الأمم لا سيما الملاحة، ولم يكن للرومانيين وقتئذ قوة بحرية فصنعوا مراكب حربية، وتولى القنصل دويليوس قيادة الدونانمة الجديدة وفاز بنصرة عظيمة على القرطاجيين، وهذه أول واقعة بحرية حصلت من الرومانيين وانتصروا فيها، واستولوا على جزيرتي قورسة وسردينيا.

وبعد ذلك توجه أحد الجنرالات الرومانية المدعو ريجولوس مع جيش إلى قرطاجة، إلا أن كزنتيب اللقديمونياني الذي كان قد أتى لمساعدة المدينة المذكورة هجم على ريجولوس وكسره وأخذه أسيرًا، ووضعه في الحديد، واستمرت الحرب إلا أنها كانت متراخية ودولًا بينهم، وقيل إن القرطاجيين عذبوا ريجولوس عذابًا شديدًا حتى مات، ثم فاز الرومانيون بنصرة عظيمة قريبًا من جزائر أغاتة تحت قيادة القنصل لوتاسيوس سنة ٢٤٢ق.م، والتزم القرطاجيون بدفع جزية سنوية لروما، وهذا هو الحرب الأول القصصي الذي مكث مدة ٢٢ سنة.

(٥-٢) الحرب الثانية

وذكر أنيبال وكورنيليوس سيبيون

واستمر القرطاجيون يدفعون الجزية للرومانيين إلى أن نشأ فيهم أنيبال أحد جنرالاتها وقتئذ عدوًّا للرومانيين، فحرض أهل بلاده على حربهم، فشرعوا في محاربة ساجونتا إحدى مدن إسبانيا، وكانت هذه المدينة حليفة روما، فحرقها أنيبال وصيرها رمادًا، واجتاز جبال بيرينية ونهر الرون وجبال الألب وذلك سنة ٢١٨ق.م، فهزم ثلاثة جيوش رومانية، وأعظم هذه الوقائع وقعة «كانه» سنة ٢١٧ق.م، فقتل فيها القنصل إيمليوس ٧٠٠٠٠ من العساكر الرومانية، إلا أن هذه الواقعة أفقدت القرطاجيين عساكر كثيرة، فذهب بعد ذلك إلى جهة «كابو» التابعة لبلاد قبانية، فلينت لذات الجهة المذكورة طباع عساكره، فنسي الرومانيون الشقاق الداخلي، وجمعوا جيوشًا جديدة، وصار بذلك إنقاذ روما، وفي أثناء ذلك الوقت فتح مارسيلوس مدينة سيراقوزة سنة ٢١٢ق.م، واشتهر سيبيون في إسبانيا، وطرد القرطاجيين من شبه جزيرة إسبانيا، ولما عاد إلى روما أراد التوجه والهجوم على أفريقا فقبل منه المجلس، وفي السنة الثانية أزعج قرطاجة بجيشه المهول، فدعت من إيطاليا أنيبال لمعاونتها، إلا أنه كان لم يتيسر لأحد مقاومة هذا الشهم الروماني، فهزم أنيبال في «أودية زاما» سنة ٢٠٢، ولما غلب أنيبال ومن معه نصح أهالي مدينته بقبولهم الصلح من عدوهم؛ حيث لم يتيسر لهم غلبة بعد ذلك، وأما أنيبال فإنه خرج من بلده وذهب يبحث في غير تلك البلاد على من يكون عدوًّا للرومانيين، أما قرطاجة فضرب عليها الجزية، وهذا هو الحرب الثاني القصصي.

الحروب الأخيرة بين الرومانيين وأهل مقدونيا والشام

ولما أمد فيليبش الثالث ملك مقدونيا أنيبال بالإمدادات الحربية جرد الرومانيون عليه التجريدات الحربية للانتقام منه، وانضموا إلى اليونان أعدائه، وهجموا على مقدونيا تحت قيادة القنصل «فلامينينوس»، فهزمه بالقرب من مدينة سيتوسيفالة «بتساليا»، فالتزم هذا الأمير بتحمل مشارطة صلح موجبة لذله وحقارته، وبإعطاء ديمتريوس أحد أولاده رهينة عند الرومانيين، وذلك سنة ١٩٦ق.م.

وفي سنة ١٩١ق.م ابتدأت الحروب بين الرومانيين وأنطيوخوس الأكبر ملك الشام الذي كان قد التجأ إليه أنيبال، وأيضًا كان قد قام لمساعدة الإيطوليين ببلاد اليونان، فهزمه الرومانيون في مضايق ترموبيل، وفر هاربًا إلى آسيا الصغرى، فتبعه القنصل «لوسيوس سيبيون» أخو سيبيون الأفريقاني وانتصر عليه أيضًا بالقرب من مدينة مانيزيا سنة ١٧٩ق.م، فالتزم الملك المذكور أن يترك للرومانيين جميع أقاليمه التي بآسيا إلى جبل الطور، فأخذ الرومانيون منها أموالًا جسيمة، ولقب سيبيون المذكور بالآسياتيقي.

وفي سنة ١٧٠ق.م جد بيرسي بن فيليبش الثالث في التخلص من رق الرومانيين، فغلبه القنصل «بول إيميل» في واقعة بيدنا — مدينة بمقدونيا — وبعث به أسيرًا إلى روما ومعه جماعة من أكابر اليونان، وكان من ضمن هؤلاء الأسارى المؤرخ الشهير «بوليب»، وبعد ذلك ببضع سنين قام ابن بيرسي المذكور وأشهر لواء العصيان، لكنه هُزم أمام حصن ميتيليوس، وصارت مقدونيا من ذلك الوقت إقليمًا رومانيًّا.

وفي سنة ١٤٦ق.م دخل الرومانيون بلاد اليونان، وكانت قد ضعفت من الفتن والعرابيد المتوالية، فلذا لم يجدوا عندهم من يكافحهم غير الحزب الأخيواني، فحصلت وقعة بالقرب من مدينة كورنته فانهزم الحزب المذكور، ودخل القنصل موميوس المتوحش المدينة المذكورة، ونقل إلى روما جميع ملحها وبضائعها ونفائسها وأسلمها إلى اللهيب، وصارت مملكة اليونان من ذلك الوقت إقليمًا رومانيًّا وسموه إقليم إخيا.

(٥-٣) ذكر الحرب الثالثة

ولما أغار «ماسينسه» ملك نوميديا — بلاد الجزائر — على أراضي قرطاجة الذي كان يهددها بالهجوم دائمًا، ترتب على ذلك مشاجرات ألزمت مجلس السناتو بإرسال رسل لإزالة هذه المشاجرات؛ حيث كان هذا الملك حليف روما، وكان ضمن الرسل المذكورين «قاتون»، فلما رأى هذا الجنرال وسائل الاستعداد عند القرطاجيين رجع إلى روما منزعجًا، وحرض أهل بلاده بالتخلص من كل خوف يخشونه في المستقبل، وختم كلامه بقوله: يلزم هدم قرطاجة، فتولى سيبيون إيميليان قيادة الجيش الروماني، وكانت الأوامر التي صدرت له عارية عن الشفقة بالكلية، فلما رأى أهل قرطاجة أنه لا ناصر ولا مانع لهم من أعدائهم دافعوا عن أنفسهم بكل ما في وسعهم من الحمية، إلا أنهم فترت قواهم من كثرة عدد عدوهم وأُخذت المدينة قهرًا، وسُلمت ليد اللهيب، فبقيت النار سبعة عشر يومًا، وهدمت جميع ديارها وذلك سنة ١٤٦ق.م، ولقب سيبيون كجده بالأفريقاني لكونه تمم الحرب الثالث القصصي.

(٥-٤) مجاذفة الجراكيين من ١٣٣–١٢١ق.م

فلما تمت الحروب الخارجية وقع الشقاق بين أهالي المدينة، فكان يُرى في روما جم غفير من الفقراء لا يمتلكون القوت الضروري، وجم آخر يملك أراضي كان من الواجب أن تكون تحت يد الجمهورية، فشرع رجلان مشهوران بمعارفهما وهما طيبريوس جراكوس وكيوس جراكوس أولاد كورنيليا بنت سيبيون الأفريقاني على أن يحاميا عن الأهالي، ويغرسا شجرة العدل والإحسان ليدثر بذلك آثار الظلم والعدوان، وكان طيبريوس قد استحصل على نيابة الأهالي، فأمر بنشر قانون الفلاحة وصار يساعد الفقراء في أمرهم هذا، ومن ثم كثرت أعداؤه، فصار قريبه سيبيون نازيكة مقدم الفرقة المضادة له، وأغار على محل اجتماعه بالأمة، وكانت الأمة مجتمعة هناك، فقتل طيبريوس من شدة الضرب مع ثلثمائة من أحزابه، وذلك سنة ١٣٣ق.م.

وأما كيوس جراكوس فإنه مع ما حصل لأخيه من القضاء والقدر توظف مكانه وسلك طريقته، فكانت عاقبته مثل عاقبة أخيه، وذلك أن أوبيموس الذي كان من أعدائه لما تقلد بالقنصلية قام على جماعته وقتل منهم ثلاثة آلاف، وكان من جملتهم كيوس جراكوس المذكور، وألقى رممهم في نهر التبر، وذلك سنة ١٢١، ومن ثم انتصرت أشراف الناس، لكن بئس ما فعلوه.

(٥-٥) الحروب الداخلية بين ماريوس وسيللا

ذكر ميتريدات

ولما انتصر ماريوس على ليوغورتا ملك نوميديا وأيضًا على الجيشين العظيمين من السمبريين والطوطونيين المتوحشين الذين كانوا قد شنوا الغارة على أطراف إيطاليا الشمالية بغضه سيللا، فاتحد ماريوس مع أرباب الفتن والفساد لنزع الحكم من يد الأشراف ونقلها لأيدي العامة؛ حيث كان هو من رعاع الناس وأسافلهم، وسعى هو وحزبه في عزل سيللا، فخرج الأمير الأخير وعساكره على روما سنة ٨٧ق.م، فولى ماريوس ومن معه هاربين، ثم توجه سيللا لمحاربة متيريدات الأكبر ملك بونت بآسيا الصغرى، فقويت قلوب حزب ماريوس واستولوا على روما ثانيًا، وأحضر ماريوس، إلا أنه تجاوز الحد في الظلم والقساوة وقتل جميع أحزاب سيللا، وقلد نفسه بالقنصلية، وتُوفي وهو في أعظم شوكة وسطوة، إلا أنه لما بلغه نصرات سيللا على ميتريدات كدر عليه آخر أيام حياته، وعاد سيللا إلى إيطاليا بجيشه ودخل روما وهو ظافر بأعدائه، إلا أنه دخلها خاليًا من الرأفة والشفقة كما كان ماريوس كذلك، فلم يقاومه أحد، وأعطى لعساكره أموال القتلى، وجمع لنفسه جميع الوظائف فانزعج منه مجلس السناتو، وقلده بوظيفة ولاية الأمر الدائمية، وذلك سنة ٨١ق.م، ثم تنازل عن الحكم ومات بعد قليل.

(٥-٦) حكومة الثلاثة رجال الأولى

الحروب الداخلية بين يولص قيصر وبومبيوس قيصر

ولما مات كراسوس شريكهما في الملك واشتهر يولص قيصر «سيزار» بفتح بلاد الغول، حقد عليه بومبيوس قيصر «بومبيه»، وأغرى المجلس عليه حتى نزع منه رياسته، إلا أن يولص قيصر المذكور كان قد أحدث له بروما حزبًا عظيمًا، ومع ذلك فإن الجيوش التي قادها مدة مديدة من الزمن كانوا محبين له، فامتنع من الامتثال لأمر مجلس السناتو، فأشهره في الحال عدوًّا عموميًّا، وأمر بومبيوس بالقيام بملاحظة المملكة وذلك سنة ٤٩ق.م، فخرج يولص قيصر على روما، ولما دنا منها هرب بومبيوس إلى مقدونيا، فتبعه خصمه فيها، فاقتضى الحال لمعركة قاطعة لهذا المشكل، فحصل ذلك في أودية فرساله وذلك سنة ٤٨ق.م، فانتصر عليه يولص قيصر وفر هاربًا إلى بطليموس الثاني عشر ملك مصر الذي كان له الفضل عليه؛ حيث ساعده في توليته مُلك مصر، فقتله هذا الملك الخائن. وقيل إن يولص قيصر لما بلغه هذا الخبر لم يستطع أن يحجز دموعه، وتم الأمر كما تقدم، ثم توجه إلى آسيا لمحاربة فرناس بن ميتريدات وانتصر عليه، ومحا آثار حزب بومبيوس من الدنيا، وتقلد بمنصب الدكتاتور الدائمي — أي الذي لا يعزل — وحكم بغاية العدل والإنصاف، وعفا عن أعدائه، ولكن تعصب عليه جملة من الجمهورية، فلما بلغه هذا الخبر تعند ودخل المجلس في اليوم الذي كان قد اجتمع فيه المتعصبون على قتله فضربوه ثلاثةً وعشرين خنجرًا، وذلك سنة ٤٤ق.م.

(٥-٧) حكومة الثلاثة رجال الثانية «وذكر واقعة أكسيومه»

ولما قتل يولص قيصر حصل عصيان مهول بين الأمة وحوادث جسيمة، تسبب عنها التجاء مرك أنطوان إلى ليبيدوس رئيس الغول القاطنين وراء جبال الألب، وأما أقطاوس «أوكتاف» وارث الدكتاتور المقتول — لم يكن ابنه وإنما كان متخذه ابنًا — لما رأى أن اعتباره بروما أخذ في الانحطاط ذهب إلى أنطوان وليبيدوس وأشركهما معه في الحكم، فبدءوا بتشتيت جميع أعدائهم وجرى الدم في أطراف روما، وكان يعلق في المحل العمومي صبيحة كل يوم قوائم طويلة بأسماء من صدرت الأوامر بقتلهم، فلما تعبت القضاة الثلاثة من الأمر بالشنق والانتقام ختموا ذلك بقتل بروطوس الذي كان موجودًا في مقدونيا، ثم إن الاتفاق بينهم لم يطل؛ وذلك أن أقطاوس ابتدأ بنفي ليبيدوس وحكم هو وأنطوان بالاشتراك مع بعضهما، ثم قسم المملكة بينهما، واكتفى أقطاوس بأمر المغرب، وأنطوان بأمر المشرق، لكن لما تنازل أنطوان عن الأقاليم الرومانية الشرقية لامرأته كليوبترة ملكة مصر قام أقطاوس وأعلن حرب أنطوان، الذي كان نسي نفسه من وجوده عند كليوبترة التي دهشته محاسنها، فانهزم أمام خصمه في واقعة بحرية قريبًا من مدينة أكسيومه — في الشمال الغربي من بلاد اليونان — وذلك سنة ٣١، وقتل أنطوان وكليوبترة نفسهما كما تقدم ذلك، ودخلت مصر تحت حكم الرومان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤