الفصل الثاني

في الفلسفة الإنجليزية١

في مقال لعملاق العقل الإنجليزي في القرن العشرين برتراند رسل Bertrand Russell (١٨٧٢–١٩٧٠م)، بعنوان «فلسفة القرن العشرين» بكتابه «مقالات شكية» (١٩٢٨م)، يقول إنه في عام ١٩٠٠م بدأت الثورة على المثالية الألمانية بعملاقَيها إيمانويل كانط وفردريك هيجل، والتي مثلت قوة طاغية إبان القرن التاسع عشر.
لقد احتفظت التجريبية العلمية بنفوذها دائمًا في الفلسفة الإنجليزية، منذ فرنسيس بيكون F. Bacon (١٥٦١–١٦٢٦م) في القرن السابع عشر، ثم جون لوك J. Lock (١٦٣٢–١٧٠٤م) وباركلي وديفيد هيوم D. Hume (١٧١١–١٧٧٦م) في القرن الثامن عشر، وصولًا إلى جون ستيوارت مل J. S. Mill (١٨٠٦–١٨٧٣م) في القرن التاسع عشر الذي عمل على أن يتصدر فلاسفة المنهج العلمي التجريبي. مع هذا لم تنجُ الفلسفة الإنجليزية هي الأخرى من مد المثالية الألمانية.
وفي بدايات القرن التاسع عشر انضم الشعراء والكتاب الرومانتيكيون في إنجلترا إلى زملائهم في القارة الأوروبية، واستقطبوا اتجاهات مثالية فرارًا من عقلانية التنوير المفرطة ومن تعملُق العلم الذي كان حتميًّا ميكانيكيًّا. وظهرت المثالية الألمانية في أشعار شيلي ووردزورث وكتابات توماس كارليل، واكتسبت ثقلًا مع الشاعر الكبير كولريدج S. T. Coleridge (١٧٧٢–١٨٣٤م) الذي درس فلسفة كانط بتفاصيلها. ومع هذا كانت غزوة ضعيفة لأنها تمت على أيدي هؤلاء الرومانتيكيين من الكتَّاب والشعراء، وجميعهم غير متخصصين في الفكر الفلسفي ولا محترفين إياه، لذلك سهل اندحارها على يد جون ستيوارت مل J. S. Mill (١٨٠٦–١٨٧٣م)، أبرز فلاسفة المنهج التجريبي في إنجلترا إبان القرن التاسع عشر، والذي ناصب المثالية الألمانية العداء.
لكن هبت على الأراضي الإنجليزية غزوة مثالية ثانية في الثلث الأخير من القرن افتتحها ستيرلنج J. H. Stirling بكتابه «سر هيجل» (١٨٦٥م) حيث أوضح كيف أن هدف هيجل أو سره هو إحياء الإيمان بالله وخلود الروح وحرية الإرادة، فانتشرت المثالية مجددًا في أعطاف الفلسفة الإنجليزية، من أجل إحياء تلك القيم التي هددها تقدم العقل العلمي. وتبدى ذلك في كتابات جمع من الفلاسفة الإنجليز أهمهم فرنسيس برادلي F. H. Bradley (١٨٤٦–١٩٢٤م) وجون ماكتاجارت J. E. Mctaggart (١٨٦٦–١٩٢٥م) وقرناء لهم من فلاسفة كمبردج العظام ذوي الثقل، ليبرزوا قوة المد المثالي آنذاك.

في كتابيه «المظهر والحقيقة» (١٨٩٣م) وأيضًا «أصول المنطق» (١٨٨٣م) يعرض فرنسيس برادلي للمذهب الواحدي الذي يرى العالم ككل واحدي محكوم بعلاقات داخلية ولا أجزاء له ولا تعدد فيه، فيما يمكن اعتباره من أقوى عروض المثالية المتطرفة التي تنكر أية جدوى أو دور للتجريبية.

هكذا ظلت المثالية الألمانية تمارس نفوذها وسطوتها حتى كان العام الحاسم ١٩٠٠م لتبدأ الثورة عليها من جهات شتى، كما أشار برتراند رسل، وتتبلور الفلسفات المعاصرة ذات المنزع التجريبي.

ولا غرو أن كانت أقوى التمثلات الإنجليزية للفلسفة العلمية التجريبية مذهب انطلق من ذلك العام الحاسم ١٩٠٠م وهو الفلسفة التحليلية التي سنراها تفصيلًا في حينها.

•••

على أن الحضارة الإنجليزية والحضارة الغربية بجملتها، قد عبرت إلى الشاطئ الآخر … الشاطئ الغربي من المحيط الأطلنطي … أي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية باتت المركزية الأوروبية مركزية غربية لتستوعب أوروبا وأمريكا معًا، فضلًا عن تطورات العقود الأخيرة من السنين التي جعلت المركزية الحضارية أمريكية خالصة … وهكذا تتجسد التجريبية التي سادت القرن العشرين في أولى تيارات الفلسفة الأمريكية الذي عُد تيارًا معبرًا عن الروح الأمريكية … أي الفلسفة البرجماتية، فماذا عن هذا؟

١  مادة هذا الفصل والفصول الثلاثة التالية مأخوذة أساسًا من كتابنا: فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول … الحصاد … الآفاق المستقبلية، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد ٢٦٤، ديسمبر ٢٠٠٠م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤