الفصل الثالث

البرجماتية

تُعَد الفلسفة البرجماتية Pragmatism من أكثر اتجاهات الفكر الغربي تمثيلًا لروح التجريبية العلمية. والبرجماتية بدورها تمثيل عيني للفلسفة الأمريكية الحديثة النشأة والنماء، وإعلان صريح بالحضور الرسمي للولايات المتحدة الأمريكية على ساحة اتجاهات الفكر الغربي.
بشكل عام لم تكن الفلسفة الأمريكية أبدًا مرعًى خصيبًا للمثالية، بحكم روح وطبيعة الحضارة الأمريكية، وهذا بالطبع لا ينفي وجود قلة من المثاليين الأمريكيين أهمهم جوزيا رويس J. Royce (١٨٥٥–١٩١٦م) الذي يجاهر بأنه فيلسوف هيجلي، ومع هذا تأثَّر بأستاذه وليم جيمس، فلم تخلُ فلسفته المثالية من استجابة ما للبرجماتية التي هيمنت على الفلسفة الأمريكية.
لقد اكتملت البرجماتية ونضجت لتكون بمثابة التمثيل العيني للفلسفة الأمريكية حتى اتُخذت أساسًا لتفسير الدستور والقوانين والقيم الأمريكية. البرجماتية Pragmatism اسم مشتق من اللفظ اليوناني «براجما» ومعناه العمل. الفلسفة البرجماتية إذن هي الفلسفة العملية التي تبحث عن النافع والمفيد.
أول من صاغ البرجماتية كاسم وكمسمى هو الفيلسوف الأمريكي العظيم حقًّا، والمغبون الذي لم يلقَ ما يستحقه من تقدير، تشارلز ساندرز بيرس C. S. Pierce (١٨٣٩–١٩١٤م) وهو رائد من رواد المنطق الحديث وفلسفة اللغة وفيلسوف علم جدير بالإعجاب، في طليعة المثبتين للاحتمية على أسس منطقية وفي سياق الفيزياء الكلاسيكية ذاتها. وضع بيرس نظريةً للمنهج العلمي شديدة الشبه والتقارب مع أهم نظريات المنهج في القرن العشرين أي نظرية كارل بوبر، حتى يمكن أن تُعَد استباقًا لها وإرهاصًا بها. كان ابنًا لأستاذ رياضيات مبرز في جامعة هارفارد، حيث درس بيرس ونال إجازته في الكيمياء، ثم انشغل بالمنطق والفلسفة، ولكنه للأسف لم يظفر بمنصب أكاديمي رفيع في الفلسفة على الرغم من محاولاته المستميتة. ويعنينا من أمره الآن أنه طرح أساس البرجماتية بمقالَيه «تثبيت الاعتقاد» (١٨٧٧م) و«كيف نجعل أفكارنا واضحة؟» (١٨٧٨م)، ثم صاغ المذهب ببحثه الهام «البرجماتية» الصادر عام ١٩٠٥م. حيث نجد القاعدة الأساسية للمذهب البرجماتي، وهي أن معنى القضية يتوقف على نتائجها العملية. وإذا أردنا الحكم بأن مفهومًا عقليًّا ما ذو معنًى لا بد وأن نأخذ في الاعتبار النتائج العملية التي تنتج بالضرورة من صدق هذا المفهوم. وخلاصة هذه النتائج تشكل المعنى الكلي للمفهوم.
ثم تحددت معالم البرجماتية وأصبحت مذهبًا فلسفيًّا متكاملًا على يد وليم جيمس W. James (١٨٤٢–١٩١٠م) ذي الفلسفة التجريبية الراديكالية (الجذرية)، والنظرة التعددية للعالم رفضًا للواحدية المثالية. ويراه برتراند رسل صاحب أقوى أثر في تقويض المثالية الألمانية؛ فقد شن جيمس حملة شعواء على فلسفة هيجل ومطلقها المثالي ورآه كفيلًا بتدمير القوى الخلاقة للإنسان الفرد. وقدم واحدًا من أقوى عروض الفلسفة التجريبية لدرجة يصح معها الحكم بأن فلسفة جيمس المدخل الحق للتجريبية الغالبة على فلسفة القرن العشرين. وينبغي أن نذكر كتاب وليم جيمس «مبادئ علم النفس» (١٨٩٠م) ودوره في علم النفس التجريبي، وهذا الكتاب له أيضًا دور في لفت النظر الفلسفي إلى أن التحليل المجرد للعقلانية لا يكفي ولا بد من الانتباه إلى أهمية التفاعل والتواصل بين ما هو ذهني وما هو بيولوجي واقعي، أي علمي تجريبي. ورأى أن البرجماتية في ربطِها المعنِيِّ بالنواتج الواقعية إنما هي تطوير طبيعي للتجريبية التقليدية، فأخرج عام ١٩٠٧م كتابه «البرجماتية»، بعنوان فرعي: «اسم جديد لمنهج قديم في التفكير»، وأهداه إلى ذكرى جون ستيوارت مل، إمام التجريبية الإنجليزية في القرن التاسع عشر، مؤكدًا أنه لو كان حيًّا لناصر البرجماتية بكل قوة.
وكان جيمس دائمًا يميل إلى الدين ونصرة الإيمان، وفي كتابه «إرادة الاعتقاد» (١٨٩٧م) قدَّم تبريرًا برجماتيًّا للدين، بمعنى أن نؤمن به لأن الإيمان الديني نافع ومفيد في جلب الراحة والهدوء النفسي والضبط الأخلاقي. يحتوي «إرادة الاعتقاد» على أشهر مقال لجيمس وهو «معضل الحتمية» حيث يبين تناقضات الحتمية مع ذاتها ومع القضايا المتصلة بها، ويرفضها تمامًا إثباتًا للحرية. وأبلى جيمس بلاءً حسنًا في قضية الحرية حتى عُد من سدنتها المخلصين، وربما أيضًا لأسباب برجماتية؛ فالحرية الإنسانية لها نتائج عملية مفيدة في تحمل المسئولية، وجدوى الثواب والعقاب والقيم الخلقية إجمالًا، والإبداع والتميز … إلخ. وقبيل وفاته بعام واحد، أصدر عام ١٩٠٩م كتابه «معنى الصدق: تتمة للبرجماتية»، حيث فصَّل ما أجمله تشارلز بيرس، فأوضح جيمس أن الصدق أو الحقيقة truth خاصية للاعتقاد الإنساني وليست كيانات مطلقة، وكل ما يقع خارج الدائرة الإنسانية ليس حقائق بل وقائع، وإذ تصبح الحقائق مسألة إنسانية فإنها بالتالي نسبية قابلة للخطأ متغيرة ومتطورة شأن كل ما هو إنساني، وذلك هو صلب الفلسفة البرجماتية.
ثم تطورت البرجماتية واتسع مداها مع فلاسفة أمريكيين لاحقين، خصوصًا جون ديوي J. Dewey (١٨٥٩–١٩٥٢م) الذي بدأ من الفلسفة الهيجلية، ولكي يداوي ما رآه فيها من انفصال بين الفكر والواقع انساق تمامًا للبرجماتية ورأى أن المعرفة وظيفتها تنظيم السلوك وأن الفكرة أداة للعمل، فتُنعت برجماتية ديوي بأنها وظيفية أو أداتية، وقد جعلها أساسًا فلسفيًّا للتربية وللدفاع عن الحرية والليبرالية الحديثة ونظريته السياسية إجمالًا.
خلاصة الفلسفة البرجماتية أن العقل يحقق هدفه حين يقود صاحبه إلى العمل الناجح. إذن الفكرة الصحيحة هي الفكرة الناجحة، ولا تقاس الفكرة إلا بنتائجها العملية، أي بفائدتها. هكذا تنتفي تمامًا الحقائق الثابتة والأفكار المطلقة التي تبحث عنها المثالية. الحق والخير والجمال هو العملي النافع المفيد. تنشأ القيم من الواقع الطبيعي وتكون متغيرة متطورة تبعًا لنواتج الخبرة التجريبية التي تشهد بقدرة المبدأ الخُلقي أو القيمة على حل المشكلات. في هذا تلتقي البرجماتية مع سائر مدارس فلسفة الأخلاق التي تستلهم الروح العلمية التجريبية، وترفض الحاسة الخلقية والحدسية الأخلاقية ومبدأ الواجب المطلق عند كانط … وما إليه من اتجاهات مثالية في فلسفة الأخلاق. وعلى الرغم من أن وليم جيمس لم يتعاطف مع التطورية الاجتماعية، فإن البرجماتية بتأكيدها على قدرة القيمة والمبدأ الخلقي على حل المشكلات إنما تلتقي مع التطورية الخلقية. والتطورية اتجاه في الفلسفة الإنجليزية استقطب مد الروح العلمية والعلم عمومًا ونظرية داروين التطورية خصوصًا. ومن أعلامه هربرت سبنسر H. Spencer (١٨٢٠–١٩٠٣م) وليزلي ستيفن L. Stephen (١٨٣٢–١٩٠٤م). والتطورية الخلقية تواصل المد الوضعي الذي يريد الأخلاق علمًا طبيعيًّا وليس فلسفيًّا بلْهَ مثاليًّا، يدرس السلوك الإنساني وغاياته، أخضعوا القيم لناموس التطور الحيوي كما أفصحت عنه نظرية داروين، أي ناموس الانتخاب الطبيعي والبقاء للأصلح، فيبقى من مبادئ الأخلاق ما يثبت أنه الأصلح أي الأكفأ في مساعدة الفرد على حل مشكلات الحياة والتكيف مع البيئة. والأخلاق بهذا متطورة متغيرة تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وليست البتة مطلقة ثابتة كما يتوهم المثاليون.

كان داروين كما هو معروف إنجليزيًّا، والفلسفة التطورية الأخلاقية والاجتماعية أيضًا إنجليزية.

تنطلق البرجماتية وقريناتها من مذاهب الفلسفة التجريبية العلمية من الخبرة experience. الخبرة هي التفاعل المتنامي دائمًا بين الكائن الحي والبيئة. المعرفة ذاتها وسيلة لتنظيم الخبرة. ويبقى صلب التجريبية الجذرية في أن حقائق الأشياء يستحيل إدراكها بصورة قبلية سابقة على الخبرة التجريبية، والصدق خاصة للمعتقد الإنساني حين يستوفي شروط تمليها التجربة. وتؤكد البرجماتية على مقولتين قوضتا روح المثالية وسادتا في فلسفة القرن العشرين وساهمتا كثيرًا في جعلها وثيقة الاتصال بروح العلم التجريبية. المقولة الأولى هي الواقعية بمعنى الاعتراف بالوجود الواقعي المستقل للعالم التجريبي، فلا يعود فكرة أو تصورًا مرتهنًا بالعقل الذي يدركه كما تذهب المثالية المتطرفة. المقولة الثانية هي التعددية، بمعنى أن العالم ليس كما يذهب المثاليون وفي طليعتهم فرنسيس برادلي، ليس كلًّا واحديًّا محكومًا بعلاقات داخلية ولا أجزاء له. ولا تكثر فيه، بل إن العالم تعددي … كثرة متكثرة من الوقائع والجزئيات. والتعددية هي نظرية أنطولوجية متسقة مع روح العلم أو مع التجريبية. ومن الذين مكَّنوا لها، شارل رينوفيه الذي اعتبره جيمس أستاذًا له في إثبات الحرية الإنسانية. وأيضًا الفيزيائي إرنست ماخ فيلسوف التجريبية الألمانية الشهير الذي ارتد العالم بأسره على يديه إلى إحساسات بينما ارتد مع جيمس إلى خبرات. وفي النهاية أتت التعددية التجريبية مع وليم جيمس ومعاصره إرنست ماخ قوية ماضية، ولم يكن ينقصها إلا خطوة واحدة، وهي التسلح بالصياغات المنطقية، وسوف تقطعها لاحقًا على يد برتراند رسل الذي يعد في طليعة أقطاب التيار التحليلي الذي عُدَّ من أهم اتجاهات الفلسفة في القرن العشرين، فماذا عن هذا التيار أو فلسفة التحليل اللغوي؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤