الفصل الرابع

فلسفة التحليل اللغوي

يُعَد الفيلسوف الإنجليزي العظيم برتراند رسل واحدًا من أعظم وأقوى من وجهوا الفلسفة طوال النصف الأول من القرن العشرين، إنها الفترة التي شهدت نشأة ونماء وتطبيقات الفلسفة التحليلية التي وُصفت بأنها ثورة فلسفية مدوية رافضة للوضع الفلسفي، آتية بالجديد في المنهج، أي أسلوب البحث، وفي المذهب، أي موضوع البحث. ربما تجسد هذا في الربع الأول من القرن، وخفت الأضواء عن رسل فيما بعد إلى حد ما، ولم تعد أعماله قوية التأثير مثلما كانت، تصدَّر الواجهةَ أتباعُه من فلاسفة التحليل الآخرين.

على أن رسل، على أية حال، لم يفجر الثورة التحليلية بمفرده، شاركه صديقه جورج إدوارد مور وتلميذه لودفيج فتجنشتين، انطلق ثلاثتهم من جامعة كمبردج.

رافق جورج إدوارد مور G. E. Moore (١٨٧٣–١٩٥٨م) رسل منذ البداية في الثورة على المثالية الألمانية التي طغت في كمبردج، وهذا تصعيد للمد التجريبي. ثار رسل عليها لأنها لم تَعُد تتفق مع روح العلم الذري والمنطق الرياضي، بينما ثار عليها مور لأنها لا تتفق مع الحس المشترك common sense؛ أي الإدراك الفطري والخبرة العادية للإنسان العادي.

وترجع فاتحة الفلسفة التحليلية إلى مقال كتبه مور عام ١٩٠٣م بعنوان «تفنيد المثالية»، قدم فيه مثالًا عمليًّا لمنهج جديد في معالجة المشكلات الفلسفية مطبقًا على الحس المشترك. وهذا المنهج الجديد يقوم على فكرة مؤداها أن المشكلات الفلسفية ترجع إلى سبب غاية في البساطة، وهو محاولة الإجابة على الأسئلة المطروحة دون أن نتبين أولًا وعلى نحو دقيق حقيقة السؤال الذي سنجيب عليه. وأكد مور أن الفلاسفة لو حاولوا اكتشاف المعنى الحقيقي للأسئلة التي يطرحونها — عن طريق تحليلها — قبل أن يشرعوا في الإجابة عليها، لكانت هذه المحاولة الحاسمة كافية في الغالب لضمان النجاح. وإذا تم هذا سوف تختفي معظم المشاكل الخادعة والخلافات الفلسفية؛ فغموض المعنى هو مصدر الاضطراب في البحث الفلسفي. ويتألف التحليل عند مور من ترجمة العبارة الغامضة المراد تحليلها، إلى عبارة أخرى مرادفة لها وأوضح منها؛ أي أقل إثارة للحيرة. إن التحليل عند مور يتعلق بشكل أو بآخر بالتعريف. أما رسل فقد رأى أن التحليل هو ترجمة العبارة المصوغة في اللغة العادية إلى صيغ منطقية؛ وذلك لأن الصيغ النحوية مضللة يمكن أن نصب فيها أي شيء بغير معنى، وما هكذا المنطق. إذن هناك اختلاف بينهما؛ مور يبغي الأوضح باللغة، ورسل يريد الأدق بالمنطق. وثمة أيضًا اختلاف في الهدف؛ فبينما يهدف جهاز رسل المنطقي إلى حل مشاكل فلسفية وميتافيزيقية، فإن تحليل اللغة اليومية عند مور يهدف إلى إثبات وجهة نظر الذوق الفطري أو الحس المشترك. على هذا كان تحليل مور منصبًّا على اللغة، وتحليل رسل منصبًّا على المنطق.

أما تحليل الرائد الثالث لودفيج فتجنشتين L. Wittgenstein (١٨٨٩–١٩٥١م) فهو منصب على منطق اللغة. كان فتجنشتين نموذجًا لفئة المنطقي/الفيلسوف، بل هو حاد في الاتسام بالسمة المنطقية. الفلسفة في عرفه إما هي منطقية أو أنها لا شيء وقول فارغ يخلو من المعنى، بلْهَ الجدوى. يحتل كتابه «الرسالة المنطقية الفلسفية» موقعًا استراتيجيًّا في فلسفة القرن العشرين. في هذا الكتاب، بعباراته القصيرة الحادة المرقمة والتي لا يسهل قراءتها بسرعة أو فهمها بسهولة، أوضح فتجنشتين أن المنطق ما هو إلا صورة للفكر كما يتمثل في اللغة، إذن فالمنطق ما هو إلا صورة للغة، وكل ما يمكن التفكير فيه يمكن التعبير عنه بوضوح. هكذا يؤكد على أن الفلسفة مجرد نشاط مهني لتوضيح الأفكار، وذلك عن طريق التحليل المنطقي للعبارات التي تُصاغ فيها الأفكار وردها إلى عناصرها الأبسط، فتزداد وضوحًا ونتأكد من مطابقتها للواقع التجريبي وإلا اعتبرناها لغوًا.

رأى فتجنشتين أن معظم المشكلات الميتافيزيقية والفلسفية الكبرى، إذا خضعت لمجهر التحليل اتضح أنها تحير العقول لأنها بلا معنًى وليست مشكلات على الإطلاق! الفلسفة بهذا المنظور التحليلي لا تحمل معرفة ولا تضيف جديدًا، بل هي توضيح للأفكار ومعركة ضد البلبال الذي يحدث في عقولنا نتيجة سوء استخدام اللغة، معركة سلاحها المنطق الرياضي.

هكذا خلق هؤلاء الرواد الثلاثة، رسل ومور وفتجنشتين، التيار التحليلي الذي هو أقوى تشغيل واستثمار للمنطق الرياضي في فلسفة القرن العشرين في فلسفة للغة.

كان فتجنشتين بعباراته الصاروخية القاطعة الحاسمة هو الأقوى تأثيرًا في التيار التحليلي، حتى اعتُبر الأب الروحي لسائر فلاسفته، وهو الذي صبغه بالصبغة اللغوية الساطعة. كان متطرفًا إلى حد يلامس العصابية في حكمه بأن كل المشاكل الفلسفية لغو ينبغي استئصاله لأنها لا تطابق الواقع التجريبي، حتى قيل إن «نصل أوكام» يهدف إلى استئصال الشطحات الفلسفية الزائدة، بينما هدف فتجنشتين إلى استئصال شجرة الفلسفة من جذورها! أمثال هذه الدعاوى الهوجاء تظهر في كل عصر ومصر، وتظل شجرة الفلسفة ريانة الأفنان غير قابلة للاستئصال. وقد ظلت ناضرة مثمرة على الرغم من شيوع فلسفة فتجنشتين بشكل أو بآخر في سائر المذاهب التي تفرعت عن التيار التحليلي.

أول فروع التيار التحليلي هو ما يمكن أن نسميه مذهب التحليل العلاجي Therapeutic Analysis الذي ساد في كمبردج ذاتها طوال الثلاثينيات مع جون ويزدم وموريس ليزرويتز ومالكوم وسواهم. أخذوا عن فتجنشتين أن التحليل المنطقي «علاج» للالتباسات والبلبال الناشئ عن سوء استخدام اللغة، ويشفينا من الترهات الفلسفية. إلا أنهم لم يهاجموا الفلسفة بالضراوة التي هوجمت بها من فتجنشتين، بل رأوا المشاكل الفلسفية الكبرى تقوم بدور في تنوير العقل البشري، ولا بد أن ثمة أسبابًا وجيهة تدفع إلى الانشغال بالمشاكل الميتافيزيقية الكبرى كحقيقة المادة ووجود الآخرين وخصائص المطلق … إلخ، على هذا رأوا أن مهمة التحليل الفلسفي ليس مجرد التوضيح وإزالة اللبس والغموض، بل أيضًا تهدئة القلق الفلسفي وعلاج العقول من الهم الميتافيزيقي وتحريرها من ضغوطه، وذلك بالكشف عن حقيقة المشاكل الفلسفية بواسطة التحليل المنطقي الدقيق، حتى إن جون ويزدم في كتابه «الفلسفة والتحليل النفسي» (١٩٥٣م) يقارن هذا بالتحليل النفسي. والتحليل الفلسفي العلاجي لا يستأصل شأفة الفلسفة، بل يزيل المشكلة الفلسفية مُبقِيًا على الدور الذي لعبته في تنوير العقول، والفلسفة التحليلية في كل حال نشاطٌ فني احترافي للتوضيح وقد أصبح هنا أداة للعلاج.

استمر فلاسفة كمبردج في تحليلاتهم للمشاكل الفلسفية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. وبعدها انتقل مركز التحليل إلى أكسفورد متخذًا طورًا جديدًا ينصبُّ على تحليل اللغة الجارية بين الناس مع جيلبرت رايل وجان أوستن وبيتر ستراوسون. هذا بخلاف فروع التيار التحليلي في قلب القارة الأوروبية، وعلى رأسها بالطبع الوضعية المنطقية في النمسا. الوضعية المنطقية هي المسئولة عن كل تطرفات وجنوحات التيار التحليلي؛ فقد تمسكت بمفهوم رسالة فتجنشتين الضيق للفلسفة بوصفها منطقًا للغة العالم التجريبي، كما تتبلور في لغة العلم. وشيئًا فشيئًا تخلَّق عن هذا مفهوم للفلسفة بأسرها بوصفها تحليلًا منطقيًّا لكل أشكال الأقوال حتى في اللغة الجارية. هكذا نجد الوضعية المنطقية — بتعبير فون رايت — هي ينبوع التحليل، يتدفق ليتفرع ويتشعب في التيار التحليلي العريض.

الوضعية المنطقية في أصلها حلقة علمية، تخلقت في جامعة فيينا العام ١٩٢٢م من علماء ذوي ميول فلسفية قوية وفلاسفة ذوي ميول علمية قوية ورياضيين ومنطقيين محترفين. كانوا يجتمعون في لقاءات دورية استمرت حتى عام ١٩٣٨م، لمناقشة قضايا ومفاهيم فلسفة العلم. هذه هي دائرة فيينا التي صاغت مناقشاتها فلسفة الوضعية المنطقية.

سلموا تسليمًا ﺑ «الرسالة المنطقية الفلسفية» لفتجنشتين، حتى عُدت إنجيل الدائرة التي تفككت بفعل الغزو النازي للنمسا، بعد أن قدموا أقوى تمثيل لروح الفلسفة العلمية في القرن العشرين. على أن تكون الفلسفة مقتصرة على التحليل بخصائصه الأربع المذكورة، وهي اللغوية والتفتيتية والمعرفية والبين ذاتية، ثم تتميز الوضعية المنطقية بقصر هذا التحليل بأدواته المنطقية على العبارات العلمية لا سواها، بهذا تغدو الفلسفة علمية.

أما العلوم المعيارية وهي فلسفة الأخلاق والسياسة وفلسفة الجمال، فأصرَّ الوضعيون المناطقة على أنها جميعًا عبارات انفعالية وجدانية لا تزيد عن ضحكة المسرور أو صرخة المتألم، طالما أنها ليست البتة عبارات معرفية. أما الميتافيزيقا فهي جلبة أصوات بغير معنًى، حتى اشتهرت الوضعية المنطقية بمبدئها القائل: «الميتافيزيقا لغو.» ولتأكيد هذا اصطنعوا مبدأ القابلية للتحقق، الذي يعني أن العبارة التي لا يمكن التحقق الحسي منها هي عبارة بغير معنًى.

وثمة أيضًا التحليلات البولندية التي مورست في ظلال مدرسة المنطق العظيمة في وارسو. وقد كان رائدها تفاردوفسكي يؤكد أن السيمانطيقا وتحليلات المعاني مدخل ضروري للفلسفة، فقط مدخل، وليس كل الفلسفة كما ذهبت الوضعية المنطقية.

وقد حدد سكوليموفسكي H. Skolimowisk في كتابه «الفلسفة التحليلية البولندية» (١٩٦٧م) أربع خصائص تجتمع عليها سائر فروع التيار التحليلي، على ما بينها من خلافات وفوارق، حتى أن هذه الخصائص الأربع تمثل صلب الفلسفة التحليلية. أولها الاهتمام الواعي المتزايد باللغة فأصبحت اللغة نفسها موضوع البحث الفلسفي، حتى قيل إن الفلسفة التحليلية مجرد دراسة للغة، ليس المقصود اللغة الإنجليزية دونًا عن العربية أو الصينية … إلخ، بل اللغة من حيث هي لغة كما تتمثل في رموز وقواعد للتراكيب، أو في السيمانطيقا والسينتاطيقا. الخاصة الثانية هي التفتيت، بغرض معالجة المشاكل الفلسفية جزءًا جزءًا، وهذا التفتيت يجعل الممارسة الفلسفية أقرب شبهًا بروح العلم التجريبي ومناهضة للاتجاه الشمولي الهادف إلى بناء الأنساق الميتافيزيقية الواحدية الشامخة، وقد وجد هذا التفتيت التحليلي لغته المنطقية الرسمية في مذهب الذرية المنطقية لرسل وفتجنشتين. يتصل التفتيت بالخاصة الثالثة وهي السمة المعرفية، كل الفلسفات التحليلية ترتبط بشكل أو بآخر بمشكلات المعرفة والعلاقة بعالم العلم التجريبي، لذلك اتصلَت اتصالًا وثيقًا بفلسفة العلم وأفضت إلى واحد من أهم مذاهبها هو الوضعية المنطقية. أما الخاصة الرابعة فهي التناول البين-ذاتي، بمعنى أن التحليل المنطقي لا يرتبط بذات دون أخرى، بل له دائمًا معناه ومدلوله المشترك بين الذوات جميعًا، كلها تشارك فيه وتتفق عليه. إن البين-ذاتية هي المفهوم المعاصر للموضوعية المتفادي لمشاكلها. وبهذا تتميز الفلسفة التحليلية عن سواها من فلسفات قد تمارس تحليلًا لا هو موضوعي ولا هو لغوي ولا هو منطقي، وأبرز الأمثلة تحليلات الوجوديين المسهبة للوضع الإنساني. ويمكن ملاحظة أن الخصائص كلها تستقطب روح العلم، وتمثل طابع الفلسفة العلمية التي سادت القرن العشرين.

هذه الصفات أو الخصائص الأربع تجتمع في سائر فروع الفلسفة التحليلية، حتى «الرسالة المنطقية الفلسفية» لفتجنشتين، ومنطق رسل وفلسفته التحليلية التي قامت هذه الرسالة على أكتافها.

إن رسل هو الرائد الأكبر، وانطلقت الفلسفة التحليلية من رحابه، لتنمو وتتطور وتتجاوز الحدود التي رسمها، كما يحدث كثيرًا للأفكار الفلسفية الكبرى. وكان رسل في كل حال دائم الاستعداد للدفاع عن التحليل، ويسهب في تبيان أن رفضه هو رفض للتقدم العلمي ولروح العلم، وإن ساءته بعض التطورات اللاحقة. منذ البداية أراد جورج مور قصر الفلسفة على التحليل، ورفض رسل هذا مؤكدًا أن التحليل اللغوي مجرد وسيلة مفيدة جدًّا، ولا ينبغي أن يتحول إلى غاية تلهي عن إنجاز الأهداف الفلسفية الكبرى. وجاهَر بأن التحليل في حد ذاته لا يكفي أبدًا لحل المشكلة الإبستمولوجية والمشكلة الأنطولوجية. هاجم رسل الفروع التي جعلت التحليلات اللغوية غاية وقصرت الفلسفة عليها، مؤكدًا أن المأخذ الوحيد الذي يمكن أن يؤخذ على الفلسفة التحليلية هو أنها أدت إلى هذه الفروع المتطرفة حيث أصبحت الفلسفية معنية أكثر بفهم نفسها، وتنكرت للمهمة التي اضطلعت بها منذ طاليس وطوال عهودها، وهي مهمة فهم هذا العالم. أوسع رسل هذه الفروع نقدًا، وقال عن فلاسفة اللغة الجارية في أكسفورد إنهم ينشغلون بالأشياء التافهة التي يقولها البلهاء، وهذا أمر قد يكون مسليًا لكنه ليس هامًّا!

وعلى الرغم من أن الوضعية المنطقية أكثر المدارس استفادة من جهاز رسل المنطقي المهيب، وتوظيفًا لنظريته في الأوصاف المنطقية والخلو من المعنى، فإن رسل خص الوضعية المنطقية بالقسط الأكبر من نقده الموجه، وأفرد لهذا مقالًا مطولًا بكتابه «المنطق والمعرفة» (١٩٥٦م) الذي حمل أهم محاضراته ومقالاته طوال النصف الأول من القرن العشرين، فهل هذا لشدة تطرف الوضعية المنطقية التحليلي أم لعلو صيتها حتى كادت تكون التمثيل الرسمي لفلسفة العلم، ليس في سياق الفلسفة التحليلية فقط، بل في سياق الربع الثاني من القرن العشرين بأسره؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤