الفصل الخامس

الفينومينولوجيا … والهيرمنيوطيقا

إذا تركنا إنجلترا، إلى القارة الأوروبية، نجد الشعب الألماني ينفرد بعطائه العقلي الرصين للحضارة الإنسانية، في المنطق والرياضيات والعلم والمذاهب الفلسفية الكبرى.

وقد رأينا الفلسفة الألمانية تقوم بدورها في بناء الأنساق الشامخة والمذاهب المثالية الكبرى، حتى أن المثالية قد حكمت القرن التاسع عشر بفضل يعود أساسًا إلى المثالية الألمانية، كما رأينا فيما سبق.

ومع هذا فإن ما شهده القرن العشرون من طغيان المعالم التجريبية والواقعية، وبالتالي الانشقاق على المثالية الخالصة، قد امتد إلى ألمانيا نفسها.

لقد شهد ذلك العام الحاسم، العام ١٩٠٠م، صدور كتاب إدموند هوسرل E. Husserl (١٨٦١–١٩٣٨م) «بحوث منطقية» الذي يعني عناية بالغة بتوصيف الزمان ويؤسس مذهب الفينومينولوجيا Phenomenology أو الفلسفة الظاهرية، ما يظهر أمام الوعي. يعود الجذر اللغوي لهذا المصطلح إلى الفعل الإغريقي «فاينو phaino» الذي يعني «أن يجلب إلى الضوء» أو «أن يجعله يظهر»، وهي في معناها الحرفي «علم المظاهر» أو الظواهر.

ونذكر من الأعمال المبكرة للرائد إدموند هوسرل كتابه «الفلسفة بما هي علم دقيق» (١٩١٠م)، فقد كانت الفينومينولوجيا حريصة على تمثيل ما لروح العلم، وفعلت هذا بطريقتها المتميزة والخاصة جدًّا التي ترفض الاستنباط الرياضي والاستقراء التجريبي على السواء. لقد انصبت على عالم الظواهر كما يفعل العلم، وشقت لهذا طريقًا مختلفًا — كما صادرت منذ البداية — بما أسمته التجربة الحية المعاشة وتحليل ماهية الظواهر المعطاة للوعي. وبهذه الطريقة افترقت الفينومينولوجيا عن التيار المثالي في القرن التاسع عشر، واقتبست — بأسلوبها الخاص — الروح التجريبية للقرن العشرين.

وعلى أية حال فإن الفينومينولوجيا بتفرُّعاتها وامتداداتها وتطبيقاتها من التيارات الهامة في فلسفة القرن العشرين التي تساهم في التعبير عن روحه العامة، خصوصًا وأن الفينومينولوجيا منهاج للبحث وأسلوب للنظر، وليست البتة مصفوفة من الحقائق الأولية المثالية أو الميتافيزيقية المطلقة.

ترى الفينومينولوجيا أن افتقاد العلم التجريبي الحديث للأسس الإنسانية وأبعاد الوعي الإنساني بمثابة خطر داهم يهدد الحضارة، ويمكن القول إن نقطة البدء هي التي انطلق منها هوسرل لتأسيس المذهب الفينومينولوجي كانت هي التخلف النسبي للعلوم الإنسانية بالذات فقد رأته أزمة العلم الغربي والحضارة الغربية بجملتها. ترجع هذه الأزمة إلى التبني الأعمى لمسلمات ومناهج العلوم الطبيعية على الرغم من الاختلاف النوعي للظواهر الإنسانية عن الظواهر الطبيعية.
لقد بدأ هذا الطريق منذ الرائد فيلهلم دلتاي W. Dilthey (١٨٣٣–١٩١١م)، وهو في طليعة الرواد الذين استشعروا بعمق وأصالة مشكلة العلوم الإنسانية حديثة النضج والنماء، وعجزها عن تحقيق التقدم الذي أحرزته العلوم الطبيعية. ورفض دلتاي موقف كل من المثاليين والتجريبيين — أو بتعبير آخر موقف المعارضين للمذهب الطبيعي والمؤيدين له، وتعهد دلتاي بتأسيس العلوم الطبيعية على نحو أكثر نسقية ومنهجية، وبوصفها شديدة التباين منهاجًا وتطبيقًا عن العلوم الطبيعية، هذا من حيث كونها نسبية متغيرة وفقًا للأنماط والإيقاعات التاريخية للسياقات الاجتماعية — أو السياقات الثقافية حسب اصطلاح دلتاي المفضل، فكان له تأثير على الدراسات التاريخية، بحيث أصبح المؤرخون في حل عن تحقيق السمة العلمية الدقيقة المتبعة في العلوم الطبيعية، وترك أيضًا تأثيرًا أقل في الدراسات الاجتماعية. ولكن يعنينا من أمره الآن أنه بهذا كان رائدًا مهد الطريق الذي اختطته فيما بعد الفينومينولوجيا.
ونذكر في هذا الصدد الثنائي الشهير فندلباند وريخرت. كان فندلباند W. Windelband (١٨٤٨–١٩١٥م) مؤرخًا للفلسفة وفيلسوف الكانطية الجديدة في ألمانيا، فحاول مد مبادئ فلسفة النقد الكانطية إلى مجال العلوم التاريخية، ولكنه ناضل للتحرر من ربقة تصور العلوم الطبيعية على أنها المثل الأعلى الذي يحتذى بالنسبة لكل العلوم، وكان سلاحه في هذا التفرقة بين العلوم الطبيعية والأنساق التاريخية.
وأيضًا رفض هنريش ريخرت H. Richert (١٨٦٣–١٩٣٦م) الزعم بالصلاحية الشاملة لمنهج العلوم الطبيعية، أو أنه منهاج لكل العلوم. لكنه رفض النزعة الذاتية عند دلتاي ورفض أيضًا التفرقة التي أقامها فندلباند ووضع بدلًا منها نظرية تعتبر كل الوقائع تاريخية. وفي النهاية اشتهر فندلباند وريخرت معًا بالتفرقة بين علوم الوقائع وعلوم الأحكام، أي بين النوميطيقي Nomothetic وهو الكوني العام الطبيعي، وبين الأيديوجرافي Ideographic وهو الفردي الخاص الإنساني، وهي تفرقة سبق أن نوه بها أرسطو. النوميطيقي المتعلق بالوقائع هو مجال العلوم الطبيعية والإيديوجرافي المتعلق بالأحكام هو مجال العلوم الإنسانية؛ ليختلفا منهاجًا وتطبيقًا.

وعلى هذا الأساس عملت الفينومينولوجيا على أن تشق طريقًا جديدًا مختلفًا للعلوم الإنسانية يقيلها من عثرتها ويحقق تقدمها المأمول ويبطل ردها إلى العلوم الطبيعية أو اتباع طريقها. إنه طريق يختلف — كما ذكرنا — عن منهج الاستقراء السائد في العلوم الطبيعية الصاعد من الوقائع الإمبيريقية إلى القانون العلم، بقدر ما يختلف عن منهج الاستنباط السائد في العلوم الرياضية الهابط من مقدمات كبرى إلى نتائج تلزم عنها.

ويقوم المنهج الفينومينولوجي على أساس أن التجربة الحية هي المدخل الوحيد للعلم بالظواهر الإنسانية. وهذا المنهج الفينومينولوجي الذي نما وتطور خلال القرن العشرين، مع كثيرين نذكر منهم موريس ميرلو بونتي M. Merleau Ponty (١٩٠٨–١٩٦١م)، يعني تركيزًا خاصًّا على الظاهرة، أي ما يظهر أمام الوعي. إنه يبدأ من الواقعة الأولية المعطاة للوعي والمدركة حدسًا أي بصورة فورية دون استدلال ودون مراحل للإدراك، فنكون بإزاء «الإحالة» إلى الوعي و«قصدية» الوعي، أي أن الوعي يقصد الظاهرة المعنية فيتوجه إليها، إلى شيء آخر سوى ذاته.

وعن طريق القصدية والإحالة المتبادلة بين الوعي وموضوعه تنهار القسمة المصطنعة بين الذات والموضوع التي ورثناها عن الفلسفة التقليدية والتقابل الشهير فيها بين المثالية والمادية. بالمنهج الفينومينولوجي لا يبقى إلا التجارب الشعورية الحية التي تحمل الطابع الخاص لما هو إنساني، إنها معطيات واقعية، فتظهر الحقيقة بوصفها تيارًا من الخبرات، الخبرات باعتبارها أفعالًا خاصة بالوعي، ومن حيث هي بنيات وتراكيب وليست مجرد تجارب شخصية، لا بد إذن من وصف المضامين الخالصة لما هو حاضر في الوعي، في الخبرة أو الشعور، وتأويل الظواهر بحيث تعرض نفسها للتحليل في شكل خالص لتكشف لنا عن الأشياء نفسها، عن الماهيات.

ومن ثَم يقوم المنهج الفينومينولوجي على تعليق الظاهرة في حد ذاتها أو وضعها بين قوسين، ثم إعادة بنائها عن طريق تحليلها كما هي معطاة للوعي، أي من حيث هي خبرة شعورية مندرجة في تيار الزمان.

وقد كان الهم الأساسي للفينومينولوجيا — كما ذكرنا — هو العلوم الإنسانية وتقدمها، ومع هذا لم تساهم كثيرًا في هذا الصدد، وأسفرت عن مدارس محدودة التأثير في علم النفس وعلم الاجتماع. ولم تأبه بالفينومينولوجيا تلك المدارس الكبرى التي أحرزت حصادًا علميًّا هائلًا كالسلوكية المعدَّلة وعلم النفس المعرفي والوظيفية والسوسيومترية في علم الاجتماع والاقتصاد التحليلي … إلخ، وحتى حين نشأ علم النفس الفينومينولوجي ظل أقرب إلى الفلسفة منه إلى العلم السيكولوجي وأيضًا لم يكن للفينومينولوجيا تأثير على فلسفة العلم، ولم تتلاقَ معها إلا فيما نَدَر.

•••

وبخلاف ميدان العلوم التجريبية التخصصية الطبيعية أو الإنسانية، فقد تطورت الفينومينولوجيا وكان لها حضور قوي جدًّا في فلسفة القرن العشرين، وعدت من أهم الاتجاهات الفكرية المعاصرة.

ويمكن القول إن أهمية وفاعلية الفينومينولوجيا قد شهدت واحدة من أقوى تجلياتها في مجال الهيرمنيوطيقا  Hermeneutics أو فلسفة التفسير والتأويل ولا سيما تأويل النصوص، حيث تحقق المنهج الفينومينولوجي فعلًا وآتى أكله.

والهيرمنيوطيقا في أصوله القديمة هو علم تأويل الكتب المقدسة، لكنه قفز قفزة هائلة عبر الفينومينولوجيا، وأصبح الآن نظرية عن الخبرة الواقعية الحية باللغة/النص. إنه علم قراءة وفهم النصوص على إطلاقها، سواء دينية أو فلسفية أو أدبية أو قانونية … إلخ. ويكتسب أهمية خاصة في النصوص التراثية؛ لأن القراءة الهيرمنيوطيقية ينصهر فيها النص والقارئ معًا … الماضي والحاضر في علاقة تبادلية وتكاملية، إنها تحاوُر مستمر مع النص، يجعله مفتوحًا دائمًا لفهم جديد وتأويل جديد، وبالتالي تغدو النصوص التراثية معاصرة دومًا، معاصرة لكل من يقرؤها مجددًا، كل عصر يدخل في العلاقة الموائمة لحيثياته، النص مادة خام، قالب يتسع لمضامين عديدة، فلا يكون له معنى دون أن يتحدث القارئ/المؤول نيابة عنه. إنه يتحدث بلغته، لغة الحاضر، ودون مشاركة الحاضر يختفي النص، يتصلد ويتجمد ويفقد علاقته بالواقع.

فما دامت الفينومينولوجيا تعني بتحليل الظواهر من حيث هي تجارب معاشة، لإدراك معانيها المستقلة (ماهياتها) فلا غرو أن يدخل النص في صميم موضوعها هكذا؛ فهو ظاهرة حية في وعي الكاتب وفي وعي القارئ. مهمة المؤلف أو الكاتب تنتهي بخروج النص من المطبعة، أما القراءة والتأويل فمهمة مستمرة وإمكانية مفتوحة دومًا لفهم جديد … لتأويل جديد.

إن الهيرومنيوطيقا منهاج ذو قدرة منفردة على بث الحياة مجددًا ودائمًا في النص، من حيث يلقي الحياة والمسئولية على عملية القراءة، هو في كلمة واحدة: انصهار النص والقارئ معًا، النص مادة خام، القارئ يشكلها ويعيد تشكيلها في كل عصر تبعًا للأفق الثقافي المُعطى، القراءة مهمة مستمرة، والتأويل إمكانية مفتوحة متجددة دائمًا.

من هنا تحولت فينومينولوجيا أو ظاهريات النصوص إلى علم مستقل هو الهيرمنيوطيقا، يستفيد من علوم إنسانية عديدة ويفيدها، وعلى اتصال وثيق بنظرية المعرفة.

وبفضل هانزجيورج جادامر H. G. Gadamer وكتابه الرائد «الحقيقة والمنهج» (١٩٦٠م) استوت الهيرمنيوطيقا علمًا له مدارسه، واتجاهًا واسعًا مارس سيطرة كبيرة على الأجواء الثقافية ومدارس النقد الأدبي في الربع الأخير من القرن العشرين. إنه علم يقوم على إلغاء التباعد بين القارئ والنص، أو ما رأينا الفينومينولوجيا تمارسه من إلغاء التباعد بين الذات والموضوع، وبالتالي فهم النص ليس كموضوع مفارق، بل في سياق إنتاجه وفي أفق المتلقي له أو القارئ، فتتعدد مدلولاته بتعدد آفاق المتلقين باختلاف الأزمنة والأمكنة، ويبقى النص مَعينًا لا ينضب وإمكانية متجددة دومًا. باختصار التعامل مع النص كظاهرة في تيار الشعور كظاهرة معطاة للوعي. هكذا نجد الهيرمنيوطيقا أقوى امتدادات الفلسفة الفينومينولوجية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤