الفصل السادس

الوجودية

في مقابل الاتجاهات المحددة والمناهج المرسومة التي رأيناها فيما سبق نجد أن الوجودية ليست البتة مذهبًا فلسفيًّا دقيقًا، منهاجًا وتطبيقًا، كالفلسفة التحليلية مثلًا، كلا، ولا هي مدرسة يمكن صياغة تعاليمها في قضايا محددة. على العكس تمامًا يتميز هذا الاتجاه الفكري بالنفور من المذهب والمذهبية.

تنفر الوجودية من المذهبية من حيث ترفض في تناولها لإنسانية الإنسان ذلك البحث الذي دأبت عليه المثالية، أي البحث عن الماهية الثابتة موضوع الخبرة المعرفية العقلانية. ترفض الوجودية الماهية الثابتة لأنها ليست الحقيقة في تعينها واكتمالها. الحقيقة هي — بالأحرى — الوجود الذي نمر به في الخبرة الفورية الحية. وسوف نرى أن التمييز بين الوجود والماهية من الأسس الكائنة في صلب الفلسفة الوجودية.

وكدأب البحث الفلسفي، بذلت محاولات عديدة لتعقب جذور الوجودية في أعماق التاريخ الفلسفي، وصلت حتى مين دي بيران وبليز بسكال والقديس أغسطين، وحتى سقراط العظيم. ولكن المعتمد أكاديميًّا أن فلسفة سورن كيركجارد S. Kierkegaard (١٨١٣–١٨٥٥م) أول صورة ناضجة ومكتملة للفلسفة الوجودية كاتجاه فكري معاصر، وصك شهادة الميلاد الرسمية التي ينبغي أن يعترف بها الجميع.

وفي عصر كيركجارد، كان الافتتان بالعقل، الذي بدأه أبو الفلسفة الحديثة رينيه ديكارت، قد بلغ مداه، فنجيب العقل الأثير، أي العلم الحديث قد أحرز الذروة الشاهقة بنظرية نيوتن، إنها نسق شامل للعلم بالطبيعة، تجاهد بقية أفرع العلوم البيولوجية والإنسانية للدخول في أعطافها. يوازي هذا نجاح الفلسفة العقلانية — خصوصًا الألمانية — في بناء أنساق شامخة، تحاول استيعاب الوجود بأسره في قلب فئة من التصورات فأشرق القرن التاسع عشر في أحضان «عصر التنوير»، عصر الإيمان بقدرة العقل على فض مغاليق هذا الوجود.

إن التطرف نتوقع منه دائمًا التطرف في الاتجاه المضاد. وكرد فعل متوقع لتطرف عصر التنوير في العقلانية، تمخض عصر التنوير عن الحركة الرومانتيكية، من حيث تمخض عن فلسفة كيركجارد الوجودية التي كانت نقطة بدايتها رفض العقلانية التنويرية، بمعنى رفض سيادة المذاهب النسقية سواء العلمية أو الفلسفية، فهي في كلتا الحالتين باردة جافة مقطوعة الصلة بالتجربة الحية المُعاشة، وتُنظر إلى أية حقيقة واقعية — حتى الإنسان — كموضوع، كشيء ما غريب عن الإنسان، وتسحق فردانيته بما فيها موضوعية وعمومية وتجريد.

ولسوف يظل ديدن الفلسفة الوجودية منذ البداية وحتى النهاية رفض كل ما يمس فردانية الفرد؛ فهم يجعلون محور النظر الفلسفي السؤال: ماذا أكون؟»١ من أجل إبراز قيمة الفرد، وتحليل الوجود البشري من حيث أخص ما فيه من فردية وعينية»٢، ومن حيث هو جزئي عارض لا يندرج تحت أية بنية نسقية عقلية، ليصلوا إلى الوجود كما يتجلَّى في مواقف التفرد الإنساني مواجهة الموت مثلًا وهو أقصاها، فبهذا يصبح العالم متأصلًا في صميم الفرد، لا مفارقًا عنه في مذهب عقلي مصمت لا يعترف به ولا بفردانيته.
الوجودية إذن فلسفة الوضع الإنساني، على أن نميز بين اتجاهين لفلسفة الوضع الإنساني: الأول هو الماهوي الذي ينظر إلى الإنسان في حدود طبيعته الماهوية داخل الكون ككل وهو ما تبحث عنه المثالية، والاتجاه الآخر هو الوجودي الذي ينظر إلى الإنسان في معضلته في الزمان والمكان، ويرى الصراع بين ما هو موجود فيهما، وما هو مُعطًى في الماهية،٣ كإمكانية تنتظر التحقيق.
وكان الفيلسوف الألماني هاينمان F. Heinemann هو الذي قدم مصطلح «الوجودية Existentialism» فقط العام ١٩٢٩م، وكان مصطلحًا شديد الدلالة وصائبًا جدًّا. إنه مشتق من الجذر اللغوي Ex-sistere الذي يعني في أصوله اللاتينية الانبثاق، بمعنًى قريب من to emerge. والوجودية فعلًا هي فلسفة الانبثاقة في هذا العالم، وليست فلسفة الكينونة Being فيه. فمع الكينونة لا توجد إمكانية غير متحققة، الكينونة تحقق خالص. أما الوجود — الذي هو مقابل للماهية — فدائمًا إمكانية مفتوحة، تنتظر الاختيار والقرار لكي تتحقق.
وهذه الإمكانيات هي ما تصوب عليه الفلسفة الوجودية أنظارها. وليس اسمها «الوجودية» فقط بل وكل مصطلحاتها الأساسية نُحِتت في اللغة الألمانية؛ حتى يمكن القول إن الوجودية نبتة ألمانية نشأت أصلًا من توتر موقف العقلانية الألمانية في بدايات القرن التاسع عشر. وقد كان فلسفة المؤسس سرن كيركجور، وهو دانمركي، رد فعل لفلسفة الماهية مع هيجل الألماني.٤

الوجودية إذن مجرد اتجاه عام لتحليل الوضع الإنساني، بل واتجاه ظل مضمرًا، ولم يخرج من الصحائف ويتبدى إلا في أعقاب الحرب العالمية الأولى، في ألمانيا ثم في فرنسا، ولم يكتسب حتى اسمًا إلا في العام ١٩٢٩م. لا غرو إذن أن يضم الاتجاه الوجودي فلاسفة شتى تختلف مشاربهم أيما اختلاف وقد تتناقض، ليس فقط في قضايا الفلسفة العامة، بل وفي صميم القضايا التي تُشكل صلب الاتجاه الوجودي. ولن نجد مقولة واحدة اتفقوا عليها، أو يمكن أن تنطبق عليهم جميعًا بلا استثناء. فلا نتوقع مرسومًا بتعاليم الوجودية، ولا سبيل إلى وضع تعريف جامع مانع لها. وبدلًا من هذا سوف نحاول تحديد الاتجاه الوجودي، عن طريق نقطة البداية والمسار والهدف، وأبرز المعالم وأهم الخصائص.

•••

حينما نفكر في السؤال: ماذا أكون ومن أكون؟ سنُلقي أنفسنا في دوائر مغناطيسية من التساؤلات: كيف ولماذا ومن أين جئنا؟ وإلى أين نمضي؟ … الواقعة الوحيدة الجلية هي أننا «موجودون»، فبدأت منها الوجودية. و«كان ينبغي أن نبدأ من علاقتنا الأولية بما هو في ذاته: أي بوجودنا-في-العالم.»٥ على أن أَمْيز ما يميز الوجودية هو أنها لا تبدأ من الوجود ذاته كمقولة عامة، كماهية، لا منه كواقعة عينية متشخصة في فرد محدد. الموجود البشري يمتاز عن سائر الموجودات بأن كل فرد مُلقًى في موقف وجودي معين لا يمكن أن يحل محله أو يشاركه فيه أي فرد آخر. كل إنسان فرد فريد، لا يجوز اعتباره عينة في فئة. هكذا تبدأ الوجودية من أنا … أنت … هو … أي من الذات؛ فيغدو الوجود ذاتيًّا، لا يمكن أن نجرده ونعرفه من الخارج كمعطًى موضوعي، أو أن نرده إلى قوالب تصورية؛ فهو لا يُرد إلى سواه. إنه يتصف بالذاتية العميقة من حيث يتصف بالسر الذي يجعله يتأبى على كل محاولة لجعله موضوعًا.
هذه الذاتية أو الفردانية لا تقلل من شأن العالم، ولا من شأن الآخرين؛ «فإذا كانت مشكلة وجود العالم قد أرَّقت فلاسفة الذات الذين وضعوها في جانب، والعالم في جانب آخر، ثم حاولوا الجمع بينهما، فإنها لا تشغل الوجودي البتة؛ لأن نظرته تقوم على وحدة الذات والموضوع.»٦ إن امتلاك الإنسان لجسد والجسد كأداة للإنسان، هذا يجعله يشارك في العالم، كظاهرة طبيعية، وهو في الآن نفسه فائق للطبيعة المادية، لذا يرى الوجودي الإنسان كوحدة بدنية نفسية، فلا يبدأ من الذات الميتافيزيقية، أو من الماهية، بل من (الوجود-العيني-في-العالم)، حيث الذات البشرية والعالم حقيقتان أصيلتان متساويتان. لا ذات بغير عالم، ولا عالم بغير ذات. وهذا يفضي إلى (الوجود-مع-الآخرين) الذي هو سمة أساسية من سمات الموجود البشري. «وجود الإنسان في جسد يتبعه فعل الشعور، وفعل الشعور لا يمكن تفسيره إلا من خلال المشاركة مع الآخرين.»٧
هكذا نخلص إلى أن الوجودية تبدأ من وحدة (الوجود-مع-الآخرين-في-العالم) التي يجسدها الوجود اللاعقلاني المحسوس، التجربة الحية الخفاقة في الصدور، لا المتجردة في العقول. هذه هي نقطة البداية، التي يلخصها ببراعة مصطلح هيدجر Dasein أي (الموجود هنالك) الكائن المُلقى به في هذا العالم مع الآخرين.

أما نقطة النهاية، أو هدف الأهداف من الفلسفة الوجودية، فهو البحث المشبوب عن الوجود الأصيل (الشرعي) والحيلولة دون الوجود الزائف. الوجود أصيل بقدر ما يشكل المرء نفسه، وزائف بقدر ما تشكله مؤثرات خارجية فيفقد ذاته. من هنا كان صون الوجوديين للُحرية، ونقدهم للمجتمع وأعرافه، ودعوتهم الفرد للخروج على كتلة الجماهير، ورفض القيم الجاهزة وسائر العموميات … وذلك ليحمل وحده مسئولية ذاته، فيكونها، ويحقق وجوده الأصيل، وهذا لن يتأتى إلا حين (الفعل المشتمل على الحرية والفكر والقرار).

ها هنا نضع الأصبع على العمود الفقري ودماء الحياة من الاتجاه الوجودي: حرية الإنسان. «إنهم لا يحللون الوجود الإنساني إلا من حيث إنه أساسًا فعل حرية، تتكون بأن تؤكد نفسها، وليس لها منشأ أو أساس آخر سوى هذا التوكيد للذات.»٨ فعلى خلاف نهج الفلاسفة في القول بحرية الإنسان، لا يحاول الوجوديون وضع أية براهين تثبتها أو دحض أدلة تنفيها، فهذا نقض للحرية التي تعني المطابقة بين كون الإنسان موجودًا وكونه حرًّا. وكما يقول سارتر «الحرية ليست وجودًا ما، إنها وجود الإنسان.» ويستأنف موضحًا: «إنني محكوم عليَّ أن أكون حرًّا، وهذا يعني أنه لا يمكن أن يوجد لحريتي حدود أخرى غير ذاتها، أو إذا شئنا فنحن لسنا أحرارًا في الكف عن أن نكون أحرارًا.»٩ ولو كانت كل وقائع حياة إنسان ما تشهد بأنه ليس حرًّا، كأن يخضع لمشيئة غير مشيئته، أو حتى للعقل الجمعي في قرار ما، لقال الوجوديون إنه بفعل من أفعال الحرية اختار التنازل عن الحرية، وبالتالي عن الوجود الأصيل وقنع بالوجود الزائف، اختار أن يكون مشتتًا ممزقًا بلا إرادة — باصطلاح سارتر: سيء النية. وسوء النية يعني أن الموجود الإنساني «يمكنه أن يتخذ مواقف سلبية بإزاء نفسه.»١٠ فتقول رفيقة عمره وفكره سيمون دي بوفوار: «إن الإنسان لا يستطيع أبدًا أن يتنازل عن حريته، وحين يزعم أنه يتخلى عنها فإنه لا يفعل شيئًا إلا أن يحجبها عن نفسه، وهو يحجبها بحرية. إن العبد الذي يطيع يختار أن يطيع، واختياره لا بد أن يتجدد في كل لحظة. إن الإنسان يُخلص لأنه يريد ذلك بكل إرادته، وهو يريد ذلك لأنه يأمل بهذه الطريقة أن يستعيد كينونته.»١١
وبالطبع لا شيء مطلق. فثمة ما أسماه الوجوديون «المواقف الحديَّة» التي تمثل حدًّا لحرية الإنسان فلا يستطيع أن يفلت منها كالموت والقلق … وأيضًا الجنس واللون والطبقة … فضلًا عن قسوة المواقف الحدية الشاذة كالعاهات وحالات المعوقين والمشوهين والأمراض المزمنة. على أنها — جميعًا وغيرها — تمثل حدود الموقف الذي تمارس الحرية داخله، ولا تنفيها. حرية الفرد غير قابلة للنفي، طالما أنه لا شيء ينفي كونه موجودًا.
إن الوجودية أصلًا وفروعًا فلسفة الموقف؛ لأن الموقف هو الحياة، والحياة هي الوجود في موقف. «الموقف هو ما جعل الإنسان (= الوجود-لذاته) لا يشابه بحال الشيء (= الوجود-في ذاته).»١٢
من هنا كان المسرح الوجودي، وليس مسرح دراما وأحداث. ونأتي للأخلاق الوجودية، فنجدها أخلاق موقف مشدود إلى المستقبل، لا قانونًا مستكنًّا في الماضي. ويتصور البعض أن الحرية الوجودية ستجعلها فلسفة انحلال وإباحية، في حين أنها تحمِّل الإنسان أقسى مسئولية خلقية، لا عن نفسه فحسب؛ بل عن الإنسانية جمعاء. هذا على أساس أن اختيار قيمة معينة تأكيد لها ودعوى للآخرين كي يختاروها، إنها اختيار للذات وللإنسانية جمعاء، التزام وإلزام.١٣ فتتلخص أخلاقيات الوجودية في: تصرف بحيث يصبح فعلك أنموذجًا للتصرف في كل موقف مماثل، في أي زمان ومكان، فكأننا وصلنا بالطريق المعكوس إلى أقسى صورة عرفتها الفلسفة للأخلاق الصارمة المتشددة، أي مبدأ الواجب المطلق عند إيمانويل كانط. ولئن كان الوجوديون، حتى بعض المؤمنين بالدين منهم، يحتقرون الأخلاق المتعارَف عليها لأن اتِّباعها الأعمى انقياد للآخرين وطمس للفرد، فإنه ليس في مقدور الإنسان أن يقف عند حد رفض القيم الجاهزة، إنما هو مقضي عليه أن يؤسس قيمًا يلتزم بها ويُلزم بها الآخرين، لتصبح كلية على الرغم من إنها في أصلها ذاتية. هكذا يصبح الإنسان الأخلاقي مشرِّعًا ومنفذًا، فهو الخالق الوحيد لمعنى القيم في العالم. إنهم يبحثون عن مستوًى أعمق للضمير، فيسلمون بحرية الإنسان ويرفعون من عليه كل وصاية أو إلزام مُسبق، حتى لا يلتزم إلا بما يقرر هو الالتزام به. وبهذا تكون الأخلاق ذاتية نابعة من أعماق الفاعل متأصلة فيه، وليست خارجية مفروضة عليه ربما بصورية فارغة، وتكون المسئولية عن الفعل من حيث كانت الحرية في الإقدام عليه. إن الحرية والمسئولية وجهان لعملة واحدة كما تقضي مبدئيات التفكير، وكما يسلم كل دستور أو قانون؛ فلا يعد الفاعل مسئولًا عن أية جريمة — مهما كانت بشعة — أُرغِم على ارتكابها بصورة أو بأخرى. وطبعًا لا يوجد — ولن يوجد — فيلسوف وجودي أو غير وجودي، مؤمن أو ملحد، يقول إن كل شيء مُباح. والمفروض أن المسئولية الملازمة للحرية تقوم بعملية الضبط الأخلاقي المنشودة دائمًا، في كل موقف فردي أو جمعي.
وتلك المكانة الفائقة للحرية من ناحية، وللموقف من الناحية الأخرى، جعلت الوجوديين شديدي العناية على وجه الخصوص بالمواقف التي يتجلى فيها معالم الحرية، كالتصميم والتعهد والالتزام والولاء، وعلى رأسها موقف الاختيار واتخاذ القرار وهو الطريق إلى الوجود الأصيل. من هنا كان القرار أحد محاور الفلسفة الوجودية، كلنا نعلم صعوبته، وقد نحاول إرجاءه أو تجنبه، خصوصًا حين القرارات الخطيرة التي يتوقف عليها مواقف ذات دوام، كقرارات المهنة والزواج والصداقة. على أن القرار في كل حال يتضمن وثبة وتجاوزًا للموقف المباشر، بحيث نكون قد ألزمنا أنفسنا بظروف لم تتعين وتتحقق بعد. فمن طبيعة الإنسان أن يلتزم وأن يراهن على المستقبل، لذلك لا بد وأن يتخذ قرارات، وعنها تنبثق الذات.١٤

الذات ليست معطاة جاهزة منذ البداية، إنما المعطى حقل من الإمكانيات غير المتعينة، يختار الإنسان عن طريق القرار بعضًا منها لتتعين وتشكل الذات. وعلى الرغم من أن القرار شاقٌّ ومؤلم، فإن النزعة الوجودية — على وجه الدقة — هي رفض كل ما يحول دون اتخاذ القرار حول الوجود الخاص، كالعرف والتقاليد والروتين. إنهم يحاربون كل ما يعمل على تشكيل حياة الأفراد في قوالب نمطية تجعلهم يسيرون كالدهماء وراء قرارات اتُخذت بالفعل، فيفقد الإنسان ذاته، ويقع في براثن الوجود الزائف.

وآية كل هذا يبلوره التمييز بين الوجود والماهية. ورغم أن هيدجر قال إن ماهية الإنسان كامنة في وجوده، فإنه يمكن اعتبار التأكيد على أسبقية الوجود على الماهية من المعالم البارزة للوجودية. المنضدة مثلًا قبل وبعد أن تُصنع، وفي أية مرحلة من مراحل وجودها، مجرد منضدة. الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يسبق وجودُه ماهيته، «إنه لا يأتي إلى الوجود كموضوع في مكان وزمان، بل كنشاط مستمر للحرية.»١٥ فهو يوجد قبل أن نستطيع تعريفه بأية فكره، «والمقصود أن الإنسان يوجد قبل كل شيء، وأنه يلقى ذاته ويبرز إلى العالم، ثم يُعرف بعد ذلك.»١٦ فطبعًا لا يمكن تحديد ماهية الوليد وقيمه وأهدافه ومثله … إلخ، أو على الإجمال علاقته بالعالم، «علاقتنا بالعالم ليست مقررة من قبل، نحن الذين نقررها.»١٧ ألم نتفق على أن الذات معطاة كحقل من الممكنات. الإنسان مشروع وجود، فهو يقرر بنفسه ما الذي سيكونه، وفي النهاية لا يكون إلا بحسب ما ينتوي ويختار، ذاته ليست إلا مجموع قراراته وأفعاله، هذه هي حياته نفسها، وبالتالي لا مجال لتعليق الفشل على ظروف خارجة عن إرادته. إذن فالإنسان — لا عوامل البيئة والوراثة — هو الذي يصنع ذاته، و«أن يوجد الإنسان، هو أن يختار بنفسه.»١٨، في عملية مستمرة لا تنتهي اللهم إلا بالموت. الإنسان وجود في الحاضر، فلا عن مسئوليته في مواجهة مستقبل مفتوح مليء بالممكنات لتظل الأنا/الماهية هي مقبل أفعالها، إنها اختيار يجب ابتكاره مجددًا ودائمًا. لهذا كان الإنسان مسئولًا عن ماهيته فهو الذي يشكلها، وهي مسئولية تتعدى ذاته لتصل إلى الإنسانية جمعاء، ولا يمكن الفرار منها لأن الإنسان حر. ولما كانت المسئولية الوجودية رهيبة إلى هذا الحد، حتى أنها تجعل فعل القرار والاختيار مؤلمًا، فلا بد أن يلازمها قلق. من هنا كان الشعور بالقلق أساسيًّا في الفلسفة الوجودية.

تقول سيمون دي بوفوار: «من المغالطة اعتبار الوجودية مذهبًا يائسًا، فهي أبعد ما تكون عن ذلك، إنها لا تحكم على الإنسان ببؤس لا علاج له.» «إن الإنسان لهو سيد مصيره الوحيد المستقل، إذا شاء فقط أن يكون كذلك. هذا ما تؤكده الوجودية وإن هذا لتفاؤل.» و«إذا كانت الوجودية تُقلِق، فليس ذلك لأنها توئس الإنسان، بل لأنها تتطلب توترًا مستمرًّا.» إن الوجودية فعلًا — حتى وإن كانت إلحادية تشاؤمية — ليست البتة موئسة، وهي أيضًا ليست بالضرورة تشاؤمية. وظهر الأمل كثيرًا في الوجودية الدينية المؤمنة، خصوصًا مع جبرييل مارسيل الذي وضع كتابه «الإنسان الجوال»، وجعل له عنوانًا فرعيًّا هو «ميتافيزيقا الأمل»، كأنه بهذا يواصل مسار إرنست بلوخ الذي جعل «مبدأ الأمل» عنوان أهم أعماله، ومحورًا لفلسفته اليوتوبية التي تجمع عناصر وجودية وماركسية وصوفية وعلمية وأنثربولوجية.

وهذا لا يمنع أن الروح العامة للوجودية هي بلا شك رؤية سوداوية للحياة، وإحساس بمأساويتها وكآبتها وثقلها، وبالمعاناة الأليمة. فالوجودية في حد ذاتها، وفي أية صورة من صورها، فلسفة أزمة، فلسفة الموقف المتأزم للإنسان دونًا عن سائر الموجودات. وليس هذا من صعوبة القرار ومسئولية بحرية والقلق فحسب، بل ومن مفاهيم أخرى كثيرة دارت حولها، مثل التناهي والموت والاغتراب والهم والإثم والخطيئة الأولى في المسيحية … وغيرها. كلها مواقف حدية رهيبة، وأقساها التناهي، وهو خاصية أساسية للموجود البشري. فهو محدود من ناحية بلحظة الميلاد، والأفظع من الناحية الأخرى بلحظة الموت؛ حتى عرف هيدجر الإنسان (أو الإنية) بأنه «وجود-للموت»، من حيث إن الموت هو نهاية الحياة وقانونها المحتوم. الكائنات الحية الأخرى تنتهي، أما الإنسان فهو وحده الذي يموت، لأنه هو وحده الذي يهتم بأعلى إمكانيات وجوده وأخصبها، وهي إمكانية استحالته وانتهائه وموته.١٩ فإذا كانت الذات حقلًا من الممكنات، فإن الموت هو الممكن الوحيد اليقيني، وهو في الوقت نفسه نهاية كل الممكنات التي تجعلها جميعًا غير ممكنة. لذلك كان الموت عند الوجوديين الملاحدة — خصوصًا ألبير كامي — برهانًا نهائيًّا على عبثية الكون والناس.
وهذه العبثية لا تنفي، بل لعلها تؤكد إعزاز الوجوديين الحميم لتجربة الحياة. وكامي نفسه يقول: «إن جزعي من الموت ينال من غيرتي الشديدة على الحياة.» «وإذا كنت أرفض رفضًا باتًّا وعود العالم الآخر، فالسبب في ذلك أنني لا أرغب في التخلي عن خصوبة اللحظة الماثلة، وما فيها من ثراء. كما أنني لا أوثر الاعتقاد بأن الموت يؤدي إلى حياة أخرى. فالموت بالنسبة لي باب موصد.»٢٠ إن الموت هنا يعبر عن اليقين الحسي والشك الروحي.

أما مع الوجوديين اللاهوتيين والمؤمنين، فقد اكتسب الموت دورًا ودلالة مختلفة؛ ولكنه في كل حال يزيد من حدة الهَمِّ، الذي يأتي من التناقض بين كون الإنسان محدودًا كواقعه، وكونه مشدودًا للمستقبل؛ فهو مهموم بتحقيق إمكانياته، في بحثه الدائم عن الوجود الأصيل، المحفوف بالموت.

•••

ولا مندوحة عن الاعتراف بأن الوجودية في منطلقاتها الفلسفية نزعة أرستقراطية، تبغي الرقي بالإنسان؛ فهي دائمًا الترفع والتميز عن الحشد وكتلة الجماهير. ولا شك أنها أتتنا باستبصارات عميقة ونافذة عن الموجود البشري، كانت صائبة إلى حد أنه قد نما مؤخرًا علم النفس الوجودي والعلاج النفسي الوجودي، كمقابل للاتجاهات السيكولوجية التعميمية — خصوصًا السلوكية الآلية — بصورة تجافي الواقع. و«أحرز العلاج النفسي الوجودي نجاحًا ملحوظًا في علاج الأمراض اللفظية وأمراض التخاطب، خصوصًا التي لا تعود إلى أسباب عضوية. وقد بدأ هذا الاتجاه بما يسمى بالتحليل النفسي الوجودي. ويُعَد لودفيج بنسفانجر L. Binswanger رائده، وكان يصف عوالم مرضاه بالاعتماد على تصورات أنطولوجيا هيدجر للوجود الإنساني.

وستظل الوجودية حائزة لنوط شرف في صونها لحرية الإنسان وفردانيته، في مواجهة أخطار قد تحيله إلى مجرد رأس في القطيع — بتعبير نيتشه — أخطرها الآن نظام الدولة الشمولية ذات السلطة الجامعة ووسائل الإعلام الذائعة، والضغوط التي يمارسها مجتمع الجماهير، أو العقل الجمعي.

لكنَّ لكل شيء حدودًا، فأي خطر يتهدد المجتمع لو أن الوجودية أخذت مأخذًا حقيقيًّا، وأصبح كل فرد يتصرف كما لو كان عالمًا مستقلًّا؟! ببساطة لن يغدو مجتمعًا، بل زحامًا متنافرًا. سيرد الوجوديون بأن كل وجود بشري محفوف بالمخاطر، وكما أن هناك إمكانية خطر الفوضى وانعدام الأخلاق، فثمة أيضًا إمكانية التقدم الأخلاقي الجذري. ربما، لكن حتى لو افترضنا مستوى الوعي اللائق وإخلاص النية وإصابة جادة الصواب من كل فرد وهو يبدع قيمه، فلا مندوحة عن عموميات يلتزم بها الجميع كي تستقيم حياتهم معًا. ثم، لماذا يتصورون أن كل التجاء لعموميات وتجريدات جاهزة فيه مساس بالفرد؟! والواقع أنه — من وجوه كثيرة — فيه إذكاء وسبيل إلى تجربة وجودية أفضل؛ أليس الوجوديون أشد من سواهم إدراكًا لتناهي الموجود البشري ومحدوديته؟ حياته إذن قصيرة وإمكاناته قاصرة، لا تستوعب تقصي كل الأبعاد في كل موقف وصولًا إلى القرار السليم. فلماذا لا يستفيد من المبادئ العمومية التي أسفرت عنها تجارب أخرى طويلة عريضة؟ على الفور سيرد الوجوديون بأن حرية القرار أهم من سلامته. لذا يؤخذ عليهم إعلاء التحمس للاختيار المتفرد فوق الإنصات لصوت الحكمة الرصين ونداء الفضيلة الوقور. إنهم ينشدون تحقيق ما أسموه بالوجود الأصيل، بأي شكل كان، بأي سعر كان في مغامرة أو مقامرة ليس من الصواب دائمًا الإقدام عليها بسهولة.

وبصرف النظر عن نقطة انطلاقهم — أي محاربة العقل وهو أداة إضفاء الرونق على الواقع، والسبيل الأمثل لحل المشاكل — نجد تكثيفهم المأساوي للحياة بدلًا من توسيع نطاقها، وصم آذانهم عن جمالاتها الكثيرة، ثم دورانهم حول مقولات الموت والقلق والإثم والهم والاغتراب … إلخ، أفلا نتوقع إذن من الوجوديين الطابع المأساوي الكئيب والهم والغم والنحيب؟ كان الله في عونهم!

كل هذا يبرر الحكم بأن الوجودية نزعة مريضة، خصوصًا وأنها لا تزدهر إلا حين الاضطراب والانهيار وانعدام الشعور بالأمن. والمجتمعات المستقرة نسبيًّا — كما هو معروف — لا تصغى للوجودية.

وآية ذلك أن الوجودية ظلت كائنة في مستويات البحث العميق والثقافة الرفيعة، يعبر عنها فلاسفة راموا أن يكونوا إنسانيين بمعنًى ما، وتلقي بظلالها على أعمال أدباء وشعراء عظام أمثال دستويفسكي وهولدرلين وغليوت، ثم جيمس جويس وكافكا وبيكيت وغيرهم … حتى كانت الأربعينيات من القرن العشرين، وكان جيلها في أوروبا ليشهد أوزار حربين عالميتين؛ فرأى أن الدول والحكومات النظامية تتخذ قرارات من المفروض أنها عقلانية ومدروسة، فتؤدي إلى الخراب واليتم والترمُّل والثكل. ساد هذا الجيلَ القلقُ والمعاناة والرفض لكل ما هو موضوعي جمعي عقلاني، وآمن بأنه لا أمل إلا في الخلاص الفردي، فكان المرتع الخصيب للوجودية. تفجرت في بلدان القارة الأوروبية، وأصبحت خبز الثقافة وزاد الحياة اليومية. على أن وطأة أثقال الحرب أشاعت التشاؤم والسوداوية وفقدان المعنى والأمل والثقة في كل كيان أكبر من الفرد، مما جعل الأجواء مهيأة أكثر للسير في مقولة الفردانية حتى الوصول إلى أن الإنسان مهجور في هذا الكون، غير إنكار وجود إله يلوذ الإنسان برحمته الواسعة وقدرته الشاملة. وكتيار فرعي للوجودية التي نشأت فلسفة مؤمنة، تشكلت الوجودية الملحدة التي يُعَد فردريك نيتشه (١٨٤٤–١٩٠٠م) رائدها ومارتن هيدجر أعظم منظريها، وهو في الواقع أعظم منظري الوجود الإنساني.

أما الوجوديون الملاحدة في فرنسا، بزعامة قطب الوجودية الأشهر جان بول سارتر J. P. Sartre (١٩٠٥–١٩٨٠م)، ورفقة سيمون دي بوفوار وألبير كامي، فقد تميزوا بموهبة أدبية دافقة، فصاغوا وجوديتهم العبثية التشاؤمية الملحدة في قوالب فنية جذابة، مقالات ومسرحيات وقصص رائعة أكسبتهم — دونًا عن سائر الوجوديين — شهرة واسعة وجمهور قراء غفير. لقد كانت كتاباتهم إنجيل جيل الأربعينيات والخمسينيات. ووصل هذا المد إلى المكتبة العربية في الستينيات، وامتلأت بأعمال جمة تعرض للفلسفة الوجودية، بحثًا ودراسة ونقدًا وترجمة.

ومع أفول الستينيات شب عن الطوق جيل لم يشهد أوزار الحرب العالمية، واستعاد الثقة بالعقل وإلى حد ما بالهيئات النظامية، ولم يَلقِ هواه مع الوجودية. لقد انحسرت موجتها بعد طول مد، وتقلصت بل تلاشت كبدعة شعبية، يتشدق بها عن وعي وعن غير وعي المثقفون وأنصاف المثقفين وأشباه المثقفين. وتبقى الأسس النظرية إثراءً للإنسانية وموضوعًا للبحث الأكاديمي، الهادئ الرصين والمثمر؛ فتوضع النقاط على الحروف.

وبنظرة عميقة، نلاحظ أن هذه المآخذ الشهيرة على الوجودية تنداح كما تنداح دوائر بلجة ماء ألقي فيه بالحجر، فقط لو كانت الوجودية لاهوتية أو حتى مؤمنة، أي حين يختار القرار الإيمان بالدين وبالإلوهية لقهر العدم والتناهي والإثم والاغتراب … لتحقيق الوجود الأصيل.٢١
١  Gabriel Marcel, Mystery of Being, trans. by G. S. Fraser, Vol. I, Indian, 1950. p. 84.
٢  ريجيس جوليفيه، المذاهب الوجودية: من كيركجور إلى جان بول سارتر، ترجمة فؤاد كامل، مراجعة د. محمد عبد الهادي أبو ريدة، الدار المصرية للتأليف والترجمة القاهرة. د.ت، ص٥.
٣  Paul Tillich, History of Christian Thought: From its Judaic and Hellenistic Origins to Existentialism, ed., by C. E. Beraten, Simon & Schuster, New York, 1967.
٤  Paul Tillich, Theology of Culture, ed. By R. C. Kimball, Oxford University Press, 1959. p. 76:81.
٥  جان بول سارتر، الوجود والعدم: دراسة في الأنطولوجيا الظاهراتية، ترجمة د. عبد الرحمن بدوي، دار الآداب بيروت، ١٩٦٦م.
٦  جون ماكوري، الوجودية، ترجمة د. إمام عبد الفتاح إمام، مراجعة د. فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، ١٩٨٢م. ص١١٦ وما بعدها.
٧  G. Marcel, Mystery of Being, Vol. I, op. cit, p. 104.
٨  ريجيس جوليفيه، المذاهب الوجودية، ترجمة فؤاد كامل، ص٢٠.
٩  جان بول سارتر، الوجود والعدم، ترجمة د. عبد الرحمن بدوي، ص٧٠٣.
١٠  المرجع السابق، ص١١١.
١١  سيمون دي بوفوار، مغامرة الإنسان، ترجمة جورج طرابيشي، دار الآداب، بيروت، ١٩٦٣م، ص٧٢.
١٢  G. Marcel, Mystery of Being, p. 125 ff.
١٣  جان بول سارتر، الوجودية فلسفة إنسانية، ترجمة حنا دميان، دار بيروت، ١٩٥٩م. ص١٨ وما بعدها.
١٤  جون ماكوري، الوجودية، ترجمة د. إمام عبد الفتاح إمام، ص٢٦٣ وما بعدها.
١٥  د. حبيب الشاروني، فلسفة جان بول سارتر، في: مجلة عالم الفكر، المجلد ١٢، الجزء الثاني، سبتمبر ١٩٨٠م، ص٤٠٣.
١٦  جان بول سارتر، الوجودية فلسفة إنسانية، ترجمة حنا دميان، ص١٦.
١٧  سيمون دي بوفوار، مغامرة الإنسان، ترجمة جورج طرابيشي، ص١٧.
١٨  جان بول سارتر، الوجود والعدم، ترجمة د. عبد الرحمن بدوي، ص٧٠٤. التخيل، ترجمة د. نظمي لوقا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٨٢م، ص١٠٦.
١٩  مارتن هيدجر، نداء الحقيقة، ترجمة عبد الغفار مكاوي، دار الثقافة، القاهرة، ١٩٧٧م، ص٣٢-٣٣، ٨٤.
٢٠  جون كروكشانك، ألبير كامي وأدب التمرد، ترجمة جلال العري، دار الوطن العربي، بيروت. د.ت، ص٥٠-٥١.
٢١  في تفصيل ذلك انظر كتابنا: الوجودية الدينية: دراسة في فلسفة باول تيليش، دار قباء الحديثة، القاهرة، طبعة ثالثة، ٢٠٠٨م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤