الفصل السابع

النسوية١

في سبعينيات القرن العشرين ظهر لأول مرة ما يُعرف بالفلسفة النسوية Feminism كإضافة حقيقية لتيارات الفكر الغربي. تقوم بشكل أساسي من أجل رفض المركزية الذكورية Androcentrism ورفض مطابقة الخبرة الإنسانية بالخبرة الذكورية Androcentrism ورفض مطابقة الخبرة الإنسانية بالخبرة الذكورية واعتبار الرجل الصانع الوحيد للعقل والعلم والفلسفة والتاريخ والحضارة جميعًا، وتجِدُّ النسوية لإبراز الجانب الآخر للوجود البشري وللتجربة الإنسانية الذي طال قمعه وكبته.

وفي هذا تعمل الفلسفة النسوية على خلخلة التصنيفات القاطعة للبشر إلى ذكورية وأنثوية، بما تنطوي عليه من بنية تراتبية هرمية (هيراركية) سادت لتعني وجود الأعلى والأدنى، المركز والأطراف، السيد والخاضع. امتدت في الحضارة الغربية من الأسرة إلى الدولة إلى الإنسانية جمعاء، فكانت أعلى صورها في الأشكال الاستعمارية والإمبريالية. وكما تقول لوريان كود: الظلم الذي نراه في معالجة أرسطو للنساء والعبيد هو عينه الظلم في معالجة شعوب العالم النامي، إنه تصنيف البشر والكيل بمكيالين.

وتعمل الفلسفة النسوية على فضح ومقاومة كل هياكل الهيمنة وأشكال الظلم والقهر والقمع، وتفكيك النماذج والممارسات الاستبدادية، وإعادة الاعتبار للآخر المهمش والمقهور، والعمل على صياغة الهوية وجوهرية الاختلاف، والبحث عن عملية من التطور والارتقاء المتناغم الذي يقلب ما هو مألوف ويؤدي إلى الأكثر توازنًا وعدلًا. أمعنت الفلسفة النسوية في تحليلاتها النقدية للبنية الذكورية التراتبية، وتوغلت في استجواب قسمتها غير العادلة، وراحت تكسر الصمت وتخترق أجواء المسكوت عنه، حتى قيل إنها تولدت عن عملية إعطاء أسماء لمشكلات لا اسم لها وعنونة مقولات لا عناوين لها.

وبهذه النزعة النقدية المتقدة للوضع القائم في الحضارة الغربية ولمنطلقات التنوير والحداثة، تندرج الفلسفة النسوية في إطار ما بعد الحداثة post-modernism وما بعد الاستعمارية post-colonialism اللذين يستقطبان أقوى التيارات النقدية للحضارة الغربية.
وقد كانت النسوية في أصولها حركة سياسية تهدف إلى غايات اجتماعية، تتمثل في حقوق المرأة وإثبات ذاتها ودورها. هكذا بدأ الاتجاه النسوي في الفكر الغربي مع القرن التاسع عشر حركة اجتماعية، توالد عنها فكر نسوي، ليضم كل جهد عملي أو نظري لاستجواب أو تحدي أو مراجعة أو نقد أو تعديل النظام البطريركي (الأبوي) patriarchal السائد طوال تاريخ الحضارة الغربية. هكذا يتضح أن النسوية اتجاه ذو مراحل وطيف عريض ومتغيرات وبدائل شتى. وهي ككل الاتجاهات الفكرية الكبرى، إطار عام يضم فروعًا عديدة وروافد شتى، أوجه الاختلاف بينها كثيرة، لكنها تتفق جميعها على مساءلة البطريركية وقيمها بحثًا عن حقوق ووجود المرأة. فظهر مصطلح النسوية Feminism لأول مرة في الفكر الغربي في نهايات القرن التاسع عشر، بالتحديد العام ١٨٩٥م، ليبلور مدًّا في هذا الاتجاه شهده ذلك القرن.
بدأت البشائر من متغيرات الواقع الأوروبي على مشارف القرن التاسع عشر، من الثورة الصناعية واختراع ماكينات الغزل والنسج التي كانت أول زعزعة للوضع التقليدي للمرأة في الحضارة الغربية، لتظهر المرأة في غير المنزل وملحقاته الريفية، ظهرت في المصنع كقوة عمل منافِسة للرجل، تقوم بالعمل نفسه وتتقاضى أجرًا أقل. وتفجرت الثورة الفرنسية وشعارها المرفوع (الحرية … الإخاء … المساواة)، فماذا عن حرية ومساواة المرأة؟ لا سيما أن المرأة شاركت بالفعل في هذه الثورة، فضلًا عن نضج وعلو الليبرالية في بحثها عن حرية الفرد وسبل تحقيقها. والحق أن الفكر الليبرالي ونقيضه الفكر الماركسي عمل كل منهما آنذاك على استقطاب الدعوى النسوية بطريقته الخاصة. هكذا كانت النسوية ماثلة في كلا التيارين المتقابلين المشكلين لقطبي الفكر الاجتماعي والسياسي في القرن التاسع عشر. وهذا ما يعرف ﺑ الموجة النسوية الأولى التي وصلت إلى ذروتها مع نهاية الحرب العالمية الأولى. فقد ذهب الرجل في أنحاء أوروبا إلى ميادين الحرب، واضطرت المرأة إلى النزول للعمل في مختلف الميادين، وأثبتت ذاتها، فتم الاحتراف في الحياة المدنية وحصلت على حق الانتخاب في بعض الولايات الأمريكية والدول الأوروبية … ودخلت الحركة النسوية في مرحلة كمون نسبي.

كان الهدف آنذاك هو نيل المرأة حقوقًا مهدرة، وتحقيق شيء من المساواة بينها وبين الرجل. ومن ثَم دأبت النسوية في موجتها الأولى تلك إلى إلغاء أو تهميش الخصائص المميزة للأنثى، أو الزعم بأنها ثانوية فلا تعوق حصول المرأة على حقوق وواجبات الرجل. ولم يكن لها أطر فكرية تتجاوز حجج المطالبة بحقوق النساء ومساواتهن.

ظلت الحركة النسوية في هدوئها النسبي حتى انفجرت في ستينيات القرن العشرين موجتها الثانية التي تُجسِّد قيم ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمارية. وكان هذا بفعل ظروف تجسدت في زوال الاستعمار ونجاح حركات مناهضة التمييز العنصري واشتداد عود الليبرالية الأمريكية التي تدعو إلى المساواة في الحقوق المدنية وإتاحة الفرص للجميع، وتَعالي الأصوات المناهضة لحرب فيتنام، وثورة الطلاب الشهيرة في فرنسا وأنحاء من أوروبا وأمريكا، التي شهدت مظاهرة لحرق الكعوب العالية ومشدات الصدور والثورة ضد مسابقات ملكات الجمال، وسائر ما يقبر المرأة في أنوثتها.
وها هنا اكتسبت النسوية نضجًا فكريًّا، فهدفت إلى رؤية ثقافية حضارية جامعة، إلى البحث عن إطار نظري أعمق وأشمل من مجرد المطالبة بالمساواة مع الرجال. فلا بد من استجواب تاريخ العقل البشري والسياق الحضاري، لسبر أعماق التهميش الطويل الذي نال المرأة، وإثبات إلى أي حد كان جائرًا؛ تمهيدًا لتغيير أطره الأيديولوجية للقضاء عليه واجتثاثه من جذوره. لا بد من إعادة اكتشاف النساء لأنفسهن كنساء، لذاتهن المقموعة، وإثبات جدوى العمل على إظهارها وإيجابياتها وفعالياتها، ثم صياغة نظرية عن هذه الهوية النسوية. هكذا قدم الاتجاه النسوي تنظيرات كبرى يتسع مداها يومًا بعد يوم، وتتوغل من فرع معرفي إلى آخر، من التحليلات الأنثربولوجية النسوية والتاريخ النسوي والهيرمنيوطيقا النسوية واللغويات النسوية والإبداع والنقد الأدبي النسوي، ونظرية الفيلم النسوية، وعلم النفس والاقتصاد والتكنولوجيا والمعلوماتية والاتصال … إلخ.

وما دام الزخم المعرفي النسوي بكل هذا البذخ كان لا بد أن يواصل مساره ليصل إلى أصول النظرة الشاملة، إلى الفلسفة الصريحة، وأول مرة في التاريخ يُسمع فيها عن شيء اسمه الفلسفة النسوية العام ١٩٧٠م. ومنذ السبعينيات وهي تتدفق مبشرة واعدة. لقد ظهرت الفلسفة النسوية، كمنهاج لإعادة تأريخ الفلسفة، وللبحث في الفلسفة القديمة والوسيطة من منظورات مستجدة وللإجابة عن تساؤلات لم تطرح فيما سبق، ثم تقديم رؤًى أنثوية متكاملة. إنها حرث للأرضية العقلية، واستنبات لبذور لم تبُذر من قبل.

ولئن كان ظهور الفلسفة النسوية إنجازًا لافتًا للحركة النسوية، فإن امتدادها إلى مجال الإبستمولوجيا وفلسفة العلم ضربة استراتيجية حقًّا أحرزت أكثر من سواها أهدافًا للحركة النسوية والفكر النسوي، وجعلت الفلسفة النسوية استجابة واعية وأكثر عمقًا للموقف الحضاري الراهن.

فقد كان العلم الحديث أكثر من سواه تجسيدًا للقيم الذكورية، وأحادي الجانب باقتصاره عليها واستبعاده لكل ما هو أنثوي. فانطلق بروح الهيمنة والسيطرة على الطبيعة وتسخيرها واستغلالها مما تمخض عن الكارثة البيئية، واستغلال قوى العلم المعرفية والتكنولوجية في قهر الثقافات والشعوب الأخرى، وجاءت العولمة لتنذر بعالم يفقد تعدديته وثراءه وخصوبته … وتأتي فلسفة العلم النسوية لترفض التفسير الذكوري الوحيد المطروح للعلم بنواتجه السلبية و«تحاول إبراز وتفعيل جوانب ومجالات وقيم مختلفة خاصة بالأنثى، جرى تهميشها وإنكارها والحط من شأنها بحكم السيطرة الذكورية، في حين أنها يجب أن يُفسح لها المجال وتقوم بدور أكبر، لإحداث توازن منشود في مسار الحضارة والفكر. وكبديل عن الإبستمولوجيا التي تقطع علاقتها بالميتافيزيقا وبالقيم لكي تكون علمية على الأصالة، تريد الإبستمولوجيا العلمية النسوية أن تكون تحريرية، تمد علاقة بين المعرفة والوجود والقيمة، بين الإبستمولوجيا والميتافيزيقا لتكشف عن الشكل العادل لوجود البشر في العالم، وترى العلم علمًا بقدر ما هو محمل بالقيم والأهداف الاجتماعية، ولا بد أن يكون ديمقراطيًّا يقبل التعددية الثقافية والاعتراف بالآخر. إنه الانفتاح على الطبيعة والعالم بتصورات أنثوية تداوي أحادية الجانب، لا تنفي الميثودولوجيا العلمية السائدة أو تريد أن تحل محلها، بل فقط أن تتكامل معها من أجل التوازن المنشود؛ فالنسوية ضد الاستقطابية والمركزية.

هكذا، تحاول الفلسفة النسوية أن تضيف إلى العلم قيمًا أنكرها، فتجعله أكثر إبداعية وإنتاجًا، أكثر دفئًا ومواءمة إنسانية، مستجيبًا لمتطلبات واقعه الثقافي ودوره الحضاري؛ وتجعل فلسفة العلم ذاتها تطبيقية مرتبطة بالواقع الحي النابض، بحيث يمكن القول إن فلسفات العلم التقليدية جميعها تبلور إيجابيات العلم وتستفيد منها، تأخذ من العلم، أما الفلسفة النسوية فهي تحاول أن تضيف إلى العلم ما ينقصه ويجعله أفضل.

بدأت الفلسفة النسوية في السبعينيات بداية واعدة متقدة وشهد ذلك العقد فيضًا من الإنتاج النسوي في سائر فروع الفلسفة، يتحدى أبرز الافتراضات الفلسفية الجوهرية ويقدم بدائل شديدة التفصيل. بدأت بما يسمى بفروع الفلسفة اللينة السهلة وهي السياسة والأخلاق والجمال. ومع الثمانينيات كانت الفلسفة النسوية قد وصلت إلى كبد الحقيقة وقلب الأوضاع من جذورها، حين تطرقت إلى ما يسمى بفروع الفلسفة العسيرة الشاقة وهي الميتافيزيقا والإبستمولوجيا والميثودولوجيا وفلسفة العلوم.

وفي هذا نلاحظ أن فلسفة العلم النسوية لها نظريتها الإبستمولوجية، وأطروحتها الميثودولوجية ورؤيتها الخاصة لمنطق التفكير العلمي، فضلًا عن اشتباكها الحميم بالقضايا المستجدة في هذا الصدد من قبيل قضايا فلسفة البيئة وأخلاقيات العلم وقيم الممارسة العلمية، وعلاقة العلم بالأبنية الحضارية والمؤسسات الاجتماعية الأخرى وبالأشكال الثقافية المختلفة، واتخاذه أداة لقهر الثقافات والشعوب الأخرى. إن الفلسفة النسوية في جملة توجهاتها فلسفة بعد استعمارية.

هكذا نجد أن ما ينبغي أن يستوقفنا بإزاء الفلسفة النسوية هو أولًا وقبل كل شيء هو موقفها النقدي الرافض للاستعمار الغربي ومقاومتها النبيلة والشرسة للإمبريالية. وكيف لا يستوقفنا هذا، وتاريخنا العربي الحديث قد غلب عليه أن يكون تاريخ الغزو والاستعمار والمقاومة. والحق أنه لا الفقر ولا الجهل ولا المرض، بل الاستعمار هو شد ما منيت به البشرية.

ونعود إلى الشغل الشاغل للفلسفة النسوية، أي العقل الذكوري، عقل الهيمنة والسيطرة، بخصائصه التنظيرية والتجريبية. لقد تجسد وتبلور نهائيًّا في العقل التنويري الحداثي الذي يرابط في سويدائه الإيمان بالسيطرة على الطبيعة بواسطة العلم وآلياته.

مثلت قيم التنوير في الفلسفة الغربية منذ القرن الثامن عشر صلب قيم الحداثة وخلاصة تجربة الحداثة، وهي في الآن نفسه الأساس الأيديولوجي للحركة الاستعمارية. فقيم التنوير هي طريق التقدم الواحد والوحيد، والذي قطعه الرجل الأوروبي الأبيض باقتدار، ومن حقه وواجبه أن يفرضه على الشعوب الأخرى المتخلفة طوعًا أو كرهًا، ليغدو الاستعمار حقًّا للرجل الأبيض، وواجبًا عليه.

وكان هذا هو الأساس الأيديولوجي للحركة الاستعمارية البائدة. إنها مركزية النموذج الذكوري للإنسان التنويري الحداثي العاقل. ولها وجه آخر هو المركزية الأوروبية Euro-centrism التي امتدت إلى الشاطئ الآخر من المحيط الأطلنطي … إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وتعني أن الحضارة الأوروبية والثقافة الغربية تتمتع بالسيادة والتفوق المطلق، وبالتالي تمثل معايير الحكم على سائر الحضارات والثقافات الأخرى، ليكون تقدمها تبعًا لمدى اقترابها من النموذج الغربي الذي هو المثل الأعلى للجميع. إنها فردانية الرجل الأبيض، التي تبلغ حد الأنا وحدية solipsism، فهو وحدة مركز الوجود. أصبح ناموس كل الأشياء: إما أن تكون الرجل الأبيض وإلا فأنت في منزلة أدنى، الثانية أو الثالثة أو العاشرة … تبعًا لمدى الاقتراب منه في التراتب الهرمي الجامع.

سادت مركزية الحضارة الغربية العالمين بفضل المد الاستعماري، وقهرت ثالوث الأطراف: قهرت المرأة وقهرت الطبيعة لتخلق مشكلة البيئة الملحة، وقهرت شعوب العالم الثالث. وجاءت الفلسفة النسوية لترفض التراتب الهرمي أصلًا في العلم وفي الحضارة على السواء، نازعة إلى تقويض مركزية العقل الذكوري، تحريرًا للمرأة وقيمها الأنثوية، وبالمثل تحريرًا للبيئة. ثم تشعر بأنها مسئولة أكثر من سواها عن مواجهة الوجه الآخر المتضخم للمركزية الذكورية، أي مركزية الحضارة الغربية.

لقد وجدت الفلسفة النسوية طريقها لكي تكون فلسفة للمرأة بقدر ما هي فلسفة للبيئة بقدر ما هي فلسفة لتحرر الثقافات والقوميات وشعوب العالم الثالث من نير الاستعمارية والمركزية الغربية. وهي في كل هذا فلسفة بعد حداثية رافضة لقيم الحداثة والتنوير — التي رأيناها قيمًا استعمارية — من حيث إن الفلسفة النسوية هي فلسفة بعد استعمارية.

لقد نشأت الموجة النسوية الثانية التي تمخضت عن «الفلسفة النسوية» في أوان انتهاء الاستعمار البائد الذي يمثل أقوى تجسيد للفلسفة الذكورية. ما بعد الاستعمارية لحظة فارقة في تاريخ النسوية لتتسلح بمناهج لمراجعة الأبنية الغربية في المعرفة والإنتاج، ومزيد من الكشف عما فيها من مركزية جائرة وتراتبية هرمية أدت أيضًا إلى العنصرية والاستعمارية في سجل الجرائم الغربية الحافل.

فيما بعد الاستعمارية التقت الفلسفة النسوية الغربية مع المجتمعات التي تحررت من الاستعمار في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، التقت في الخلاص من قهر الرجل الأبيض، كلاهما كان آخر بالنسبة له. وبينما ينضم نفر من مفكرينا إلى المارينز دفاعًا عن الاستعمار الأمريكي، تفخر النسوية الغربية بدور النساء المكافحات اللاتي شاركن في النضال للتحرر من الاستعمار، شاركن بأنفسهن ولم يقتصرن على إنجاب الرجال المناضلين. فكانت المرأة قوة خفية وقوة ظاهرة في النضال من أجل الحرية وتحقيق الذات القومية. وهنا نلاحظ أن الحركة النسوية في العالم الثالث انصهرت في حركات التحرر القومي، ودخلت بمجامعها في مقاومة الاستعمار.٢ وأمثال شفيقة محمد — أولى شهيدات ثورة ١٩١٩م — وجميلة أبو حريد وسناء المحيدلي والمستشهدات الفلسطينيات وفاء أدريس وآيات الأخرس وريم الرياشي … إلخ يمثلن انتصارًا وتبيانًا وبرهانًا للنسوية أقوى وأمضى من كل ما عرفه الفكر أو الواقع على السواء.

اشتبكت النسوية الجديدة وفلسفتها للعلم بالقضايا الشائكة المتعلقة بالهوية واللغة والقومية. في مرحلة سابقة، قالت الأديبة المجددة فرجينيا ولف إنها ضد القوميات، وبوصفها امرأة فهذا العالم كله هو بلدها، وبحثت النسويات الاشتراكيات — وسواهن — عن التكتل في مواجهة القوميات. ولكن فيما بعد تسلحت النسوية بالتحليل العابر للثقافات، من أجل استكشاف وتقويم المفاهيم المتعلقة بالمرأة عبر الثقافات المختلفة. قد تستخدم أدوات معرفية مأخوذة من الثقافة الغربية، لكن الثقافات تتحاور مع بعضها، لا ثقافة تفوق الأخرى أو تعتبر نفسها الأرقى؛ فالنسوية قامت أصلًا من أجل تقويض كل أشكال التراتب الهرمي كما اتفقنا.

ثم تنامت أهمية مفهوم الجنوَسة أو النوع gender وبات واضحًا أهمية مسألة القومية في بحث قضية الجنوَسة، التي لا تنفصل عن وضع النساء في مجتمعات العالم الثالث بعد نجاح حركات التحرر القومي. بحثت النسوية السياقات الثقافية والقوميات المختلفة، بعضهن يحجمن عن استعمال مصطلح العالم الثالث لأنه يعكس التراتب الهرمي الذي يسعين إلى تقويضه. وظهرت الدعوة لاتحاد نساء الشمال ونساء الجنوب لمواجهة الأخطار الثقافية والاقتصادية للعولمة.

وفي إطار حرص النسوية على تحرر الثقافات والقوميات، تتقدم آن ماك كلينتوك التي عنيت بدراسة حركات المد القومي ومدى نجاحها في قهر الاستعمارية وكيف كانت مدفوعة بالرغبة الصادقة في التقدم والاستنارة، وتلتهب بالرموز القومية كالعروض العسكرية والأعلام والأناشيد وأصناف الطعام والانتصار في مباريات كرة القدم. وكم هو ممتع كتاب ماك كلينتوك الذي يعالج قضايا التفرقة في السياق الاستعماري من منظور الجنس والجنوَسة، حيث توضح أن الجنوسة ليست سؤالًا عن جنس العامل بل عن القهر والنهب الإمبريالي، وسؤال العرق ليس سؤالًا عن لون البشرة، بل عن قوة العمل المسلوبة بفعل الإمبريالية.

ولا تنفصل الإمبريالية عن غزو ثقافي وقهر ثقافة الآخر وتدمير وحشي للثقافات البدائية، وإحلالها بالثقافة الغازية المنتصرة؛ وبالتالي تنطوي مقاومة الإمبريالية على مقاومة ثقافية، ومحاولة الإبقاء على ثقافة الأنا وحمايتها من الضياع، وعلى نقد للثقافة الإمبريالية. واستعملت ماك كلينتوك تعبيرَين مجازيَّين، هما الزمان المنطوي على مفارقة مكانية والمكان المنطوي على مفارقة زمانية. الأول يكون حين تمثل تاريخ الكرة الأرضية بأسرها من نقطة واحدة — غربية طبعًا — تشوه معظمه في حين تبدو وكأنها الموضوعية التامة. أما المكان المنطوي على مفارقة زمانية فتكون حين يتحدث الغربيون عمن يبدون أمامهم رجعيين متخلفين، فيحكمون على النساء وسكان المستعمرات والعمال بأنهم خارج المكان المتحضر والحداثة. إنها ألاعيب من الرجل الأبيض وتشويه للأمور كي يمارس الهيمنة والسيطرة. من هنا عملت الكاتبة ذات الأصول الفيتنامية ترينْه تي مِنْه-ها Trinh T. Minh-Ha (١٩٥٢م–؟) على تحليل ثقافات الشرق الأقصى خصوصًا الصينية، مبرزةً العناصر النسوية فيها لتؤكد على أن القضية النسوية تتحقق بالقضاء على هيمنة الثقافة الغربية ومركزيتها.

فيما بعد الاستعمارية يجب أن ينتهي عصر المركز والأطراف، قهر الآخر وتوجيهه وفرض الوصاية عليه ليسير وفقًا لرؤى ومصالح الأقوى أو السيد. لا بد من ظهور فلسفة جديدة تنقض تلك المركزية الجائرة وتقر بقيمة وحقوق تلك الأطراف؛ وبالتالي تصون الحقوق التي أهدرت للمرأة وللطبيعة ولشعوب العالم الثالث. وكانت الفلسفة النسوية محاولة جادة للسير في هذا الاتجاه وهي تبحث عن ديمقراطية العلم والتعددية الثقافية فيه والاعتراف بالآخر، فيكون العلم إنجازًا إنسانيًّا مشتركًا مفتوحًا أمام أي حضارة؛ غربيةً كانت أم شرقيةً، وأمام أي إنسان رجلًا كان أم امرأة. وفي نقدها للموضوعية التقليدية ومزاعم تحرر العلم من القيمة، كانت تكشف عما يكمن خلف تلك المزاعم من مركزية الرجل الأبيض والحضارة الغربية، وإلغاء الثقافات والأعراق والأجناس الأخرى.

شنت الرائدة الكبرى ساندرا هاردنج حملة شرسة على المركزية الغربية والمعقبات الإبستمولوجية للإمبريالية. رأت الحرب العالمية الثانية بما حملته من كوارث هيروشيما وموت ودمار رهيب قد كشفت عن زيف التسليم الوضعي بالعلم والفصل بينه وبين التكنولوجيا والعوامل الاجتماعية، مثلما كانت هذه الحرب هي نهاية مشروع إقامة مستعمرات غربية. إنه عصر ما بعد الاستعمار الذي يدعونا إلى الوصول لنماذج أكثر دقة للأنساق المعرفية ولدور الذات العارفة، نماذج أكثر ديمقراطية تكشف عن علم هو نتاج لثقافات متعددة، وذلك عن طريق تنضيد المعقبات الإبستمولوجية الناجمة عن التحرر والتطور في العالم الثالث، وإعادة النظر في مفهوم عالمية العلم. وأخرجت هاردنج كتابيها الرائعين: «هل العلم متعدد الثقافات: ما بعد الاستعمارية والنسوية والإبستمولوجيا – ١٩٩٨م»، و«نقض مركزية المركز: الفلسفة من أجل عالم متعدد الثقافات بعد استعماري ونسوي – ٢٠٠٠م». وصادرت منذ البداية في كتابها الرائد «سؤال العلم في النسوية» على أن استبعاد المركزية الذكورية من العلم هو استبعاد للعنصرية والاستعمارية والرأسمالية، وإذا كان الكفاح ضد هذا بدا أهم من الكفاح النسوي ضد السيطرة الذكورية، فإن قضية المرأة لا تنفصل عن كل هذا. وحق قول ساندرا هاردنج إن الفلسفة النسوية منزع نقدي «مثلها في هذا مثل كل حركة نقد لوضع قائم ينطوي على أشكال للظلم والغبن، مثل كل أشكال الكفاح ضد العنصرية والاستعمارية والرأسمالية، ومثل الحركات الثقافية المضادة وثورة الشباب في الستينيات، وحركات الدفاع عن البيئة ومناهضة الجهود العسكرية … كل هذه الاتجاهات النقدية توقفت عند مثالب استغلال العلم. لكن النقد النسوي يلامس عصبًا عاريًا.»

وأخيرًا لا نملك بإزاء هذه الفلسفة الرائعة النبيلة أو بالتعبير النسوي الفلسفة الجميلة، إلا القول بأنها كانت تملك حيثياتها في العقود الأخيرة من القرن العشرين ما دام الاستعمار بدا آنذاك وكأنه ملف أغلق نهائيًّا شأنه شأن العبودية ووباء الطاعون وما إليه. والموجع حقًّا أن عاد الاستعمار العسكري السافر مجددًا مع إطلالة القرن الحادي والعشرين، في العراق وأفغانستان، فضلًا عن الهم المقيم والحزن القديم في فلسطين. ولا عزاء للفلسفات بعد الاستعمارية وسيدات النسوية الغربية. أما في المشرق العربي فلا عزاء للسيدات ولا للرجال. انتهى الاستعمار الأوروبي ليصعد الاستعمار الأمريكي، مصداقًا لقول شاعر القوم أمل دنقل: لا تحلموا بعالم سعيد، فخلف كل قيصر يموت … قيصر جديد.

١  لمزيد من التفاصيل انظر: د. يمنى طريف الخولي، النسوية وفلسفة العلم، في: مجلة عالم الفكر، المجلد ٣٤، العدد الثاني، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت. ديسمبر ٢٠٠٥م. ص٩–٦٩. وقارن: ليندا جين شيفرد، أنثوية العلم: العلم من منظور الفلسفة النسوية، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد ٣٠٦، أغسطس ٢٠٠٤م.
٢  مثلًا، يصعب الحكم أيتهما صاحبة القدح الأعلى في تحرير المرأة المصرية هدى شعراوي أم صفية زغلول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤