الفصل الرابع عشر

بلغ ابن زيدون إشبيلية بعد أيام، وكانت في ذلك العهد من أعظم مدن الدنيا بهجة ورُواء وطيب أرض واعتدال جوّ واتساع رُقعة، وهي على الضفة اليسرى من الوادي الكبير الذي يصعد المدّ فيه كل يوم نحو اثنين وسبعين ميلا، فيسقي الرياض والحدائق، ثم ينحسر١ عنها كما ينحسر السحاب في الليلة المزهرة عن صفحة السماء. وبها جبل الشرف، وهو أحمر التربة، يمتد من الشمال إلى الجنوب نحو أربعين ميلا، لا تكاد تسقط أشعة الشمس على بقعة من أرضه، لالتفاف أشجار الزيتون والتين به.

وبإشبيلية أسواق قائمة، وتجارات رابحة، وقصور سامقة، وبساتين ناضرة. وبأهلها يضرب المثل في الخلاعة والترف والمجون حتى قيل: إنه كلما مات عالم بإشبيلية حملت كتبه لتباع بقرطبة، وكلما مات مطرب بقرطبة حملت آلاته لتباع بإشبيلية.

ما بلغ ابن زيدون المدينة حتى قصد لتوّه قصر المعتضد، وهو قصر فخم يطل على النهر، فسيح الأرجاء سامق البناء، كأن لقبابه حديثًا لا ينقطع مع السماء. وخير لنا ألا يجرؤ قلمنا على وصفه، فإنه يكفي أن نقول: إنه قصر بني عباد، وبنو عباد هؤلاء خُلقوا وفي دمهم الانفراد بالعظمة، والغيرة من أن يسبقهم في فخامة الملك وجلالة السلطان سابق، ثم إن من طبائعهم السرف والافتنان في النعيم والتمتع بلذائذ الحياة.

استأذن ابن زيدون على المعتضد، وكان يجلس في قاعته الكبرى التي يستقبل فيها الوزراء والسفراء وكبار رجال الدولة، فلم يصل إلى حضرته إلا بعد جهد ولأي، فقد أخذ يتلقفه عبد أسود، ليسلمه إلى خادم صقلبي ليسير به إلى بعض كبار القصر، ثم إلى ذي الوزارتين أبي علي بن جبلة، كأنه كرة يقذف بها لاعب للاعب. وحينما رآه ابن جبلة رحب به وعانقه وأظهر له من الود والحفاوة ما يرتاح لهما قلب الكريم. ثم دخل به إلى المعتضد وكان جالسًا على كرسي عال تحيط به الوسائد، ويقوم إلى جانبيه عن يمين وشمال عبدان لا يكاد الناظر يرى منهما إلا لهيب عينيهما لكثرة ما تدججَّا به من سلاح.

وكان المعتضد في نحو الخامسة والأربعين، مديد القامة جهم الوجه، براق العينين، يكاد سنا برقهما يذهب بالأبصار. وكان على كبريائه وغروره داهية حاد الذكاء، باقعة في السياسة، شديد البطش جبارًا. كان أسدًا يفترس وهو رابض، وثعلبًا يعرف متى يثب ومتى يفِرّ، وكان كثير الأطماع بعيد منال الآمال، لا يكاد يستقرّ له سيف في غمد، أو يلقي عن جواد له لجام، فهو دائمًا مع من حوله من الوزراء في صدام وعراك وحرب ضروس.

دخل ابن زيدون فحيَّاه الأمير في عظمة الملوك وسطوة الجبابرة، وتصدّق عليه بابتسامة ذابلة، وكلمات هادئة في الترحيب بمقدَمه، وكأن ناطق حاله كان يقول: هذا كل ما أستطيع أن أتبسط فيه مع مثلك، فاحمد الله عليه، فإني لا أجود به على أحد. وأخرج ابن زيدون من كمه قصيدة كان أعدها لمدحه في الطريق جاء فيها:

للحبِّ في تلك القباب مرادُ
لو ساعف الكلِفَ المشوق مرادُ
من مبلغ عني الأحبة إذ أبت
ذكراهم أن يطمئن مهاد؟
إن أغترب، فمواقعَ الكرم الذي
في الغرب شمتُ بروقه، أرتاد
أو أنأ عن صيد الملوك بجانبي
فهم العبيد مليكُهم عباد
المجد عذر في الفراق لمن نأى
ليرى المصانع منه كيف تشاد
في آل عباد حططت فأعصمت
هممي بحيث أنافت الأطواد
أهل المناذرة الذين هم الرُّبا
فوق الملوك، إذا الملوك وهاد
بيت تود الشهب في أفلاكها
لو أنها لبنائه أوتاد
نفسي فداؤك أيها الملك الذي
زُهرُ النجوم لوجهه حسَّاد!
تبدو عليك من الوسامة حلة
يهفو إليها بالنفوس وداد
لم تشف منك العين أولُ نظرة
لولا المهابة راجعت تزداد
فلئن فخرت بما بلغت لقلّ لي
ألا يكون من النجوم عتاد
مهما امتدحتُ سواك قبل فإنما
مدحي إلى مدحي لك استطراد

فاهتز المعتضد للمديح وزاد في الثناء عليه والترحيب به، وخلع عليه منصب الوزارة، وأمر ابن جبلة أن يهيء له دارًا تليق بمنزلته، وأن يُعد له بها من الخدم والعبيد ما يوائم جلال منصبه.

وعاش ابن زيدون في كنف المعتضد عظيم الجاه مسموع الكلمة نافذ الرأي، وأخذ إقبال الأمير عليه ورعاؤه له يزداد مع الأيام شيئًا فشيئًا كلما ظهر نبوغه في حل المعضلات، وبدا مضاؤه في تصريف الأمور.

وتحدثت حسان المدينة بقدوم ابن زيدون، وودت كل ذات وجه صبيح أن تسعَد بأبيات من غزله تباهي بها صويحباتها، وتُدِلّ بها على خطابها، فقد سبقه إلى إشبيلية شعره في ولادة، فرددته جنباتها، وأنشده المنشدون، وغنى به المغنون، ولكن شاعرنا جاوز الآن مرحلة الشباب، وعرّى أفراس الصبا ورواحله، ولم يعد بقلبه متسع لنزيل جديد بعد أن شغله حب ولادة ولم يترك في إحدى زواياه مكانًا خاليًا. لم ينس ابن زيدون عهد ولادة ولم يزده تنائي الديار إلا شغفًا بها، وهيامًا بذكراها وكان إذا طواه الليل وقف بنافذة داره، ولمح البارق المؤتلق في شمال الأفق وتلَقى الريح السارية من نحو قرطبة بليلة شذية، فهاجت بلابله، وثارت شاعريته فقال:

أضحى التنائي بديلا من تدانينا
وناب عن طيب لُقيانا تجافينا
إن الزمان الذي ما زال يضحكنا
أنسًا بقربهم قد عاد يبكينا
غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا
بأن نغص فقال الدهر آمينا
فانحل ما كان معقودًا بأنفسنا
وانبتّ ما كان موصولا بأيدينا
وقد نكون وما يُخشى تفرقنا
فاليوم نحن وما يُرجَى تلاقينا
لم نعتقد بعدكم إلا الوفاء لكم
رأيًا، ولم نتقلَّد غيره دينا
بنتم وبنا فما ابتلَّت جوانحنا
شوقًا إليكم، ولا جفت مآقينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا
يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
حالت لفقدكم أيامنا فغدت
سودًا، وكانت بكم بيضًا ليالينا
إذ جانب العيش طَلْق من تآلفنا
ومرتع اللهو صاف من تصافينا
لِيُسْقَ عهدكم عهدُ السرور فما
كنتم لأرواحنا إلا رياحينا
والله ما طلبت أهواؤنا بدلا
منكم، ولا انصرفت عنكم أمانينا
يا ساري البرق غادِ القصرَ واسق به
من كان صِرْف الهوى والودِّ يسقينا
ربيب مُلك كأن الله أنشأه
مسكًا، وقدّر إنشاء الورى طينا
يا روضةً طالما أجنت لواحظنا
وردًا، جلاه الصبا غضًّا ونِسْرينا
ويا حياةً تملينا بزهرتها
في وشى نُعمَى سحبنا ذيلَه حينا
لسنا نسميك إجلالا وتكرمة
فقدرُكِ المعتلى عن ذاك يُغنينا

وأظلّه عيد الأضحى وهو بعيد عن مغاني هواه وملاعب صباه، فتوالت عليه الذكريات، وزاد به الحنين، واستبد به الشوق، فردد في همهمة الحزين، وترنيم الطائر السجين:

خليليّ لا فطرٌ يسرّ ولا أضحى
فما حال مَن أمسى مشوقًا كما أضحى؟
ألا هل إلى الزهراء أوْبةُ نازحٍ
تقضّى تنائيها مدامعه نزحا
محل ارتياحٍ يذكُر الخلد طيبه
إذا عزّ أن يصدَى الفتى فيه أو يضحى

وحمل إليه البريد خبر موت نائلة فذهبت نفسه عليها حسرات، وتقطعت زفرات، وبكى فيها الوفاء والحنان والحب السماوي النقي الطاهر وأنشد:

لرزئكِ تنهلُّ الدموع فمثله
إذا حلّ ودَّ القلبُ لو كان مَدمعا
لقد أجهش الإخلاص بالأمس باكيا
عليكِ كما حنّ الوفاء فرجَّعا
ودنيا وجدنا العيش في غفلاتها
طريقًا إلى ورْد المنية مهيعا
نعللُ فيها بالمنى فتغرُّنا
بوارق ليس الآلُ فيها بأخدعا

وكانت الرسل بينه وبين ولادة لا ينقطع لها مجيء وذهاب، كأنها وشيعة الحائك لا تكاد تلتقي بيمينه حتى تعود إلى شماله، ولكن ماذا تعمل الرسل، وماذا تجدي الرسائل، وحبيبته حبيسة عند ابن جهور، ربيطة بقرطبة، لا تستطيع منها فكاكا؟ قاتل الله ابن جهور! ولعن الله الأيام السود التي نصبته عميدًا للجماعة وسيدًا مطاعًا بين ساداتها وكبرائها! لقد بذل نفسه في خدمته فما أجدى، وخلع عليه من المديح أثوابًا يبلى الدهر ولا تبلى، ثم يجيء آخر الأمر فيحول بينه وبين ريحانة حياته وخاتمة آماله.

بني جهور أحرقتمُ بجفائكم
حياتي ولكن المدائح تعبَقُ
تعدُّونني كالعنبر الورد إنما
تطيب لكم أنفاسُه حين يحرق

وطالما همّت ولاده باللحاق به بإشبيلية تحت ستار الليل، فكان ابن عبدوس يفشي سرّ مؤامرتها، ويحول بينها وبين السفر.

عاش ابن زيدون بإشبيلية سنوات قلق النفس مضطرب الخاطر، لم ترتح نفسه للمعتضد وإن أغدق عليه، ولم يطمئن له قلبه وإن توالت مواهبه، لأنه كان من الصنف الذي يعطي من غير أريحية، ويبتسم من غير حبّ، ويسأل عنك من غير شوق، ويجاملك في غير مودة. صنف تشعر وأنت تجالسه بأنك تحت كابوس مخيف لأنه يراك دونه، ويريد أن يكون لطيفًا، ويريد أن يكون ظريفًا، ولكن شتان بين الخلق والتخلق، وشتان بين الروح الخفيفة المرحة والروح التي تريد أن تكون خفيفة وتريد أن تكون مرحة. ومثل هذا الصنف قد يمدحك وقد يثني عليك، ولكن مديحه يطِنّ في أذنك كما يطن مديح السيد لعبده، وقد يطرح معك الكلفة، ويتبسط في الحديث، ولكنه يحرص دائمًا على أن يشعرك في غضون كل هذا أنه إنما يتصدق عليك بتواضعه، ويتخذ منك وسيلة للاستراحة من عظمته التي ضاق بها صدره.

لكل هذا أبى ابن زيدون أن يعرض على المعتضد أمنيته التي لاقى في سبيلها عذاب الهون وآلام الحبس والتشريد. أبى أن يدعوه إلى توحيد دويلات العرب بالأندلس لأنه رأى فيه جبارًا يضع السيف في موضع الندى، ومتكبرًا صلفًا لا يدين إلا بسياسة العنف والجبروت، لذلك كتم سره في صدره، ولم يومئ به لأحد لا في صراحة ولا في تلويح. ولم يكن له من سلوى في غربته إلا في محمد بن عباد ولي عهد المملكة، فقد كان شابًّا طموحًا، تزدحم نفسه بالآمال الكبار، وكان إلى بطولته الكامنة مرحًا مولعًا باللهو والشراب، وكانت له مجالس يجتمع بها ابن زيدون وابن عمار وابن مرتين، وكانت هذه المجالس صورة من العبث الأندلسي الذي قضى على دولة العرب، وأمات في شبانها النخوة والإقدام وصدق العزيمة.

ومرت الأيام، وتعاقبت السنوات، فلحق المعتضد بربه، وشغَلت الرهبة منه قلوب الناس عن الحزن عليه، وأكد ابن زيدون قريحته فبضّت له بأبيات سقيمة في رثائه. وخلف المعتمد أباه، واستوى على عرش إشبيلية، فاستبشر الناس وتمنوا على الله لو صدقت فيه المخايل. وكان أديبًا شاعرًا فأقبل على ابن زيدون ووالى عليه نعمه، فملأ قلوب حاسديه عليه حقدًا، وتألب عليه نفر كان يحمل لواءهم ابن عمار وابن مرتين، فما برحوا يدسّون له عند المعتمد حتى إنهم زينوا لمغنيته «صبح» أن تغنيه:

يأيها الملك العلي الأعظمُ
اقطع وريدَىْ كل باغ يلؤمُ
واحسم بسيفك كلَّ داء منافق
يُبدي الجميل وضدّ ذلك يكتم

فبدأ الغضب على وجه المعتمد وصاح بابن عمار: ماذا تقصد هذه الجارية؟

فابتسم ابن عمار في خبث ودهاء وقال: لا أدري يا مولاي من تقصد على التحقيق، ولكنها تردّد صدَى ما تتحدث به المجالس والأندية بأشبيلية.

– وبأيّ شيء تتحدث هذه الأندية؟

– اعفني يا مولاي فقد يكون حديثها عن أقرب الناس إليك، وأحظاهم عندك.

– من هو؟ صرح وإلا سبق كلمتي إليك سيفي!

– هو ابن زيدون يا مولاي.

– ابن زيدون؟

– نعم يا مولاي، فإنهم ينسبون إليه بيتين قالهما عندما بلغه نعي مولاي المعتضد.

– ما هما؟

– يقولون إنه قال:

لقد سرّني أن النعيَّ موكّلٌ
بطاغية قد حمّ منه حمامُ
تجنب صوبُ الغيث قبرك جافيًا
ومرت عليه المزن وهي جَهام

فقهقه المعتمد في سخرية واستخفاف وصاح: الآن عرفت سخف النمائم وما يمكن أن تنفثه سموم الوشايات! هذان البيتان قلتهما أنا حينما علمت بموت ابن ذي النون صاحب طليطلة، وابن زيدون بريء منهما كبراءتي من كل أعدائه ومنافسيه.

وعلم ابن زيدون بالخبر فنظم قصيدة بارعة يمدح بها المعتمد ويندد بحساده منها:

قل للبغاة المنبضين قِسيهم
ستروْن من تُصميه تلك الأسهم!
ما كان حلم محمد ليحيله
عن عهده دغِلُ الضمير مذممُ
وزادت منزلة ابن زيدون عند المعتمد علاء ورفعة، فاهتبل فرصة خلوته به ليلة، وأخذ يحضّه في إغراء واستهواء على أن يعيد لدولة العرب مجدها، ويجدد شبابها، ويذكره بما كان لها من الحول والصول، ثم يعود إلى ذكر ما ارتكست فيه من الضعف بعد أن فصمت عروتها، ثم يصيح في ألم وحسرة: انظر يا مولاي إلى هؤلاء الذين سموا أنفسهم أمراء وحدثني بحقك عمن تراه منهم جديرًا بالرياسة. ابن هود ذلك الغادر؟ أم ابن الأفطس الذي يقضي ليله ونهاره في اللهو والطرب؟ أم ابن ذي النون الذي أصبح سيفًا في يد ملك الأسبان؟ أم ابن باديس البربري الجاهل؟ مَنْ مِن هؤلاء يا مولاي يصلح لقيادة العرب وتوحيد الكلمة؟ لم يبق إلا أنت لرأب٢ الصدع وجمع الشمل، فاحمل العبء ثقيلا لتكتب في سجل العظماء، وليدوي ذكرك في أجواء التاريخ كل صباح ومساء. ثم إنك لم تكن دخيلا في الملك، ولا لصيقًا في الرياسة، وإنك لخمي يا مولاي، إنك من بني المنذر بن ماء السماء ملك العرب وسيد سادتها.

كان المعتمد يصغي وغرائز العظمة تتوثب في نفسه، فمال على ابن زيدون وقال: وما الطريق إلى هذه القمة الشامخة وهذا الأمل البعيد؟

– الطريق يا مولاي أن تستولي على قرطبة أولا وأن تجعلها قصبة ملكك، ثم تغير منها على هذه الدويلات واحدة في إثر واحدة، والنصر يا مولاي يجلب النصر، والرعب إذا استولى على قلوب أعدائك سجن سيوفهم في أغمادها.

– إن قرطبة الآن في يد هذا الطاغية الفاجر حريز بن عكاشة، فقد استولى عليها بعد أن رحل عنها المأمون بن ذي النون بجنوده، وقد علمت أن عبد الملك بن جهور يقاسي الآن من ابن عكاشة ما هو شرٌّ من الموت وأنكى من الذل والإسار.

– نعم يا مولاي والرأي أن يتقدم مولاي بجيشه إلى قرطبة، وأن يذيع قبل مقدمه أنه إنما يزحف لإنقاذها من ابن عكاشة وإعادتها إلى عبد الملك بن جهور، ولا بد أن يكون لمولاي بين وزراء قرطبة وعظمائها من يمهدون لهذه الحيلة حتى لا يجد الجيش من القرطبيين مقاومة أو دفعًا.

– إن رجلنا هناك الوزير ابن السقاء، وهو أخلص الناس لنا وأحرصهم على خدمتنا.

– حسن يا مولاي، فلنبعث إليه رسولا الليلة، ولنعِدّ الجيش في أيام لننقضّ به على قرطبة.

واقتنع المعتمد بالرأي، وسار الرسول، وأعدّ الجيش وكان في مقدمته المعتمد وابن زيدون، وبلغ الجنود أسوار قرطبة فدخلوها وقد فتحت أمامهم الأبواب، وذللت لهم السبل، وقتل المعتمد ابن عكاشة وأباد جيشه، وظن عبد الملك أن الأمر انتهى عند هذا الحد، وأن المعتمد سيعود بجيشه إلى إشبيلية، ولكن المعتمد لم يفعل شيئّا من هذا، بل قبض على عبد الملك وعلى إخوته وسائر أهل بيته وأودعهم غيابات السجون.

وسُرّ ابن زيدون بلقاء ولادة، فبكيا معًا من شدة سرورهما باللقاء، وبكيا معًا لأن نائلة لم تكن معهما بعد أن عادت إليهما الأيام.

التقى ابن زيدون بولادة ولكن بعد أن فات الفوت، وذهبت بشبابه السنون، ولوت قناته كوارث الأيام، ونيَّفت سنه على الثامنة والستين. فكان كالمتمني أن يرى فلقًا من الصباح، فلما أن رآه عمي عاد ابن زيدون إلى قرطبة، ولكن لم يعد إليه هناء قرطبة وطيب أيام قرطبة، فقد لبث أشهرًا يعاني آلام الأمراض وآلام الخيبة، لأنه رأى بعد طول التجربة أن المعتمد لا يصلح لما كان يرجى منه من خطيرات الأمور.

واشتدّ في إحدى الليالي به المرض، فجلست ولادة حول سريره باكية نادبة، وهو يجود بنفسه، ويلفظ أنفاسًا قصارًا كأنها خفقات السراج آخر الليل، ويردد:

ألم يأن أن يبكي الغمامُ على مثلي
ويطلب ثأري البرقُ منصلتَ النصل
وهلاّ أقامت أنجم الليل مأتمًا
لتندُب في الآفاق ما ضاع من فضلي

وما زال يكرّر البيتين حتى أدركته غشية أوردته الردَى، ولم تجعل ليومه غدا.

١  ينكشف.
٢  لإصلاح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤