تصدير

هذه هي الترجمة العربية الكاملة لكتاب تغطية الإسلام: كيف تتحكَّم أجهزة الإعلام ويتحكَّم الخبراء في رؤيتنا لسائر بلدان العالم الذي أبدعه قلمُ الناقد الفذِّ إدوارد سعيد، وقد ظهرَت الطبعة الأولى من هذا الكتاب عام ۱۹۸۱م عن دار نشر Routledge & Kegan Paul في سلسلةِ كتب Pantheon، ثم ظهرَت الطبعة الثانية من الكتاب نفسِه عام ۱۹۹۷م عن دار نشر Random House في سلسلة كتب Vintage، وأضاف المؤلف إليها مقدمةً ثانية مُسْهبة يَعرض فيها لبعض الأحداث والكتابات التي تؤكِّد ما انتهى إليه في الطبعة الأولى، وتقتصر على هذا التأكيد، وقد استندتُ في الترجمة على الطبعة الأولى، ثم راجعتُها على الطبعة الثانية المنقَّحة، فرأيتُ الاكتفاء بالصورة الأخيرة دون إضافة المقدمة الجديدة، وفي ظني أن إدوارد سعيد لو امتدَّ به العمر ليُصدِر طبعةً ثالثة بعد غزو العراق (بعد غزو أفغانستان وأحداث ۱۱سبتمبر ۲۰۰۱م)، لأضاف مقدمةً ثالثة تَزيد من تأكيد صحة النتائج التي توصَّل إليها البحث في الكتاب. وأما أهم ما جاء في المقدمة الثانية فسوف أعرضُ له بإيجازٍ في هذا التصدير.
يعرض إدوارد سعيد في مقدمته الجديدة للتحوُّلات التي طرأتْ على العالم بعد تفكُّك الاتحاد السوفيتي وانهياره، قائلًا إن التقسيم المبسَّط (الساذج) القديم للعالم في عيون الولايات المتحدة إلى معسكرَين: معسكر يُناصر الشيوعية ومعسكر يُناهضها، قد تحوَّل إلى تقسيم لا يقلُّ تبسيطًا وسذاجة؛ أي تقسيم العالم كله إلى معسكرين من نوع آخر: معسكر يناصر الإرهاب ومعسكر يُناهضه، ويُدلِّل على صدقِ ذلك القول بأحداثٍ وكتاباتٍ شتى، ثم يعرض بعضَ الأفكار الرئيسية التي سبق له عرضُها في متن الكتاب، وبعض الكتب التي صدرَت منذ مطلع الثمانينيَّات في هذا الصدد، ومعظمها يُردد الأغلوطةَ نفسَها عن «الصدام» المحتوم بين الحضارات، مع استثناء كتابٍ واحد كتبه أستاذٌ في جامعة جورجتاون اسمه جون اسبوزیتو، وعنوان الكتاب «التهديد الإسلامي: خرافة أم حقيقة واقعة؟» في عام ۱۹۹۲م، وبعد ذلك يَعرض لمشاركة إسرائيل في الحملة على الإسلام، بمساعدة المجلات والصحف والكتب الموالية لها في أمريكا، «على أمل زيادةِ عدد الأمريكيِّين والأوروبيين الذين يرَون أن إسرائيل من ضحايا العنف الإسلامي» (ص۲۱). ويأتي بنماذجَ من الكتابات الصحفية الأمريكية التي تُفصح عن التعصب العِرقي والتحيُّز البغيض واللاعقلاني، ثم يُخصص الصفحاتِ الباقيةَ من المقدمة للهجوم على الكِتاب الذي أصدرَته صحفيةٌ تُدعى جودیث میلر بعنوان رحلة صحفية في الشرق الأوسط المقاتل الصادر عام ١٩٩٦م، وتزعم فيه المعرفةَ الفيَّاضة بالمنطقة وشعوبها وهي لا تعرف أيًّا من لُغاتها، بل وتُخطئ حتى في كتابة الأسماء العربية أخطاءً فاحشة! ولا بد لي الآن من أن أشير بإيجاز إلى موقع المفكِّر إدوارد سعيد، وأهميَّته في ميدان الأدب والنقد أولًا؛ فهذا هو تخصصه الأول، ثم إلى ما ساهم به في الفكر العالمي المعاصر:

وُلد إدوارد سعيد في القدس؛ في فلسطين، عام ۱۹۳٥م، وتُوفي عام ۲۰۰۳م، وقد التحق بالمدارس الابتدائية والثانوية في القدس وفي القاهرة، ثم تخرَّج متخصصًا في الأدب الإنجليزي في جامعة برنستون عام ۱۹٥٧م، وحصل على الماجستير عام ۱۹٦۰م من جامعة هارفارد، والدكتوراه من الجامعة نفسِها عام ۱۹٦٤م، حيث فاز بجائزة أفضل ناقد، فبدأ نَجمُه يسطع. وبدأ حياته العمَلية أستاذًا يتنقَّل بين الجامعات الأمريكية الكبرى، حتى استقرَّ به المقام في جامعة كولمبيا أستاذًا للُّغة الإنجليزية وآدابِها والأدب المقارن. ومنذ نشر كتابه الأول عام ۱۹٦٦م عن الروائي جوزيف کونراد وكُتبُه تحوز الإعجابَ وتفوز بالجوائز، الأمر الذي أكسبَ آراءه مصداقيةً وحقَّق لها الانتشارَ واتساعَ التأثير، وخصوصًا بعد ذُيوع المذهب النقدي الذي ارتبط باسمه، والذي يُشار إليه عادةً باسم نظريةِ ما بعد الاستعمار، وهو المذهب الذي ساهم مع غيره من المذاهب النقدية الحديثة (مثل التاريخية الجديدة — في أمريكا — والمادية الثقافية، في بريطانيا) في تأكيد «العودة» إلى النظرة التكاملية أو الكلية للأدب باعتباره نشاطًا إنسانيًّا «ثقافيًّا» بمعنى أنه ينبع من الثقافة الخاصة لكلِّ مجتمع ويَصُبُّ فيها؛ ولذلك فقد اقترن اسمُه كذلك بالنظرة الجديدة إلى الاستشراق وما فعله المستشرقون من رسم الصورة التي يُريدها الغربُ للشرق حتى بدا أنها صورةٌ حقيقية، على زَيْفها، وهو الذي دعا سعيد إلى إعادة النظر في كتاباتهم، على نحوِ ما يُعيد النظر في هذا الكتاب في كتابات الغربيين عن الإسلام، والتنبيه إلى أوجُه الانحراف عن الصواب، وإلى التعصُّب المقيت الذي تُمْليه المصالحُ المادية المحضة للرأسمالية المُتضافرة مع نُظم الحكم في الغرب عمومًا، وفي الولايات المتحدة بوجه خاص.

وإذا كان صحيحًا أن أهمَّ تأثير لإدوارد سعيد في الحياة الأكاديمية الأمريكية، في رأي تيري جولدي، هو أنه كان من أبرز الذين قدَّموا نظرية النقد الأوروبية المعاصرة إلى الدارسين، باعتباره مِن مؤيدي فوكوه ومن مُعارضي دريدا، فإن إسهامَه الأصيل في النقد الأدبي الإنجليزي لا يقلُّ أهميةً عن آرائه النقدية في أصحاب هذه النظرية، ولا تزال نظريةُ ما بعد الاستعمار، بمعنى تحليل العَلاقات القائمة بين الدول الكبرى التي كانت لها مستعمَرات، والدول الصغرى التي تحرَّرَت من الاستعمار، نظريةً متماسكة يهتدي بها دارسو آدابِ هذه الدول التي تحرَّرت، وينظرون من خلالها إلى تَرِكة الأفكار الخاصة التي خلَّفها الاستعمارُ ولا تزال تتحكَّم في مسيرة هذه العلاقات على المسرح الدولي. وسوف أُلخص معنى هذه النظرية (أو النظريات) فيما يلي:

أهم أعمدة هذه النظرية هو التشكيك في عددٍ من الأفكار الأساسية التي خلَّفتْها التَّرِكة الاستعمارية، ومن بينها الإيحاء بأن الاستعمار أفاد البلدان التي تعرَّضَت له، من حيث «النهوضُ» بها صناعيًّا، و«تحديثُها» بمعنى مساعدتها على الأخذِ بأساليب الحياة «الحديثة» سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، حتى تَلحق برَكْب «الحضارة»، والمقصود هو الحضارة الغربية الحديثة، كأنما تقتصرُ الحضارة البشرية على نسَق الحياة في مجتمعات الغرب الرأسمالية وحده، ومن حيث الإيحاءُ ﺑ «تفوق» التراث الأدبي الأوروبي وما بُني على افتراض هذا التفوق من مناهجَ لدراسة الأدب المقارن تقول بالتأثير المحتوم لما هو «متفوق» على ما هو «متخلِّف»، وعمومًا من حيث الإيحاءُ بتفوق ثقافة القوة المستعمِرة (بكسر الميم) على نحوِ ما يُصِرُّ عليه البعضُ مثل برنارد لويس وأضرابِه، كما أن مِن عُمد هذه الأفكار إثارةَ قضايا مهمة تتعلق بالانتماء العِرقي والتعصب العنصري، والاستغلال بشتى صوره، حتى بعد زوال الاستعمار. ويقول جوناثان هارت إن من أهمِّ عناصر هذه النظرة موقعَ «أفراد الرعية» في البلدان التي تحرَّرَت من الاستعمار، ويقصد بذلك ما أورثه الاستعمارُ للفرد في هذه البلدان من نظرة دُونيَّة إلى ذاته، وهي نظرةٌ تتصل بالتصوير المتَّسق له ولأمته في كتابات المستشرقين وأدبِ الأدباء، وهو ما يركز عليه إدوارد سعيد تركيزًا خاصًّا في كتابه الاستشراق (Orientalism). ويقول سعيد في هذا الكتاب الذي ساهم به في إرساء أسسِ نظريةِ ما بعد الاستعمار: إن الصور التي تُمثل الشرقَ في الكتابات المذكورة تؤثِّر لا في الدراسات الأكاديمية فحسب، بل في رؤية أبناء البُلدان التي تحرَّرت من الاستعمار لِذَواتهم، ويؤكد أن هذه الصورَ لا تُمثل الحقيقة الباطنة للثقافة وإن كانت ترسم الهيكلَ القائم الذي ساعدَت على إقامته ظروفُ الإمبريالية والعنصرية. وهكذا فإن نظرية إدوارد سعيد قد ساهمَت بصورةٍ مباشرة في تدعيم أسسِ النقد الثقافي الذي أتى بالدراسات الثقافية الخالصة إلى ميدان النقد الأدبي، وأتى إليه كذلك بنظريات النقد النسوي، وخصوصًا «النظرة» التي تقول بضرورة تحرير المرأة في البلدان التي تحرَّرَت من الاستعمار من الصورة النمطية التي رسَّخها الغرب لها، أو دأبَ على محاولة ترسيخها، وهي صورة الأَمَة التي لا حول لها ولا طَول، في بلدان الشرق عمومًا، وفي بلدان أفريقيا وآسيا بصفةٍ خاصة، فهي صورةٌ قد تُمثل بعضَ حقائق الواقع «القديم» ولكنها لا تُمثل الحقيقة كلَّها، وما فيها من جوانب الصدق لا يرجع برُمَّته إلى الثقافة الشرقية الأصيلة، بل هو في بعض جوانبه من ثِمار عواملَ تاريخية معيَّنة، فُرِضَت فرضًا على تلك المجتمعات، وعانى منها الرجال مثلما عانَت النساء. وهذا الفرع من النقد الثقافي مهمٌّ في نظر إدوارد سعيد؛ لأنه يتصل بالإطار العامِّ للاستعمار وما خلَّفه وما ترتَّبَ عليه من آثارٍ تهمُّ الناقدَ الأدبي والدارس الأكاديمي جميعًا.
وقد بدأ ذيوع صيت إدوارد سعيد على المستوى الدولي، كما نعرف، عندما نشر كتاب الاستشراق عام ۱۹۷۸م، ولكنه كان قد أثبت امتيازه ورسوخَ قدمه في ميدان النقد الأدبي بصفةٍ عامة عندما نشر كتابه الأول (الذي كان أصلًا رسالةَ الدكتوراه التي أنجزها في هارفارد)، وعنوانه جوزيف كونراد وخرافة السيرة الذاتية Joseph Conrad and the Fiction of Autobiography (١٩٦٦م)، وأذكر أنه أحدثَ دويًّا هائلًا في أوساط دارسي الرواية؛ فالكلمة التي ترجمتُها ﺑ «الخرافة» تتضمَّن توريةً من المحال إخراجُها في الترجمة، فقد تَعني التخيُّل أو الوهم (بالمعنى العام) وقد تَعني فنَّ الرواية الخيالية أو القصة الخيالية، طالت أم قَصُرَت، وهو يُقارن فيه بين الصورة التي يرسمها كونراد لنفسه في خطاباته، معتبرًا إيَّاها ضربًا من ضُروب السيرة الذاتية، وبين الروايات والقصص التي كتبَها، قائلًا: إن الكاتب كان يحاول فيها تحقيقَ ما عجز عن تحقيقه في سيرته الذاتية غير المباشرة، فكان بذلك يُطبِّق «التعارض الثنائي» أو «الثُّنائية المتعارضة» التي أتَت بها سيمون دي بوفوار بين الذات والآخَر (بل وحتى بين الذات والموضوع)؛ بمعنى أنه يُفسر سيرة الحياة الحقيقية للكاتب كونراد باعتبارها الذات، ويفسر أدبَه وما يتجلَّى فيه من صورةٍ غير مباشرة لما كان «يعتزمه» وعجز عن تحقيقه باعتباره الآخَر، وهكذا فهو يُخرج لنا نظرةً تقوم على التعارض ما بين الذات والآخَر في حدود التعارض بين القصد (أو العمد) وبين التحقيق أو العجز عن التحقيق، الأمر الذي يُقيم وشائجَ مهمةً بين منهجه ومنهج «الظاهراتية» أو الفينومينولوجيا الذي أرسى أسُسَه الفيلسوف إدموند هوسيرل وطوَّره الفيلسوف مارتن هايديجر فيما بعدُ (وأيضًا موریس ميرلو-بونتی). فمذهب الظاهراتية يُصِرُّ على أن القصد أو العمد هو أساسُ كل وعي إنساني، وأن «الوعي» لا يتحقَّق إلا بوجود هذا القصد أو العمد، وأنا أذكر ذلك لتبيانِ التوجُّه الفلسفي المبكِّر في كتابات إدوارد سعيد، وما استتبعه من «التجريد» الذي يُضفي على أسلوبه عمقًا خاصًّا ويجعل ترجمتَه إلى العربية شاقةً عسيرة. وربما كنتُ أذكره أيضًا لإيضاح ما يعتبره مؤرِّخو النقد الأدبي المعاصر أكبرَ مساهمة لإدوارد سعيد في النقد الأدبي بصفةٍ عامة وهو كتابه المهم البدايات: المقصد والمنهج Beginnings: Intention and Method الذي أصدره عام ١٩٧٥م؛ فإن اهتمام سعيد بالمقصد لا يتوقَّف عند التطبيق (في حالة كونراد) بل يتطورُ إلى نظرية كاملة نرى فيها الاهتمام الموازيَ ﺑ «التعارض الثنائي» الذي قد تكون له جذورُه في «الفكر البِنْيوي»، ولكنه يتطوَّر عند سعيد ليُصبح نظرةً عامة إلى موقف الأديب، تُذكِّرنا بموقف هارولد بلوم (الذي أتى فيما بعد) عن «قلق التأثير». وهذه المجرَّدات في حاجةٍ إلى إيضاح؛ يقول سعيد في مقدمته لطبعة عام ۱۹۸٥م من ذلك الكتاب: إنه يُفرق بين مفهوم البُنُوَّة (filiation) والاتِّباع (affiliation) أما البُنُوة فتتضمَّن حتميةً «بيولوجية» فالابن لا يملك إلا أن ينحدر من نسل أبوَين، يرث منهما صفاتٍ معينة، شاء ذلك أم أبَى، وأما الاتباع فيقوم على الاختيار أي على القصد. والتعارض بين هذين القُطبَين (أي هذا التعارض الثنائي) يُفسر في نظر سعيد الخطأَ الذي وقعَت فيه بعضُ المذاهب التي أتت بها النظريةُ الحديثة حين زعمَت أن كل نتاجٍ أدبيٍّ ينتمي وفقًا لقانون الحتمية، أي حتمية البُنُوة، إلى ما سبق إنتاجه من أدب، فكأنما ينتمي وَفقًا لقانون البُنُوة للأسلاف، الأمر الذي ينفي إمكانَ وجود بداية جديدة لأي شيء؛ أي وجود ما يُسمِّيه سعيد «البدايات»، ولكن إدوارد سعيد يرفض هذا التعميم، ويقول: إننا حتى لو استطعنا أن نجد ظلالًا «لأصول» أيِّ «فكرة» فيما سبق من كتاباتٍ أو أقوال، فلا بد أن الكاتب أو الشاعر الأصيل يستطيع أن يأتيَ بالجديد، وأن يضع في أدبه جذورًا جديدة قد تُشبه بعضَ ما سلف في بعض المظاهر، ولكنها — حتى ولو كانت تقوم على «الاتباع» — تأتي قَطعًا بالجديد، ولا بد من اعتبارها بدايةً من لونٍ ما.
وليس الغرض من هذا كله أن أُقدِّم عرضًا مبسَّطًا أو موجزًا لموقف إدوارد سعيد «النقدي»، أو مكانته بين نُقاد العالم اليوم؛ فهي مهمةٌ تتطلب مجلَّدًا أو أكثر، ولكنِّي أُقدم وحسبُ ما أرى أنه يوضح مذهبَه الفكري في الكتاب الذي بين أيدينا، فهو مذهبٌ تكامل دينامي؛ بمعنى أنه يربط بين الظواهر المختلفة في المجتمع (التي يُكمل بعضُها بعضًا)، ويَقبل مبدأ الحركة والتغير (أي الدينامية) باعتباره المبدأَ الذي لا بد من وضعه أساسًا لتحليل أيِّ ظاهرة إنسانية، ومن بينها الفكرُ والأدب. فإعجابه بفكرة الذات والآخَر عند بوفوار جعله يُطورها ويوسع من نطاقها بحيث تتجاوز العلاقة بين الرجل والمرأة، وتضمُّ في إطارها الواسعِ العلاقةَ بين «الشرق والغرب»، وإعجابُه بفكرة القصد أو العمد في الظاهراتية يجعله يُطوِّرها ويوسع من نطاقها في تحليله لكتابات الغرب عن الشرق، ونظرة المستشرقين إلى الشرق، وما يَنسُبونه عمدًا (نتيجة الوعي الذي لا بد له من القصد أو العمد عند هوسيرل) إلى الإسلام؛ ولذلك فلن أضرب أمثلةً لمنهج إدوارد سعيد النقديِّ والفكري من كتابه البدايات، وكنت أحبُّ أن أستطرد لعرض حديثه الممتع عن «مقصد الكاتب»، والتعارض بينه وبين «تحقيق غايته» في كتاباته، وخصوصًا ما يُسميه سعيد الصورَ التي تُمثل هذا القصد أو هذه الغاية؛ فهذه الصور التمثيلية (representations) يَكثر الحديث عنها في ثنايا كتاب تغطية الإسلام، مثلما يضرب سعيد أمثلةً لها ويقدم نماذجَ مقنعةً في كتاب البدايات من كتاب فرويد تفسير الأحلام، ومثلما يعود إليها في كتابه العمدة الاستشراق. ويكفي أن نقول في هذه العُجالة إن سعيد قد أعاد «اكتشاف» الفيلسوف فيكو الذي يشير إليه في هذا الكتاب في مطلع الفصل الأخير عن المعرفة والسلطة باعتباره تلميذ فرانسيس بيكون، وهو يُعيد اكتشافه بعد أن ظل كتابه «العلم الجديد» مُهملًا ولا يحظى بالاهتمام اللائق به على امتداد القرن الثامن عشر، حتى اشتدَّ ساعدُ العلم الطبيعي في القرن التاسعَ عشر فأبدى الكُتَّاب الأوروبيُّون اهتمامًا (ولو محدودًا) به.
وأمَّا جامباتستا فیكو (۱٦٦۸–۱۷٤٤م) فقد ارتبط اسمُه في أذهان دارسي المذاهب النقدية بالمذهب التاريخي (القديم) الذي يُعتبر أقربَ المذاهب إلى المنهج «السياقي» التكاملي قبل ظهور التاريخية الجديدة التي أضافت إليه بعضَ العناصر، من بينها معارضة الفصل بين المباحث العِلمية، وضرورة الاهتمام بالعوامل الاقتصادية التي تتحكَّم في الثقافة، وتحليل كتابات الكُتَّاب باعتبارها دلائلَ غير مباشرة على تفاعلهم مع ثقافةِ عصرهم، ومن ثَم على التناصِّ المحتوم في كتابات العصور المتوالية. وغيرُ دارسي النقد يرَون في فيكو مبدعًا فكريًّا في مجال الدراسات التي أتت فيما بعدُ بعلوم السلالات البشرية (الأنثروبولوجيا) وعلم الأعراق (إثنولوجيا)، ولكن إدوارد سعيد يُركز على منهجه العِلمي الذي سبَق به عصره، بل أغضبَ رُعاته الكنَسيِّين حين أصدر كتابه الذائع عام ۱۷۰۹م الذي يدعو فيه إلى الدراسة العقلانية (بالمعنى الحديث) للعصر، فتخلَّوا عنه فأصدر على حسابه الخاصِّ كتابَه الأهم وهو العلم الجديد (۱۷۲٥م). فالمنهج العِلمي عند إدوارد سعيد هو الذي يجعل من فيكو خيرَ شارح لما يدور في أواخر القرن العشرين لا في أوائل القرن الثامنَ عشر فحسب، وهو مِن ثم ينتفعُ بالنتائج التي توصَّل إليها فيكو عن العلاقة التكاملية الدينامية بين السياق التاريخي والنص المكتوب، لا في كتب سعيد الأولى فقط، بل في كتابه الاستشراق الذي وصفتُه بالعمدة.
أصدر سعيد كتابه الاستشراق عام ۱۹۷۸م، فكان نقطةَ تحوُّل بالغةَ الأهمية في مسار نظرية النقد الأدبي الحديثة، لا كما يقول أحدُ النقاد في فكر سعيد أو عمله فحسب، إذ فتَح هذا الكتابُ البابَ أمام دُروبٍ جديدة في الدراسات النقدية لا لكتابات الغربيِّين عن الشرق فقط، بل أيضًا لكتابات الدول التي تحرَّرَت من الاستعمار عن ذواتها، خصوصًا في إطار وعيها المحتوم بما خلَّفه الاستعمارُ من آثارٍ «ثقافية»، فإذا كان رأي تيري جولدي يقول: إن كتاب الاستشراق نموذجٌ لما أصبح يُسمى نقد الاستعمار (colonial critiquae) فإن سعيد نفسَه يُطلق عليه اسم «نقد ما بعد الاستعمار» (Postcolonial criticism) وتَبرزُ معالمه في هذا الكتاب الذي يقتصر في ظاهره على تقديم الكُتَّاب الأوروبيِّين للصور التي تُمثل الشرق (بحيث أدَّت إلى تكوين الصورة التي يريدونها للشرق والإصرار على صدقها بزعم أنها تُمثل الحقيقة)، ولكن الكتاب يُقدم في ثنايا عرضه وتعليقاته ما سبَق لي أن أشرتُ إليه من نظراتٍ نقدية جديدة، ولْنكتفِ بمثالٍ واحد من ذلك الكتاب على منهجه؛ فهو يدلِّل بنماذجَ مفحِمة على أن صور الشرق كانت «تُباع» للغرب في ظلِّ نظامٍ «اقتصادي» يحكمُه الربح المادي والفائدة المعنوية، فما يريده السوق يُقدمه الكُتَّاب، سواءٌ كانوا يكتبون كتاباتٍ عامةً أو إبداعيةً أو «عِلمية» (مزعومة)، فالسوق يريد صورَ مكانٍ غريب متخلف عن رَكْب الحضارة، يسوده التفكير اللاعقلاني، وتسود فيه المُتع الحسِّية، وخصوصًا الاستغراق في الملاذِّ الجنسية، سواءٌ كان ذلك مما يتفق مع الواقع كلِّه أو يختلف عنه في بعض التفاصيل المهمة التي قد تُغيِّر من «حقيقة» الصورة. وإدوارد سعيد يواصل هذا المنهجَ في هذا الكتاب، فيُبين أن الصور التي تُمثل «الإسلام»؛ أي عالم المسلمين مُنتقاةٌ بعناية لتلبية احتياجات سوقٍ من نوع آخر، سواءٌ كانت السياسات الحكومية، أو ما يُسمَّى ﺑ «المصلحة القومية»، وسعيد يُثبت أنه ليس في «صالح» الغرب بصفة عامة والولايات المتحدة بصفة خاصة تكريسُ هذا الاستقطاب أو العداء أو الصدام المزعوم بين الثقافات أو الحضارات، بل يقول إن هذا يُنشئه إنشاءً ويعمل على تنميته بما يَغْذوه من تشويهٍ له، بحيث لن يؤديَ استمرارُ ذلك النهج إلا إلى يأس الشرقيين من تفهُّم الغربيين لهم، وقد يدفع اليأسُ إلى الإرهاب، أو إلى الهجمات الانتحارية، أو إلى الحروب، وهو ما أثبتَت الأيام صحتَه، فتحقَّق في ١١ سبتمبر ۲۰۰۱م وما تلا ذلك من غزو أفغانستان والعراق.
والمنهج الذي يتبعه إدوارد سعيد على دَرْب «النقد الثقافي» يتميز إذن بالاتساق؛ فهو يتجلَّى في أكثرَ من نسق من الأنساق التي يتَّسم بها ما يكتبه في شتى المجالات، حتى حين يتكلم عن الموسيقى في أحد كتبه وهو «تنويعات موسيقية» (Musical Elaborations) الصادرُ عام ١٩٩١م، وهو يعتمد على خبرته الخاصة في العزف على البيانو (وهو من المشهودِ لهم بالبراعة في هذا المجال) في تأكيد مذهبه الذي يقول بوجود الإطار الاجتماعيِّ المحتوم، حتى لعازف البيانو، وهو الذي يبدو أنه يتجاوز المجتمعَ في عزفه وإن كان محكومًا في الواقع بهذا المجتمع! وهو يُدلل على ما يذهب إليه بأمثلةٍ من حياة عازف البيانو الشهير، والمفكر اللامع جيرالد جولد (الذي قيل إنه يكره الجنس البشري) وغيره، كما يضرب أمثلةً من غيره، وليس في هذا، كما قال البعض، «انحرافٌ» عن منهجه وإن كان يتحدث عن الموسيقى، فأنا أعرف من خبرتي الخاصة بالموسيقى مدى ارتباط ذلك الفن بالمجتمع وبالثقافة بصفة عامة، وإن كنتُ أدهش للتحليلات «التجريدية» المُذهلة التي يأتي بها سعيد (ذلك الذهن العبقري) للحدود التي يتقيَّد بها «فنُّ الصنعة» الصِّرف، وهي التي لا يملك أن يتخطَّاها، وما يدفعه المجتمع وتدفعه الثقافة دفعًا إلى تخطيه.
وتعجُّلًا لاختتام هذه المقدمة التي أريد لها أن تقتصرَ على «التعريف» بإدوارد سعيد، الذي أرجو أن يستمتع القارئُ بأفكاره التي كسَوتُها ثوبًا عربيًّا مثلما استمتعتُ بقراءة النص بإنجليزيته العميقة؛ سوف أوجز عرضَ الجانب الآخر لهذا المفكر، وهو دفاعه العقلاني المتمهِّل عن القضية الفلسطينية. وسأبدأ بالإشارة إلى ما بين يديَّ من كتبه (وما ليس عندي كثير) فأقول إن منهجه في النقد الثقافي الاجتماعي يستمرُّ في بعض كتبه الأخرى، مثل كتاب العالَم والنَّص والناقد (The World, the Text and the Critic) (۱۹۸۳م)، وهو مجموعةُ مقالاتٍ بالغةُ الأهمية، وفي العلم والسيف (The Pen and the Sword) (١٩٩٤م) وهو حوارٌ مع دافيد بارساميان، مع مقدمة بقلم إقبال أحمد، وسوف أقتطف من هذهِ المقدمة عبارات محدودة، وهي التي تُمهد لمن يريد قراءة كتبه المهمة الأخرى، وعلى رأسها المسألة الفلسطينية (The Question of Palestine) (۱۹۸۰م)، وكذلك سياسات السلب والتجريد: كفاح الفلسطينيِّين في سبيل تقرير المصير (The Politics of Dispossession: The Struggle for Palestinian Self-Determination 1969–1994) (١٩٩٤م) وهو من أهمِّ كُتبه العامة على الإطلاق. يقول إقبال أحمد:

كان سعيد من أوائل دُعاة السلام مع إسرائيل. ولو كان عرفات قد استجاب للاقتراح الذي عَرَضه [سعيد] عليه في بيروت في خريف ۱۹۷۸م ثم في مارس ۱۹۷۹م — وهو يكشف هنا عن تفاصيلِ هذا الاقتراح لأول مرة — فربما كان من الممكن التوصلُ إلى تسويةٍ معقولة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وسعيد يعتبر أن الاتفاق الحاليَّ بين الجانبين يُمثل «استسلامًا» من جانب عرفات، ويُقدم الأسبابَ التي تُبرر هذا الرأي. وينبغي إلى أن أدعَ الفصل في هذه القضية للآخرين وللتاريخ، لكنني أشير هنا وحسبُ إلى جوانبِ اعتراضه التي تتعلق بتكوينه الذهني. وتتضمَّن انشغاله بما يسمى الذاكرة، وبوجهة نظر المقهورين، وبالتزامه بعدم السماح مطلقًا لأسطورة أو وجهةِ نظر فاسدة سائدة أن تُصبح جزءًا من التاريخ دون ما يُقابلها من أضداد. ومما لا يقلُّ أهميةً في عمله إحساسُه العميق بالخَسارة الشخصية والجماعية، ونِشْدانه للبدائل الإيجابية والعالمية لما يتسم بالطائفية من أيديولوجيات وأبنية ومزاعم. وفي ثنايا عمله كلِّه نرى هذه الموضوعات وقد التحمَت معًا بخيوطٍ تربط ما بين المعرفة وبين السلطة وتُقِيم الوشائجَ ما بين الثقافة وبين الإمبريالية. وهو يُقِيمُ هذه الوشائجَ بأساليبَ تفتح الدروب إلى البديل الأقوى والإنساني — فلْنُسمِّه فلسفةً مضادة، أو ثقافة مقاومة، أو الوعد بتحرير غير طائفي، وعلماني. (ص۱۱–۱۲).

وسوف أُلمح إلى أهمِّ كتبه في هذا المجال، وهي دون ترتيب الثقافة والإمبريالية Culture and Imperialism (١٩٩٣م) الذي يضمُّ دراساتٍ متنوعةً تدور في الفلَك نفسِه، وكتابه الأخير، وأطولُ كتبه وهو تأمُّلات في المنفى ومقالات أخرى (Reflections on Exile and Other Essays) (٢٠٠٠م) والطبعة التي لديَّ صادرةٌ عام ۲۰۰۲م، ويضم دراسات عميقة ممتعة، بعضُها عن الأدب الأمريكي، وبعضها عن موضوعاتٍ عربية مثل دراسته عن تحية كاريوكا، وعن المشهد الأدبي في مصر، وعن نشأته الخاصة في القاهرة، وعن فنِّ الرواية عند أهداف سويف، وغير ذلك.

وليأذن لي القارئُ أن أذكر شيئًا عن هذه الترجمة؛ فلقد كنتُ اعتدت قراءةَ ما يكتب إدوارد سعيد بالإنجليزية دون أن أتصور أنني سوف أترجم منه أيَّ شيء، وكان ينتابني مزيجٌ من الإشفاق والإعجاب بمن يتصدَّى لترجمته بسبب إغراق سعيد في «التجريد»، وهو من «ضرورات» التفكير الفلسفي، وبسبب تعقيد أبْنيته واتِّكائه على المصطلح الإنجليزي القُح، ومَزْجه النبرةَ العامية أحيانًا بالنبرات «المتقعرة» لكبار النقاد الذين اعتدناهم في دراستنا للأدب الإنجليزي، وعندما اقترح عليَّ الناشر، الأستاذ رضا عوض، ترجمةَ هذا الكتاب امتزج الشعورُ بالإشفاق والوجل بإحساسي الدفين بالتحدي، وكان لا بد أن أقهر الشعورَ الأول وأستجيب للتحدي، وكان معنى ذلك قضاءَ وقتٍ أكثر مما قدَّرتُ في الترجمة والمراجعة، وحاولتُ أن أنقل للقارئ بإخلاص وأمانة صورةً صادقة لفكر إدوارد سعيد، وأسلوب صَوغ هذا الفكر، ولو اقتضى ذلك بعضَ الالتزام الحرفيِّ بما يقول ويصوغ في بعض المواضع، ولكن دون جَوْر على الوضوح الذي أبتغيه في كلِّ ما أكتب وأترجم. وأرجو ألا يجد القارئُ صعوبة في تتبُّع مسار فكر الرجل العظيم بعد أن أنطقتُه بالعربية، وأن تصل رسالةُ الكاتب بوضوحٍ إلى الجميع. فإذا وجد القارئ هَنَات هنا وهناك، وهو أمرٌ محتوم، فأرجو منه الصفح؛ فالإنسان غير معصوم من السهو والخطأ.

محمد عناني
القاهرة، ٢٠٠٥م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤