في غار ثور

أما وقد آن لنا أن نُغادر مكة إلى المدينة فهَلُمَّ بنا إلى غار ثَوْر، وأومأ الإخوان الذين صحبوني في صعود حراء وفي جولاتي بالبلد الأمين وما حوله أنهم سيكونون في صحبتي، وقال اثنان منهم: وسنصحبك إلى المدينة، فشكرتهما، ثم حددنا موعد الذهاب إلى ثَوْر والصعود إلى غاره في الغداة، أو ليس الرسول — عليه السلام — قد احتمى به من كَيْد عدوه حين أزمع الهجرة إلى المدينة؟ فلنذهب إليه ولنشهد أثر الرسول فيه ولْنَحْتَمِ بأفياء الصخور وظل الغار وإن لم يطارنا عدو ولم يأتمر بنا ليقتلنا أحد، قال رجل من أفاضل المكيين لم يكن صَحِبَنَا من قبلُ: وأنا زميلكم في رحلتكم هذه إلى ملجأ رسول الله في هجرته، وإن لم يكن بي إلى زيارة المدينة هذا العام عزم، وسألته فذكر أنه لم يصعد ثورًا ولم ير الغار من قبلُ، ثم ابتسم وقال: إن مئات من الهنود والجاويين والصينيين وغيرهم ليتسلقون ثورًا ويصلون الغار في كل عام، أما نحن أهل مكة فتصرفنا الحياة وشغلها عن الصعود إليه.

ولم أجد في ذلك عجبًا، فالسائحون الغربيون الذين يجيئون إلى مصر أشد حرصًا من أهل مصر على مشاهدة آثار الفراعنة والرومان ومساجد العرب والمسلمين، والشرقيون الذين يزورون أوروبا يرون من آثارها ومتاحفها أضعاف ما يراه أهلها؛ ذلك بأن المقيمين على مقربة من هذه الآثار والمتاحف لا يستعجلون زيارتها طمأنينة منهم إلى أنهم سيقومون بهذه الزيارة يومًا ما، فأما الذين جاءوا من بلاد قاصية فلا يعرفون هل قُدِّر لهم أن يعودوا؛ ولذلك يحرصون على أن يروا كل ما يستطعيون رؤيته، وهؤلاء المسافرون قد جاءوا وفي برنامج رحلتهم أن يروا هذه الأماكن، فأما المقيمون حولها فلديهم من مشاغل الحياة اليومية ما يحملهم على إرجاء زيارتها، وكثيرًا ما يطول هذا الإرجاء فلا تتم الزيارة أبدًا.

ورحبت بصحبة صديقنا المكي لنا وقلت مبتسمًا: لطالما يتحدث أهل مكة عن آثار الرسول فيها، فلعلك تفيدنا في هذه الرحلة بمعلوماتك عنها — ولم ير الرجل في حديثي هذا محلًّا لدعابة، بل قال: نعم! فإن ما لديَّ من العلم بآثار مكة كثير، وقفت عليه في بطون الكتب ومتون التاريخ، ووُفِّقْتُ غاية التوفيق في بحثه وتمحيصه، وهل قصة يشوق الإنسان بحثها ما تشوقه قصة الهجرة؟! هذه القصة التي لم يروِ التاريخ قط مثلها من أنباء المغامرة في سبيل الحق والعقيدة والإيمان قوة وروعة! وجبل ثور وغاره يتصلان بهذه القصة أبلغ اتصال، وجدير بكل ما اتصل بها أن يخلد على التاريخ، وكيف لا يكون الأمر كذلك وقد أصبحت الهجرة مبدأ تاريخ لذاتها، فإنها فصلت على الزمان بين عهد الوثنية والشرك بالله وعهد التوحيد القائم على أسمى الأسس الروحية والعقلية والخلقية.

كان الرجل يلقي هذا الحديث وبيانه يتدفق حماسة وإيمانًا مع أنه لم ير ثورًا ولا صعد إلى الغار فيه؛ إنما دفع إلى قلبه هذه الحماسة وأفاض على لسانه هذا البيان إيمانه بالله ورسوله، ثم إن أهل مكة قد ألفوا الحديث عن آثار بلدهم المقدس بلهجة تزيد المسلم حبًّا لهذه الآثار وحرصًا على رؤيتها، وإن لم يكن المتحدث من أهل مكة قد رأى أثرًا منها، وإن أفضى إليك إذا خلوت إليه بأن التاريخ لا يثبت من هذه الآثار إلا الكعبة والحرم والصفا والمروة وحراء وثورًا، فأما ما سوى ذلك فلا تنهض حجة موثوق بها على صحة أنه المكان الذي ينسب إليه.

وقال أحد الحاضرين وكان قد صعد ثورًا إلى الغار من قبل: لولا قصة الهجرة لما ذَكَرَ ثورًا ولا ذَكَرَ الغار الذي بأعلاه ذاكرٌ، فهو واحد من الجبال الكثيرة التي تحيط بمكة، ليس أرفعها وليس أبهاها، وليس يمتاز عليها بشيء مطلقًا من حيث طبيعته، والغار الواقع في قمته لا يمتاز على أي غار آخر مما يرى الإنسان في جبال الحجاز وفي جبل ثور نفسه، أما وقد لجأ الرسول ولجأ الصِّدِّيق معه إلى هذا الغار وأقاما به ثلاثة أيام، كانا موقنين أثناءها بعثور الباحثين عنهما من فتيان قريش بهما وقتلهم إياهما، فقد صار هذا الغار عَلَمًا من أعلام التاريخ، ومَنْسَكًا يحج إليه كثير من الناس ذكرًا لهذه الهجرة التي كانت مبدأ فتح الله لرسوله، ونصر الله دينه، وإعلائه كلمة الهدى والحق.

وأقلتنا السيارة صباح الغد حتى بلغت بنا سفح ثور، وهو يقع إلى جنوب مكة في طريق المنحدر منها إلى اليمن، وتقوم على جانبيه إلى اليمين وإلى اليسار جبال مشابهة له كل الشبه، مع ذلك لا يعنى أحد بأن يعرف اسمها؛ لأنها لا تتصل بحادث من حوادث التاريخ.

والذهاب من مكة إلى جبل ثور ميسور اليوم كما كان ميسورًا من قبل للسائر على قدميه، لكنه العثار للسيارات لكثرة رمله وتنقل هذه الرمال مع الريح تنقلًا يتعذر معه بقاء طريق تمهِّده السيارات صالحًا لسيرها فيه، ولقد غاصت بنا السيارة غير مرة، فنزلنا منها وأعنا سائقها على دفعها خلال الرمال، أو على إزاحة الرمال من حول عجلاتها، أو على رفعها إذا بلغ غوصها أن طمرت الرمال العجلات وجزءًا من قاع السيارة الأسفل، وبصُر بنا بعض الأعراب في إحدى وقفاتنا فأنبأنا أن الطريق التي نسير فيها كانت سوية من أسابيع مضت، وأن الطريق السوية انتقلت إلى بعيد عن يميننا، وأن من الخير أن يعدل بنا السائق إليها عند عودتنا، فلما سألناه عن المكان الذي نصعد منه ثورًا أشار إلى بناء حقير على مقربة منا، وبلغناه فألفينا جماعة من أهل المنطقة جعلوا من هذا البناء مقهى يستريح فيه من يقصدون إلى الجبل ساعة صعودهم أو هبوطهم منه.

وما أظن أصحاب هذا المقهى يُفَيدون منه إلا قليلًا، خلا ما يصيبهم من جود من يقصدون ثورًا ومن لا يبتغون عندهم قهوة ولا شايًا، فالأكثرون من هؤلاء يحملون معهم قوت يومهم؛ لأنهم يمضون النهار بأعلى الجبل، فإذا هبطوا كانوا أحرص على اللحاق بمكة منهم على تناول الشاي أو القهوة.

بلغت بنا السيارة هذه البِنْيَة التي يتخذها الناس عَلَمًا يهتدون به إلى موضع الصعود، فتَرَجَّلْنا واتجهنا نحو الطريق الصاعد في سفح الجبل، وقد خُيل إلينا إذ رأيناه أنَّ تسلُّقَه يسيرٌ، وأنه أقل مشقة من الصعود في حراء أو في جبال الطائف، كذلك كان شعوري وشعور الأصدقاء الذين جاءوا معي، وكذلك قال لنا أهل المنقطة؛ لذلك أقدمنا مقبلين على الصعود بنفوس مطمئنة وبال مستريح، ولم تُكَذِّب المقدماتُ ظَنَّنَا على رغم حر الشمس في الضحى، ولم نر في صعود السفح عَنَتًا يصدنا عن المضي في طريقنا أو يدعونا لنستريح إلى ظلِّ صخرة ما لم ينل منا التعب، صعدت ببصري فخُيِّل إليَّ أننا صرنا على مقربة من القمة، فهذا الجبل الذي نتسلقه قد أوفى على غاية ارتفاعه، وهذا الجبل الذي يبدو أمامنا بعيدًا عنا وأكثر من ثور ارتفاعًا لا بد أن يكون في سلسلة أخرى لا شأن لها بثور ولا بغاره.

آن لنا إذن أن نبلغ الغار وأن نطمئن إلى مجلسٍ عنده ريثما نعود إليه ليحدثنا حديث الهجرة، وينشر أمامنا مما طوى الزمن ما يفيض القلب بإجلاله وتقديسه، لكني ما لبثت حينما بلغنا هذه القمة التي نتسلق السفح إليها أن ألفينا قمة وسطًا بين هذا السفح الذي ارتقيناه وذلك الجبل الذي كنت أحسبه في سلسلة أخرى أكثر ارتفاعًا من ثور، وأن ألفيت بين السفحين طريقًا ممهدًا يسير الصاعد عليه وكأنه برزخ بين الجبلين، وهو يطل على سلاسل جبال أخرى كان السفح الأول يحجبها عن النظر، وعن جانبيه ينحدر سفحان إلى أودية لم أُعَنِّ نفسي بالسؤال ما اسمها، وأنا في شغل بهذا الجبل المنقسم إلى جبلين وتسلقه.

فلما اجتزنا الجسر الممهد إلى السفح من بعده سألت أصحابي: أليس بعده سفح ثالث قبل الغار؟ ونفى أصحابي وأكدوا أن الغار في قمة هذا السفح، وبدأت أتسلق كرَّةً أخرى، فإذا طريق التسلق وَعْرٌ لا يقاس طريق حراء إليه في وُعُورته، كنت أراني مضطرًّا إلى الاعتماد على ساعديَّ أرفع جسمي كله بهما أحيانًا لتخطي مضيق هذا الطريق لا أجد وسيلة إلى تخطيه غير هذا الاعتماد، وكنت أزحف أحيانًا أخرى معتمدًا بيديَّ على جدار الطريق من صخور الجبل مخافة الانزلاق، فإذا أعياني الجهد اعتمدت بظهري على صخرة ذات ظِلٍّ حتى تهدأ أنفاسي.

ولن يبلغ مني الإعياء أن يصدني عن غايتي من بلوغ الغار ما دمتُ قد فرضتُ بلوغه، فالإرادة الصادقة أقوى من كل مشقة في الحياة، فإذا عزَّز الإيمان الإرادة وقلتَ للجبل: انتقِلْ من مكانك انتقَلَ، وما مشقة الصعود إلى ثور وها هم أولاد أبناء المنطقة يهرعون إليه ويجرون في مساربه ومزالقه خفافًا كأنهم القَطَا، ما ينوء أحدهم بشيء مما أنوء به، فإذا اتجهت بإرادتي إلى بلوغ الغار فأجهدني ذلك، فإنما يجهدني أنني استنمت من الحياة إلى الراحة في الحياة، ناسيًا أن الراحة سبيل التعب، كما أن التعب سبيل الراحة، بل سبيل النعمة في الحياة بخير ما وهبنا الله من أنعم الحياة.

بهذه الإرادة تقدمتُ في ارتقاء الجبل لا ينال الجهد الذي ألقاه من عزيمتي ولا يفلُّ التعب من قوتي، كنت أتصبب عرقًا فأستند إلى الصخر وأمسح بمنديل عرقي وأعود فأتقدم مجتازًا من الطريق أشده وعورة، وكنت أجد أمامي من أسباب الانزلاق وخطره ما لا أتردد في التحايل عليه وتخطيه، وتعرَّضَتْ صخرة مقوسة، أنت في اجتيازها بين تسنُّمها، وقد تهوي بك، والانحناء للمرور من تقوسها وقد تهوي عليك، فانحنيتُ ومررت غير عابئ، هذا وأشعة الشمس مسلَّطة عليَّ منذ بدأت الصعود تزيدني جهدًا، وتزيد عرقي تصببًا، وإني لكذلك إذ استدار الطريق إلى ناحية الغرب، واحتجبتْ بذلك عني أشعة الشمس، وأويت إلى صخرة جلست عليها أستريح كيما تهدأ أنفاسي.

وبينا أجلس قال صاحبي الذي يتقدمني: هذا هو الغار، فلم تبق إلا خطوة لتبلغه، وعدتُ أسيرُ والطريقَ، ثم رفعت بصري إلى مصدر الصوت فإذا صاحبي معتمد في موقفه على صخرتين متقابلتين، وإذا به يشير بيده أن هلمَّ، لكن الطريق زَلَقٌ والحذاء الذي ألبسه لا يستقر عليه، فلْألْجأْ مرة أخرى إلى الاعتماد بساعديَّ فوق الصخور، والاعتماد على قوتهما في رفع جسمي، وفعلتُ، فلم أتقدم إلا قليلًا، عند ذلك انحنى صاحبي وأدنى يده مني وطلب إليَّ أن أعتمد عليها في صعودي، ومددت إليه يدًا مسها الجهد وآذاها مس الصخور، ولم يجنح إلى قوة يعينني بها، فقد طَفَرْتُ إليه فوق الحجر الزلق طَفْرةً كنت بها إلى جواره، وصنعتُ صُنْعَه فاعتمدت بقدميَّ على الصخرتين المتقابلتين وأمسكت بيدي صخرة ألفيتها معلقةً فوق رأسي.

ها أنا ذا أمام فهوة الغار الذي احتمى به النبي العربي من كيد أعدائه حين أذن الله له في الهجرة من مكة إلى يثرب؛ وأُمْسِكُ أنفاسي على شدة اضطرابها في صدري لأحدِّق في داخله علَّني أرى السر العظيم الذي يستجمُّ منذ أربع وخمسين وثلاثمائة وألف سنة في مَهَابَة ظلمته، ووقفت حيث أنا مشدوهًا مأخوذًا لا أدري أأتقدم للخطوة الأخيرة فيما بعد فوهة الغار إلى سطح القمة أتفيأ ظل صخرة جاثمة تقوست فوقها تحميها من لظى الشمس أوقات الهاجرة، أم أظل حيث أنا مُمْسِكةٌ يدي بالصخرة حتى لا تنزلق قدمي، محدقًا من فوهة الغار في داخله، أم أدخل الغار لأقيم حيث أقام الرسول — عليه السلام — في أدق الساعات التي مرت به منذ بعثه الله نبيًّا وهاديًا ورسولًا؟ وكنت أشد شوقًا للدخول إلى الغار والمقام به ما استطعت، لولا أن حَالَ زَلَقُ الصخور حيث أقف دون تنفيذ هذا العزم لساعتي، رغم جهدٍ أُنْسِيُته أمام جلال المشهد العظيم.

وخطوت إلى القمة وتفيأت ظل الصخرة قبل أن يدركني أكثر أصحابي الذين تسلقوا الجبل معي، ولم تكن القمة فسيحة الأرجاء، فمربَّعها لا يتجاوز الثلاثين مترًا، لكنها كانت ذات بهجة بظلها وبالصخور المحيطة بها، والتي تجعل منها بهوًا تستريح النفس إليه ويطيب لها المقام به.

فلما هدأت أنفاسي تناولت شربةً من الماء، ثم قمت أدور حول الصخرة ومعي منظاري، فشهدت مكة والحرم، وشهدت ما وراء مكة إلى حد الأفق، وشهدت الجبال بين ثور ومكة يتلو بعضها بعضًا ولا تستبين العين ما بينها من الطرق.

هذه إذن أم القرى التي أخرجت محمدًا منها؛ لأنه دعا إلى الحق أهلها، وهذا البيت الحرام الذي أقامه إبراهيم وإسماعيل مثابة للناس وأمنًا يتوسطها وينفس عنها، وهذه البادية الفسيحة الممتدة أمام النظر إلى غاية الأفق تدعوني أرجاؤها إلى التأمل وإلى الأناة وإلى تدبر ما في الكون من حاضر أمام نظرنا ومن غيب نتوسمه ولا نعلمه، فليس يعلم الغيب إلا الله عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال.

أدركني أصحابي وجلسوا يتفيئون ظل الصخرة، وجلست إليهم، وتناولنا الشاي إذ كنا نتناول بالقول انصراف المسلمين عن زيارة هذه الأماكن اتقاء المشقة وخوف ما يذكرونه عن بطش العرب في الماضي بمن ينقطع عن قافلته، وجعل القوم ينصرفون واحدًا بعد واحد، يقصد أحدهم إلى الغار، ويدور الآخر حول الصخرة، ويلتمس ثالث مسالك الجبل في غير الناحية التي صعدنا منها، فلما اطمأننت إلى وحدتي فوق القمة عدت بذهني إلى الليلة التي هاجر فيها الرسول، فرأيته قائمًا صدْرَ الليل في داره يعبد ربه ويتلو كتابه، ورأيت أبا بكر بداره في طرف آخر من مكة لا يطرق النوم جفنه ولا يدري ما الله صانع به، لقد أَسَرَّ محمد إليه أن الله أذن لهما في الهجرة، فمتى تكون؟ وكيف تكون؟ إنه أعدَّ راحلتين تحملانهما من مكة إلى يثرب، لكنهما لن يخرجا بأعين الناس، والناس لمحمد بالمرصاد وقد ائتمروا به ليقتلوه، والليلة موعده من الرسول فلينتظره وليصبر، إن الله مع الصابرين.

وهذا عليُّ بن أبي طالب في دار محمد قد تسجَّى بُرْدَه الحضرمي الأخضر ونام حيث ينام ابن عمه مبلبل النفس منذ أسرَّ إليه أن ينتظر بمكة بعد مغادرته إياها حتى يؤدي ما لديه من ودائع للناس، وهؤلاء فتيان قريش بالباب وحول الدار ينظرون لعلهم يصيبون من محمد فرصة يفتكون به فيها فتكة رجل واحد حتى يضيع دمه بين القبائل، والليل يُرْدِف أعجازًا وينوء بكَلْكَلٍ فيأخذ هؤلاء الفتيانَ غمضٌ ليس بالنوم ولكنه أدنى إلى الأرق، ويخرج محمد من داره إلى دار أبي بكر فلا يراه منهم أحد ولا تقع عليه عين، ويُلْفِي أبا بكر في انتظاره أشدَّ ما يكون شوقًا إلى هذه الساعة التي يهاجر معه فيها بأمر ربه.

نحن الآن في ساعة الهجود قبيل الفجر، فليس بمكة همس، ولست تسمع فيها رِكْزًا، والرجلان يسريان متجهين إلى أقرب مخرج من مخارج مكة صوب الجنوب، لا ينبس أحدهما ببنت شفة، ولا يُحِسُّ مسراهما أحدٌ، ها هما ذان الآن قد خرجا بين الجبال، وآن لهما أن يخرجا من صمتهما ليُسِرَّ محمد إلى صاحبه أنهما في الطريق المستقيم إلى ثور، ويلزمان الصمت كرَّةً أخرى، وإن أيقنا أنهما صارا من العيون بمنجاة، فليس يدور بوهم أحد أنهما اتخذا وجهة اليمن بعد أن هاجر المسلمون قبلهما إلى يثرب، ومحمد مستغرق أثناء مسيره في التفكير، فما يكاد يحس وجود أبي بكر إلى جواره، ويتلفت ملتمسًا إياه فإذا هو يسير خلفه، فينتظره حتى يكونا كتفًا إلى كتف، ويعود محمد إلى تفكيره، ثم يلتمس صاحبه فإذا هو قد سبقه يسير أمامه، والجبال حولهما تشهد مسراهما وحيدين حيث لم يَسِرْ قبلهما في مثل هذه الوحدة أحد.

ويفطن محمد إلى أبي بكر يسير تارة خلفه وطورًا أمامه، فيعجب ويسأله في ذلك، فيجيبه صاحبه: يا رسول الله، أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرَّصَد فأمشي بين يديك، ويبتسم محمد وتفعم قلبه المسرة لإخلاص صاحبه ويسأله: يا أبا بكر، لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني؟ ويجيب أبو بكر في حماسة: نعم والذي بعثك بالحق! وترتسم على مُحَيَّا محمد سيما الغبطة، ويظل في انطلاقه هو وصاحبه إلى غايتهما يسعدهما نسيم الليل الرقيق حتى يبلغا أسفل ثور ثم يندفعا إليه يصعدانه، وما كان لهما أن يتخوفا من التصعيد مشقة أو عنتًا وهما من أبناء الجبال، قد أَلِفَا خشونة العيش وألفا في المشقة النعماء المستعذبة.

ما أبهى هذه الصورة وما أعظم روعتها في نفسي! لقد انتشرت أمام ذهني وأنا في مجلسي من القمة فتعلق بها قلبي ونقشت فيه نقشًا، إن كثيرًا ما يسري رجلان أو تسري قافلة جوف الليل في هذا الطريق، طريق اليمن أو في طريق غيره، وقد يكون لصورة هؤلاء السُّراة جمالها وعذوبتها، لكنه جمال مادي وعذوبة فنية، فأما هذان الرجلان اللذان يسريان، وقلبهما مفعم بجذوة الإيمان المقدسة، فرارًا بإيمانهما إلى الله ممن يأتمرون بمحمد ليقتلوه، فلِمَسْراهما في النفس صورة أخرى، صورة روحية بالغة غاية السمو، صورة من يستهين بالحياة ومتاعها، ومن لا يمسك عليها إلا حرصًا على الحقيقة أن يُبَلِّغها الناس، وأولهم المؤتمرون به، وإن ناله في تبليغها الأذى وأصابه العذاب.

وبلغ الرجلان الغار، فتقدم أبو بكر فاستبرأ المكان مما حوله، ثم استبرأ الغار مخافة أن يكون به ما يؤذي الرسول، وصلى الرجلان شكرًا لربهما، ولجأا إلى الغار يحتميان به ويستريحان فيه من مشقة يومهما.

بلَغْتُ هذا الموضع من الصورة الذهنية التي ارتسمت في نفسي إذ عاد صاحبي الذي لزمني في صعودي وأعانني فيه، فلما رأيته لم أمهله أن قلت له: هلمَّ بنا إلى الغار نلتمس الدخول إليه، قال: خير لك أن تدور حوله وأن تدخل من صُغرى فوهتيه، فالدخول منها آمَنُ عثارًا وإن لم يكن أشد يسرًا، ودرت ودخلت ووقفت ما أتاح سقف الغار لي أن أقف، واطمأن صاحبي إلى سلامتي فتركني ومضى، وتلفت فيما حولي ثم طاب لي أن أجلس فجلست، جلست في شبه الظلمة التي تشتمل كل ما في الغار، ونظرت إلى فوهته الكبرى — وأَسِفْتُ كما أسف غيري أن اجترأ أميرٌ من أمراء المسلمين فأوسعها عن حسن نيةٍ لييسر الدخول لمن أراد — وهذه الفوهة الكبرى مستديرة، يبلغ قطرها مترًا أو نحوه، أما الفوهة الصغرى فلا تبلغ نصف مساحتها، فإذا استوى الإنسان في الغار رأى سقفه يرتفع إلى حيث يستطيع أن يطمئن إلى مقامه فيه طمأنينة العابد المنقطع إلى ربه في خلوته.

جلست مكاني وحيدًا ممتلئ النفس من هيبة هذا الغار الذي أوى إليه رسول الله وصاحبه نجاة بنفسيهما من قريش الظالمين، ومحت ظلمة الغار آية الزمن أمام بصيرتي وتمثل لي اللاجئ العظيم في مجلسه هنا بهذه البقعة متوجهًا بكل قلبه إلى ربه يناجيه ويدعوه أن يصرف عنه كيد عدوه، وينقضي النهار وهو في مناجاته ودعواته وصلواته مطمئن إلى ربه واثق من نصره، وصاحبه إلى جانبه مطمئن بطمأنينته، أما قريش بمكة ففي حيرة من أمرها، كيف استطاع محمد الفرار؟ فهي في حوار دائم تلتمس الرأي للعثور به وقتله، وعبد الله بن أبي بكر يقف على ما يأتمرون ويدبرون، وكان عبد الله قد عرف من أبيه حين الهجرة من مكة أنه سيلجأ مع النبي إلى غار ثور، فكان إذا جنَّ الليل ينطلق إلى الغار فيقص على محمد وعلى أبيه ما رأى وما سمع، وينطلق عامر بن فهيرة مولى أبي بكر بأغنامه فينال الرجلان من ألبانها ولحومها طعام يومهما، ثم يعود عبد الله بن أبي بكر ويعود عامر بالقطيع وراءه ليعفِّي على أثره، ويعود اللاجئان إلى عزلتهما بالغار والله معهما يسمع ويرى.

وقريش ما تنفك تأتمر وتدبر، فقد ذهب فتيانها الجلداء الموكلون بمحمد وقتله إلى كل ناحية مما حول مكة؛ ذهبوا إلى الشمال حاسبين أنه مسارع ليلحق بمن سبقه من أتباعه المسلمين إلى يثرب فلم يقفوا له على أثر، وشرَّقوا وغرَّبوا وتيامنوا وتياسروا، وقصَّاصو الأثر يحاولون أن يعرفوا أي طريق سلك فتذهب محاولتهم هباء، فليذهبوا إذن إلى الجنوب من ناحية اليمن، وإن كان سلوك محمد هذا الطريق مما لا يَرِدُ بالخاطر، وذهبوا إلى الجنوب وتسلقوا من الجبال ما تسلقوا وصعدوا ثورًا واقتربوا من الغار الذي أوى الرجلان إليه، وكانوا مع ذلك لا يميلون إلى الظن بأنهم سيصادفون من النجاح في الجنوب أكثر مما صادفوا في غيره من النواحي، وكان على مقربة من الغار راعٍ لم يلبثوا حين رأواه أن سألوه: هل رأى محمدًا أو أبا بكر؟ وهل عرف أين ذهبا؟ وأجاب الراعي: قد يكونان بالغار وإن لم أرَ أحدًا أَمَّه.

وسمع الرجلان هذا الحديث وسمعا وقع أقدام الفتيان وهم يتقدمون إلى ناحية الملجأ الذي تحصنا به، وسرت رِعْدة الخوف في عروق أبي بكر لما سمع، فأمسك أنفاسه واقترب من محمد وألصق نفسه به وقد أيقن أنهما مأخوذان لا محالة بالتلابيب فمسوقان إلى مكة أو مقتولان دونها، أما محمد فبقي في سكينته ملتزمًا الصمت متوجهًا بقلبه إلى ربه واثقًا من أنه لن يصيبه أو يصيب صاحبه مكروه، وتقدم أحد الفتيان حتى كان عند فوهة الغار، فلو أنه حدَّق بعينيه اللتين اعتادتا الأبعاد واعتادتا الظلام لرأى الرجلين، ولنادى أصحابه فأمسكوا بخناقهما، وبصُر به أبو بكر فتصَبَّب من شدة خوفه عرقًا وازداد بالرسول التصاقًا، ولم تزايل محمدًا سكينته ولم يزايله اطمئنانه إلى ربه، ودار الفتى حول الغار وتلفت يمنةً ويسرة، ثم عاد أدراجه، وسأله أصحابُه: ما لك لم تنظر في الغار؟ فهزَّ كتفيه وأجاب: إن عليه العنكبوت من قبل أن يُولد محمد!

تمثل لي هذا المشهد كله وأنا مكاني بالغار، وبلغ من امتثالي إياه أن كدت أسمع حديث المطاردين مع الراعي وأرى الفتى كما كان يراه أبو بكر، وامتلأ قلبي رعبًا من هول ما أرى وأسمع، وشعرت بصيحة تكاد تنطلق من صدري وتنفرج عنها شفتاي وكأني أهيب مستغيثًا بالذين يطاردونني: على رِسْلكم! فها أنا ذا مسلمكم نفسي ورِفْقًا! وما عسى أن أصنع وهذا مُدْرِكي ثم قاتِلِي لا محالة؟! فلعل لي في التضرع والاستغاثة من الموت منجاة! وإن نجوت بعد هذه المغامرة فمَن ذا يلومني على الإذعان؟ هذا منطق إنساني لا غبار عليه، لكن الفتيان الجلداء لا يطاردونني بل يطاردون محمدًا عبد الله ورسوله، ومنطق محمد ليس كمنطقنا؛ لأن روحه ليس كروحنا وإن كان بشرًا مثلنا، وخُيل إليَّ أني انتحيتُ ناحيةً من الغار وأني أشهد فيه محمدًا وصاحبه، ما أشدَّ أبا بكر جَزَعًا! ها هو ذا يرتعد كأن به الحُمَّى، وها هما تانِ شفتاه تتحركان كأنما يريد أن يقول شيئًا، أما محمد فأحيط بهالة من جلالٍ أفاء الله بها عليه سكينته، فليس يهتز لشيء مما حوله، وكأنما يطارد الفتيان شخصًا غيره، وطال بي ما أرى، ثم تحركت شفتا أبي بكر فهو يهمس في أذن صاحبه: «لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا.» وأسرَّ الرسول في أذنه: «يا أبا بكر، ما ظنك في رجلين الله ثالثهما؟!» وفي هنيهة أضاء وجهه نور لألاء، ثم تحرَّكت شفتاه بما أسمع أبا بكر قوله: «لا تحزن إن الله معنا.»

ووجمتُ حين سمعتُ هذه الكلمة وحدقت في معالم أبي بكر فإذا به زايله الرَّوع وعاودت السكينة نفسه، ومِمَّ عسى أن يخاف والله معه؟! إن الفتيان ليتحاورون على مقربة من الغار، ثم يحاول بعضهم أن يتقدم نحوه، فيردُّهم صاحبهم الذي دار حوله ويدعوهم أن ينتشروا في أنحاء الجبل لعلهم يلقون نجاحًا، ويسمع أبو بكر هذا الحوار فلا يعادوه شيء من الروع الأول، ولا تزايله سكينته؛ لأنه أَنِس إلى صاحبه وأنس إلى ربه، ويتقدم هذا الفتى الذي رآه أبو بكر منطلقًا إلى شعاب الجبل ويتبعه أصحابه، وتبعد بهم خطاهم عن هذا المكان حتى لم يبق من أثرهم نبأ، فيتنفس أبو بكر الصُّعَداء، ويصيح رسول الله: «الحمد لله، الله أكبر.»

آنَ لي أن أدع مجلسي بالغار بعد أن رأيت هذا المشهد التاريخي الفذَّ، فامتلأت نفسي من رؤيته إلى غاية ما تمتلئ النفس مهابةً ورهبة، هذان رجلان يواجهان الموت ولا يخافانه ثقة بأن الله معهما، والله مع من وَثِقَ به، ومن لم يَخَفِ الموت في سبيل الله عنت له الحياة فملك زمامها، أيَّة نفس مطمئنة هذه النفس الكبيرة التي لا تعرف غير الله ولا تثق إلا به ولا تخشى شيئًا في سبيله؟! وأية أسوة أكبر من هذه الأسوة يضربها النبي العربي للناس في جميع الأمم ليعيشوا أعزَّةً كرامًا، فيعيشوا بذلك كما يجب أن يعيش الإنسان، وكما أمره الله أن يعيش ما أبقى له الأجل على حياة؟!

وخرجت من الغار إلى القمة، فألفيت أصحابي جميعًا يستريحون إلى فيئها، وتناولنا أقداح الشاي، وقصصتُ لهم بعض ما مرَّ بخيالي وأنا بالغار، قال أحدهم: وكيف تمثَّل لك موقفهما بعد انصراف الفتيان عنهما إلى أن غادرا ملجأهما؟ كم أقاما بالغار بعد ذلك؛ يومًا أو بعض يوم أو أكثر أو أقل؟ فكُتُب السيرة لا تحدثنا عن ذلك فيما قرأت، وكل ما تحدثنا عنه أنهما أقاما بالغار ثلاثًا حتى خمدت عنهما نار الطلب، فلما سكت الناس عنهما أتاهما عبد الله بن أُرَيْقط ببعيريهما اللذين استأجرا وببعير له، فسلك بهما إلى يثرب طريقًا غير الطريق الذي ألفه الناس، أفما دار بخاطركم كم مرَّ بين انصراف الفتيان ومجيء الإبل؟

لم أكن قد فكرتُ في هذا ولا عنيت به، ولست أدري هل فكر غيري فيه، لكني مع ذلك أجبت: أحسبهما لم يطل بهما المكث بالغار بعد أن مرت بهما هذه الساعة العصيبة التي تمثلت لي وأنا به، فهؤلاء الفتيان لم ينحدروا إلى الجنوب مُيَمِّمين ثورًا حتى بدا لهم اليأس أن يجدوا محمدًا في غير الجنوب من النواحي، فلما عادوا من بحثهم بخُفَّيْ حُنينٍ أدرك اليأس قريشًا وألقت سلاحها، وما لبث عبد الله بن أبي بكر حين رأى ذلك أن أخبر به النبي وصاحبه، وأكبر ظني أن ذلك حدث أمسية اليوم الذي عاد الفتيان بالخيبة فيه إلى أهلهم بمكة، وأن عبد الله استصحب أخته أسماء وأَسَرَّ إلى ابن أريقط أن يتبعهما مَلْثَ الظلام، وأن هؤلاء جميعًا التقوا قبل الفجر بأسفل ثور، فلما تحمَّل محمد وأبو بكر وسارا في طريقهما ميممين الشاطئ عاد عبد الله وأخته إلى مكة ولم يفطن إلى عودتهما أحد.

لم يعن أكثر الحاضرين بالإنصات إلى هذا الحديث، ولم يعنهم أن يكون الرسول — عليه أفضل الصلاة والسلام — قد ترك الغار بعد انصراف الفتيان عنه بساعة أو بيوم أو بثلاث ليال، حسبهم أنه لجأ إلى هذا الغار، وأن الله — تعالى — يقول فيه: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، وحسبهم ما جاء في كتب السيرة من معجزة العنكبوت والشجرة والحمامتين، وما عسى أن يجدي هذا البحث الذي دفع بي إليه صاحبهم؟ وأية فائدة للتاريخ أن يكون اللاجئان قد نزلا من الغار بعد يوم أو يومين من خروج القرشيين للبحث عنهما؟ هذه محاورات لا تُقدِّم ولا تؤخِّر، وقد تؤدي ببعض أدعياء العلم إلى التجديف باسم التنقيب والبحث تجديفًا مصدره الهوى ومبعثه الخيال السقيم.

وكأنما أراد أحد أصحابنا أن يظهر برمه بهذا الحديث، فالتفت إلى أحد الإخوان مما معنا وطلب إليه أن يسير معه إلى الغار ليدخله فيصلي ركعتين فيه، وتركنا وذهب لأداء هذه السنة المستحبة، فقد شعرت، حين أديتها، وأنا بالغار، بفيض من الرضا يغمرني طمأنينة مني إلى أنني أصلي حيث صلى رسول الله، وشعرت وشعر من وجه الحديث إليَّ بما في عمل صاحبنا من معنى الاحتجاج على حوارنا، فأمسكتُ عن القول خشية أن يكون هذا الذي احتج معبرًا عن رأي أصحابنا الآخرين وإن لم يظهروا من البرم ما أظهر إكرامًا لي، أمَّا من وجَّه الحديث إليَّ فلم يعبأ بشيء من هذا، ولعله لم يفهم منه ما فهمت، فقد وجه إليَّ الحديث كرة أخرى ينبئني أن غارًا غير هذا الغار الذي زرته ويزوره الناس يقع على مقربة منا بين القمة والغار المأثور ويسألني: لم لا يكون هذا الغار هو الذي أوى الرسول إليه؟

كان جوابي عن سؤاله أن قمت إلى هذا الغار الآخر مع شاب كان معنا والتمست إليه مدخلًا، وناداني الشاب من داخله، ولم أعرف كيف سلك إليه سبيله، ثم رأيته تمتد يده من فرجة ضيقة لا سبيل إلى الانزلاق منها، فذكر لي أن بالجانب الآخر منه فرجة أكثر سعة وأيسر سَرَبًا، واستلقيت على ظهري ودليت ساقي وانزلقت شيئًا فشيئًا حتى احتواني هذا الوكر الضيق الموحش، وخرج الشاب وتركني أمتحن الرمل الذي يعلو قاع هذا الغار وأدور بنظري فيه وما أكاد أستوي إلى جلسة أستريح إليها كما فعلت في الغار الأول، ولم يكن خروجي من هذا الغار دون دخولي إليه عسرًا ومشقة.

وألفيت صاحبنا الذي دلف إلى الغار المأثور فصلى به جالسًا فوق القمة في ظل الصخرة مع سائر الرفاق، وبادرته بالتحية أن يتقبل الله منه صلاته حيث صلى الرسول ، فرجا أن يتقبل الله منه ومني، وسألني الذي يجاورني عمَّا رأيت في الغار الآخر، وهل يسيغ العقل أن يكون هو الغار الذي أوى إليه الرسول دون الغار الأول؟ ولم يكد يتم كلامه حتى رأيت الذي صلى بالغار المأثور قد امتُقِع لونه وظلَّل الغضب وجهه وانطلق في حدَّة يقول: ما هذا الكلام الذي لم يُسمَع به ولم يجرؤ على قوله من قبل أحد؟! إن الأجيال المتعاقبة منذ عهد الرسول — عليه أفضل الصلاة والسلام — لتحدثنا بأن هذا الغار الأول هو المأثور عنه أنه لجأ إليه، وأنه هو الذي نزل فيه القرآن، فما هذا التشكيك فيه يا شيخ؟! أَوَقَرَأْتَ في كتب السيرة أو في كتب الحديث ما يجعل لقولك شبهة من الحق حتى تفكر فيه؟! وخشيت مَغَبَّة هذه الحدَّة أن يضاعفها الجواب عليها فقلت: فضلًا عن أن الغار الأول هو المأثور فكل الدلائل تنهض حجة على صحة الأثر، وتدلُّ على أن الغار الآخر لا يمكن أن يكون ملجأ للاجئ سويعات من زمان، فهو على ضيقه وانخفاض سقفه أدنى إلى القمة وأيسر لذلك أن يكتشف، وما دام الغاران متقاربين، والالتجاء إلى المأثور والمقام به ثلاثة أيام أدنى إلى العقل، فلا موضع لشبهة يثيرها إنسان بحجة الدقة والتمحيص، أو بأية حجة أخرى.

تخطت الشمس للزوال وآنَ أن ننحدر إلى مكة … ولم نكن قد جئنا بطعام يقيمنا طول يومنا، وقد أوفى الماء والزاد الذي معنا على النفاد، لكن مجلسنا إلى ظل الصخرة فوق القمة لذيذ حقًّا، والنظر منه إلى مكة وما وراءها من فسحة البادية بالغ من الجمال ما تودُّ العين منه كل مزيد، أوليس من الخير أن نبقى إلى المغيب؟ إننا إذن لنتقي شدة القيظ وما ترهقنا من ضيق حين انحدارنا، ثم إننا إذن لنستمتع من هذا المنظر الساحر بما يزيده ساعة الشفق سحرًا.

أفضيتُ إلى أصحابي بهذا الذي رأيته، وودَّ غير واحد منهم لو نُقِيم إلى ما بعد المغيب، وذكرنا يوم حراء وهبوطنا منه إقبالَ الليل وجمال الشفق على هذه الجبال الكثيرة المتتابعة حول جبل النور، والجبال التي تحيط بثور أكثر من تلك عددًا وأعظم ارتفاعًا.

لكن أصحابنا اعتذروا بأعمال لدى بعضهم لا سبيل إلى أن تؤجل، وهبطنا من الجبل وأنا أجد في الهبوط أكثر مما أجد في الصعود من مشقة، وإني في ذلك لعلى خلاف الناس جميعًا إلا مَن كان مثلي، فصعود السلم أسهل لي من هبوطه، وارتقاء الجبل لا يزعجني، لكن الانحدار منه يحدث لي شيئًا يشبه الدوار، وأنا أتقيه بأن أحصر نظري بين قدمي حتى لا يقع على الهاوية أمامي أو عن جانبي، وبلغنا المقهى عند أسفل السفح، فإذا أصحابي سبقوني إليه واستراحوا به، فلما رأوني قاموا إلى السيارة فأقلتنا إلى الدار.

لقد كان لقصة الهجرة في نفسي من المهابة أكبر نصيب، ذلك كان شأني منذ نعومة أظفاري، لكني منذ صعدت ثورًا ودخلت الغار وتمثل لي به ما تمثل لي، قد صرت أشد لها إكبارًا وإجلالًا، وها أنا ذا قد تركت مكة وسافرتُ إلى نواحٍ من الحجاز مختلفة، وعدت إلى مصر، وقمت بأسفار أخرى، وما أزال كلما ذكرت ثورًا والغار المجاور لقمته ذكرت قصة الهجرة فامتلأت نفسي لها مهابةً ورهبة.

أخطأ الذين يحسبون في حياتنا المادية سبب سعادتنا أو سبب قوتنا، إنما سعادتنا وقوتنا في حياتنا النفسية، لنكن طلقاء في البادية أو حبيسين في الغار أو حيثما شئنا من أرض الله، فنحن سعداء ونحن أقوياء بإرادة الله وإرادتنا ما وهبنا نفوسنا لله وفي سبيل الله نريد غاية سامية نحققها لإخوتنا بني الإنسان، وهذا بعض ما يدعو محمد إليه حين يقول: «لا يكمل إيمان المرء حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.»

هذه بعض العِبْرة في ذلك الغار وقصته، وقصة الهجرة أكبر عبرة لقوم يعقلون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤