المدينة الحديثة

ماذا بالمدينة غير المسجد النبوي؟ أما الآثار المتصلة بالرسول وأهله وبالصحابة والتابعين فكثيرة نتناولها بالحديث من بعدُ، لكنني لم أقصد إلى هذه الآثار حين ألقيتُ سؤالي إلى أهل المدينة الذين أقبلوا إلى دار مضيفي في المساء، وإنما قصدتُ إلى المدينة الحديثة، فماذا بها من مظاهر نشاط أهلها؟ وماذا بها من أثر الحياة الحديثة التي يصبو شباب مكة إليها بوجدانهم؟ قال أحدهم: «وماذا كنتَ ترجو أن يكون لنا من ذلك وسكان المدينة لا يزيدون على ثلاثة عشر ألفًا؟!» دهشتُ إذ سمعت هذا الجواب، فهذا العدد من السكان متداول في كثير من قرى مصر، وهو لا يبلغ السدس من سكان مكة، فكيف يكون عددًا لسكان هذا البلد الذي يجذب إليه عشرات الألوف من المسلمين في كل عام؟! أوَلا يجد أهل المدينة كل رزقهم إلا في موسم الزيارة، ولولا هذا الموسم لخلت من ساكنيها؟ لقد قرأت في «الرحلة الحجازية» للبتانوني أن عدد سكان المدينة يزيد على ستين ألفًا، فكيف هوى هذا العدد إلى خُمسه؟! أفأصاب المدينة وباء أهلكها، أم أن حرب الوهابيين أتت على خمسين ألفًا من سكانها رجالًا ونساء وأطفالًا؟!

وأجاب الذي حدثني: «بل هوى سكان المدينة إلى هذا العدد الذي تراه ضئيلًا منذ عُطِّلت سكة الحجاز الحديدية أثناء الحرب الكبرى، ولو أن هذه السكة عادت سيرتها لصارت المدينة في عداد مدائن الشرق الكبرى، لقد كان سكانها عشرين ألفًا قبل إنشاء سكة الحجاز الحديدية، فلما افتتحت هذه السكة عام ١٩٠٧ ووصلت بين المدينة والشام، وقرَّبت ما بين المدينة ومصر، أسرع عدد السكان إلى الزيادة في سرعة تثير العجب، إذ ارتفع من عشرين ألفًا عام ١٩٠٧ إلى ثمانين ألفًا أول الحرب، أي: عام ١٩١٤، وبذلك زاد إلى أربعة أضعافه في سبع سنوات، فلما حدثت ثورة النهضة في هذه البلاد بزعامة الحسين بن علي على تركيا خربت السكة الحديدية وبقيت مخربة إلى الآن، مِن ثَمَّ عاد سكان المدينة يهوي عددهم إلى ثلاثة عشر ألفًا، ولو أن هذه السكة بقيت لم تخرب لأربى سكان المدينة على مائة ألف، ولا عَجَبَ؛ فهذه السكة شريان حيوي لهذا البلد لا تقل قيمتها بالنسبة لنا عن قناة السويس عندكم لإنجلترا، وحسبك أن تعلم أنَّا كنا نُصَرِّف حاصلاتنا في الشام ونُبادِلُها حاصِلاتِها، ونَتَّجِر مع مصر ونتصل مِن ثَمَّ بالعالم؛ لتقدر الأمرَ قَدْرَه الصحيح، لقد كانت خُضَر المدينة تُرسل إلى الشام، وكانت فاكهة الشام تجيء إلينا، وكانت صِلاتنا التجارية قد نَمَتْ نموًّا جلب من الرخاء ما لا يسهل اليوم تصوُّره، وكثر التعامل وارتفعت الأسعار، فبلغ ثمن قطعة الأرض التي كانت تباع بثلاثة جنيهات قبل السكة الحديدية عشرة جنيهات بعد سيرها، واليوم هبط هذا الثمن إلى جنيهين ولا تجد مَن يشتري.

هذا والسكة الحديد لا تزال أكثر أجزائها صالحة، ولا يحتاج تعميرها إلى مجهود كبير أو نفقة طائلة، وقد فاوضت حكومة البلاد كُلًّا من إنجلترا في فلسطين وفرنسا في سوريا للاشتراك مع البلاد العربية في تعميرها كي تعيدها سيرتها الأولى، فقامت في سبيل المفاوضة عقبات سياسية يتصل بعضها بملكية السكة لمن تكون، وبنفقات التعمير من يتحملها، ومن يتحمل نفقات التعهد والصيانة، ويجيء وراء ذلك اعتبارات حربية لا نسمو إلى إدراكها، ولو أن هذه الصعاب ذُلِّلَتْ لَعَادَ إلى مدينة الرسول من البهجة ما يعيد إلى الذهن صورة العاصمة الإسلامية الأولى، أما ما بقيت في هذه العزلة المفروضة اليوم عليها فستظل كما هي، وكما ستراها حين تجوس خلالها، فقيرة إلى العَوْن الذي يأتيها من الخارج، مهددة بمثل المجاعة التي هددتها منذ سنين، والتي جعلت الحياة فيها بؤسًا وضنكًا لولا تبرع المحسنين من المسلمين.»

ألقيتُ بكل سمعي إلى هذا الحديث الذي حزَّ في نفسي وأثار شجني، مدينة رسول الله يكون ذلك شأنها والمسلمون ساهون لاهون! يا للعار ويا لهوان كل نفس مؤمنة! أوَلا يرى المسلمون في هذا نذيرًا من الله لهم كيما يُغيِّروا ما بأنفسهم ليغير ما بهم؟! وليس هذا النذير ابن أمس، فقد سَمَتِ المدينة شأنًا في كثير من الأحيان، ثم أصابها مثل هذا الذي أصابها ولما تكن السكة الحديدة هذه قد أُنشئت، ولما يكن التفكير فيها قد بدأ، يقول برخارت في كتابه الذي وضعه عام ١٨١٥ عن جولاته في بلاد العرب: «المدينة حسنة البناء، فكل مبانيها من الحجر، وتتألف منازلها في أكثر الأمر من طابقين عاليين، وسقفها مسطح، وهي ليست مبيضة، والحجر الذي شيدت به قاتم اللون؛ ولذلك كانت طرقاتها أدنى إلى العبوسة، وأكثر هذه الطرقات بالغة في الضيق حتى لا تزيد على ذراعين أو ثلاث أذرع، وقليل من طرقاتها الرئيسية مرصوف بأحجار مستديرة كبيرة، وهذا ترف قلما يتوقعه السائح في بلاد العرب، وهي على العموم من خير البلاد التي شهدتُ في الشرق بناء، وتجيء لذلك في هذا المضمار ثانية لحَلَب، على أن مظهرها اليوم يبعث إلى النفس الأسَى لما يهدد منازلها من الدمار، ذلك بأن مُلَّاك هذه المنازل كانوا يحصلون على أرباح طائلة من أحشاد الزوار الذين يجيئون إليها على اختلاف فصول السنة، أما الآن وقد نقصت مواردهم لا يقدمون على ما يكلفه البناء من عظيم النفقة وهم يعلمون أنهم لن يستردوا نفقاتهم بتأجير منازلهم؛ لذلك ترى المنازل الخربة والجدران التي توشك أن تنقض في كل مكان؛ ومِن ثَمَّ كان منظر المدينة كأكثر مدن الشرق مما يبعث إلى القلب الحسرة ولا يعيد إلى الذهن من بهائها القديم إلا صورة ذابلة.»١

الحرم النبوي

ليست السكة الحديدية وسيرها وانقطاعها كل السبب إذن فيما أصاب المدينة من تفاوت الحظ، أفأصاب هذا التفاوت غيرها من مدن الشرق جميعًا، أم أنها خُصَّت منه بنصيب تفردتْ به؟ وإن يكن ذلك حقًّا فما سببه؟ أمسيت أفكر في هذا أحاول رده إلى موقع المدينة حينًا وإلى تأثير هذا الموقع في طباع أهلها حينًا آخر، ولقد بدا لي أثناء تفكيري ما زادني حرصًا عليه وإمعانًا فيه، فقد كانت يثرب حتى هجرة النبي إليها مقام الأوس والخزرج من أهلها، واليهود الذين سبقوهم إليها وأقاموا بها، وكان الأوس والخزرج إلى يومئذٍ ما يفتئون يقتتلون فيزيد قتالهم وتناحرهم ما لليهود بالمدينة من سلطان بقدر ما يصيبهم هم من ضعف وانحلال، فلما جمع الدين الجديد الأوس والخزرج بعد أن هاجر إليهم الرسول وأصحابه من مكة وصاروا معهم بفضل الله إخوانًا متحابين متضافرين انحلَّ سلطان اليهود وضعفت شوكتهم، ثم انتهوا إلى الجلاء عن المدينة بقَضِّهم وقَضِيضِهم.

لكن الأمر في المدينة لم يعد إلى الأوس والخزرج من أبناء الأنصار منذ الهجرة، وما كان هذا الأمر ليعود إليهم ورسول الله بينهم وقد آمنوا به واتبعوه ونصروه، ثم إنه لم يعد إليهم بعد أن اختار الرسول الرفيق الأعلى، على ما كان لهم فيه من مطمع، فقد انحاز حيٌّ من الأنصار عقب وفاة الرسول إلى سقيفة بني ساعدة يتمالئون على الأمر يريدونه لأنفسهم؛ فلما ذهب أبو بكر وعمر على رأس المهاجرين قام خطيب الأنصار فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد؛ فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا، قد دفَّت دافَّة من قومكم، وإذا هم يريدون أن يحتازونا من أصلنا ويغصبونا الأمر.» لكن أبا بكر لم يرضَ هذا القول فتحدَّث وختم حديثه بهذه العبارة القوية: «فأما العرب فلن تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحيِّ من قريش، فمنا الأمراء ومنكم الوزراء.» ولم يغن عن الأنصار ما طلبوا من أن يكون منهم أمير ومن المهاجرين أمير بل انتهى اجتماع السقيفة ببيعة أبي بكر بالخلافة، وقُبَيْل وفاته عَهِد بالخلافة إلى عمر بن الخطاب، فبايعه الناس بها ولم ينازعه أحد من الأنصار فيها، وتولى عثمان الخلافة بعد عمر وقد اطمأن الأنصار إلى أن العرب لن تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، فلما قُتِل عثمان وبدأ النزاع على الخلافة بين القرشيين من بني أمية وبني هاشم لم يكن لأحد من أهل المدينة فيه مطمع.

وقُتل علي بن أبي طالب بالكوفة، فجعلها أبناؤه موضع نشاطهم على بني أمية، وجعل بنو أمية عاصمتهم دمشق، ثم جعل عبد الله بن الزبير مكة عاصمة ثورته، وانحلت بذلك عن المدينة صفة العاصمة، مع ذلك لم يقم مَن يطالب بأن تظل المدينة عاصمة المملكة الإسلامية كما كانت في عهد النبي؛ وكان لمن يطالب بذلك الحجة البالغة، فقد تخوف آباؤهم بعد فتح مكة أن يعود النبي إلى أهله وبلده، فكان جوابه إذْ بَلَغَتْه قالَتُهم: «معاذ الله! المَحْيَا مَحْيَاكم والممات مماتكم.» وقد نزل بالمدينة من وحي الله إلى رسوله أكثر مما نزل بمكة وبأي بلد آخر، ولئن يكن بمكة بيت الله لقد مات رسول الله بالمدينة ودُفن بها، لكن الأنصار آثروا العافية من يوم سقيفة بني ساعدة، وتركوا الأمر لتصريف غيرهم؛ لذلك جَعَلَتْ مدينتهم تزدهر حينًا وتبتئس حينًا، فأين تُرى موضع السر في ذلك؟!

لعل هذا السرد الوجيز السريع قد كشف عن شيء من هذا السر، فليس موقع المدينة وما له من أثر في أخلاق بنيها هو الذي أدَّى إلى ما أصابها من تفاوت الحظ، ولو أن الموقع كان أعظم أثرًا من أحداث التاريخ لكانت المدينة — طيبة الحجاز — أسعد على الزمان حظًّا؛ فهي ترتفع على سطح البحر أكثر من ستمائة متر، وجوُّها لذلك أدنى إلى الاعتدال — على رغم وقوعها على خط العرض الذي تقع عليه الأقصر طيبة مصر الفراعنة — ثم لا ترتفع الحرارة فيها صيفًا إلى ما ترتفع إليه في القاهرة أو في الإسكندرية، وتصل برودة الشتاء إلى القدر الذي يتجمد فيه الماء في الآنية ساعة الصباح، وسلسلة الجبال التي تنحدر من الشام إلى اليمن تمر شرقيها ويخرج منها جبل أُحُد فيكاد يجاور ضواحيها، لكن الشمال والغرب والجنوب منبسطة، كلها تنبع فيها مياه الآبار وتجري إليها مياه العيون فتخصبها وتحيطها بحدائق ونخيل وخضرة يانعة منورة في ابتسامها للحياة.

وفي هذه الجبال الواقعة حول المدينة وفي الحِرار المحيطة بها يتوسم الكثيرون وجود أحجار نفيسة ومعادن مختلفة، ومهد الذهب الذي استُغِل إلى عهد العباسيين والذي يستغل اليوم يقع على مقربة منها، أمَّا وذلك خصب الأرض وثراؤها، فالطبيعي أن تكون المدينة مُتطلَّع الناس لسُكناها، فإذا تفاوت حظها في هذا الأمر على ما قدمنا فيجب أن نبحث عن السر في غير الموقع الطبيعي من الأسباب.

وتاريخ يثرب قبل الإسلام وبعد العصور الأولى يؤيد هذا الرأي، فهي قد كانت في الجاهلية الأولى وحين هجرة النبي إليها مقصودة لحسن موقعها، وكانت ذات أسواق وأيام، والسابقون إلى الإقامة بها هم اليهود، ولعلهم هبطوا إليها كما هبطوا إلى مدن الحجاز الواقعة في شمالها فرارًا من حكم رومية وبزنطية في فلسطين، فلما حَطَّم سَيْلُ العَرِم سَدَّ مَأْرِب باليمن وهاجر أزد اليمن إلى الشمال، مالت قبيلتا الأوس والخزرج منها إلى يثرب وأقامتا بها، ورضيت القبيلتان حكم اليهود أول الأمر، ثم خرجتا عليهم وأوقعتا بهم بمعونة ملوك غسان، وظل الأوس والخزرج يتنازعان السلطان على يثرب بعد ذلك وتقع بينهما حروب ما يزال التاريخ يحدِّث عنها، حتى كانت هجرة النبي إليها بعد بيعتَيِ العقبة، من يومئذٍ بقيت يثرب عاصمةً إلى خلافة علي بن أبي طالب، هنالك اعتصم معاوية بالشام، واتخذ عليٌّ الكوفة عاصمته حتى قُتِل بها، عند ذلك أُتِيحت للمدينة فرصة تسترد بها مكانتها، فكما أدَّى مَقْتَلُ عثمان إلى انتقاض كثيرين على عليٍّ لعدم إسراعه إلى القَصَاص من قَتَلَة عثمان، فقد أدَّى مقتل عليٍّ ثم مقتل الحسين ابنه إلى انتقاض كثيرين على بني أمية، ولقد كان عبد الله بن الزبير من أشد أعوان الحسين إلى يوم قتله بكربلاء، فلما وقعت هذه المأساة الفاجعة ترك ابن الزبير الكوفة ولحق بمكة ودعا الناس لينضموا إليه، فخرجت مكة وخرجت المدينة على الأمويين وانضمتا إلى داعية بني هاشم، وقد جرَّد يزيد جيشًا إلى المدينة وآخر إلى مكة، أما جيش المدينة فغزاها في وقعة الحَرَّة وانتهك حُرماتها، وأخضع أهلها، وحطَّم أملها في أن تعود عاصمة الإسلام كما كانت في عهد النبي، وأما جيش مكة فظل يحصر أهلها حتى مات يزيد، ثم فتحها الأمويون وقتل ابن الزبير سنة ثلاث وسبعين للهجرة.

من يومئذٍ أذعنت المدينة لحُكم بني أمية ومَن قام بعدهم مقامهم، وكفى أهلها أن يكونوا موضع عناية الخلفاء وأمراء المؤمنين، وزادهم قناعة بهذه العناية أن أفنت الحروب والثورات أكثر أبنائها العرب وأحلت غيرهم من شتى الأقطار الإسلامية محلهم فيها، فلم يكن من هؤلاء من يهتز لمجدها القديم أو يثور لإعادته، وبلغت هذه العناية بالمدينة في القرون الثلاثة الأولى من الهجرة مبلغًا سَمَا بها أثناءها إلى مقام محسود من الرُّقِيِّ المادي والرُّقِيِّ الأدبي، ومن يومئذٍ بقيَتْ تعتمد في حياتها على حُسن توجه الملوك والأمراء والمسلمين جميعًا إليها بسبب مكانتها الدينية، وفقد أهلها الاعتماد على أنفسهم.

رأيت في الفصل الأخير صورة واضحة من ذلك الاعتماد على الغير في عمارة المسجد النبوي من بعد بناء عثمان، فلما بدأت عصور الاضطراب وتداعت أركان الدولة الإسلامية، كان أهل المدينة قد فقدوا مَلَكة الاعتداد بالذات وأصبحوا يعيشون كَلًّا على غيرهم من المسلمين؛ ولهذا السبب بدأ حظ بلدهم يتفاوت من اليسار أيام الاستقرار في البلاد الإسلامية، وكثرة زوار المدينة تبعًا لذلك، إلى الشدة والإعسار أيام الاضطراب وانصراف المسلمين عن أداء فرض الحج وسُنَّة الزيارة، وما حدث من انكماش سكان المدينة بعد تعطيل السكة الحديدية منذ الحرب الكبرى في سنة ١٩١٤ للميلاد يرجع إلى انقطاع سبيل الزوار أكثر مما يرجع إلى قِلَّة التجارة، فقد انقطع الحج أو كاد أيام الحرب من خوف مفاجآت البحر؛ إذ كان يُصيب «الطوربيد» السفن، ولما كان من شُغل العالم بالمجزرة المروعة المنتشرة فيه عن كل شيء سواها، فلما انقطعت السكة الحديدية لم يكن عود الناس من أهل مصر والشام إلى الزيارة الرجبية ميسورًا، ولما كانت الثروات التي حصلها أهل المدينة في السنوات القليلة التي سبقت الحرب وحين سارت إليها السكة الحديدية لم تستقر، فقد أصابتها الحرب والأزمة التي أعقبت الحرب بصدمة عنيفة أحدثت هذا الانكماش الذي ردَّ سكان المدينة من ثمانين ألفًا إلى ثلاثة عشر ألفًا، ولو أن أهلها ألِفُوا الاعتماد على أنفسهم ولم يجعلوا من موسم الزيارة ومن صدقات المسلمين مورد حياتهم، لما أصابهم من الجَهْد ما أصابهم، بل لاحتملوا الشدة بالصبر والتمسوا الخروج منها بالحيلة، لكن الذين جاءوا إليها بعد سير السكة الحديدية إنما جاءوا يبتغون تجارة هينة ورزقًا ميسورًا، فلما تعذرت أسباب الرزق فرُّوا منصرفين إلى بلادهم آملين فيها رزقًا أكثر بسطة وتجارة أوفر ربحًا.

ومن عجبٍ أن الذين ظلوا مقيمين بالمدينة من أهلها لم يُفِيدوا من هذه الشدة عِبْرة ولم يذَرُوا ما ألِفُوا من الاعتماد على الصدقات وما ينفقه الزائرون لقبر النبي، ولم يفكر أحد منهم في أن ينزع بها منزع الاعتماد على مواردها الذاتية، ولقد رأيت ذلك بنفسي حين نزلت إليها وجُسْتُ خلال أزقتها الضيقة وسِرْتُ في أسواقها أشهد حوانيتها الصغيرة فلم أرَ فيها تجارة غير ما يحتاج إليه زوارها، وأعجب من ذلك أن هذه التجارة مجلوبة كلها من الخارج، فأما ما تُنبِتُه المدينة فليس يتجر منه في غير البلح الكثير الأصناف، الذي يبتاعه الناس تبركًا أكثر مما يبتاعونه لجودته، هذا على أن أصنافه الجيدة كثيرة وصالحة للتجارة كل الصلاح، لكن أهل المدينة لم يُعْنَ منهم أحد بأمر هذه الأصناف وحسن تهيئتها للتصدير، لا من حيث اختيارها، ولا من حيث عرضها في عُلَبٍ أو صناديق تسترعي النظر، ولا من حيث الإعلان عنها، ولا من حيث نقلها للتجارة في بلد آخر.

وليس يسترعي النظر في أسواق المدينة شيء يقف الإنسان عنده، ولولا التبرك وما له على النفوس من سلطان لما عاد إليها مَن مرَّ بالأزقة الضيقة التي تحويها، فهذه الأزقة أكثر ضيقًا من مثلها في أصغر القرى بأرياف مصر، وهي مكتظة أثناء موسم الزيارة على نحو يدعو إلى الفرار منها حذر الاختناق بها، ولقد شُقت بعض شوارع فسيحة في المدينة أثناء الحرب، لكنها ليست مقصودة كتلك الأزقة، ولعل الناس لا يرون فيها ما بالأزقة من بركة، أم لعل الحوانيت بها أعلى أجرًا وأهل المدينة أحرص على ألَّا يبسطوا أيديهم كل البسط في هذه السنين التي أصابت المجاعة فيها بلدهم المقدَّس غير مرة، وقد يفسر ذلك بعضهم هذه الظاهرة من التمسك بالأزقة والإقامة بها بقربها من المسجد النبوي قربًا يحرص كلٌّ على أن يبلغ منه غاية ما يستطيع.

وضيق الأزقة بالمدينة مضرب للمثل، فما يكاد يضاهيه مما بمكة شيء على ما أسلفنا من ضيق طرقها، فمن أزقة المدينة ما لا يتسع لأكثر من اثنين يسيران جنبًا إلى جنب، فإذا لقيهما غيرهما لم يكن بدٌّ من أن ينتحي أحدهما وأن يسير وراء صاحبه ليفسح للعابر بها سبيلًا، وهذا على سعة رقعة الأرض فيما حول المدينة سعة تطوع لعشرات الألوف حين الرخاء أن يشيدوا المباني بها، لكنما ألِفَ الناسُ من أهل المدينة هذا النوع من العيش في الأزقة الضيقة، فإذا عَضَّتْ سِنُو الشدة بلدهم وغادرها مَن ليس أصيلًا بها ظل أبناؤها في الدائرة المحيطة بالمسجد، لا يفكر أحد منهم فيما يفكر أهل هذا العصر فيه من توسيع الطرق لتهوية البلد كفالة لصحة أبنائه.

figure
تهامة والحجاز.

يذكر لبيب بك البتانوني في رحلته الحجازية من أسماء أزقة المدينة: زقاق البقر، وزقاق الخياطين، وزقاق الحبس، وزقاق عنقيني، وزقاق السماهيدي، وزقاق البدور، وزقاق الأغوات، وزقاق ياهو، وزقاق الكبريت، وزقاق القماشين، وزقاق الحجَّامين، وزقاق مالك بن أنس، ثم يقول: «وعلى كلِّ حالٍ فحارات المدينة نظيفة، وضيقها يساعد كثيرًا على تلطيف الحرارة فيها زمن الصيف كما هو الشأن في أغلب بلاد الشرق، وسوق المدينة يبتدئ من الباب المصري إلى الحرم الشريف في شارع ضيق طوله خمسمائة متر تقريبًا، يقطعه على المارة تقابل جَمَلَيْن فيه مع بعضهما، والحركة فيه تكاد تنحصر في مدة الحج والموسم الرجبي، وهو موسم الزيارة الرسمية في بلاد العرب.» هذا ما كتبه لبيب بك من أكثر من ربع قرن تغير فيه وجه العالم بالحرب وحلول السيارة محل الجمل وبتنظيم الطيران وبتغيير نظام المدن، مع ذلك بقيت المدينة لم يتغير فيها شيء، وبقي سوق المدينة على ضيقه من أكثر أزقة المدينة سعة ونشاطًا، وبقي نشاطه ونشاط المدينة كلها محصورًا في مدة الحج، أما الموسم الرجبي فلم يبقَ في مثل نشاطه الأول.

ولقد أعانت عوامل كثيرة على بقاء الحال في المدينة لم يصبها تطور خلا حلول السيارة محل الجمل بمقدار ما حدث في بلاد العرب كلها، على حين أصابها أذًى وشرٌّ كثير، من هذه العوامل ما حدث أثناء الحرب وبعدها من قلق واضطراب في هذا البلد المقدس زاد على مثله في سائر بلاد العرب، بدأ ذلك حين انتقض الشريف حسين على الأتراك واتفق مع إنجلترا على استقلال العرب، إذ ذاك تحصن الأتراك بالمدينة واتخذوا قلاعها ملاذهم، فلما رَأَوا الأمر وشيكًا أن يخرج من أيديهم أخذ فخري باشا خير ما فيها من نفائس فبعث بها إلى الآستانة؛ أخذ الجواهر التي بالحجرة النبوية، وأخذ أنفس ما في مكتبات المدينة من المخطوطات والكتب النادرة، وتركها للأشراف يحتلونها مجردة من هذه المفاخر التي كانت لها، والتي كانت ذات أثر عظيم في توجُّه العالم الإسلامي إليها.

ولئن لم يكن هذا الأثر شيئًا مذكورًا إلى جانب المسجد النبوي وقبر الرسول فيه، لقد كان للكوكب الدُّرِّيِّ ولهذه النفائس المتصلة بالحجرة، وكان لكُتب السَّلف المحفوظة بمكتبات المدينة سلطان على النفوس لا سبيل إلى إنكاره، فلما استقر الأمر للأشراف في الحجاز بدءوا يفكرون في الإصلاح، لكنهم لم يلبثوا أن دهمتهم الحرب السعودية التي أصابت المدينة بمثل ما أصابتها ثورة النهضة، بل بِشَرٍّ مما أصابها به، كانت المدينة من ناحية العمارة الأثرية متحفًا نفيسًا بالغًا غاية الجمال، كانت القباب المقامة على قبور أمهات المؤمنين وعلى قبور الصحابة بالبقيع بعض ما يشهد لفن العمارة الإسلامية بسبق يغبطه عليه أكثر الناس تقدمًا في العمارة، حتى لقد كان الأتراك يطلقون على هذه المجموعة البديعة في فن المعمار اسم «جنة البقيع»، وكان على قبر سيد الشهداء حمزة عم الرسول مسجد وقبة تهوي إليهما النفوس، ويفاخر بهما الفن، وكان ثَمَّةَ من هذه العمارة الفنية كثير كان يشغل الناس عن ضيق الأزقة بالمدينة وعن كثير مما لا يجاري العصر فيها، فجاء الوهابيون من أشياع ابن السعود على هذه الآثار الفنية هدمًا وتحطيمًا؛ لأنها لا تتفق مع عقيدتهم الإسلامية من وجوب تسوية القبور بالأرض، ومن تحريم التبرك بالقبور وقبابها، أو اتخاذ أصحابها إلى الله شُفعاء وزلفى؛ ففي ذلك إشراك بالله لا يقرُّه التوحيد ولا يرضاه الإسلام في رأيهم.

وقف أهل المدينة إزاء هاتين الحركتين؛ حركة الأتراك، وحركة الوهابيين، مشدوهين حَيَارَى لا يعرفون ما يصنعون، أَنَّى لهم أن يعرفوا مدينتهم تضمحل مذ عطلت الحرب مواصلاتها مع الشام، والرخاء يزايلهم بانقطاع الزيارة أثناء الحرب وبعدها، وأحوالهم تنحدر سراعًا إلى أسوأ ما يتصور الإنسان! لا عجب إذن أن تقف المدينة دون التطور الذي أعقب الحرب في العالم كله، وأن يكون بقاؤها حتى اليوم عامرة بمن ظلوا مقيمين بها رغم القحط والمجاعة وسوء الحال معجزة من المعجزات لا يفسرها إلا ما يملأ قلوب هؤلاء الناس من إيمان بالرسول ورسالته وإعزاز لقبره، وحرص شديد على المقام في جواره.

لأهل المدينة العذر وهذا ما نزل ببلدهم إذا هم لم يُجَارُوا تطورَ العالم بعد الحرب، لكن من الواجب ألَّا ننسى عوامل أخرى كانت في هذه الأحوال وفيما سبقتها سببًا في وقوف المدينة دون مجاراة العالم في تطوُّره، وفي مقدمة هذه العوامل روح الاعتماد على الغير باسم التوكل على الله، وروح الإذعان باسم الإسلام لقضاء الله، فقد بقيت المدينة تعتمد — وقد زالت عنها صفة العاصمة للمملكة الإسلامية — على حُسن توَجُّه الملوك والأمراء إليها بسبب مكانتها الدينية لوجود القبر النبوي بها أكثر من اعتمادها على جهود أبنائها وحُسن سعيهم لخيرها، وترى فيما يبذله المسلمون في مختلف بقاع الأرض لها من هِبَاتٍ وأوقاف مصدر حياتها ورزقها، وليتها استعانت بذلك على تنمية مواردها أو المزيد من جمالها أو حُسن تنظيمها، بل أمسك الجهل أهلها دون القيام بشيء من ذلك كله، وحَبَسهم في حدود هذه المعونة الواردة إليهم من غير أن يكون لهم أيُّ فضل في الإبقاء عليها، بَلْهَ المزيد فيها.

من الظلم أن نُلْقِيَ التَّبِعة عن هذه الحال على أهل المدينة وحدهم، ولعل الحظ الأوفى منها يقع على أُولي الأمر في عواصم الإسلام ممن كان لهم على المدينة الحكم والسلطان، هؤلاء حرصوا على أن يظل أهل المدينة في غَيَابَات الجهل حتى لا يكون لهم من العلم قوة تضاعف بأسهم بمجاورتهم قبر الرسول، فلو أنهم تعلَّموا وعلموا الحق الذي جاء محمدًا من ربه مُبَرَّأً من كل شائبة لكان لهم شأن غير شأنهم منذ انحلَّ سلطان العاصمة عن مدينتهم، إذن لعلموا أن الإسلام لله والتوكل عليه أول شرائطهما السعْيُ وبذل غاية الجهد لدرك الغاية التي يجعلها الإنسان هدف حياته، ولأيقنوا أن الله في عوْن العبد ما دام العبد في عون نفسه وفي عون أخيه، ولأدركوا أن هذه الحياة الدنيا فترة هيَّأها القَدَرُ ليقوم المرء فيها بواجبه لنفسه ولإخوانه، فإِنْ هو قصَّر في أداء هذا الواجب فقد قصر في أداء حق الله ولم يبلغ الحظ الذي يتيح له الرضا في الحياة، لكنهم إنْ أدركوا هذا وآمنوا به أصبح حُكم الاستبداد إياهم مُحالًا؛ لذلك حَجَبَ الحُكَّام المستبدون عنهم نور العلم وغَشَّوْا دونهم ضياءه.

يدُلُّك على ذلك أن أرقى مدرسة بالمدينة اليوم هي مدرسة العلوم الشرعية، واسم هذه المدرسة ضخم يكبر حقيقتها، ولقد حسبتها أول ما سمعت هذا الاسم من نوع مدرسة القضاء الشرعي بمصر، فلما زُرتها ألفيتُها مدرسة ابتدائية تُدْرَس أحكام الشريعة في الفصول العليا منها، وزرتُ مدارس أخرى فإذا هي دون هذا الطراز مكانة، وإذا هي تعنى بالصناعات اليدوية الأولية — كصناعة الجلود والنسيج البسيط — أكثر من عنايتها بأمور العلم، وهذه المدارس كلها تُجْرَى عليها النفقة من هبات وأموال تجيء من الهند، وغاية مطمعها من ناحية الحكومة القائمة أن تنال عطفها، فكثيرًا ما لقيَتْ أمثال هذه المدارس العنتَ في العهد العثماني، وكثيرًا ما اتُّهمَتْ بأنها أقيمت لأغراض سياسية تُناوِئ مرامي الدولة ولم تقم لوجه الله ورسوله.

وثَمَّ مدرسة أُنشئت في عهد هذه الحكومة الحاضرة، ولها من رعايتها الحظ الأوفى، تلك مدرسة الأيتام، ولقد دُعيت إلى حفلة أقيمت لخيرها حضرها أمير المدينة وأعيانها، عُرضت فيها مصنوعاتها لمن يشتريها، وألقى فيها تلاميذها مقطوعات وخطبًا دُرِّبوا عليها، ولقد لمحتُ في هؤلاء التلاميذ — ومنهم بدو لم يألفوا الحَضَر قبلَ التحاقهم بهذه المدرسة — نجابةً واستعدادًا للعلم يدُلَّان على أن المستبدين لم يخطئوا حين خافوا مغبة العلم على سلطانهم في هذه البلاد، لكن ما يتعلمه تلاميذ هذه المدرسة لا يزيد على المعلومات الأولية التي تلقى في غيرها، ولا يقصد منه إلى أكثر من المعلومات العملية ذات النفع البدائي في الحياة.

ماذا عسى أن ينشأ عن هذه الحال من ألوان التفكير وألوان العيش؟! يذكر الذين زاروا المدينة وعاشروا أهلها أنهم قوم على جانب عظيم من دَمَاثَة الطبع ورِقَّة الخلق، وهذا طبيعي في البلاد التي تعيش على السياحة والسائحين أيًّا كان سبب السياحة، ويزيد بعضهم أن في مجاورة أهل المدينة قبر الرسول ومسجده ما يبث في نفوسهم هذه الدماثة وهذه الرقة، ولست أدري مبلغ الصحة في هذه الحجة بعدما ذكر لي غير واحد ممن اتصلت بهم أن كثيرين من أهل المدينة ينظرون إلى الحياة بعين مستهترة بالحياة مشغوفة بمتعها المادية ولذاذاتها الدنيا، وأن منهم من ينفق ما يكسبه في موسم الحج والزيارة في هذه المتع واللذاذات غير حاسب للغد حسابًا، مطمئنًّا إلى الموسم المقبل وما تُدِرُّه عليه أخلافه من رزق، ولست أتهم الذين حدثوني بهذا الحديث، وقد دُعيت إلى غداء في بستان المَصْرع على مقربة من قبر حمزة، فكان مما أراده إخواننا أن يدعوَ مُضيفنا مُغَنِّيًا أو قَيْنة وضارب عُود، ولم يتردد مضيفنا في الأمر بادئ الأمر، لكنه خشي من بعدُ غضب أمير المدينة النجدي الوهابي المُتَزَمِّت عبد العزيز بن إبراهيم، وذلك حين علم أن الأمير أتاه نبأ من هذه الدعوة وأسماء المدعُوِّين فيها، وأنه سيقف أغلب الأمر على حديثها وعلى كل ما يجري أثناءها.

ولقد أذكرتني الوليمة ببستان المَصْرع قول البتانوني في رحلته: «ومن عادات أهل المدينة الرياضة والتنزه بين البساتين خارج المدينة، فيخرجون إليها في يوم الثلاثاء والجمعة بعد صلاة العصر جماعات جماعات ويعودون في المساء، وقد يخرجون إلى الرياضة من أول اليوم ومعهم غداؤهم فيمضون نهارهم بأحد البساتين التي بضواحي المدينة في سرور وحبور، ويسمون هذه الفسحة مقيالًا.»

والطبيعة المحيطة بالمدينة تعاون على هذا اللون من الحياة، فالبساتين حولها كثيرة، والخضرة بسامة، والحياة ضحوك، ولولا أحداث الزمن وما أصاب هذا البلد الطيب من بأساء وما تركه ذلك في نفوس أهله من أثر لَمَا تعرَّضوا لما يصيبهم من تفاوت الحظ. ومقام أهل المدينة إلى جوار الرسول والحجرة النبوية، وتأثرهم بالتطور الذي حدث في التفكير الإسلامي أكثر من سواهم، وهذا التوكل المطلق الذي أصبح بعض خُلقهم، يجعلهم أدنى إلى الصبر والرضا وأقل جزعًا لكوارث الدهر، من ذلك ما لاحظه غير واحد من أنهم لا ينوحون على موتاهم ولا يبكونهم، وأنهم يُسْرِفون في التجلُّد والصبر إسراف المصريين في الجزع لدى الفاجعة والحزن لها، وهم في توكلهم لا يحسبون لغد حسابًا، وماذا ينفعهم أن يحسبوا وقد ألِفوا من فُجاءات الدهر بالسراء والضراء ما يضل معه كل حساب؟! وقد علَّمهم تعاقب الأجيال أن الأمر في مدينتهم ليس لهم، بل للحاكم الأجنبي عنهم، الذي يُعْنَى بسياسته وتطبيقها عندهم أكثر من عنايته برُقِيِّهم ورخائهم.

ولقد كان من أثر ذيوع الأمية والجهل بالمدينة أن لم يُعنَ أحد من أهلها بتنظيم المكتبات العامة الموجودة بها، فبالمدينة مكتبات عامة تحتوي من المخطوطات والكتب المطبوعة على ألوف المجلدات، ومكتبة السلطان محمود ومكتبة السلطان عبد الحميد مكتبة بشير أغا من المكتبات التي يتحدث الناس في المدينة عنها، فأما أكبر مكتبة بها فمكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت، وفي وصف هذه المكتبة يقول البتانوني: «هي قريبة من باب جبريل إلى جهة القبلة، وهذه الكُتُبخانة آية في نظافة مكانها وحُسن تنسيقها وترتيب كتبها، وأرضها مفروشة بالسجاد العجمي الفاخر، وفي وسط حوشها نافورة من الرخام فيها صنابير للوضوء، وفيها كتب ثمينة جدًّا، لا يقل عددها عن أربعة وأربعمائة وخمسة آلاف كتاب، ولقد رأيتُ بها شيئًا من غرائب الصناعة النادرة في بابها، وهو كتاب أسفار فارسية مكتوب بالخط الأبيض الجميل لِمُلَّا شاهي، وبينا نحن نعجب من جودة الخط وإتقان الصناعة ونظافتها وحسن تنسيق حروفها على صغرها ودقتها لفت نظرَنا حضرة مدير الكتبخانة إلى أن حروف الكتابة إنما هي ملصوقة على الورق، فتأملناها فوجدنا شيئًا يبهت الطرف لرؤيته ويعجز اللسان عن نَعْتِه، خصوصًا عندما أخبرنا أنهم كانوا يكتبون هذه الكتابة ثم يفصلونها عن ورقتها بظفرهم ثم يلصقونها على ورقة أخرى.»

ولقد حرصت على زيارة هذه المكتبة لكثرة ما سمعت عنها بمكة، فلما زُرتها أعجبت بالسجاد العجمي ونافورة المياه التي ذكرها البتانوني، لكنني حرصتُ مع ذلك على أن أقف على نظامها، فسألت أمينها عن فهارسها وعن طريقة القراءة والمراجعة فيها، ولم يثر دهشتي نقص الفهارس ولا أثارها عدم العناية بتنظيم الانتفاع بالمكتبة بعد الذي عرفته من انتشار الأمية بالمدينة، والواقع أن أمين الدار، وهو شيخٌ حَسَنُ الحديث، واسع الاطلاع على محتوياتها، يكاد يكون هو الفهارس وهو المرشد إلى كل ما دقَّ وجلَّ فيها، وقد دلني حينئذٍ على قلة رُوَّاد المكتبة من أهل المدينة، ومن الحُجَّاج، وأن الذين يجيئون إليها يجيئون يدفعهم التطلع للإحاطة بها في نظرة عامة أكثر مما يدفعهم الحرص على مراجعة كتبها أو الانتفاع بها، ومعظم ما يطمع الأمين فيه أن يجد من يُعْنَى بمخطوط من المخطوطات فينقله مأجورًا؛ وهو لذلك جد حريص على أن يؤكد صحة المخطوطات التي بالمكتبة ودقة اتفاقها مع الأصل الذي نُقلت عنه إن لم تكن هي هذا الأصل بالفعل، وقد أطلعني على «مُعْجِز أحمد»، وهو شرح أبي العلاء المَعَرِّي لديوان المتنبي، وأكَّد لي صحة نسبته إلى الأصل ودقة نقله، وأوشكتُ أن أطلب إليه استنساخه لولا أنني علمتُ من أحد أبناء المدينة حين طالعتُه بما دار من ذلك بخلدي أن هذه النسبة إلى المعرِّي موضع ريبة وأن القول بدقة النقل مبالغ فيه.

وتمنيتُ مذ عرفت تعدُّد المكتبات بالمدينة أن يُبْنَى لها جميعًا دار واحدة تجمع كل ما فيها وتنظَّم تنظيمًا حديثًا يكفل الاستفادة منها، لكنني إذ عدتُ إلى نفسي ألفيتُ أن ما أطلبه من ذلك أدنى إلى المُنَى التي لا تُحقق، فأهل المدينة يحسبون هذه المكتبات زخرفًا، وقلَّ منهم من يُقَدِّر ما تعود به المكتبات من فائدة إذا وجدت المنتفعين بها الحريصين على نشر كنوزها وتبويب ما فيها تبويبًا علميًّا صحيحًا.

وكيف يتسنى لبلد لا يزيد سكانه على ثلاثة عشر ألفًا، وهو ليس مركزًا علميًّا، أن يفكر في مثل هذا الأمر؟! وكيف يتسنى له أن يفكر فيه ومبلغه من العلم ما رأيت؟! حسبه أن يكون متحفًا لآثار تظل محفوظة رجاء يوم يسعد الحظ فيه المدينة فيكون أهلها من العلم أوفر نصيبًا، ويكون زائروها أكثر على البحث والدرس توفرًا؛ ليكون هذا التفكير بعض ما يدخل في حيز الممكنات.

ولعل هذا اليوم يكون قريبًا! فقد تعود سكة الحجاز سيرتها، فيعود إلى المدينة الرخاء ويكثر فيها السكان، ويزداد النشاط، ويطَّرد ذلك زمنًا تستقر فيه الأمور وتصبح غير ما هي اليوم، ألا ما أكثر ما أتمنى ذلك! وما أكثر ما يتمناه كل محب لهذا البلد! بل ما يتمناه كل محب للإنسانية! لقد تنقلتُ خارج أسوار المدينة حيث كانت تقوم الدور والأحياء حين بلغ سكان المدينة ثمانين ألفًا، فأسفتُ لحالها الحاضرة، وعجبت كيف تطاوع ساسة الغرب أنفسهم على التآمر لقتل بلد مثله من اليسير إحياؤه بما لا يضر أحدًا وما يعود بالخير على الجميع، ولولا أني أُكْبِر هؤلاء الساسة وأحسبهم أسمى نفسًا من أن يدفعهم التعصب الديني إلى محاربة المدينة لوجود قبر نبي الإسلام بها لخِلْتُ هذا الدافع أقوى ما تتأثر به نفوسهم، ومهما يكن من الأمر فما أراني أُسيغ هذه الصعاب التي يقيمونها دون تعمير السكة الحديدية وقد استطاعت السياسة بأوضاعها المرنة أن تحل ما هو أعْسَرُ منها وأشد تعقيدًا!

والسور الذي كانت هذه المباني قائمة فيما وراءه والذي يحيط بالمدينة القديمة ما يزال قائمًا إلى اليوم، ولقد كان عَضُد الدولة أبو شجاع وزير الطائع لله أول من أنشأه في سنة ٣٦٠ﻫ اتقاءً لغزو الأعراب المدينة، ثم كان الأمراء يقيمونه كلما تداعت أركانه، حتى عمَّره محمد علي باشا بعد انتصار جيوشه على الوهابيين، وجدده السلطان عبد العزيز سنة ١٢٨٥ﻫ، وبنى فيه أربعين برجًا تشرف على ضواحي المدينة للدفاع عنها؛ وما تزال القلاع قائمة في بعض نواحيه اليوم على قلَّة ما يُنتظَر من فائدتها في الدفاع ضد الأسلحة الحديثة.

أَوَيصبو شباب المدينة كما يصبو شباب مكة إلى الحياة الحديثة في التفكير والعيش؟ هذا الأمر لا ريب فيه، لكن الناس من أهل المدينة لا تنفسح مطامعهم لما تنفسح إليه مطامع المكيين وبلدهم عاصمة الحجاز ومقر الحكم والسلطان، على أن طبيعة المدينة أدنى إلى الحضر، وموقعها أدنى إلى مواطن الحضارة من مكة، وشبان المدينة شديدو التَّوْق لذلك إلى المعرفة والتزيد منها، لولا أنهم لا يجدون إليها الوسيلة، ولو أنهم وجدوها، ولو أن المدينة اتصلت بالعالم اتصالها قبيل الحرب، لكان لها في الاندفاع إلى الحياة الحديثة ما يزيد على ما لمكة فيما أظن.

أما وحالها الحاضرة ما رأيت والحكم فيها للنجديين القريبين من البداوة، فالحديث عن هذا التفوق وعن اندفاع المدنيين إلى الحضارة أدنى إلى أمنية لا يدري أحد ما كتب القَدَرُ لها في لَوْحِه، وإذا ذكرتَ حكم النجديين بالمدينة فلا تَقِسْ إليه حكمهم بمكة، هم بمكة في عاصمة أكثر الأمر فيها إلى أبناء الحجاز وليس للنجديين فيها إلا الرياسة العليا، وهؤلاء النجديون لا يقيمون بمكة إلا أيام الحج وبعض أيام أخرى من السنة، وفيما خلا ذلك تصفو مكة لأهلها، أما أمير المدينة النجدي فيقيم بها طول العام، وهو فيها الحاكم المباشر النافذ الكلمة المطاع، مِن ثَمَّ يرتقب أهل المدينة إرادته، وتدعوهم دماثة أخلاقهم إلى مُصَانَعته، إنه يوَدُّ من ناحيته لو استطاع أن يدرك الحياة الحديثة وأن يجمع بينها وبين عقائده وميوله النجدية، وهو بذلك يدنو منهم بعض الشيء، لكن مكانته، بوصفه ولي الأمر في البلد، وطبيعته البدوية الصميمة، تمسكانه دون بلوغ الكثير من ذلك، وتدعوان أهل المدينة إلى متابعته أكثر مما يتابعهم.

زرتُ الأمير عبد العزيز بن إبراهيم غير مرة، زرته في ديوان الحكم، وزرته في داره، وتناولت طعام الغداء على مائدته، وشاركته في طعام خفيف آخر الأمسية دعاني إليه ابنه إبراهيم، ولم يدهشني ما رأيت من مظهر حياته النجدية بدار الحكم ولا في غرفة استقباله بالمدينة، فقد ألِفْتُ أن أرى من ذلك في مصر وفي غير مصر ما لا يدع للدهشة موضعًا، وأنت لا ترى على باب الوزير من مظاهر البأس العسكري المتبجِّح ما تراه على باب مأمور المركز، وأنت كذلك لا ترى من مظاهر هذا البأس على باب قصر الملك أو دار وزير المالية أو أمين العاصمة بمكة ما تراه في مجلس أمير المدينة، ففي هذا المجلس جند من النجديين علَّمهم الأمير الحرص على أن يظهروا للناس بأسه وبطشه، فإذا دعا أحدهم دعاه في شَدَّة كما يدعو المأمور أحد جنود المركز، ولبَّى الجندي في اندفاع وتطلع واستعداد لتنفيذ أي أمر، ولقد تناولتُ على مائدته طعام الغداء فكانت مائدة بدوية يجلس الناس حولها ويتناولون طعامهم بأيديهم، فيجدون منه طعامًا لذيذًا، فوق شبعهم، أما يوم دعاني ابنه في الأمسية فقد صعدنا إلى دار الأمير وتناولنا «بسكويتًا» ومربَّات وحلوى، وقد حرص الأمير على أن يتناول الطعام بالشوكة ليدل بذلك على حُسن استعداده لحياة العصر، وأهل المدينة يُجارونه في بداوته وفي محاولته الحضارة، وإن كان أكثرهم قد عرف أيام حكم العثمانيين من مظاهر الحضارة ما لم تعرف نجد البعيدة عن الحضارة العثمانية.

وإبراهيم ابن الأمير فتًى لما يجاوز الخامسة عشرة فيما أرى، وهو وسيم الطلعة في زيه العربي، حاد النظرة من عينين سوداوين فيهما حَوَرٌ، ممشوق القوام، رقيق المظهر، ليس فيه شيء من هذه الخشونة وهذا البأس اللذين يبدوان في نظرة أبيه وفي حديثه، واللذين جعلا منه مثل القسوة الباطشة في الحجاز كله، ولم أسمع حديث الفتى لأقف على مبلغه من العلم، وإن رأيت منه صرامة في توجيه الأوامر إلى تابعيه، هي لا ريب بعض ما ورث عن أبيه وبعض ما يقضي به مركزه وهو ابن الأمير الباطش الشديد.

وتناولت طعام الغداء يوم سفري من المدينة على مائدة أحد أعيانها، فرأيت فيها من نظامنا الحديث ما لا يتفق مع هذا الذي رأيت عند الأمير وما أذكرني أن القوم لم ينسوا بعدُ أيام الأتراك، وهذا الرجل من أعيان المدينة ليس في سعة من الثروة تعاونه على المبالغة في بسط العيش، هذا ما قصَّه عليَّ بعض من وثقت بهم ممن عرفت بالمدينة، وإني لأقرأ يومًا في كتاب «برخارت» إذ وقفتُ فيه على ما يقال من أن أهل المدينة أحرَصُ على التظاهر من أهل مكة، وأنهم يميلون إلى شَظَفِ المأكل في حياتهم الخاصة، لكنهم ينفقون على أثاث منازلهم وعلى ملابسهم التي يقابلون الناس بها نفقات طائلة.

ترى هل تطوع الأقدار للمدينة أن تبلغ غايتها فيما تتوق إليه من الحياة الحديثة ومظاهرها؟ وما عسى أن يكون أمرها إذا بلغت هذه الغاية؟ إنهم ليتحدثون عن إعادة سكة الحجاز الحديدية سيرتها الأولى، وأهل المدينة يشرَئِبُّون بأعناقهم إلى هذا اليوم ويدعون الله من كل قلوبهم أن يكون قريبًا، وإني لأشاركهم في هذا الدعاء، وأرجو أن تسمو تقديرات الساسة حين النظر في هذا الأمر إلى الاعتبارات الإنسانية، وألَّا تقف في حدود التفكير الاستعماري والتنظيم الحربي، ولئن تأثرت في هذه الدعوة بأن المدينة من الأماكن الإسلامية المقدسة؛ لأنها مُهَاجَر النبي العربي؛ ولأن بها قبره، إنني لشديد الرجاء ألَّا يبلغ تأثر ساسة الغرب بميولهم المسيحية حدًّا يحول دون بلوغ المدينة ما يمكن أن تبلغه من أسباب الرخاء والتقدم مما يطوع لأبنائها أن يشاركوا بمجهودهم في العمل المثمر لرخاء الإنسانية وتقدمها.

ما أشد شوقي أن يتحقق هذا الرجاء وأن يُتاح لي إذا أُعيد طبع هذا الكتاب أن أشير إلى نجاح المسعى لإعادة السكة الحديدية التي تَعَاوَنَ المسلمون من أقطار الأرض جميعًا على إنشائها! يومئذٍ يُتاح للمدينة أن تخطو نحو حضارة العصر خطوة واسعة، وأن تتصل بسائر أنحاء العالم كما اتصلت من قبلُ بها، وأن تجد في موقعها الطبيعي عونًا على تقدمها السريع في الاضطلاع بأعباء الحضارة، فهذا الموقع الطبيعي على ما رأيت حَضَرٌ كل الحضر، لا يدانيه موقع مكة من هذه الناحية ولا يقاس إليه؛ وهو لذلك صالح لمقام عدد عظيم جدًّا من السكان يستطيع التعاون والعمل المثمر والاعتماد على خيرات هذه الطبيعة الخصبة الجَوَاد، ومبادلة العالم مبادلة لا تقف عند المنتجات التي تجود بها هذه الطبيعة، بل تتعداها إلى نتاج العقل الإنساني وآثار الفن والفكر، وتكون بذلك عظيمة الأثر جليلة الفائدة.

لم أشر إلى شيء من ذلك وأنا أتحدث في هذا الفصل عن المدينة الحديثة؛ لأن حال المدينة وحظها ما رأيت، لكن رقعتها قد اتسعت حين ابتسم الدهر لها لثمانين ألفًا يقيمون بها ويعيشون فيها عيش رخاء وسعة، لم ينقصها الغذاء يومئذٍ وقد كان حولها من البساتين والمزارع ما طوع لأهلها أن يعيشوا عيش الترف، وأن يقيموا القصور الشاهقة وأن يحيطوها بالحدائق الغنَّاء، ولا يزال الأثر الباقي من قصر سعيد بن العاص شهيدًا بذلك، والتاريخ يذكر قصورًا بوادي العقيق خَلَّد الشعر على حِقَب العصور أسماءها، ولم ينقص الماء المدينة والعيون والآبار فيها بالغة من الكثرة حدًّا يثير تطلع «الجيولوجيين» إلى معرفة طبقات الأرض وما تحتوي عليه فيها، ولئن بقيَتْ العين الزرقاء مصدر الماء لسُقْيا أهل المدينة إلى هذا الوقت الحاضر.

لقد يقف الإنسان أمام العيون والآبار المنثورة داخل المدينة وفيما حولها دهشًا متسائلًا عن منابع هذا الماء أين تكون؟! وكيف تختلف كل هذا الاختلاف الذي يعيد إلى الذاكرة صورة من بلاد المياه المعدنية بأوروبا؟! وأنت تقف من هذه الآبار اليوم عند بئر أَرِيس بجوار مسجد قُباء، وبئر رُومَة الواقعة بالعقيق قريبة من مجمع الأسيال، وبئر غَرْس، وبئر حَاء، وبئر بُضاعة، وبئر السقيا، وبئر أبي أيوب، وبئر ذَرْوَان، وبئر عُرْوَة بن الزبير، ويذكر البتانوني في رحلته بئر الأعواف، وبئر أنس بن مالك، وبئر القويم، وبئر العباسية، وبئر صفية، وبئر البُوَيْرة، وبئر فاطمة، ولعل من هذه الأسماء التي ذكرها البتانوني ما يتفق في مدلوله مع أسماء الآبار التي وقفت عندها، وإنما اختلفت التسمية باختلاف العصور.

وكانت المدينة تُسْقَى من هذه العيون إلى أن جرت فيها العين الزرقاء بأمر معاوية بن أبي سفيان في مستهل النصف الثاني من القرن الأول للهجرة، في ذلك الوقت أمر معاوية عامله على المدينة مروان بن الحكم فأجرى هذه العين التي سُميت الزرقاء؛ لأن مروان كان أزرق العينين فيما يقول المؤرخون، يقول الأستاذ عبد القدوس الأنصاري في كتابه «آثار المدينة المنورة»: و«أصل العين من بئر الأزرق في بستان الجعفرية غربي مسجد قباء، وقد أُضيفت إليها آبار في أوقات متفاوتة، كبئر أَرِيس، وبئر الرياض، وبئر بُوَيْرة، كما أنها مُدَّت بينابيع حفرت في جنوبي بئر الأزرق أيضًا، وتسير من مصادرها المذكورة إلى بئر الشلالين فتفيض فيها، ثم إلى بئر الغربال، فبئر جديلة، وهنا تمدها بئر السرارة وبئر القلعجية وبئر السيد عبد الرحيم السقاف، ومن هنا تأتي إلى المدينة ولها بها عدة مناهل، وتخرج من المدينة إلى الشمال، وحذاء بستان داود باشا تنقطع ويسير فائضها مع الماء الملح الآتي معها مع بئر جديلة إلى البركة شمال الجُرف وهناك مغيضها.»

لم ينقص الماء ولا نقص الغذاء المدينة في أبهى عصورها وأكثرها سكانًا بل كان الأمر على الضد من ذلك؛ فكانت أيام الوفرة في السكان أيام رخاء ونعيم، ولسنا في حاجة إلى الإيغال في التاريخ التماسًا للدليل على هذا وإن كان التاريخ خير دليل عليه، وحسبنا ما يذكره أهل المدينة اليوم عن رخائها بين سنة ١٩٠٧ وسنة ١٩١٤ حين سارت سكة الحجاز الحديدية، فهم يتحدثون عن هذه الأيام القريبة منا وملء قلوبهم الحسرة على ذهابها والرجاء الحار في عود مثلها لتعود لمدينة الرسول بهجتها، وللذين يجاورون الرسول ابتسامة الحياة.

وهم يتحدثون كذلك عمَّا كان لمصر في عصور كثيرة من شرف المعاونة لبلوغ مدينة الرسول غاية ما ترجو، فقد كانت التكية المصرية بها مصدرًا من مصادر خيرها وتقدمها، وهي تقوم اليوم بهذا الواجب كما تقوم تكية مكة بمثله، والمصريون القائمون بأمرها يشاركون أهل المدينة في رجائهم الحار أن يعود إليها الرخاء وأن يعود اتصالها بالعالم.

وإنَّا كرَّةً أخرى لنشاركهم جميعًا في هذا الرجاء، ولو أن العالم الإسلامي كان مسموع الكلمة اليوم كما كان شأنه أيام معاوية وفي العصور الإسلامية الزاهرة الأولى، وكما كان شأنه أيام بني عثمان حين كانت للمسلمين عاصمة تتجه إليها أنظارهم، إذن لما أصاب مدينة الرسول ما أصابها بعد أن تشتَّتَتْ أهواء المسلمين وتفرقت كلمتهم بما أطمعَ فيهم الاستعمار إذ جعل قلوبهم شتَّى، أفيُجيب السميع العليم رجاءَنا ويُعيد إلى مدينة الرسول مكانتها، أم أنه — جَلَّتْ حكمتُه — يريد أن يُرِيَ المسلمين من آياته حتى يدركوا أنه لا تبديل لسنته وأنه لا يُغيِّر ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم؟!

إن لنا في رحمة الله لَأَمَلًا أعظم الأمل، ومن رحمته أن يبعث المسلمين بعد طُول رقدتهم إلى الحياة، لقد وَعَدَ رسولَه — ووعدُه الحقُّ — أنه سينصر دينه على الدين كله، والمسلمون يتوجهون اليوم إلى ربهم من أقطار العالم جميعًا تائبين منيبين يدعونه تضرُّعًا أن يهديهم سبيل رضاه، وأن يُلهمهم الهدى، وأن يُفيض عليهم من فضله، وأن يُسبغ على مدينة الرسول نعماءه، إنه سميع مجيب.

١  برخارت: الجزء الثاني صفحة ١٥٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤