وقفة عرفات

أصبحت يوم الإثنين الثامن من ذي الحجة، يوم التروية، أفكر في عرفات والذهاب إليها محرمًا والمبيت بها، وقضاء ما يجب من شعائر الحج فيها والنزول عنها إلى المشعر الحرام بالمزدلفة، وإلى الصخرات بمِنًى لأتمم بعد ذلك طواف الحج حول الكعبة وسعيه بين الصفا والمروة، فأكون قد قضيت الفرض الخامس من فرائض الدين الحنيف، ولا يفكر الناس اليوم في التروية، وهي جلب الماء معهم إلى عرفة ليستقوا منه يوم وقوفهم بها، وهم لا يفكرون في التروية منذ يسَّرت عين زبيدة لهم من الماء ما يريدون.

وشتان بين ما اشتملني أثناء التفكير في الإحرام لعرفات من نعيم وغبطة، وما كنت أخافه قبل مغادرة مصر من أثر الإحرام وقضاء المناسك على صحتي، لقد اشتملني من فجر ذلك اليوم رضا عن الحياة وعن نفسي، وشعرت بروحي فرِحة وبقلبي مطمئنًّا، أقبلت منذ بكرة الصباح أعد لباس الإحرام وما يقتضيه المبيت تحت الخيام، منشرح الصدر لكل ما أصنع من ذلك، عميق الإحساس بجلال هذه الفريضة التي يسَّر الله لي أداءها، موقنًا أني سأشهد أثناءها من آيات حكمته فيها ما يزيد كل مؤمن إيمانًا وتثبيتًا، وصورت أمام ذهني هذا الجبل المقدَّس وقمَّته الفسيحة واجتماع عشرات الألوف من المسلمين فوقه مهللين ملبين، متوجهين إلى الله بقلوب طهَّرها صدق الإخلاص من ماضي حَوْبَاتها، وهداها الاجتماع المقدَّس بإخوانها المؤمنين سبيل الخير، وفتح أمامها أبواب حياة جديدة تسمو خلالها بفضل إيمانها، وصدق توجهها إلى الدرجات العلا من مراتب الإنسانية السامية، مراتب البررة والمقرَّبين والأتقياء الصالحين الذين يخشون الله ولا يخشون غيره، ولا يخافون في الحق والخير والبر لومة لائم.

بقيت في إعداد متاعي إلى ما قُبيل الظهر، ثم انحدرتُ من الدار إلى قصر الملك لموعد ألقى فيه جلالته، وقصر الملك يقع خارج مكة من الناحية الشمالية الشرقية عند مبدأ الطريق الذاهب إلى مِنًى، وهو قصر بُني حديثًا ليقيم ابن السعود به ما أقام بمكة قبل الحج وبعده، وهو فسيح الجنبات، بسيط المظاهر، يجمع بين أبهة الملك وطراز العروبة القريب من البداوة، تلقاك أوَّل ما تتخطى بابه حديقة فيها نباتات صغيرة، ثم تتخطى دهاليز فُرشت بالحصباء إلى أبهاء بسيطة في أثاثها وعمارتها على رغم سعتها وكثرة نوافذها، ويقابل القصر جبل زَرُود الواقع على مقربة من حراء، أو جبل النور كما يسمونه اليوم، ذكرًا لنور الوحي الأول الذي هبط على النبي وهو بالغار عند قمته، وتقوم فوق زرود قلعة تحمي مقرَّ الملك أثناء مقامه بأم القرى.

ولقد لقيت في ذهابي إلى قصر الملك وعودتي منه مشقة لم ألقها في طريق مكة حين تجولي بها في اليوم الذي سبق؛ فالطريق إلى قصر الملك هو كما قدمت طريق مِنًى، وهذا اليوم هو يوم التروية، فيه يصعد الحجيج جميعًا إلى منى وإلى عرفات من هذا الطريق، وأكثرهم يصعدون على الإبل؛ لأنها أيسر نفقة على الأكثرين، ولأن الصعود عليها أكثر مشقة من الصعود بالسيارات؛ وهو لذلك أعظم عند الله أجرًا في رأي طائفة من المسلمين؛ لذلك امتلأت طرق مكة يومئذٍ بقوافل الإبل، حملت من ركبوها في ألوان مختلفة الطراز والوشي من الهوادج والشقادف، وبعضها يسير إلى جانب بعض إذا انفسح الطريق، ويتلو بعضها بعضًا في الطرق الضيقة.

وطرق مكة ضيقة كلها إلا قليلًا؛ لذلك كانت السيارة تقف في الطرق ذات السعة أمام هذه الإبل المتراصَّة حتى تفسح لها طريقًا؛ أمَّا في الطرق الضيقة فكانت تُضطر أحيانًا إلى التراجع لتقف في مكان يتسع لوقوفها ومرور القافلة بها بعيرًا بعد بعير، وتضطر أحيانًا أخرى إلى الانزواء في طريق غير طريقها حتى تمر القافلة بها، والقافلة تمر بخُطى الإبل المتئدة، لا سبيل لها إلى أن تسرع في هذه الأزقة الملتوية في ارتفاع وانخفاض، وتمر القافلة وتسير السيارة بضعة أمتار ثم إذا قافلة أو بضعة جمال أخرى تضطرها لتلتمس مكانًا تقف فيه أو زقاقًا تحتمي به، ولقد اقتضانا خوض هذا البحر اللُّجي من الإبل وسائقيها أضعافًا مضاعفة من الوقت الذي كنا نقطع فيه الطريق لو أننا كنَّا نسير في غير يوم التروية أو أيام الحج.

وتناولت طعام الظهيرة، واتَّفقت ومضيفي على أن نستقل السيارة إلى عرفات بعد صلاة العصر، وتطهرت لإحرام الحج ولبست لباسه بعد أن نويته، وصليت ركعتين سنته، فلما صليت العصر أقمت أنتظر السيارة، لكن المغرب اقتربت ولم تكن قد جاءت؛ وخشي مضيفي أن أضيق بتأخرها ذرعًا، فهبطنا إلى حديقة صغيرة خلف الدار وفي حرمها نستمتع بما فيها من خضرة النبات وبهاء الأزهار، وإنا لكذلك إذ بدأ الرذاذ يتساقط، واحتملناه زمنًا فرحين آملين أن ينقطع بعد قليل، لكنه استمر ثم هَتَن وابلًا لا سبيل معه إلى البقاء في الحديقة؛ واحتمينا بإيوان متصل بها، وجلست بمقعد عند بابه أشهد منه عبث المطر بالزهر والشجر، وفكر بعض الحاضرين في الترويح عني بذكر سيول الحجاز التي تنهمر سويعة انهمارًا يحسب الإنسان معه أنه لن يكف، ثم إذا السماء أمسكت وعاد إليها صفوها، وإذا رمال الأرض ابتلعت مياهها، وإذا الجو أكثر صفاء ورقة، والمطر يهتن والبرق يخطف والرعد يقصف والرجاء في مجيء السيارة يذوي في نفسي، فأسائل مضيفي: أللصعود إلى عرفات في هذا الوقت سبيل …؟ ويجيبني مضيفي مطمئنًّا: إن الأمر لله، والحج فرض الله، ولا بد أن ييسر الله للناس فرضه.

وبينا نحن في حديثنا أمسكت السماء فجأة، وذهبت الريح بما فيها من سحب، وصفا الجو، وعادت إلى الثغور ابتسامتها، وأقبل الخادم ينبئنا بأن السيارة بالباب تنتظر، وركبناها وشققنا بها طرق مكة الضيقة وهي تسير الهوينَى تتخطَّى الإبل وهوادجها وشقادفها التي قاربت بنا قصر الملك، هنالك انفسح الطريق، وعظم أملنا في الوصول عمَّا قليل إلى عرفات، على أن السيارة وقفت هنيهة ليملأها سائقها بنزينًا، وفي هذه اللحظة رفعت بصري إلى السماء فألفيتها صفوًا لم يبق لسحابة فيها أثر، وألفيت القمر لمَّا يكتمل بدرًا قد بعث إلى أرجائها من ضوئه الندي ما زاد في صفاء صفحتها بهجة ونورًا، وسرحت الطرف عن يميني وعن يساري وفيما أمامي فإذا لجة القمر تغمر سلاسل الجبال القائمة في هذه الأرجاء جميعًا متتابعة في اتصال لا يدع للناظر من خلالها فرجة تشف عن شيء مما وراءها، وبدت هذه السلاسل في لجة الضوء أشباحًا ضخمة رهيبة جديرة بأن تبعث إلى النفس الخشية منها، ومما يستكن فيها لولا تجرد النفس في هذه الآونة من كل خشية إلا خشية الله، ولولا سمو النفس فوق كل ما في الحياة من آمال وآلام ومخاوف إلا عن الرجاء في رضا الله عمَّن لبَّوا نداءه، ومن جاءوا من كل فج عميق رجالًا وعلى كل ضامر ليطَّوفوا بيته ويتموا مناسك حجه.

وانطلقت السيارة في طريق مِنًى تسايرنا جبال العقبة عن يسارنا وطلائع «ثَبير» عن يميننا، وفي لحظة غابت الإبل ولم يبق يزحمنا منها قافلة ولا بعير؛ ذلك أنا خرجنا عن طريقنا إلى طريق آخر استحدثته الحكومة القائمة، وخصت به السيارات تنفيسًا عن القوافل وعن السيارات جميعًا، والقمر في كبد السماء الندية الزرقة بضيائه يلقي على الهضاب الممتدة عن يمننا وعن يسارنا ضوءًا يبعثها إلى يقظة الحياة في هجعة الليل، أما فيما أمامنا فقد غلب ضوء السيارة الباهر ضوء القمر الرطب الندي، وجعلنا نصعد فوق السفوح على هونٍ، حتى طالعتنا أضواء كثيرة منتشرة عن يسارنا، تلك أضواء سوق مِنًى يتأهب أصحابها لإفاضة الناس من عرفات بعد غد إليها، ثم مررنا بعد قليل بضوء أقل من ضوء مِنًى دلنا على أنَّا إزاء المزدلفة، وتابعنا التصعيد في الجبل على هون بين هضاب ورمال انبسطت عنها أشعة اللجين من ساهر السموات، وحاذينا بناء، ذكر أهل مكة أنه مسجد نَمِرة، بدت بعده أضواء قيل: إنها سوق عرفات، ثم انطلقت السيارة فإذا بنا أمام سهل فسيح ضربت فيه مئات القباب وألوفها، وتلألأت فيه مصابيح النور الأبيض، تلك بطحاء عرفات، وهنا مكان الحج وملتقى الألوف من المسلمين الذين فرضوه على أنفسهم.

وقفت السيارة، وسأل مضيفنا عن مضارب خيامنا، ومن لك بالذاكرة التي تحيط بمكان كل قبة من هذه المضارب التي يخطئها العدُّ في هذه الساعة من الليل؟! بل من لك بهذه الذاكرة في أشد ساعات النهار وضحًا؟! وبدأ الغضب يأخذ من المضيف حين لم يسارع أتباعه إلى إجابة سؤاله، لكن جلال الموقف وعذوبة الهواء وصفوه ورقته هدأت من حدة طبعه، وانفتل شاب من ذويه من السيارة يلتمس منازلنا كي يهدينا إليها؛ ولم يطل عنا غيابه.

وألفيت الخيمة التي أعدت لنا قد فرشت ببساطٍ من السجاد، فألفيت عليه فراش النوم، وخرجت أسرح البصر فيما حولي، خرجت في لباس إحرامي خفيفًا فرحًا، نشيط النفس، ممتلئ الفؤاد حبورًا وجذلًا، يا لرقة هذا الهواء! وجمال هذا القمر! وبهاء هذه الساعة الفذة التي سقطت فيها عن الروح كل الحجب، وتجلى فيها أمام البصيرة نور الخالق العظيم! لبَّيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك … أوَلا يجمل بي أن أتقدم بين هذه المضارب لأرى ألوف المحرمين مثلي فأزداد برؤيتهم حبورًا، وأتحدث إليهم فيزيدني حديثهم جذلًا، وألبي وإياهم فتتجاوب هذه الوهاد بأصداء عشرات الألوف من أصوات الملبين ترتفع على موج النسيم وأشعة القمر إلى عليا السموات!

وأنَّى لي أهتدي إلى مضربي إذا أنا ضللت بين هذه الخيام، وليس لي من العلم بالمكان ما لأبناء مكة الذين يؤمُّونه كل عام؟ ولكن أيضلُّ ها هنا أحد وها هنا موضع الهدى وملاذ الملبِّي نداء ربه، اللاجئ إلى فيء رحمته؟ وتقدمت خطوات إلى موضع توسط الخيام، فتموَّجت أشعة القمر أمام نظري على رماله، ثم وقفت وأطلت الوقوف، وبقيت محدِّقًا بالسماء، مأخوذًا بصفو أديمها، شارد اللب في جلال هذا الكون المحيط بي وعظمته، أناجيه وقد نضوت عني زينة الحياة الدنيا، فأحس به أبهى جلالًا وأجل عظمة، كم طالت بي هذه النجوى؟ لا أدري، وأرادت قدماي أن تتقدما بي لأتصل بمن أسمع هَسِيسهم من إخواني المؤمنين، فتلفَّتُّ أتعرف قُبَّتي كيما أتخذ منها منارًا أهتدي به في سيري، فلم أعرفها بين الخيام القريبة مني، إذ ذاك آثرت العودة للبحث عنها والاحتماء بها من ضلَّة الليل، فلما اهتديت إليها وقفت عند بابها، ولم تطاوعني نفسي على أن أتخذ منها حجابًا بيني وبين السماء وقمرها الباسم الضياء، وبيني وبين هذا العالم الروحي العظيم الذي اجتمع هاهنا في هذه البقعة من بقاع الأرض، والذي يجتمع فيها في هذه الساعة من كل عام، ناسيًا كل شيء من زخرف الدنيا متوجهًا إلى الله أن يتم على الأرض كلمة الهدى ويوطد فيها الحق والعدل والسلام.

وجلست مكاني على سجادة صلاة سحبتها من داخل القبة، وتركت لتصوري عنانه، وقد ارتسم كل ما تشتمله السموات والأرض حولي في دخيلة نفسي، وانتقلت بهذا التصور في هنيهة من بيئة المكان إلى بيئة الزمن، وطويتُ القرون القهقرى إلى أكثر من ثلاثمائة وألف سنة مضت، وامتثلت النبيَّ العربي محمدًا ها هنا فوق عرفات في حجة وداعه، محرمًا كإحرامنا، ملبيًا كتلبيتنا، مستغفرًا كاستغفارنا، خاضعًا لله خضوعنا، عبدًا لله كعبوديتنا له، امتثلت هذا النبي العربي وقد تخطى السنين، وقد فتح الله له فتحًا مبينًا، وقد أسلم لدينه أهل مكة الذين حاربوه وأصحابه وأخرجوهم من ديارهم، وقد آن أن يكمل الله للمؤمنين دينهم ويتم عليهم نعمته، امتثلته واقفًا في هذا المكان على رأس مائة ألف من المسلمين بعد أن قطع إليه الطريق من يثرب إلى مكة محرمًا طوال هذه الطريق، سائقًا هدْيه معه، مقيمًا على إحرامه أسبوعين كاملين، ملبيًا والمسلمون من ورائه كل نهاره وطرفًا من الليل، مسلمًا كل أمره إلى الله لا إله إلا هو، إليه يرجع الأمر كله، وإليه تصير الأمور.

كم أقمت أذَّكر فنفعتني الذكرى؛ ثلثي الليل أو نصفه أو زدت عليه أو نقصت منه؟! علم ذلك عند ربي، وشعرت بالسكون يمد رواقه حولي، حتى لم يبق مما كنت أسمع نبأة أو همسًا، عند ذلك دخلت إلى قبتي وأطبقت أجفاني ألتمس النوم.

أفنمت حقًّا؟ وكم نمت؟ كل ما أذكره أنني كنت سعيدًا وكنت ممتلئًا نشاطًا حين طرق أذني صوت المؤذن لصلاة الفجر، طرق هذا الصوت أذني فابتهج له قلبي وطرب له فؤادي طربه لأغنية عذبة ترتلها ملائكة السموات، وفتحت عيني فرأيت بشائر الضوء تسري من فرجات القبة، فقمت إلى الماء أتوضأ، فإذا الحياة تسري فيما حولي من المضارب، وإذا الذين يلتمسون الماء لغيرهم ينتشرون ها هنا وهناك، وإذا النداء للصلاة الأولى تتجاوب أصوات المنادين به في مختلف أنحاء البطحاء، وكلهم يلقي في آذان الخليقة التي بدأت يقظتها: «الصلاة خير من النوم»، وفي نواحٍ مختلفة من البطيح المترامي الأطراف سمعنا الذين قاموا يؤمون من معهم للصلاة، ينادون: الله أكبر، وكلما أتم جماعة صلاتهم علت بالتلبية أصواتهم، وأقام الناس على ذلك حتى ذرَّ قرن الشمس فوق الجبال إلى ناحية الشرق، عندئذ بدءوا يتسللون من خيامهم يرون بأعين النهار ما لم تسعفهم عين الليل على رؤيته من مكان الحج المقدس، فلما علت الشمس بدأت حياة النهار ضجَّتها وتجارتها، وبدأ الناس يلقون بعضهم بعضًا بالتحية والتبريك، ثم ينتقلون بحديثهم إلى مألوف ما في الحياة.

وتجارة الحياة في عرفات تتصل بالحج وبالصدقات التي تهوي بها أفئدة الحجيج إلى الفقراء والمساكين ممن يطوفون بهم، الحجيج تهوي أفئدتهم إلى إطعام الجائع والبر بالمحروم؛ لذلك يسير الأعراب بقطعان من الغنم يبيعونها من يذبحونها لساعتهم ويتصدَّقون بها على ذوي الحاجة من إخوانهم المؤمنين، ومنهم من جاء لأداء الفريضة من أقصى الأرض وهو لا يجد قوت يومه، وآخرون اتخذوا من البقاع المقدسة مقامًا ومن الصدقة مرتزقًا، هؤلاء يطوفون بالمضارب يبتغون من ذوي الميسرة بعض ما رزقهم الله، ثم لا يكفيهم ما ينالونه فيعودون يسألون الناس إلحافًا يستغلون بذلك إحسان من لا يمسكون أيديهم في يوم الحج عن الإحسان.

وخرجت من قبتي أتعرَّف ما حولي، وأشهد صنيع الناس يومهم هذا وقد جاءوا إلى الله حاجِّين متجردين، وإني لأتلفت يمنة ويسرة إذ وقع بصري على رجل لا شيء في سيماه يدل على أنه من أبناء الشرق، بل هو أدنى إلى أن يكون من أبناء الشمال في أوروبا بطول قامته النحيفة، وببشرته البيضاء المشربة حمرة وعينيه الزرقاوين وشعره الأصفر، وأخبرني بعض أهل مكة ممن حوله أنه هولندي «مسلماني» يقيم بجاوة، وأنه جاء يؤدي فريضته ودلفت إليه وألقيت عليه التحية بالفرنسية، وتحدَّثت إليه بها، فدلتني لهجته على أنه ليس من أهل هذه اللغة وأن أغلب أمره أن يكون إنكليزيًّا، وسألته عن جنسيته فعلمت أنه أيرلنديٌّ وأنه يقيم «بسرواك» في بورنيو، أكبر الجزر البريطانية في أرخبيل الملايا، وأنه أسلم من سنوات خمس، وأنه جاء ليؤدي الفريضة، فأقام بجدة سبعة أسابيع حتى أيقن رجال الحكومة العربية من حسن إسلامه، وسمحوا له بما يسمح للمسلمين، دون غيرهم، من دخول مكة ومن أداء فروض الحج ومناسكه.

واتصل بيني وبينه بالإنكليزية حديث طويل، ومع ذلك لم تطاوعني نفسي على سؤاله عن سبب إسلامه، وعلى رغم ذلك أخبرني أنه في إقامته بسرواك بين المسلمين منذ أكثر من خمس عشرة سنة لم تطب نفسه بما دون التعمق في درس حالهم الاجتماعية والأخلاقية، والبحث، بوصف كونه أيرلنديًّا، عن الأسباب التي أدت بهم إلى الخضوع لغيرهم، وكانت عقيدتهم الدينية بعض ما عني بدراسته، ولم يلبث حين بدأ هذه الدراسة أن شعر بحافز قويٍّ يحفزه للإمعان فيها ولقراءة ما كتب في اللغات المختلفة عنها وللتزيد من ذلك ولطول التفكير فيه، ولقد أخذت بساطة العقيدة الإسلامية بمجامع قلبه، ووصلت من تفكيره إلى أعماقه وجعلته يؤمن بحقيقة هذا الدين الذي نزل على النبي العربي وبحضارة الأخوة والإباء التي يدعو إليها، ويؤمن بأن الحضارة التي تنشر أوروبا اليوم لواءها في العالم باسم العلم ليست من العلم في شيء، وإنما هي اللعنة التي صبَّها الله على العالم.

فهذه الحضارة تتلخص عنده في إخراج الناس من بساطتهم الفطرية التي تكفل لهم سلامة التفكير وسمو الغاية، ليخضعوا لأهوائهم وشهواتهم المادية فتضعف نفوسهم ويذلوا، وأية صلة بين سعادة الرجل أو المرأة وبين منسوجات «لانكشير» أو حرائر «ليون» أو عطور «باريس»، أو ما إلى ذلك من مواد الزينة والترف، وهذه مع ذلك هي مظاهرة الحضارة الأوروبية وهي السبب الحقيقي الذي تغزو أوروبا العالم من أجله، إنما الصلة الحقيقية بين هذه المنسوجات والحرائر والعطور، وبين الأموال التي تريد أوروبا استنزافها من الشعوب هي إقناعها كذبًا بأن الحضارة في الرداء والترف والزينة، أما الإسلام فيدعو إلى معنى هو أسمى المعاني، إلى نبذ كل عبودية لغير الله، وإلى الاستهانة بالموت في سبيل الله وإلى البر والتقوى وإلى الرحمة والمغفرة، وهو يدعو إلى ذلك كله في بساطة وقوة لا حاجة بهما إلى منسوجات أو حرائر أو عطور، ولو أن أهل سَرَواك وغيرهم من المسلمين أدركوا سر الإسلام إدراكًا عميقًا لهان عندهم ما يعرضه الغرب عليهم، ولما خضعوا لحكم الغرب ولا ذلوا لسلطانه؛ فدينهم يربأ بمن يؤمن به عن الخضوع لغير الله، ويجعل الموت في سبيل التخلص من هذا الخضوع موتًا في سبيل الله يُجْزَى صاحبه الجزاء الأوفى.

وأعجبت بحديث صاحبي «المسلماني» أيما إعجاب؛ لأنه صادف موضع العقيدة مني، فسألته عمَّا جاء به إلى الحجاز وعن رأيه في حكمة الحج، وكان جوابه على سؤالي كحديثه الأول حصافة ودقة، قال: إنما فرض الإسلام الحج ليُشهد المسلم الله على نفسه أمام ملأ إخوانه المؤمنين جميعًا أنه نبذ ما اختلط بحياته قبل الحج من ذنوب وأوزار، والله يغفر له ما صدق التوبة؛ ليولد ميلادًا روحيًّا جديدًا يكون بعده خيرًا مما كان قبله من علم وبصيرة.

وخشينا أثر الشمس فصرنا نقصد مضاربنا، ولم نبتعد إلا خطوات وإذا صاحبي يدعوني أن أدخل معه إلى خيمته؛ لنشرب فنجانًا من الشاي معًا فدخلت الخيمة معه، فألفيت بها سريرين من أسرَّة الميدان جعلهما مضجع الليل ومتكأ النهار له ولزوجه، وزوجه امرأة مسلمة من أهل سرواك، عرفها وأحبها، فلما أسلم تزوجها وجاء بها لتؤدي فريضة الحج معه، وكانت ساعة دخولنا جالسة إلى جانب من الخيمة وحولها رجال من أهل وطنها، وهي وسيمة غير بارعة، تبدو في جلستها أدنى إلى القصر منها إلى الطول، قمحية اللون، عريضة الأكتاف، ممتلئة في غير سمنة، اشتركت في الحديث بلغة أهل وطنها فبدا صوتها عريضًا عرضًا لعله يؤذن بجماله في الغناء، ولم تُناولنا أقداح الشاي على عادة الأوروبيين، بل ناولنا إياها أحد الجالسين حولها، وأعجبني هذا الحفاظ على العادات الشرقية، كما أعجبني الدقة الغربية في إحضار أسرَّة الميدان، واعتبرتها بعض العدة الواجبة للمسافر إلى الحج، والتي تغنيه عن كثير مما يضيق به ذرعًا حين لا يجد بمكة السرير الذي يستريح إليه، ولا يجد بعرفات ولا بمِنًى بديلًا منها يغني عنها، ويريح الحاج كما تريحه.

وعدنا إلى حديث طويل تكلم أثناءه صاحبي عن المسلمين، وعدم إدراكهم قوتهم العظيمة بسبب ما تخدعهم به مزاعم الغرب، فهؤلاء المسلمون يزيدون في آسيا وحدها على مائتي مليون، ولو أنهم أدركوا مبلغ قوتهم وأدركوا قيمة حياتهم الروحية وعظمتها لاستطاعوا تجديد نشاط الإنسانية، لكنهم متروكون إلى جهالاتهم ليسهل خداعهم واستغلالهم، قانعين لذلك بضعفهم وراضين عن هوانهم.

وعدت إلى قبَّتي، واستقبلت كثيرين من الأصحاب جاءوا يزورونني ويشاركونني الحديث في الحج وما يجب لنظامه، وأذن الظهر وجمع الناس بين صلاة الظهر والعصر، وقاموا يلبون حين قيل لهم: إن الخطيب قائم عند مسجد الصخيرات على بعيره يخطب الناس، لكن زحمة عرفات لم تدع لأحد أن يذهب لسماع الخطيب عند مسجد الصخيرات وفي مسجد نمرة، ثم إن مثل هذه الخطب قد صارت خطبًا تقليدية كخطب الجمعة في مساجد مصر، ألفت الآذان سماع ألفاظها ومعانيها التي أصبحت لا تتفق وروح العصر، ولا تتفق كذلك وطبيعة الإسلام الداعية دائمًا إلى التجدد في حدود ما أمر الله به وما نهى عنه.

وكان الناس يفدون طيلة النهار إلى عرفات ليؤدوا حجهم؛ فالحج عرفة، وساعة الاجتماع والخطبة هي الساعة التي يتم فيها فرض عرفة؛ لذلك اكتمل جمعهم قبيلها، فلما انتهت بدءوا يفكرون في الإفاضة إلى المزدلفة ليذكروا الله عند المشعر الحرام، ثم يؤمون مِنًى ليقيموا بها ثلاثة أيام النحر، يرمون فيها الجمرات، أو يرجمون فيها الشياطين الثلاثة على حد تعبير أهل الحجاز.

وإن الناس لفي تفكيرهم وتأهبهم، مغتبطين بصحو الجوِّ، وجمال الهواء، إذ اكفهرَّ الوجود فجأة وهبت الريح عاصفة، وثار النقع وتعالى الغبار في الجو، وخطف البرق وهزم الرعد، وبلغ من شدة ذلك كله أن نسي الناس أهبتهم وتفكيرهم واتجهوا بأبصارهم إلى مضارب الخيام يرون ما الريح صانعة بها، واقتلعت الريح بعض الخيام، فأسرع أهلها إليها يطوونها خشية أن يمزِّقها الإعصار العاصف، فأما النساء والضعفاء والأطفال فلجئوا إلى ما آنسوا فيه قوَّة المقاومة من الخيام واحتموا بها، وبلغ من هزيم الريح أن كان يسمع لها شهيق وزفير يدويان في آذان اللاجئ إلى الخيام أكثر مما يدويان في آذان الفار منها، ولقد لجأت إلى خيمتي لحظة ثم تركتها حين رأيتها تميل في مهب الريح وتهدد من فيها بالسقوط عليهم، ووقفت ومعارفي من أهل مكة وتوجهنا إلى الله أن يصرف عنا وعن الناس السوء والبأساء، مع ذلك.

ومع ما كنا وكان الناس فيه من هذه الشدة، لم تزايل القلوب غبطتها، ولا برح الأفئدة ابتهاجها، بل بقيت ابتسامة الرضا تطوِّق ثغور أصحابي وبقيت ضاحك السن أرى فيما حولي بعض ما رآه الرسول — عليه السلام — في خسوف الشمس يوم موت ابنه إبراهيم، آية من آيات الله — جل شأنه، لا يغير سنته، ويجب علينا أن نرى في هذه الآيات مظهر قوته، وأن نتوجه إليه تعالت أسماؤه بالابتهال والدعاء إكبارًا وإعظامًا وخضوعًا وإسلامًا، كذلك فعلت وفعل أصحابي، فانطلقنا نلبي ونكبِّر.

وإنَّا لكذلك إذ تفتَّحت أبواب السماء بماءٍ منهمر، هَمَى غير منذر برشاش أو مؤذن برذاذ، أين أين المفر؟! طار أحد أصحابنا إلى حيث النساء والأطفال، فألفاهم أحكموا أمرهم إذ لجئوا إلى سيارة كبيرة من سيارات «اللوري»، ونشروا فوقهم قماشًا من الخيمة التي سقطت أثناء احتمائهم بها، فوقاهم المطر والريح، أما أنا فكنت أسعد حظًّا؛ إذ آويت إلى السيارة التي جاءت بي إلى عرفات، وكانت (ليموزين) محكمة الأقفال، وأوى إليها معي من وسعته، والوابل هتون، والرياح عاصفة تضرب زجاج السيارة كأنها سياط تهوي على جسم فيشتد منها أنينه، وكان زجاج السيارة ساعة اجتمعنا بها يحجب ما وراءها لكثافة ما علق به من الغبار، أما بعد هذه السياط فقد شفَّ عما في لون الجو المكفهر القاتم من بقية الضياء.

وأقمنا زمنًا نرجو أن ينقطع المطر، بعد أن زال ما أثارته الريح من غبار ونحن في مثل ما كنا فيه من رضا النفس وضحك السن، فلما هدأ هَتْنُه ثم انقطع عاد الناس إلى خيامهم المطوية، فنشروها وضربوا منها ما يكفيهم السويعات الباقية على انحدارهم إلى المزدلفة ثم إلى منًى، ودلفت إلى خيمتي واستلقيت على بساطها، وبقيت هنيهة مستجمًّا أمد بصري تارة من خَصاص بابها إلى ضوء القمر المنبسط على الرمال، وأغمض أجفاني طورًا فأسعد بالنسيم الرقيق العذب الذي خلف العاصفة، فأنعش نفوسنا وزادنا طمأنينة ورضا، ثم عدت أفكر فيما كنا فيه وفي رضانا عنه واغتباطنا به، ولو كنا في غير هذه الحال لثار سخطنا عليه، واشتد برمنا به، ولفررنا من ثورة الطبيعة مولين الأدبار لا نعَقِّب، وابتسمت لهذه الموازنة بين حالين نفسيتين ما أبعد البون بينهما! ثم سألت نفسي: ما سبب تباينهما؟ وأيهما أدنى إلى الحكمة وإلى موجب العقل؟

وسبب تباينهما بَدَهيٌّ واضح؛ فنحن اليوم في تجرُّدنا من الحياة وزينتها وفي توجهنا إلى الله تسمو أرواحنا عن أن نأسى لشيء من أمره، والطبيعة وظاهراتها جميعًا بعض أمره، وماذا بين ثورتها وصفوها، وبين قطوبها وابتسامها؟ وما لنا لا نستمتع بثورتها وقطوبها استمتاعنا بصفوها وابتسامها، إنا لنستمتع بالليل مثلما نستمتع بالنهار، وهما نقيضان فيما يبدو لنا، وليس لنا اليوم ونحن في إحرامنا ما نخافه من ثورة الطبيعة، فلن تحول هذه الثورة دون مصلحة من مصالحنا، ونحن لا نفكر فيها، ولن يصيبنا منها أذى؛ لأن حياتنا اليوم روحية سامية فوق المادة واعتباراتها، ولو أننا سمونا أبدًا بالروح فوق المادة لما ابتأسنا لشيء، ولكنا أبدًا من الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، إنما نبتئس ونضيق ذرعًا بثورة الطبيعة حين تخضع أرواحنا لمظاهر الحياة التي تتأثر بهذه الثورة، وحين نجعل سعادتنا وشقاءنا ونعيمنا وبؤسنا رهنًا بهذه الظواهر المحيطة بنا غير مستمدة من دخيلة نفوسنا وأعماق أرواحنا، فنحن نخشى المطر؛ لأن ملابسنا تبتل منه فيفسد ابتلالها هندامنا؛ ولأننا نخاف أن يتسرب من ابتلالها إلينا ما يسوء أثره في صحتنا، ولو أن ملبسنا كان في مثل بساطة الإحرام لما خشينا على هندامنا ولا على صحتنا، ونحن نخاف الزوابع أن تحول بيننا وبين مواعيد ضربناها لقضاء مصالحنا، ولو لم نكن أسرى هذه المصالح إلى حد الخوف عليها دون الخوف من الموت لوجدنا في ثورة الطبيعة متاعًا نفسيًّا يعدل هذه المنافع أو يزيد عليها.

والحق أن الناس إنما يشقون بالحياة حين يذلون لمادتها بدل السمو بروحهم عليها، ولو أنهم عالجوا هذا السمو وأدركوه لآمنوا بالمبادئ الإنسانية العليا، وامتدت عدوى الإيمان منهم إلى غيرهم، ولسمت الإنسانية بذلك إلى مقام غير مقامها الوضيع الحاضر.

فأما موجب العقل والحكمة في الحالين فأشد من سبب تباينهما وضوحًا، ألسنا جميعًا نبتغي السعادة ونطمع في بلوغ درجاتها؟ ولا سعادة في الخضوع لغير ما توجبه الروح الفاضلة، والإيمان بالمادة خضوع، فأما الإيمان بالروح فسلطان، ولو أننا آمنا بالروح وازدرينا المادة لعَنَتْ لنا المادة وأقبلت علينا تلتمس رضانا طائعة صاغرة، فأما ما خضعنا للمادة عن إيمان بها، فنحن البائسون الأذلاء بحكمها، يقتلنا الطمع فيها ونحن نحسب جهلًا أننا نحيا به.

وأرخى الليل سدوله، وظللت في تفكيري حتى نبهني الأذان للعشاء منه، فصلَّينا وتناولنا طعامنا وأخذنا أهبتنا للإفاضة من عرفات إلى المشعر الحرام … وطال بنا الحديث والناس من حولنا يفيضون؛ فقد كان أصحابي يؤثرون مذهب مالك من أن المقام بالمزدلفة وذكر الله عند المشعر الحرام يكفي فيه مقدار حط الرحال، على أن يصل الإنسان إلى المشعر قبل أن ينتصف الليل، وتناول حديث أصحابي الحج ومناسكه وحكمة هذه المناسك، وأصحابي كما قدمت مكيُّون يحجون في كل عام، ولعلَّ أكثرهم يعتمرون في كل عام غير مرة، وهم لذلك مطمئنون إلى مغفرة الله لهم، جريئون بذلك على تناول الحديث في الأمور المقدسة ومناقشتها بحرية قد تصل بهم إلى ما يعتبره غيرهم إثمًا وتجديفًا، قال أحدهم: إنما الحج ومناسكه أمور تعبدية تغيب عنا حكمتها ولا سبيل للعقل إلى فهمها، والمسلمون يتمونها؛ لأنها فرضٌ فرضه الله عليهم، فما عرفات وما المشعر وما الجمرات إلا أماكن كغيرها جعلها الله للمسلمين مناسك لحكمة لا يعلمها إلا هو، ويجب أن نؤمن بها وإن لم نفهم شيئًا عن حقيقتها وسرها.

وقال آخر: بل الحج وسيلة تهوي بها أفئدة من الناس إلى وادينا الذي لا زرع فيه، تلك حكمة الله، وآية ذلك ما جعل على من عجز عن أدائه أيًّا من مناسك الحج من فدية الدم ليطعم الفقراء مما رزق الله الناس من بهيمة الأنعام، وقال ثالث: ليس هذا كل حكمة الحج؛ وإنما حكمته الأولى اجتماع المسلمين وتعارفهم وتعاونهم؛ ليشهدوا منافع لهم وليذكروا اسم الله، ومن يلبي دعوة التعارف والتعاون جدير بأن يغفر الله له ما تقدم من ذنبه؛ لأنه آثر أخوة المؤمنين على نفسه وطمأنينتها، فاحتمل مشقة المجيء إلى بيت الله يلقاهم عنده، وعاد الأول إلى الحديث فقال: هذه أقوال تسوِّغون بها أمر الله في الإسلام، فما مسوغه أيام كان حج البيت فرضًا قبل الإسلام، ويوم لم يكن من أديان العرب دين نزل للناس كافة؛ ليكون في المجيء إلى بيت الله من تجشم المشقة ابتغاء الاجتماع بالمسلمين ما يساوي مغفرة الذنوب؟ ولم يكن يحج البيت قبل الإسلام إلا أهل جزيرة العرب، وهم ليسوا أكثر من أهل هذا الوادي يسارًا، فلم يكن في هُوِيِّ أفئدتهم إلى بنيه ذلك الخير الذي نرتجيه اليوم ممن يحجون إلينا.

عجبت لهذا الحديث ولم آخذ في شيء منه بنصيب، وكيف أشترك فيه وإن كثيرين ليحسبونه «هرطقة» يستعيذون بالله منها ويلعنون أصحابها، وينصرفون عن السماع لهم؟ ولست أخفي أنني دهشت لتناولهم إياه، لم تنههم عنه حرمة المكان ولم يردهم عنه إحرامهم لله وتلبيتهم نداءه، وكأنما نسوا قوله تعالى: وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ، والتمست سبب جرأتهم هذه، فوجدت الجواب حاضرًا؛ إنهم يصعدون إلى عرفات كل عام، وهم يغشونه في غير أشهر الحج، فلا يرون منه إلا السطح الأجرد لسلاسل الجبال القريبة منهم بمكة، ويرون هذا السطح صفصفًا ليس يعمره إلا بعض البدو في أوبارهم، ولطول ما تردَّدوا عليه اختلطت صورته المادية بالمعنى الروحي السامي لفريضة الحج، وذلك شأنهم في إدراك المناسك بالمزدلفة وبمنًى، وإذا اختلطت الصورة المادية لموضع ما بالمعنى الروحي لأية فكرة سامية تتصل به، طغت الصورة على المعنى، إلا أن يكون المؤمن به بالغًا من الإيمان غايته، أو كان من المهذَّبين المثقَّفين الذين يستطيعون التفريق الدقيق بين مظاهر المادة الدائمة المور، المختلفة الأطوار، وبين الروح المتصل الخالد الذي لا تحدُّه المادة، ولا يعرف حدودًا للزمان ولا للمكان.

ولقد كان الكهنة الأقدمون في اليونان وفي مصر أشد الناس سخرًا من إيمان المؤمنين بالأصنام، وإن لم ينل هؤلاء الكهنة من التهذيب حظًّا يطوع لهم إقناع الناس بوحدة الله، وبأن الروح من أمره، وبأنه سامٍ فوق المادة غير محدود بحدودها، ونقص تهذيبهم وما يؤدي إليه هذا النقص من ضعف إيمانهم هو الذي كان يجعلهم يقصون على الناس ما يزعمونه معجزات الأصنام؛ ليفيدوا من أعطيات هؤلاء الناس ما ينفعهم في حياتهم المادية، ولو أن إخواني المكيين هؤلاء كانوا مع جماعة غير مثقفين لما تحدثوا حديثهم الذي قدَّمت؛ أو لنزعوا فيه — أغلب الظن — إلى ناحية أخرى، لكنهم أردوا أن يظهروا لي مبلغ حريتهم في التفكير لما يعلمونه من شدة حرصي على الحرية وإيماني بأنها السبيل إلى الإيمان الحق، ولعلهم أرادوا أن أشاركهم في حديثهم وأن أقصَّ عليهم من رأيي ما لعله ينفعهم، فلما رأوني ممسكًا عن القول مكتفيًا بالإنصات لهم، أثار أحدهم جدلًا في مناسك الحج، فقال: لم يرِد في القرآن عن الحج وفرضه غير قوله — تعالى: وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، والبيت هو الكعبة، فأين في غير سنة الرسول ما يفرض الصعود إلى عرفات والقيام بما سواه من مناسك الحج؟ ولقد ورد في القرآن من تفصيل فرائض الوضوء والصلاة والصوم ما لم يرد في مثله في الحج إلا ما جاء عن البيت والطواف به.

وأجاب أحد الحاضرين بقوله: من المأثور عن النبيِّ — عليه السلام — أنه قال: «الحج عرفة»، ولقد ورد في القرآن ذكر عرفات والإفاضة منه بعد الوقوف به، والمَشْعر الحرام وذكر الله عنده؛ فالقول: بأن فرائض الحج لم ترد في القرآن فيه تجاوز غير جائز.

وأدى هذا القول إلى التساؤل عن الجبل الذي نحن عليه ما اسمه الصحيح: أهو عرفة أم عرفات؟ فالحديث أن الحج عرفة، والقرآن يقول: فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ، ولجأ القوم في تفسير ذلك إلى قواعد البلاغة العربية في إطلاق الجمع وإرادة المفرد وإطلاق المفرد وإرادة الجمع، واطرد حديث القوم والليل ينساب إلى ناحية منتصفه، وجعلت أنوار المضارب في البطحاء تخبو شيئًا فشيئًا، ثم طويت الخيام وتحمَّل القوم مفيضين، فلما كان من منتصف الليل على ساعتين أو نحو ذلك كانت بطحاء عرفات قد خلت من الناس إلا قليلًا، وكان ضوء القمر وحده هو الذي يمدُّ على رمالها بساطه الوضَّاء، وما أجمل ضوء القمر منبسطًا على الرمال الممتدة إلى حيث لا يعرف النظر غير الأفق حدًّا! وما كان أجمله في تلك الساعة! بلغ صفو السماء وصفو الجو فيها من أثر المطر ما زاد ساهر السَّمَوات بهاءً ونورًا.

وقمنا يسعدنا النسيم الرقيق إلى سيارتنا لنفيض كما أفاض الناس، وانطلقت بنا السيارة نحو المشعر الحرام، وإن في نفسي إلى عرفات لهوًى يدعوني إلى العودة إليه والمبيت في مضاربه والوقوف به ملبيًا شاكرًا، داعيًا مستغفرًا، ذلك موقف لم أعرف مثله في حياتي كلها روعة وسموًّا بالنفس في صدق وإخلاص إلى الله — جل شأنه، ولم أعرف مثله في حياتي كلها دعوة إلى إخاء المؤمنين ليتحابوا بنور الله بينهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤