تمهيد

كان بونابرت يرمز — في نظر الأمة الفرنسية — إلى النجاح الذي وَصَلَتْ إليه ثورتها الكبرى، بمعنى تأمين النتائج التي تَمَخَّضَتْ عنها هذه الثورة، والآثار التي ترتبَتْ على قيامها في داخل البلاد، وفي علاقاتها مع الدول، وكان تَشَبُّثُ الأمة الفرنسية — وعلى وجه الخصوص «الثوريين» الذين قامت على أكتافهم الثورة — بالنظام الحكومي الذي يحفظ للطبقة المتوسطة كل الحقوق الجديدة التي حَصَلَتْ عليها، العاملَ الحاسِمَ في كل تلك التطورات التي شاهدناها من أيام اجتماع الجمعية الأهلية التأسيسية وصدور دستور الثورة الأول سنة ١٧٩١ إلى وقت «إنهاء الثورة» في انقلاب بريمير المعروف في نوفمبر سنة ١٧٩٩ الذي أَسْقَطَ حكومة الإدارة، ومَهَّدَ لقيام القنصلية.

وفي كل التطورات أو التغييرات التي حدثت، وصَدَرَت بسببها أو كأثر لها دساتيرُ الثورة المعروفة: دستور ١٧٩١، ثم دستور ١٧٩٣ (دستور السنة الثانية للثورة) ثم دستور العام الثالث (١٧٩٥) الذي قامت عليه حكومة الإدارة، وأخيرًا دستور العام الثامن (١٧٩٩) وهو دستور القنصلية؛ نقول: إن الغرض من كل هذه الأحداث كان إنشاءَ النظام الذي يكفل «بقاء» الثورة، ويَذُود عنها كلَّ خطر داخلي أو خارجي — على حد سواء — يهدد بعودة النظام القديم، وفي ركابه طبقة الأشراف الأرستقراطية القديمة وطبقة رجال الدين، وهما الطبقتان اللتان جَرَّدَتْهما الثورة من امتيازاتهما وأملاكهما لحساب البورجوازية الناشئة التي قادت البلاد إلى الثورة، وبقيت مسيطرة على مُقَدَّرَاتها، ويعني في اعتبارها «استمرارُ» الثورة دوامَ المزايا التي صارت تستمتع بها، والتي توقَّفَتْ استدامتُها على دَفْع الأخطار التي تهددت (الثورةَ) من الداخل والخارج معًا.

ولقد شاهدنا في «التطور» الدستوري الذي حصل كيف رضي «الثوريون» — من أجل احتفاظ البورجوازية بالسيطرة الجديدة التي ظفرت بها — أن يضحوا بالمبادئ الديمقراطية التي نادت بها الثورة لتأسيس نظام للحكم، يقوم على قواعد تكفل تمثيل الأمة تمثيلًا صحيحًا، وإشراك «مندوبيها أو ممثليها» في الحكم إشراكًا كاملًا صحيحًا، فضيَّقَت الدساتيرُ المتتالية حقوقَ الانتخاب، ثم جَعَلَت الانتخاب على درجات، وحَرَمَتْ منه أكثرية المواطنين، وإن شذ عن ذلك دستور ١٧٩٣، ولو أنه — كما هو معروف — لم يوضع أصلًا مَوْضِعَ التنفيذ، والحد من هيمنة الهيئة التشريعية في نظير أن يزيد مرة بعد أخرى سلطان الهيئة التنفيذية، وذلك بنسبة انكماش عدد القائمين عليها، فصاروا خمسة في حكومة الإدارة أو المديرين، ثم صاروا ثلاثة في حكومة القنصلية، لتنحصر أسبابُ السلطة في يد قنصل واحد فقط في النهاية، ورضي الثوريون الذين مهَّدوا لحكومة الفرد بهذه الصورة أن «يُنْهُوا» الثورة باعتبار أن في هذا «الإنهاء» ذاته ضمانًا «لاستمرارها»، وانعقدت آمالهم وآمال الأمة الفرنسية قاطبةً على شخْصِ القنصل الأول لتحقيق هذه الغاية الأخيرة، فكان لضمان «استمرار» الثورة أن نودي بالجنرال بونابرت قنصلًا لمدى الحياة (١٨٠٢)، وكان لهذا السبب نفسه أن نودي — الآن — بإمبراطورية نابليون الأول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤