الجدول المسحور

على مقربة من ملروز في إيقوسيا يوجد جدول ماء متغلغل تحت الأعشاب والنباتات المشتجرة الزاحفة يُدعى «بوجل بيرن» اشتهر إلى جانب جماله بأسطورة ظريفة أوحت كما أوحى إلى صاحب الديوان بهذه القصيدة:

(ملروز) جدولك النَّئُوم الحالم
ما زال من حبي عليه نسائم
الذكريات زهت به في عالمي
وهو الذي لا يزدهيه العالم
متحجب خلف النبات وتحته
لكن تنم على سناه معالم
فكأنما دعة الأنوثة روحه
تخفي فيفضحها الحنان الناعم
جالسته وكأنَّما في صحبتي
بين الجنان مراشف ومباسم
ومن النبات ستائر سحرية
ومن الأشعة والظلال مجاثم
يا طالما خاطبته بتأملي
فيجيبني ذاك الخرير الحالم
وكأنني في حلمه مستغرق
وكذاك يحلم صادح أو باغم
كل (الطبيعة) حولنا بسكينة
نسج الخشوع لها الجمال الدائم
وأنام أرتشف الخرير مدامتي
ومتى أنام ولي الخرير منادم؟
أصحو على سكري، وآبى هجره
وأخاله قوتي، وما أنا واهم
قد كنت أنفق في اصطحاب سنائه
من خير أيامي كأني غارم
فيعيدها عمرًا جديدًا ضافيًا
لهواي فهو مزود ومقاسم
وكأن محراب الطبيعة كهفه١
وكأنما أخفت سناه مناجم

•••

لم أنسَ ليلة جلستي في قربه
والبدر يسكب نوره في حبه
والصيف في أنفاسه من عطره
وحي لبلبله٢ القرير بقربه
يشدو بصوت كالضياء صفاؤه
والماء مهتز كهزة عشبه
في فرحة مثلي وفي تهليلة
للفن تنبع حرة من قلبه
ونقيق عشاق الضفادع مالك
سمعي، كأنَّ نشيدها من كسبه
حفلت جميعًا بالحياة وبالهوى
مثلي ولم تعص الهوى في شربه
نتبادل الأنخاب بالذكر التي
نهبت، وما برح الزمان بنهبه
حتى رجعنا نستعيد أحبَّها
منه ويغفر أنسنا من ذنبه
بوليمة للروح قبل مشاعر
سكرى، وكل عاشق في صحبه
متباينين موحدين، تصوفت
ألبابنا في الكون فهي بلبه
من علَّم النبت الضئيل عبادتي؟
بل عالم الحشرات من صلى به؟
لم نصطنع لغة سوى إحساسنا
بالحب، أو خمرًا سوى من سكبه
فسكتُّ كالمشدوه وهي بجانبي
في عتبها، وتصوفي في عتبه
فلثمتها وكأنَّ من لثمي لها
قربان من أنهى الصلاة لربه!

•••

قالت فتاتي: «هل سمعت الماء
متمهلًا يروي لنا الأنباء
عمن مضوا وتفيئوا أزهاره
أو بادلوه محبة ورجاء؟»
فأصخت للماء المثرثر هامسًا
يستوقف الجنيَّة الحسناء
متداولًا ذكرًا كأنَّ لنا بها
عبرًا تثير الشعر والشعراء
قال الطروب الماء: «يا حوريتي
كم ذا جنيت هنا صباح مساء
ماذا أصاب فتاك حين دعوته
ليقبل الثغر الجميل فناء؟»٣
قالت: «تشهيت الجمال بذاته»
لا أن يذال كما ترى ويساء
وحرصت أن يحيا لديَّ متوجًا
في عالم لم يعبد الفحشاء
ما ناله سحري بغير محبتي
فهو الأسير وما أراد نجاء
كان التحدي بعض إغرائي له
فهوى يقبلني فصيد جزاء
ومضى تبيعي غائبًا في عالم
بالسحر ينبض روعةً ورواء
ومنحته تفاحةً مسحورة
من ذاقها لا يستسيغ رياء
حتى إذا ما شاء زورة أهله
يومًا رأى دنيا الرياء فباء٤
وأبى الأنام وكل ما حفلوا به
ورأى الضياء حيالهم ظلماء!»

•••

قالت فتاتي وهي في سكر الهوى:
«أترى إذا قبلتني نلقى النوى؟
هل أنت تخشاها؟٥ فمالك صامتًا
متأملًا متوجسًا كمن ارعوى؟
أتظنني جنيةً حوريةً
فرأيتني خطرًا ولا خطر الهوى؟»
فضممتها ولثمتها ورضيتها
دنياي بل أخراي عن دنيا الورى
وأجبتها: «هل من نعيم يُشتهى
غير النعيم لمن أحبك وارتوى
ستجيء أعوام أعيش بحرقتي
فدعي الظنون بل ادفنيها في الثرى
ولتمنحيني الآن ما تهبينه
لمسافر لم يصطحب غير الجوى
إني أرى آتي السنين مهددًا
حظي وألمح فيه أقسى ما احتوى
فهلم نسخر من زمان حاقد
من قبل أن يسعى بنا أو بيننا
كم من غرام طاهر أودى به
كعبير هذا الزهر ضاع مع الهوا»
فبكتْ، فقهقهت المياه لشجوها
وتضاحكت أعشابها بين الحصى
وسمعت من حورية محبوسة
في طيه أنات من فقد المُنى
فعجبت من هذي المياه وسحرها
ورجعت ألثمها وأدخر الغنى
والآن من بعد الفراق وما جنى
أحنو على ذاك الزمان وما جنى!
١٩٤٢
١  كهفه: غوره.
٢  يعرف أيضًا بالعندليب وبالمهر وفي الشعر الإنكليزي قصائد رائعة في وصف شدوه وسهره.
٣  فناء: فسقط ونأى.
٤  فباء: فرجع إلي.
٥  أي النوى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤