الفصل الرابع

(منظر الفصل الأول عينه: الكهف «بالرقيم». يمليخا ومرنوش ومشلينيا مُمدَّدون على أرض المكان كالموتى أو المحتضرين .. والكلب قِطمير قابع على مقربة منهم .. سُكون عميق ..)

مشلينيا (في صوت ضعيف) : مرنوش! (مرنوش لا يجيب) يمليخا! (يمليخا لا يجيب) أحس الموت .. (لا يسمع جوابًا. يسكت لحظة) أين نحن يا مرنوش؟ نحن في الكهف .. ولم نغادر قط الكهف .. كم لبثنا يا مرنوش؟ (لا جواب) يومًا أو بعض يوم؟ (ما من مجيب) يمليخا! أين الطعام الذي ذهبت لتأتي به؟ إني جائع .. أصابني الهُزال .. سأموت .. (لا جواب) كلا .. ليس الجوع يؤلمني بل هواء المكان. أكاد أختنق، أكاد أختنق ها هنا .. إنا رقدنا كثيرًا ونمنا طويلًا. انهضا أيها البليدان! .. لقد رأيتُ أحلامًا مفزعة .. (لا يجيبه أحد فينهض ويتلمس باحثًا عن مرنوش ثم يهزه بيده) مرنوش! .. مرنوش ..
مرنوش (في صوت ضعيف جدًّا) : آه .. من؟ ..
مشلينيا : أنا مشلينيا ..
مرنوش : دع … دعني ..
مشلينيا : ما بكَ ..؟ أمريض؟ ..
مرنوش : إنه .. يقترب ..
مشلينيا : مَن ..؟ ماذا ..؟
مرنوش : المركب ..
مشلينيا : أي مركب؟!
مرنوش : الذي سيحملنا إلى .. إلى حيث يجب أن نكون ..
مشلينيا : لا .. يا مرنوش، ليس هناك مركب مقبل. بل يجب أن نذهب نحن على أقدامنا .. إننا نمنا طويلًا .. وآن لنا أن نخرج ..
مرنوش : نخرج؟!
مشلينيا : نعم .. نعم. إن المذبحة بلا شك قد انتهت ودقيانوس قد هدأ ثائره ..
مرنوش : ربَّاه ..! أهو .. بحران الموت؟!
مشلينيا : نعم. أنت في بحران لأنك تتكلم عن مركب! لعله الضعف! .. أنا كذلك أحس كأن قدميَّ لا تستطيعان حملي .. ومع ذلك ينبغي أن نخرج من هذا المكان .. فقد حلمتُ أحلامًا مزعجة ..
مرنوش : ماذا ..؟
مشلينيا : نعم يا مرنوش. لقد رأيت كأن أناسًا ذوي منظر غريب دخلوا علينا الكهف واقتادونا إلى القصر. فإذا نحن نرى هناك كل شيء قد تغيَّر. فالملك ليس بدقيانوس. وطرسوس ليست بطرسوس. يا للويل! وبريسكا .. حتى بريسكا رأيتها فلم تعرفني، وزعمَت أنها تشبهها وليست هي .. وأن الأخرى ماتت عذراء منذ ثلاثمائة عام! وأننا عشنا كذلك ثلاثمائة عام.
مرنوش (في صيحة) : آه .. أهذا حلم؟!
مشلينيا : مزعج كما ترى ..
مرنوش : أحلم هو أم حقيقة؟
مشلينيا : حقيقة؟!
مرنوش : نعم .. لقد خرجنا حقيقة ثم عدنا ..
مشلينيا : متى؟! إنك لفي بُحْران أيها المسكين!
مرنوش : بل أنتَ .. بل أنت ..
مشلينيا : كيف؟ أكان يقظةً كلُّ ما قلتَ! أعشنا ثلاثمائة عام؟! وبريسكا ليست بريسكا؟ ما هذا الخرف؟ ما هذا الخلط؟ أيستطيع عقل أن يتخيَّل كل هذا؟
مرنوش : إني رأيتُ عين ما رأيتَ .. أكنت أحلم أنا أيضًا؟
مشلينيا : ماذا حلمتَ أنتَ؟
مرنوش : أنهم دخلوا علينا كما قلت وأن البلد غير البلد وأن أهلي .. آه .. يا للويل! .. أن مكان بيتي سوق للسلاح، وأن ولدي مات في سن الستين منذ ثلاثمائة عام وقد شاهدت قبره المتهدم بعينَي رأسي!
مشلينيا : مات في سن الستين! ابنك الصغير! وأنتَ لم تبلغ بعد الأربعين! أليس هذا خلط حلم؟!
مرنوش : نعم .. لا .. ربَّاه أحلم هذا حقًّا أم يقظة؟!
مشلينيا : بل حلم أيها المسكين.
مرنوش : إذن ولدي لم يزل حيًّا .. كما تركته؟
مشلينيا : نعم .. وبريسكا لم تزل خطيبتي، وستُلقي بنفسها في أحضاني إذ تراني؟
مرنوش : إنهما في قيد الحياة .. لست أصدق .. بل ولِمَ لا؟ إنا لم نغادر الكهف. فكيف تمر ثلاثمائة عام في لحظة، ولكن لا .. بل نعم .. ربَّاه .. الرحمة! .. لقد فقدت التمييز ..
مشلينيا : ثق أنه حلم.
مرنوش : فلنسل يمليخا .. يا يمليخا! (يمليخا لا يجيب) أيقِظ يمليخا!
مشلينيا (يهز يمليخا) : قُمْ .. أيها الراعي! .. (يمليخا يتحرَّك ويئن) استيقظ! ..
يمليخا (في صوت ضعيف) : أين .. أنا؟
مشلينيا : في الكهف.
يمليخا : ألم أمت بعد؟
مرنوش : يمليخا ..!
يمليخا : من .. يُناديني ..!
مرنوش : يمليخا ..! أحلم هو أم حقيقة؟
مشلينيا : أجب يا يمليخا! أخرجنا حقًّا من هذا المكان؟!
يمليخا : ماذا .. أسمع؟
مشلينيا : ها نحن أولاء الثلاثة .. وقِطمير رابض معنا .. وقد كنا نائمين ..
يمليخا : يا للمسيح! .. أكان حلمًا ..؟
مشلينيا : أأنت أيضًا رأيت؟ حدِّثنا بما رأيت.
يمليخا : ربَّاه!
مرنوش : تكلم يا يمليخا!
يمليخا : ألم يدخلوا علينا إذن حقيقة ويقتادونا إلى القصر؟
مرنوش : أنت أيضًا رأيت ذلك؟!
يمليخا : وأعجب منه .. وأشد هولًا! طرسوس ليست بطرسوس بل عالم آخر وجيل آخر لم أستطع الحياة فيه .. لا أنا ولا قِطمير كلبي ..
مشلينيا : عجبًا!
مرنوش : مشلينيا! أوَيُمكن أن نحلم جميعًا حلمًا واحدًا متشابهًا؟!
يمليخا : أكان هذا حلمًا؟ مرنوش! مشلينيا! أما خرجنا حقيقة من الكهف! وهذا الرعب الذي رأيت في المدينة أَحَدَث كل هذا في رأسي وأنا نائم هنا؟!
مرنوش : مشلينيا! أيرى ثلاثتنا حلمًا واحدًا؟
مشلينيا : وما يمنع؟ نحن في مكان واحد وفي حال واحدة تتسلط علينا أفكار واحدة.
يمليخا (في فرح) : إذن كان حلمًا! وإذا خرجنا الآن وجدنا عالمنا الذي نستطيع أن نعيش فيه.
مرنوش : وافرحتاه ولدي حي ينتظر هدايا ولعبًا؟!
مشلينيا : وبريسكا .. يا للهول! إني أرتعد مِمَّا رأيت في الحلم! إنها انقلبت حفيدة من حُفدائي، وإذا يدي لا تستطيع أن تمتد إلى جسدها. ويلاه ..! الجسد .. الجسد .. أذكر هذه الكلمة، إنها هي التي فاهت بها في ذعر، وفهمتُ عندئذٍ أن شيئًا يفصل أحدنا عن الآخر فهربتُ يائسًا إلى الكهف لأموت جوعًا ..
مرنوش : نعم .. نحن كذلك هربنا إلى الكهف لنموت جوعًا ..
يمليخا : يا للمسيح! نعم .. نعم ..
مشلينيا : لعل كل هذا من بحران الجوع. لقد نمنا منذ لجأنا إلى الكهف فرارًا من دقيانوس .. فلم نذق من ذلك الحين شيئًا ..
مرنوش : بحران الجوع! أذكر أنا بعثنا يمليخا إلى المدينة ليشتري لنا طعامًا ..
يمليخا : نعم .. نعم ..
مشلينيا : كان هذا أيضًا من البحران.
يمليخا : لقد خرجت فصادفت فارسًا صيَّادًا ذا هيئة غريبة! ربَّاه .. نعم هو بحران!
مرنوش : حلم .. بحران .. حقيقة؟ يا إلهي! لم أعد أستطيع التمييز ..
مشلينيا : نعم. هو حلم كالحقيقة.
يمليخا : وواضح جلي .. كأنه حقيقة ..
مرنوش : مشلينيا ..! مشلينيا. كيف عرفتَ أنه حلم؟!
مشلينيا : إن لم يكن ما رأينا حلمًا .. فنحن الآن في حلم ..
مرنوش : ولِمَ لا نكون الآن في حلم؟
يمليخا : نعم .. نعم يا رب! ما الحد الفاصل بين الحلم والحقيقة؟ لقد اختبل عقلي. رُحماك أيها المسيح!
مشلينيا : أتريدان القول إنا عشنا ثلاثمائة عام في الحقيقة؟! ..
مرنوش (ويمليخا معًا) : ثلاثمائة عام! ..
مشلينيا : الحلم وحده هو الذي يستطيع فيه الإنسان أن يعيش مئات الأعوام دون أن يشعر بمرها ..
مرنوش : صدقت يا مشلينيا ..
مشلينيا : أحمد الله أنه حلم .. وإلا كنت فقدت بريسكا إلى الأبد ..
مرنوش : نعم .. وا فرحتاه! .. وأنا .. كذلك ..
يمليخا : وأنا أيضًا .. إذن غنمي لم تزل ترعى الكلأ في موضعها؟
مشلينيا (بعد لحظة .. في صوت المُتأمِّل المفتون) : ومع ذلك يا مرنوش ..
مرنوش : ماذا .. ماذا؟
مشلينيا : مع ذلك .. شدَّ ما كان حلمًا لذيذًا ..!
مرنوش : لذيذًا؟ ماذا تقول؟
مشلينيا : لم أر بريسكا قط على مثل ذلك الجمال والذكاء الذي رأيتُ في الحلم! لقد كان بيدها كتاب وكان حديثُها حديثَ فَطِنٍ هذَّبته القراءات. هذا عجيب! إن بريسكا الساذجة البسيطة التي كُنتُ أقرأ لها خفية الكتاب المُقدَّس وهي لا تكاد تفهم عنه .. قد قَلَبَها الحلم أمام عيني امرأة ذكية الفؤاد عالية الفكر .. ما أجملها! نعم ما أجملها! مرنوش .. مرنوش ..
مرنوش : ماذا بكَ؟
مشلينيا : مرنوش! أخشى أن أقول إني .. أحببت بريسكا التي في الحلم ..
مرنوش : ما هذا الهذيان؟ ..
مشلينيا (متنهدًا في لذة) : كم يُجمِّل الحلم الأشياء والأشخاص!
مرنوش : وكم يشوهها ويبشعها أيضًا!
مشلينيا : نعم .. نعم .. إنها كذلك كانت في الحلم كالغريبة عني لا تصلها بي صلة .. ثم فكرة الشبه .. وفكرة الحفيدة .. تلك كلها من فنون الحلم التي يبشع بها الحقيقة. نعم يا مرنوش .. إن الحلم أحيانًا كالفن لا ينقل الحقيقة كما هي بل يسبغ عليها من عبقريته جمالًا لم يكن أو بشاعة لم تكن!
مرنوش : صدقت .. ويرفع الأشخاص والأشياء .. لقد رأيت كأنهم يدعونني بالقديس!
مشلينيا : عجبًا! وأنا كذلك ..
مرنوش : إني أُفضِّل الحقيقة على خفضها وضآلتها ..
مشلينيا : وأنا أيضًا .. ولكن .. وا أسفاه! لو أنها كانت في الحقيقة على هذا الجمال والذكاء .. ما أجملها! لو رأيتها يا مرنوش! ما أجملها وهي تتكلم .. لقد كانت في ثوب غريب لكنه جميل .. ولقد ارتديت أنا كذلك ثوبًا غريبًا جميلًا ..
يمليخا (يئن متوجعًا) : آه ..
مرنوش : لمن هذا الأنين؟ يمليخا ..!
مشلينيا : أمريض أنت يا يمليخا؟ ..
يمليخا (في صوت كالحشرجة) : كلا .. بل …
مشلينيا : إنه الجوع .. إني أحس ضعفًا هائلًا .. لماذا لا نبعث أحدًا يشتري لنا طعامًا؟
مرنوش : نعم .. نعم .. ويستطلع لنا الخبر .. اذهب يا يمليخا ..
يمليخا : آه .. يا للمسيح! .. الرحمة ..
مرنوش : ما بكَ .. يا يمليخا! ..

(يمليخا يلفظ آهة.)

مشلينيا : كلنا ضعيف مثلك .. قم .. انهض .. واذهب وَاطْعَمْ مِمَّا تشتريه كي تسترد قوتك ..
مرنوش : نعم .. قم يا يمليخا .. انهض!
يمليخا (يُحاول النهوض) : آه .. سأنهض .. سأ … آه .. (يقع على الأرض محشرجًا).
مشلينيا : يمليخا! يمليخا ..
مرنوش (في ارتياع) : سمعت صوت سقوط جسم ..
مشلينيا (في صوت خافت مرتاع) : لمن هذه الحشرجة؟ يمليخا!
يمليخا : إني .. أموت.

(مشلينيا ومرنوش في سكون رهيب.)

يمليخا (بعد لحظة) : الوداع! .. أُشهِد اللهَ والمسيحَ .. أني أموت ولا أعرف .. هل كانت حياتي .. حلمًا ..؟ أم .. حقيقة ..؟

(صمت.)

مرنوش (بعد لحظة) : يمليخا ..
مشلينيا (بعد لحظة) : يمليخا ..

(سكون ولا من مجيب.)

مرنوش : مات ..
مشلينيا (بصوت خافت جزع) : نعم ..
مرنوش (بعد لحظة صمت) : مشلينيا .. أسدل على وجهه غطاءً!
مشلينيا : أي غطاء؟ ..
مرنوش : خذ جزءًا من ثيابي .. إني أكاد أختنق فيها ..
مشلينيا (في صوت مُتغيِّر) : أنا أيضًا .. أختنق ..
مرنوش (صائحًا وقد لمس ثيابه) : مشلينيا .. مشلينيا ..!
مشلينيا : ماذا؟
مرنوش : مشلينيا ..! ثيابي!
مشلينيا : ما بك يا مرنوش؟
مرنوش : ربَّاه. مشلينيا ..! افحص ثيابك!
مشلينيا (بعد لحظة، في رعب) : مرنوش! نعم .. نعم .. أدركت .. أدركت يا للهول! أممكن هذا؟
مرنوش : إنها ثياب الحلم يا مشلينيا ..
مشلينيا : أجل يا مرنوش ..
مرنوش : ما معنى هذا؟
مشلينيا : لست أدري. ربَّاه .. إني خائف!
مرنوش : الآن .. لم يبقَ شك ..
مشلينيا (في خوف) : فيم يا مرنوش ..؟
مرنوش : في أنها كانت يَقَظَة .. (مشلينيا لا يحير جوابًا) كانت حقيقة .. (مشلينيا لا يحير جوابًا) ماذا دهاك؟
مشلينيا : حقيقة؟!
مرنوش : عذِّب نفسك أيها المسكين! أمَّا أنا فلا يهولني أن أعلم هذا. إني إنما رجعت لأموت لأن قلبي كان قد مات. إنك أنت الذي أوهمنا أنه حلم، لقد أمكنك أن تخدع منا العقل؛ ولكن القلب لم يُخدَع؛ لأن قلبي كان قد مات ..
مشلينيا (يئن) : مرنوش! ..
مرنوش : اعترف أيها البائس أنك ما كنت رجعت إلا لتموت!
مشلينيا : نعم يا مرنوش!
مرنوش : إذن ما الذي أوحى إليك بهذا السراب؟!
مشلينيا : أقر بأن قلبي لم يكن قد مات ..
مرنوش : نعم .. القلب .. نافورة الأحلام والآمال! ماذا كنت تُؤمَّل بعد أيها الشبح؟
مشلينيا : لا شيء. لم أكن أؤمل في شيء .. لقد رجعت وأنا فاقد الأمل في الحياة، ولكن .. الآن أحس أني أحب يا مرنوش. أحب بكل ما يستطيعه قلب ..
مرنوش : تُحب؟!
مشلينيا : سيان عندي أن تكون هي أو لا تكون. أحب هذه المرأة ذات الكتاب التي رأيتها .. في اليقظة!
مرنوش : أنت جننت يا مشلينيا ..
مشلينيا : لم أجن. إني فتى ولي قلبٌ فتِيٌّ. قلب حي. كيف تُريد أن أدفن قلبي؟ كيف أدفن نفسي حيًّا، ومن أُحب على قيد الحياة، لا يفصلني عنها فاصل؟! ..
مرنوش : بل يفصلك عنها فاصل.
مشلينيا : الزمن؟
مرنوش (في صوت خطير هائل) : نعم ..
مشلينيا (في يأس) : آه .. يا مرنوش! الرحمة .. أُريد أن أعيش .. ارحمني يا مرنوش! أريد أن أعيش!
مرنوش : سوف تعيش ..
مشلينيا (في فرح) : أصحيح يا مرنوش؟ أأستطيع أن أعيش!
مرنوش : نعم .. بين جلدتَي كتاب!
مشلينيا (يائسًا) : آه ..
مرنوش : لا فائدة من نزال الزمن. لقد أرادت مصر من قبل محاربة الزمن بالشباب .. فلم يكن في مصر تمثال واحد يُمثِّل الهِرَم والشيخوخة، كما قال لي يومًا قائد جند عاد من مصر، كل صورة فيها هي للشباب من آلهة ورجال وحيوان .. كل شيء شاب .. ولكن الزمن قتل مصر وهي شابة وما تزال ولن تزال .. ولن يزال الزمن يُنزل بها الموت كلما شاء، وكلما كُتب عليها أن تموت .. (مشلينيا لا يجيب) مشلينيا! (مشلينيا لا يجيب ويتكلم مرنوش بعد لحظة في صوت ضعيف) مشلينيا! إن الكلام قد أنهك ما بقي من قواي. أحس البرودة تسري في جسدي .. قد نسينا أنا في طريق الموت منذ أسابيع! (مشلينيا لا يجيب، مرنوش في صوت خائر) مشلينيا لماذا لا تجيبني؟
مشلينيا : ماذا تُريد مني؟
مرنوش (ضعيف الصوت) : أصغ إليَّ .. لا تحاول المستحيل.
مشلينيا : لست أحاول شيئًا.
مرنوش (متخاذل الصوت) : افهم أنك رجل ميت.
مشلينيا : أفهم ..

(صمت عميق.)

مرنوش (في شبه أنين) : ﻣﺸﻠ .. ﻴﻨﻴﺎ .. (مشلينيا لا يجيب) سأذهب .. يا .. مشلينيا ..
مشلينيا (كأنما يُخاطب نفسه) : الزمن! ما هو الزمن؟!
مرنوش (يحتضر) : مشلينيا .. ضع .. يدي اليسرى في يد يمليخا .. (مشلينيا واجم) مات المسكين .. ولم .. يعرف الحقيقة .. ومع ذلك .. هل عرفناها .. نحن؟
مشلينيا : ماذا تعني .. يا مرنوش؟
مرنوش : أحلام .. نحن أحلام الزمن ..
مشلينيا : الزمن يا مرنوش؟
مرنوش : نعم .. الزمن يحلمنا ..
مشلينيا : كي يمحونا بعد ذلك؟!
مرنوش : إلا من استحق الذكر فيبقى في ذاكرته ..
مشلينيا : التاريخ؟!
مرنوش : نعم.
مشلينيا (في قلق) : أهذا هو كل ما نرتجيه بعد الموت؟ أهذا كل تلك الحياة الأخرى ..؟!
مرنوش : نعم.
مشلينيا (في قلق) : مرنوش؟ أنت إذن لا تُؤمن بالبعث؟!
مرنوش : أحمق! أوَلم نر بأعيننا إفلاس البعث؟!
مشلينيا : أستغفر الله! أنت الذي عاش مسيحيًّا تموت الآن كوثني؟!
مرنوش (في صوت خافت) : نعم .. أموت الآن ..
مشلينيا : مجردًا عن الإيمان ..
مرنوش : مجرَّدًا .. عن كل شيء .. عاريًا كما ظهرت .. لا أفكار ولا عواطف .. ولا عقائد ..
مشلينيا : رحمة لك أيها التَّعِس!
مرنوش (مشلينيا ينظر إليه ولا يجيب) : وقتما تلحق بي .. ضع يدك .. في يدي اليمنى ..
مشلينيا : حاشا أن أضع يدي في يد وثني.!
مرنوش : إذن .. (مشلينيا ينظر إليه صامتًا وهو يموت) .. الوداع! (حشرجة ثم صمت).
مشلينيا (بعد لحظة) : مرنوش! .. (مرنوش لا يجيب) مرنوش! صديقي! أخي! .. (لا يسمع جوابًا) مات .. مرنوش! (ينظر إلى السماء) اللهم ارحمه رحمة واسعة! إنه قانط فقد قلبه ولا يعي ما يقول! (صمت عميق) لم يبق سواي وكلب الراعي! ذهب يمليخا ولم يذكر كلبه .. (يُنادي) قِطمير ..! قِطمير ..! (لا يجيبه سوى الصدى) لعله مات كذلك وهو رابض فلم ينتبه إليه أحد! ولم يستطع المسكين مقاومة الجوع (لحظة صمت) هو أيضًا عاش حياته وذهب كأنه ظِل كلب مر فوق حائط! (لحظة) ما الفرق بين قِطمير وظِله؟! (لحظة تأمُّل) رباه! أخشى أن يكون مرنوش قد أصاب.! (لحظة تأمُّل أخرى) كلا. كلَّا .. لقد فقد مرنوش البصيرة .. إنا لسنا حلمًا .. لا .. بل الزمن هو الحلم .. أمَّا نحن فحقيقة .. هو الظل الزائل ونحن الباقون .. بل هو حلمنا. نحن نحلم الزمن. هو وليد خيالنا وقريحتنا ولا وجود له بدوننا. إن تلك القوة المُركَّبة فينا، وهي العقل، منظم جسمنا المادي المحدود .. آلة المقاييس والأبعاد المحدودة .. هو الذي اخترع مقياس الزمن. ولكن فينا قوة أخرى تستطيع هدم كل ذلك أوَلم نعش ثلاثمائة عام في ليلة واحدة فحطَّمنا بذلك الحدود والمقاييس والأبعاد؟ نعم ها نحن أولاء استطعنا أن نمحو الزمن .. نعم تغلبنا عليه .. (لحظة) لكن .. وا أسفاه! بريسكا ما يحول بيني وبينها إذن؟ الزمن؟ نعم محوناه، ولكن ها هو ذا يمحونا .. الزمن ينتقم. إنه يطردنا الآن كأشباح مخيفة ويُعلن أنه لا يعرفنا ويحكم علينا بالنفي بعيدًا عن مملكته .. ربي! هذه المبارزة الهائلة بيننا وبين الزمن أتراها انتهت بالنصر له؟! (بعد لحظة منهوكًا) آه .. لقد تعبت .. تعبت من الكلام ومن التفكير .. ومن الحياة. بل من .. الحلم .. هذه ليست الحياة. بل هي حلم مُشوَّش مضطرب .. إلى الحقيقة إذن .. الصافية! الجميلة! نعم إن الحقيقة لا يُمكن أن تكون بهذا الاضطراب ولا يمكن كذلك ألا تكون هناك حقيقة .. (لحظة) أُشهِد الله .. أني أموت مؤمنًا! أُشهِد المسيح أني أومن بالبعث! لأن لي .. قلبًا يُحب. (صمت، تظهر بعد لحظة بريسكا يتبعها غالياس).
بريسكا (تقف جامدة في رهبة) : يُخيَّل إليَّ أني سمعت صوتًا هنا ..
غالياس : مستحيل يا مولاتي! إنهم جثث هامدة كما ترين .. ولقد مضى نحو شهر وهم محبوسون بلا طعام.
بريسكا : صوت كالحشرجة يتكلم ..
غالياس : لعله صدى دخولنا الكهف ..
بريسكا : غالياس! .. أأنت مستعد لتنفيذ ما قلت لك؟
غالياس : مولاتي! أتوسَّل إليكِ أن تتفكري ..
بريسكا : شبعت من توسلاتك شهرًا يا غالياس. أريد أن أعرف الآن وقد جاء يوم العمل أمستعد أنت أم لا؟
غالياس : إني دائمًا مستعد لتقديم حياتي القصيرة لكِ يا مولاتي ..
بريسكا : ألم يرني أحد وأنا آتية هنا؟
غالياس : كلا يا مولاتي .. لكن …
بريسكا : ماذا؟
غالياس : الملك .. إنه يتأهَّب الساعة للخروج في الموكب وقد يسأل عنكِ في القصر لتخرجي معه .. إن هذا مهرجان ديني عام وأنتِ صاحبة الفكرة في إقامته؟
بريسكا : بل الشعب يُمجِّد قديسيه.
غالياس : مولاتي! .. ألستِ أنتِ الموحية إلى الملك ببناء معبد عليهم؟
بريسكا : وبعد؟
غالياس : قد يطلبكِ الملك إلى جانبه اليوم إذ يحتفون بسد باب الكهف ووضع الأساس؟
بريسكا : لقد دبَّرت الأمر .. واعتذرت بالمرض. (صمت عميق يُسمع فيه صوت حشرجة) (بريسكا في رهبة) غالياس! أسمعت؟ ..
غالياس : ماذا .. يا مولاتي؟
بريسكا : إلهي؟ أهنا .. ما زالت حياة .. (تتردَّد ثم تتقدَّم خطوة).
غالياس : إلى أين يا مولاتي! لا تذهبي ..
بريسكا : دعني .. دعني .. مشلينيا .. (تندفع باحثة عنه بين الجثث.)
مشلينيا (في صوت خافت) : بريسكا ..
بريسكا (في فرح جنوني) : تلفظ اسمي! أأنت حي؟! أأنت حي بعد؟ مشلينيا .. مشلينيا .. لا تمت، غالياس أسرع .. قليلًا من الماء .. قليلًا من اللبن .. من الطعام .. أسرع .. أتوسَّل إليك. أتوسَّل إليك ..

(غالياس يخرج مسرعًا.)

مشلينيا (في بطء وجهد) : لا .. نفع ..
بريسكا : بل عش .. عش لي. لا تمت. إني أحبك.
مشلينيا : الز .. من ..
بريسكا : الزمن؟ لا شيء يفصلني عنك إن القلب أقوى من الزمن!
مشلينيا : أحلمٌ .. آخر .. سعيد ..؟
بريسكا : بل حقيقة .. حقيقة خالدة يا مشلينيا .. أنا بريسكا. وليس يهمني بعد أن أكون إيَّاها أو لا أكون بل من يدري لعلي هي! إن الشبه بيننا ليس مصادفة، ومقابلتنا ليست مصادفة كذلك .. مقابلتنا في هذا الجيل! إنك بُعِثتَ لي وبُعِثتُ أنا لك .. بعثًا من نوع آخر .. قم .. وَاحْيَ .. وعش ..
مشلينيا : يا للسعا .. دة ..!
بريسكا : تجلَّد يا مشلينيا تجلَّد ..
مشلينيا (يُجاهد) : نعم .. لست أريد .. لست أريد الموت .. ربَّاه! أنقذني .. ها هي ذي السعادة .. ها .. قد قهرنا .. الزمن .. القلب قهر .. (تخونه قواه ..)
بريسكا (وهي ترفع رأسه بين ذراعيها) : نعم .. نعم القلب قهر الزمن. انهض يا مشلينيا، إني منذ حادثتك أول مرة كأني أُحبك منذ ثلاثمائة عام، وسوف أُحبك إلى ألوف الأعوام .. قم بالله .. تجلد .. تجلد .. تجلد!
مشلينيا : وا .. أسفاه ..
بريسكا (تحنو على وجهه وتنظر إليه) : فات الأوان؟ تُريد أن تبكي ولا تستطيع؟ لا بأس! فلتهدأ نفسًا! .. لم ينتهِ بعد كل شيء ..
مشلينيا : بر .. يسكا ..
بريسكا : نعم يا مشلينيا العزيز .. لن ينتهي كل شيء.
مشلينيا : إلى .. الملتقى ..
بريسكا : نعم إلى الملتقى ..

(تضع رأسه على الأرض في رفق وتطرق باكية في صمت.)

غالياس (يدخل مسرعًا حاملًا وعاءً) : ها هو ذا وعاء من اللبن سرقته من أحد البنائين خارج الكهف! (بريسكا لا تجيب) مولاتي؟ (بريسكا لا تتحرَّك ويلتفت المُؤدِّب إلى الجثة) ربَّاه! فات الوقت!
بريسكا (في صوت باكٍ لا يكاد يُسمَع) : نعم ..
غالياس (ينظر إليهما في صمت لا يجرؤ على الكلام وأخيرًا) : مولاتي! أتبكين؟ (بريسكا لا تجيب) إنكِ جئتِ يا مولاتي على أنه ميِّت منذ أسابيع ..
بريسكا : ليتني وجدته كذلك ..
غالياس : قُضِي الأمر! ماذا يُجدي إذن الآن الحزن والبكاء؟!
بريسكا : لست أبكي لنفسي يا غالياس .. أنتَ تعلم أني لم أشأ المجيء إليه وهو على قيد الحياة، وانتظرت عن قصد طول هذا الشهر .. ألم أقل لك مُحال أن يجمعنا الحب في هذا العالم أو على الأقل في هذا الجيل؟
غالياس : إذن لِمَ تبكين يا مولاتي؟
بريسكا : آه .. يا غالياس! لو أنك تحس وتفهم .. يا للقسوة! إني أبكي تلك السعادة التي لمعت كالبرق لحظة ثم انطفأت .. وهذا المشهد المؤلم الساعة .. مشلينيا يُجالد الموت ويتمسَّك بالحياة ويتشبَّث بها .. وفاضت روحه في اللحظة التي ظفر فيها بالسعادة، ولفظ النفس الأخير وهو يأمل في الملتقى. نعم إلى الملتقى يا حبيبي مشلينيا! هنا محال .. لكن في جيل آخر حيث لا فاصل بيننا.
غالياس : في جيل آخر؟!
بريسكا : نعم .. أو في عالم آخر ..
غالياس : صدقتِ .. صدقتِ يا مولاتي. إني أعجب بإيمانكِ هذا ..
بريسكا : إيَّاكَ وأن تشك يا غالياس ..
غالياس : حاشا .. يا مولاتي! إني مؤمن .. مؤمن .. غير أن …
بريسكا : ماذا؟
غالياس : غير أن إيمانكِ يبهرني. إنكِ تتكلمين كالواثقة بحقيقة ما تقولين. بل كمن رأتْ وعاشتْ مرة في ذلك العالم الآخر! لا يا مولاتي .. إيمانكِ من نوع فوق طاقتي .. وفوق طاقة البشر فهمه .. ولعل صلتك بالقديس والقديسين …
بريسكا : كلا، ليس هذا بالسبب أيها الأحمق.
غالياس : نعم .. أعرف ما تُريدين .. ولكن …
بريسكا : ولكنك لا تفهم ولا تحس ولا تصدق.
غالياس : أصدق يا مولاتي .. أصدق .. لكن ربما لا أفهم ولا أحس ..
بريسكا : وما النفع أيها المسكين؟
غالياس : مولاتي! ما هو الحب الذي يفعل هذه الأعاجيب ويُحلِّق فوق الأجيال كما تُحلِّق ..
بريسكا : كما تُحلِّق الفراشة فوق الأزهار ..
غالياس : نعم .. نعم .. ما هو؟!
بريسكا : هو .. هو .. أيها الشيخ الفاني .. ماذا أقول لك؟ وكيف أخبرك به؟
غالياس : يُخيَّل إليَّ أني قرأت شيئًا عنه يا مولاتي ..
بريسكا : لو كنتَ قرأت على الأقل قصة أوراشيما كما قرأتُها أنا منذ قليل ..
غالياس : قصة أوراشيما؟ وماذا فيها غير ما أعرف؟
بريسكا : إنك لا تعرف شيئًا. ألا تذكر أني سألتك أين كان أوراشيما مدى القرون الأربعة، فلم تجب؟ آه .. لو أنك قصصت عليَّ ذلك .. (لحظة ثم تقول كأنها ترى أمامها ما تقص) هناك .. على ساحل يوشا يمتد البحر؛ بحر أزرق ساكن في يوم صيف .. وقد خرج الفتى الصيَّاد أوراشيما بقاربه ورمى بشباكه وانتظر .. انتظر أكثر النهار فلم يظفر بصيد .. وعند الأصيل، وقد حان وقت العودة .. عودة حزينة ولا ريب .. غير موفقة. إني أراها .. أرى كل ذلك الآن بخيالي .. نظر أوراشيما فألفى سلحفاة بحرية قد وقعت في الشرك، ففرح بها أي فرح .. ولكنه ذكر أن السلحفاة مُقدَّسة عند ملك البحر، وأن عمرها ألف عام، ويقولون عشرة آلاف، وأن قتلها لهذا حرام، فخلصها الفتى في رفق وأعادها إلى الماء بعد أن تلا صلاة رقيقة حارة للآلهة. ولم يُصِب شيئًا بعدها، واشتد الحر وعمَّ الصمتُ والسكونُ البحرَ والهواءَ وكلَّ شيء، فأخذت أوراشيما سِنَةٌ من النوم؛ فاضطجع تاركًا القارب يسير الهوينى إلى غير قصد .. عند ذاك صعدت من البحر، كما يصعد الحلم، غادة جميلة ذات شعر أسود طويل يتدلى فوق أكتافها البيضاء، وأخذت تقترب منزلقة على سطح الماء في لطف النسيم حتى وقفت على رأس الفتى الناعس .. فانحنت عليه، وأيقظته بلمسة خفيفة، ثم قالت له «لا تفزع! إن أبي ملك البحر أرسلني إليك أشكرك على طيب قلبك إذ أنت الآن أعدت الحياة إلى سلحفاة. والآن تعالَ معي إلى قصر أبي في الجزيرة التي لا يموت الصيف فيها أبدًا. وإذا شئت فإني أصير زوجتك ونعيش سعيدين طول الخلود …». عجب أوراشيما مِمَّا سمع وبهره جمال بنت ملك البحر فأسلم نفسه لها، فتناولت أحد المجذافين وتناول هو الآخر وجعلا يسيران في صمت، متجهين بالقارب جهة الجنوب حيث تلك الجزيرة التي لا يموت الصيف فيها أبدًا .. وبلغاها أخيرًا. فأبصر الفتى فيها ما لم ترَ عين، من قصور مرصعة بجواهر البحر النادرة وكنوزه الباهرة ومن جمال عجيب يكتنفه في كل مكان .. وأقيمت له مآدب وتلقَّى تحفًا غريبة وهدايا ثمينة من أهل مملكة البحر .. ثم أصبحت بنت ملك البحر زوجة له بعد أفراح دامت عامًا .. وغمرت أوراشيما سعادة لم يَصحُ منها إلا بعد ثلاثة أعوام .. عندئذٍ تذكَّر أهله الذين تركهم في بلدة يوشا منذ خرج للصيد .. فتوسَّل إلى امرأته أن تدعه يذهب يومًا واحدًا إلى وطنه يرى أهله ويعود إليها فلا يُفارقها بعدئذٍ إلى الأبد .. فبكت امرأته في صمت ثم قالت له «ما دمت تريد الذهاب فافعل .. ولكنِّي أخشى ذهابك كثيرًا لأني أخاف أن لا يرى أحدنا الآخر بعد الآن .. ولكنِّي سأُعطيك علبة صغيرة قد تعينك على العودة إليَّ إذا فعلت ما أوصيك به لا تفتحها .. لا تفتحها مطلقًا .. مطلقًا .. مهما يحدث من أمر لأنك إن فتحتها فلن تستطيع رؤيتي أبدًا.» فوعدها أوراشيما خيرًا وودَّعها ثم ابتعد عنها .. وقد جعلت تتلاشى خلفه كالحلم تلك الجزيرة التي لا يموت الصيف فيها أبدًا .. ووصل إلى بلده، فإذا هو يرى عجبًا كل شيء قد تغيَّر! وعبثًا حاول الاهتداء إلى بيت أهله، وعبثًا حاول تعرُّف وجه واحد من تلك الوجوه الغريبة التي صادفها في الطريق تنظر إليه نظرات الدهشة والعجب .. ومرَّ بشيخ مسن فسأله أوراشيما عن أسرته فبَغِتَ الشيخ وبُهِتَ لحظة ثم صاح به «مِن أين أتيت أيها الفتى حتى تجهل أسطورة أوراشيما؟! إن أوراشيما خرج للصيد منذ أربعمائة عام فلم يرجع، وإذا زرت المقابر وجدت تذكارًا له من الحجر قد أكلته السنون!» عند ذاك اختلط على أوراشيما الأمر وظن أنه يرى حلمًا أو سرابًا أو سحرًا .. وطفق يُسائل نفسه «ما معنى هذا»؟ وذكر العلبة الصغيرة التي معه وخطر له أن فيها ما قد يكشف له هذا السر الغامض .. سر الزمن .. سر رؤيته أربعمائة عام ثلاثة أعوام .. لكنه تذكَّر قول زوجه بنت ملك البحر ووعده لها، فأحجم قليلًا. غير أن الشك عاد يُعذِّبه وراح يذهب به كل مذهب حتى كاد يضل ويختبل. أترى في العلبة سحرًا؟ أتراه مسحورًا. أم هو إنسان فقد عقله؟ وما هو هذا السحر الذي في العلبة؟ ما هيئته وما تركيبه؟ وتناسي الوعد للأسف وفتح العلبة ..
غالياس : ماذا وجد ..؟
بريسكا : لا شيء. لم يجد بها سوى دخان أبيض بارد تصاعد في بطء حتى ارتفع في الجو كغمامة الصيف ثم اتجه نحو الجنوب فوق سطح البحر الصامت.
غالياس : هذا كل شيء؟!
بريسكا : هذا كل شيء. وعندئذٍ أدرك أوراشيما أنه محا سعادته بيده. وأنه لن يستطيع إلى الأبد أن يعود إلى حبيبته بنت ملك البحر ..
غالياس : وبعد؟
بريسكا : وبعد .. أحسَّ لساعته أنه يتغيَّر هو نفسه .. فإذا دمه يجري باردًا وإذا أسنانه تتساقط وإذا شعره يصير كالثلج بياضًا وأعضاؤه ترتعد وجسده يتقلص وقوته تتلاشى .. وإذا هو في لحظة يعود شيخًا هَرِمًا يرزح تحت وقر أربعمائة عام، وقد انبطح في انتظار الموت على ساحل البحر الأزرق الصامت الذي لم يتغيَّر ..

(صمت عميق.)

غالياس (بعد تفكير) : هو الدخان الأبيض الذي بالعلبة إذن ما كان يحفظه من فعل الزمن!
بريسكا : نعم أيها البسيط!
غالياس : ولكنِّي يا مولاتي لم أرَ بعد في هذه القصة كيف يُحلِّق الحب فوق الزمن مثل الفراشة فوق الأزهار؟
بريسكا : فات الأوان، لن ترى ذلك في هذه الحياة ..

(يُسْمَع صوت ضجيج في الخارج ودق طبول ونفخ أبواق.)

بريسكا : اسمع يا غالياس .. اسمع! إنهم آتون ..
غالياس (ينصت) : نعم .. هذا موكب الملك. مولاتي! .. أخشى أن يدخل الملك الكهف مُودِّعًا قبل أن يأذن بالبدء في سد الغار ..
بريسكا : في هذه الحال .. ما العمل؟
غالياس (يُشير إلى تجاويف الكهف) : تختبئين يا مولاتي في أحد هذه التجاويف.
بريسكا : نعم .. نعم ..
غالياس : ومع ذلك .. فلأذهب لاستقبال الملك حتى لا يرتاب في غيبتي.
بريسكا : نعم .. اذهب ..
غالياس : وإذا دخل الملك فسأسبقه وستسمعين صوتي عاليًا كي تنتبهي ..

(يخرج مسرعًا بينما تقترب أصوات الأبواق والضجيج.)

بريسكا (وحدها فتنحني على مشلينيا) : .. مشلينيا! إنك لم تنكث وعدًا .. ولم تفتح علبة مُحرَّمة .. ولم يتغلب الشك يومًا على حبك فيُبدِّده دخانًا طائرًا، فهل يستحق مثلك الفراق الأبدي عمن يحب؟! (تصمت وتُطرِق .. إلى أن يدنو الضجيج من الباب).
غالياس (يصيح بالباب) : ها هنا يرقد القديسون أيها الملك! (بريسكا تنهض بسرعة وتختبئ .. ثم يدخل الملك وغالياس والصيَّاد ورُهبان وجند وحاشية).
الملك (يتراجع قليلًا أمام الجثث ويرسم على صدره علامة الصليب ويلتفت إلى راهب كبير) : أيها الراهب!
الراهب (يتقدَّم) : مولاي!
الملك : ألا ترى أن تضع أجسادهم المقدسة في توابيت ثمينة؟
الراهب : كلا يا مولاي. فلنتركهم كما هم حتى يكون هناك فرق بين أولياء الله الصاعدين إلى السماء وبين البشر الماكثين في الأرض. إنهم ليسوا في حاجة إلى التوابيت، فهم عمَّا قليل يصعدون ..
الملك : وهل من الحكمة أن نتركهم هكذا؟
الراهب : ما دُمنا سنسد عليهم الكهف فهم في شبه قبر محكم.
الصيَّاد (يتقدَّم) : مولاي! أيأذن لي مولاي؟ ..
الملك : تكلم أيها الصيَّاد! ..
الصيَّاد : لا ينبغي أن نسد الكهف عليهم.
الملك : لماذا؟
الصيَّاد : إنهم لم يموتوا يا مولاي ..
الملك : ماذا تقول؟
الصيَّاد : إنهم نائمون نومًا عميقًا كما في المرة الأولى .. وسوف يستيقظون بعد أعوام.
راهب آخر (يتقدَّم) : نعم يا مولاي! إنهم نائمون وسوف يستيقظون.
الصيَّاد : فإذا سددنا عليهم فكيف يخرجون يا مولاي كما خرجوا في المرة الأولى؟
الملك : عجبًا! أنائمون هم الآن؟!
الراهب الأول : كلا .. أيها الملك .. بل هم ميتون حقيقة وسيصعدون إلى السماء ..
غالياس : نعم يا مولاي .. لقد ماتوا حقًّا وسيصعدون إلى السماء.
الملك : عجبًا ..! أيُّكم أصدق إذن؟!
الصيَّاد : مولاي! ليكن أي الرأيين .. على كل حال لا لزوم لسدِّ الغار حيطة للمستقبل ..
غالياس : كيف؟ أوَنتركهم هكذا لعبث العابثين وقد عرف الجميع مكانهم؟
الملك : وإذا استيقظوا حقًّا يا غالياس ووجدوا البناء عليهم! ..
غالياس : عندئذٍ يا مولاي .. عندئذٍ .. مولاي! لقد خطرت لي فكرة!
الملك : ما هي؟
غالياس : نترك لهم مَعاوِل داخل الكهف .. هنا .. بجوار المدخل ثم نسده. فإذا ما بعثوا وأرادوا الخروج ووجدوا البناء عليهم ضربوا ضربتين بالمعاول فينفتح ..
الملك : لا بأس بالفكرة!
غالياس : هاتوا ثلاثة معاول .. أسرعوا (يخرج أحد الأتباع سريعًا ويأتي بالمعاول) ضعوها هنا بجوار المدخل ..
الملك (يُشير إلى رجال الدين) : الآن تقدَّموا أيها الرهبان .. وقوموا بشعائركم ورسومكم وداعًا للقديسين .. وبعدئذٍ فلنخرج ولتدق الطبول، وينفخ في الأبواق إيذانًا بسد القبر المُقدَّس .. يا غالياس .. وأنت يا غالياس .. أعلن إلى الشعب أن الأميرة قد منعها المرض عن توديع القديسين ..

(الرهبان وخلفهم الملك والحاشية يقومون بالشعائر والتراتيل ثم يخرج بعد ذلك الجميع، بريسكا تظهر بعد خلو المكان.)

غالياس (يعود مسرعًا في حذر) : لقد غافلتهم وجئتُ إليكِ، الوقت ضيِّق .. وعمَّا قليل تُدق الطبول ويُنفخ في الأبواق لسد المدخل فأخبريني يا مولاتي على عجل بمَ تأمرين؟
بريسكا : لا شيء بعد ذلك يا غالياس .. إني أشكرك .. اذهب ..
غالياس : ألم أُنفِّذ كل ما أمرتِ به يا مولاتي؟ ..
بريسكا : إني أعرف إخلاصك وطيب قلبك دائمًا. اغفر لي يا غالياس إذا نالك بسببي ضرر من أبي. أنت قلت إنك مستعد للموت من أجلي. وقد يسألك الملك عنِّي وقد يتهمك بمطاوعتي .. وقد يُحاكمك ويقتلك ..
غالياس : لا يهمني هذا يا مولاتي. إن حياتي الباقية هي لكِ وفي خدمتكِ دائمًا .. لكن …
بريسكا : ماذا؟
غالياس : إني أخشى تعذيب ضميري أكثر من تعذيب الملك. ويشهد الله كم توسَّلتُ إليكِ وكم حاولتُ صرفكِ عن عزمكِ .. وكم أردتُ إقناعكِ ..
بريسكا : لا تخف يا غالياس! ذمتك بريئة. هذا يجب أن يكون .. هذا قدر!
غالياس : نعم .. وإنكِ حلمتِ ذات مرة أنكِ ستُدفَنين حيَّة ..
بريسكا : صدق الحلم ..
غالياس : كما صدق العرَّاف. إنكِ قديسة يا مولاتي! نعم إنكِ قديسة بين القديسين .. وهذا ما يعزيني .. (يُسمَع دق الطبول) دقت الطبول .. يجب أن أخرج .. الوداع يا مولاتي! الوداع! لو لم تكلفيني بمهمة تهدئة الملك الثاكل وتعزيته وإقناعه لمتُّ معكِ هنا ..
بريسكا : ومهمة أخرى يا غالياس. إذا علَّمتَ الناس قصتي وتاريخي فاذكر لهم كما أوصيتك …
غالياس (وهو يهم بالخروج) : أنكِ قديسة ..
بريسكا : كلا .. كلا .. أيها الأحمق الطيب. ليس هذا ما أوصيتك ..
غالياس : أنكِ امرأة أحبَّت ..
بريسكا : نعم .. وكفى.

(يخرج غالياس وتبقى وحدها ويغلق الكهف عليها وعلى الموتى.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤