الشاطئ الآخر

قال أخي: أريد أن تترك الشقة!

كان قد مضى على وفاة أبي يومان. وكنت جالسًا أقرأ في الشُّرفة المطلَّة على شارع الميدان، ومهمومًا بالتوقُّعات. وكانت ظلال الغروب تنسحب من الجدران، وزحام الشارع يهدأ، والباعة يلمُّون بضاعتهم.

طويتُ الجريدة في يدي. كنت أقرأ تفصيلات مانشيت الصفحة الأولى: استقالة محمد نجيب من وظائفه، وتعيين جمال عبد الناصر رئيسًا للوزراء.

– لماذا؟

علا صوته لتناهي الأذان من مسجد الشوربجي: أعدُّ للزواج فيها.

– وأين أذهب؟

قال في هدوء حاسم: هذه مسئوليتك!

ومضتْ أيام العزاء الثلاثة. ورافقنا أعمامي وأخوالي إلى مقابر العامود، يوم الخميس الأول بعد وفاة أبي. وفي ليلة الأربعين، كوَّمنا الأثاث في الحجرة المطلَّة على سيدي الشوربجي، ورصصْنا الكراسي في الحجرتَين الأخريَين، وفي الصالة، واستقبلْنا المعزِّين.

كان طارق يكبُرني بخمسة أعوام.

حين اعترض أبي على رغبته في الالْتحاق بالكلية الحربية؛ قال: لا واسطة لنا … وتخرُّجي في الكلية الحربية يضمن الوظيفة.

قال أبي: ما دامت هذه رغبتك … لماذا لا تتقدَّم إلى الكلية البحرية؟

قال في هدوئه الحاسم: قبلوا أوراقي في الكلية الحربية … وانتهى الأمر!

اعتَدْنا غيابه، حتى نهاية كلِّ أسبوع. يقضى بيننا جزءًا من الخميس، وجزءًا من الجمعة. ثم يعدُّ حقيبته للعودة إلى القاهرة. أراه قادمًا من ناحية المنشية أو متَّجهًا إليها، بقامته الطويلة النحيلة، ورأسه الذي تشي مقدِّمته ببوادر صلع. لا يتلفَّت، ويهمل إلقاء السلام حتى على أصحاب الدكاكين القريبة، والجالسين في القهوة. أحاط نفسه بشرنقةٍ غير مرئية، عزلتْه عن كلِّ أحد. وربما أدخلتْ له أمي طعامَه في حُجرته؛ فلا يشاركنا المائدة.

لم أكن أدخُل حُجرته. يظلُّ الباب مغلقًا، أو مواربًا؛ فلا أتصوَّر ما بداخل الحُجرة، ولا أحاول دخولها، حتى أثناء وجوده فيها.

ظلَّت الصورة على حالها بعد تخرُّجه. أمي تنشغل بالبيت، وأبي يعود عقب صلاة العشاء. يجلس في الصالة، أو الشُّرفة المطلَّة على شارع الميدان، يستمع إلى الأغنيات في فونوغراف القهوة، أسفل البيت، إلى موعد نشرة الأخبار. يدير الراديو حتى يعلو السلام الوطني؛ فيُغلق الراديو، ويدخل حجرة نومه المطلَّة على الشارع الخلفي.

كنت في السنة الأولى بكلية الآداب، وأعمل — بعد الظُّهر — في كازينو الفردوس المطلِّ على شاطئ ستانلي. وكان قد مضى على تخرُّج طارق سنتان. لم أسأله عن الوظيفة التي شغلها، لا لأنِّي لم أكُن أحبُّ أن أعرف، وإنما لطبيعته الكَتوم التي تُؤثر الصمت. يرفض البوح والفضفضة. يبدو قوقعةً لا أعرف ما بداخلها. يعبِّر عن المعنى بكلماتٍ قصيرة، لا يشغله تأثيرها، ولا إنْ عبَّر عمَّا يريده بصورةٍ صحيحة. لا يتوقَّع ردَّ الفعل. يسكت، أو يخلو إلى ما بين يدَيه، أو ينصرف.

تصوَّرت «أنَّ طارق» أهمل الأمر؛ فأهملتُه. عاد إلى عمله، وعدتُ إلى الكليَّة في الصباح، وإلى عملي في الكازينو بعد الظُّهر، وأنشغل — في البيت — بالمذاكرة، وبالقراءة في كُتبٍ أستعيرها من المكتبة الحجازية، القريبة، حتى موعد النوم.

ماتتْ أمي، فعانَينا أيامًا قاسية.

كان همُّها أن نفرغ للمذاكرة وحدها. لم تُعِدَّنا لتحمُّل مسئولية البيت، ولا أذنتْ لنا بدخول المطبخ، أو حتى شراء احتياجاتنا من السُّوق. تُدلى الحبل من الشُّرفة، وتجذب «السَّبَت» مُحمَّلًا بما تطلُبه. وكانت تعتزُّ بأنَّها سيدةُ بيتها، فلا يعرف أبي من أموره شيئًا.

حين عاد أبي من المستشفى، وهمس بصوتٍ متعَب: انتهى! … عرفتُ أنَّ أمي ماتت. فاجأها الألم عقب الغداء. لم تكُن تشكو شيئًا، ولا ترددتْ على الأطباء. وتذكرتُ أنَّها كانت تغنِّي في الصباح، وهي تنفض تراب النافذة: اتمخطري واتمايلي يا خيل …

صحبناها إلى المستشفى الأميري. ظللنا على باب العنبر، حتى أمرنا الطبيب بالانصراف. ظلَّ أبي يتردَّد عليها، يحمل طعامًا وغِياراتٍ ومجلاتٍ حديثةً وقديمةً، ثم عاد بنبأ وفاتها.

عرفتُ أنَّ ما حدَثَ أكبرُ من أن يتحمَّله أبي. ولم يكُن في مقدورنا شيء. تحيَّرنا، وغلبنا الارتباك، وتردَّدَت الخادمات على الشقة، لا تستقر واحدةٌ حتى يطردها أبي.

لم يعُد أبي الذي أعرفه.

كان يصمت، ويتكلَّم، ويثرثر، ويضحك، ويُكشِّر، ويحزن، ويغضب، ويصرخ، ويهمس. تداخلَت اللحظات في لحظةٍ واحدة، والتوقُّع يشغلني دائمًا. تقهرني الحيرة، فلا أعرف كيف أتصرَّف. أتَّجه إلى طارق بنظرةٍ متسائلة، فأتلقَّى الردَّ نظرةً غيرَ فاهمة.

كان أبي يأكل بشراهة. يطلُب الطعام، ويحدِّد أنواعه. وكان طارق يهمس: من أين نأتي له بذلك كلِّه؟! … لكننا نعدُّ له ما طلَبَ، ونقدِّم له الدواء في مواعيده. ثم يفاجئُنا برفض الطعام والدواء، ورفض الكلام. يكتفي بآهاتٍ طويلةٍ متلاحِقة.

وذات صباحٍ، علا صوتُ أبي بالغضب: لماذا لم توقظني مبكِّرًا يا حاتم؟

أردف في لهفة: ساعِدْني على ارتداء ملابسي، حتى لا أتأخَّر عن المكتب.

كان قد مضى على قعود أبي في البيت ثلاثة أعوام … غالَبَ المرض عامَين، ثم استقال من عمله بشركة الملح والصودا، وحصل على مكافأة نهاية الخدمة.

ناوشتْني الحيرة، فلَمْ أدرِ ماذا أقول.

قال أبي من بين أنفاسٍ متهدِّجة: من العيب في مثل سنِّي أن أتأخَّر عن العمل.

ضغط طارق على شفته السُّفلي في تحيُّر: ألَمْ تقدِّم أمس طلبًا بإجازة.

زوى أبي ما بين عينَيه، في محاولة للتذكُّر. ثم تاهت في فمه الكلمات، فسكت.

ألِفتُ — فيما بعد — اختلاط الأزمنة في ذهن أبي. قال إنه لم يعُد يتذكَّر جيدًا، ولم يعُد يتذكَّر كلَّ شيء. يبتر الكلمة فلا يستكملها. يحيط جبهته بأصابعه كمَن يستحثُّ نفسه على التذكُّر. تتداخل الأحداث في رواياته. يتطلَّع إلينا بنظرةٍ مستغيثة. تتعثَّر الكلمات على شفتَيه. نستكمل العبارة بما نخمن أنه يريد قوله. يهزُّ يده بعصبية، يستحثُّنا على كلماتٍ أخرى. يطمئن إلى أنه قال ما يريده، فيُبين وجهُهُ عن فرحةِ طفل. ثم دخَلَ شرنقةٍ من الهدوء السادر. لا يمارس عاداته اليومية: الجلوس في الشرفة، وسماع الفُونُوغراف والراديو وقراءة الصحف، ولا يتكلَّم، أو يُبدي ملاحظات.

كنت أتمنَّى لو أنه فعَلَ شيئًا. لو أنه تكلَّم، أو حاول القيام، أو بكى.

المرة الوحيدة التي همَسَ فيها بصوته المتعَب، عندما غلبني النشيج: البكاء لن يُعيدها!

ثم دخَلَ شرنقةَ الهدوء.

اعتدتُ رؤية أبي في جلسته على الكرسي.

كِدتُ أنسى قامته الطويلة، وهو قادمٌ من المنشيَّة، أو وهو يتحرَّك في الشقة، أو وهو يطلُّ من الشُّرفة على زحام شارع الميدان، الصخب المتصاعد، النداءات والفِصال والطاولة والدومينو والشتائم والخناقات وأغنيات الفونوغراف والصهيل والنهيق وصيحات المجذوبين، واختلاط الأذان في المساجد القريبة، وصُوات الجنازات، وزغاريد النساء أمام دكَّان قشرة الذهب، ورائحة المعسل والدخان وشواء اللحم …

كنت أحبُّ أبي. ساعدَيه المرتفقَين للكرسي، وشعره الأبيض المهوَّش، وعينَيه المحدِّقتين إلى ما لا أتبيَّنه. كنت أتمنَّى لو أني ساعدتُه على الكلام والحركة والنزول إلى الشارع. يجلس — كما الأيام الخوالي — في القهوة أسفل البيت. يلتقي بأصدقائه، يخوضون مناقشاتٍ تبدأ ولا تنتهي، إلا بالسعي لأداء الصلاة في مسجد الشوربجي القريب، أو جامع الشيخ إبراهيم.

أنظر إليه في جلسته الدائمة على الكرسي، لا يغيِّرها، كأنَّها أصبحتْ جزءًا منه. أتساءل: ما معنى أن تقتصر حياة الإنسان على انتظار الموت؟

كنت أتوقَّع موت أبي، وأخافه.

لم أكُن أعرف الموت، ولا رأيتُ ميتًا من قبل، وإن اعتدتُ سماع كلمةِ الموت. أسمعها فلا تُثير انتباهي. لا تشغلني إلا عندما أفكِّر في أبي. يقتحمني هاجس الموت. عندما يرين السكون في حجرته. تغيب الكحَّة أو الشخير، أو تَقلقُله على الكرسي، أو حركة يديه وهو يعدُّ القهوة. أتسلَّل في الصباح، أنظُر من الباب الموارَب. لا أغادر مكاني قبل أن أطمئن بتردُّدات الأنفاس، أو نوبات الكحَّة، أو ارتشافه المتكرِّر لفناجين القهوة.

صارحتُ طارق بمخاوفي.

كان أبي قد تعثَّر؛ فسقط في الطُّرقة بعد خروجه من دورة المياه. صَحَونا على ارتطام جسمه بالأرض. قال إنَّه أُصيب بدوخةٍ؛ فتعثَّر.

قال طارق: أبونا مريضٌ بالرَّبو … ونومه قليل.

خنق النشيجُ صوتي: أخاف عليه!

وهو يحاول إخفاء انفعاله: هذا أجَلٌ … واستسلامه للنوم وهو سائرٌ، لا يعني أنه سيموت.

تململتُ: أخاف عليه من قبل ذلك!

حَدجَني بنظرةٍ غاضبة: غاوي خوفٍ إذن؟!

جاشت عواطفي: أبي لا ينام مثل الناس … إنَّه لا يترك كرسيه.

قال في هدوئه الحاسم: هذه طبيعة مرضه.

وأشاح بيده: لا تعُدْ إلى هذا الكلام!

لم أتحدَّث إلى طارق ثانيةً عن مخاوفي … لكنني ظللت أخاف على أبي، وأتسلَّل — كلَّ صباحٍ — إلى حُجرته. أتطلَّع إليه من وراء الباب الموارَب.

ثم مات أبي.

عُدتُ من الكلية فوجدتُه ممدَّدًا أمام دورة المياه، خمَّنتُ أنه سقَطَ وهو يدخُل إليها. أكَّد وفاتَه الجيران وأصحاب الدكاكين وروَّاد القهوة.

كان أبي قد أنفق مكافأته على العلاج ومصاريف البيت. وحين قلَّبَ طارق جيوبه ودولاب ملابسه؛ وجَدَ سبعة وعشرين جنيهًا، فاستدنَّا من أخوالي وأعمامي لإتمام مصاريف الجنازة.

الْتقيتُ به على ناصية شارعَي الميدان وسُوق السَّمَك القديم كانت ظلال الغروب قد انحسرت عن الجدران والنوافذ، وحلَّتْ ظُلمةٌ رماديةٌ شفيفةٌ. وثمَّة صفيرُ باخرةٍ، يترامى من الميناء الغربي.

سألني عن وكالة درويش.

أشرتُ، واتجهتُ إلى باب البيت.

لحقني بالسؤال: هل تعرف الفرنسية؟

توقفتُ.

كان بيضاوي الوجه، أبيض البشرة. له عينان زرقاوان، دائمتا التَّلفُّت. ينسدل شعره الذهبي على قفاه. تتطاير خصلاتٌ منه؛ فيُزيحها براحته إلى الوراء.

تعثرتْ كلماتي بالحرَج: ليس إلى حدِّ الإجادة.

وهو يهزُّ بيده أوراقًا مطويَّة: معي رسالةٌ إلى الوكالة.

لعق شفتَيه بطرَف لسانه، وأضاف: لغتي العربية ضعيفة … وأخشى أنهم لن يفهموا ترجمتي.

كنت أعرف صاحِبَ الوكالة. قصيرٌ، وإنْ تناسَقَ تكوينُ جسمه بما لا يشي بقِصَره. أهمُّ ما يميِّزه صلعةٌ عريضة، ملتمعةٌ بحبَّات عرَق، تتوسطها مساحةٌ سوداءُ شبهُ دائرية. أراه على الباب، أو وسط صناديق وأجولة، لم أحاول تبيُّن ما فيها.

شاركتُ في ترجمة الرسالة. أوضِّح ما قد يغمض على الرَّجُل فهمه، أو أهزُّ رأسي موافِقًا على المعنى.

رنا الشاب إلى بيتنا وهو يصافحني مودِّعًا: هل تسكُن هذا البيت؟

– نعم.

– أيَّ طابق؟

حدجتُه بنظرةٍ متسائلة: الثاني.

افترَّتْ شفتاه عن ابتسامةٍ متودِّدة: هل تأذن لي بزيارتك؟

استطرد كالمتذكِّر: اسمي ديمتري كوتوميس.

امتدَّت يدي بالمصافَحة: أنا حاتم رضوان.

قال لملامحي المتسائلة: أعرِضُ عليك صداقتي.

قاومتُ الارتباك: أهلًا وسهلًا!

أشار ديمتري إلى بيتٍ من ثلاثة طوابق، وقال: هذه هي الشقة.

البيت في شارع الكنيسة الأمريكانية. ملاصِقٌ للكنيسة الإنجيليَّة، وبالقُرب من نقطةِ شريف. من ثلاثة طوابق، يطلُّ في الجانبَين على شارع سيدي المتولي وشارع توفيق. الوجوه التي تطلُّ من النوافذ والشرفات، معظمها لأجانب، يتطلَّعون إلى الطريق، ويقرءون الصحف، ويتبادلون الأحاديث. وكانت البالوعات، على جانبَي الشارع، قد ابتلعت مياه الأمطار. لم يعُدْ إلا الْتماعاتٌ متناثِرة على الأسفلت.

قلت: أيُّها؟

وهو يشير بإصبعه: التي بلا حبالِ غسيل.

لاحظتُ أنَّ الشُّرفة، هي الوحيدة في البيت بلا مَنْشَر غسيل. أين ينشرون غسيلهم؟

همستُ بالملاحظة؛ فقال: للشقَّة بلكونةٌ خلفيَّة … على حارة الدردير.

تأملتُ الحجرة؛ في مواجهةِ الباب بوفيه ذو مرآةٍ بيضاويةٍ مطوَّسةٍ في بعض جوانبها، وعليه قطعةُ رخامٍ تكسَّرتْ حوافها. تتوسطها فازة زرقاء، يتصاعد منها ثلاث ريشاتِ طاووس … إلى اليمين فوتيل بامتدادِ معظم الحائط، يقابله كرسيَّان، تغطَّت جميعها بكريتون أبيض، فُصِّل عليها. وفي المنتصف «ترابيزة» خشبيةٌ مستطيلة، عليها مفرشٌ من الدانتيل الأبيض … وتدلَّت من السقف نجفةٌ عنقوديةُ الشَّكل، انطفأ معظم لمباتها … وعلِّقت على الجدار — أعلى الفوتيل — لوحةٌ زيتيةٌ لبناتٍ بملابسَ شفَّافة.

تناثرت معلوماته في أيام صداقتنا التالية، عن ظروفه الشخصية. يعمل في بنكِ باركليز بشهادةٍ تُعادِل التوجيهية. يحيا مع أمِّه وزوجها، وياسمين، أخته من الأم. كان سريع الالتفات. لا يعلو صوتُه إذا تحدَّث؛ فعباراته أقرب إلى الهمس. لم يكُن يتعمَّد اختيار الكلمات، ولا يتدبَّر وقْعَها في نفس محدِّثه، وإنْ حرص على كتْمِ رأيه وانفعالاته؛ فلا يُبين عمَّا يمور في داخله. يخوض في الأحاديث، يروي، ويبذل المعلومة، ويسأل، ويُجيب، لكنَّه لا يعبِّر عن رأيه الشخصي، والبسمة المحايدة، كأنَّها الْتصقتْ بوجهه. وكان دائمَ القَضْم لأظافره.

دخلت الأم بصينيَّةٍ فضيَّة، عليها فنجانان وبرَّاد شايٍ من الصيني. ممتلئة الجسم. تهدَّلتْ وجنتاها، وضاقت العينان الزرقاوان في الوجه الممتلئ، والبشرةُ بيضاءُ مُشرَبةٌ بحُمرة، تخلَّلتْها خطوطٌ وتجاعيدُ حول الأنف والفم.

وضعَت الصينية على «الترابيزة» الخشبية المستطيلة، ورمقتْني بنظرةٍ سريعة، وشفتاها تُتَمتِمان بكلماتٍ مجامِلة.

وأغلقَت الباب في انصرافها.

قسطنطين كفافيس.

استعدت الاسم حين ذكره ديمتري للمرة الأولى. لم أكُن أعرفه ولا قرأتُ له من قبل.

قال: إنه شاعرٌ يونانيٌّ سكندريٌّ … كتَبَ معظم قصائده في الإسكندرية.

همست بالسؤال: باللغة العربية؟

وهو يحرِّك راحته في الفراغ: لا … باليونانية … ولا أظنُّ قصائده تُرجمتْ إلى العربية.

قُلت: وكيف أقرأ له؟

تهلَّلَ وجهُه بابتسامةِ طفل: هذه مهمَّتي.

وقرأ لي قصائدَ من كفافيس. يقرأ السطر الشعري في صمتٍ، ثم يعلو به صوتُه. بدا لي عالمًا آخر يختلف حتى عن عالَم القصيدة العربية الحديثة. يتحدَّث عن الإسكندرية والبحر وأنطونيو، ودنشواي وإبراهيم ناصف الورداني والعطَّارين.

طوى ديمتري الديوان، ووضَعَه على المائدة أمامنا قلت: هذا شاعرٌ مصري.

وشى صوته بحُزن: للأسف … لم تُترجم قصيدةٌ واحدةٌ له إلى العربية.

قُلت بعفويَّة: لماذا لا تفعل؟

تألَّق وجهه — ثانيةً — بابتسامة الطفل: اكتفِ بترجمتي لك … الترجمة إلى العربية صعبة.

نقلني — في الأيام التالية — إلى دنيا غريبة، جميلة، لم يسبقْ لي دخولها: كازنتزاكس، وناظم حكمت، وبلزاك، وزولا، وفلوبير، وفرجينيا، وولف وجيمس جويس، وعشرات الأسماء التي عانيت في أول نطقي لها. وعرفتُ هوميروس، وإسخيلوس، وأفلاطون، وأرسطو.

كنتُ أقرأ لطه حسين، والعقاد، والمازني، وأحمد أمين، وهيكل، والحكيم، والزيات، والمنفلوطي، والسحَّار، والبدوي، ونجيب محفوظ. وأقرأ عن الأسماء التي حدَّثني — فيما بعد — عنها، لكنني لا أقرأ لها. أعرف أنهم فلاسفةٌ ومفكِّرون وأدباء وشعراء ومؤرخون، لكن قراءاتي تحدَّدت في الكتابات العربية ممَّا كان يَقرَؤه أبي. حوَّلتُ «النملية» إلى مكتبة، كدَّستُ فيها الكتب والمجلَّدات وقُصاصات الصُّحف. وعلى الجدار لوحةٌ لأدهم وانلي في غلاف مجلة، وتدلَّتْ سُبْحةٌ كبيرةُ الحبَّات، أهداها لأبي أحدُ أصدقائه. أحلُم بأنْ أستطيع الكتابة — ذات يوم — فلا تزال القراءةُ شاغلي الوحيد. أبعث بما أكتب إلى الصُّحف، فتنشره مذيَّلًا باسمي. وكنتُ أتخيَّل اسمى في موضع أسماء الكتَّاب وأنا أقرأ لهم.

كتبتُ ما تصوَّرتُ أنه قصةٌ قصيرة. أعدْتُ قراءتها؛ فتبيَّنتُ سخفها. مزقتُها، وقرَّرتُ أنْ أرجئ المحاولة.

تعمَّدتُ أن أُطيل استرخائي في الصباح. أستدعي أفكارًا. أصوغها في كلماتٍ وتعبيرات. أحذف وأُضيف وأعدِّل، وعندما أخلو إلى الورق، أسجِّل ما أعددتُه في ذهني. أتبيَّن سخفه؛ فأمزِّقه، وأرجئ المحاولة.

كنَّا قد أسلمنا أقدامنا ومناقشاتنا طريق الكورنيش، حين أشرتُ إلى موضع تمثال الخديوي إسماعيل: مسكين! … لماذا أزالوه هو بالذات؟

قال ديمتري: ذنبه أنه أراد أن يجعل مصر قطعةً من أوروبا.

ثم فاجأني بقوله: هل تعرف أنَّ اليونانيين هم الذين أنشَئُوا الإسكندرية؟

رمقتُه بنظرةٍ متسائلة: ماذا تقصد؟

انفرجتْ شفتاه عن ابتسامةٍ هادئة: أبدًا … مجرَّد معلومة.

أخليتُ لنبرةِ التحدِّي طريقها: والعرب أنشَئُوا القاهرة.

واتجهتْ نظرتي — بتلقائية — إلى المدينة من ورائنا: الإسكندرية والقاهرة، مدينتان مصريَّتان، يسكنهما مصريون.

خالط صوته ارتجافةٌ: أنا أوروبيٌّ يحيا في مصر.

قلت: لكنَّك تحيا هنا منذ طفولتك.

سَرَت الارتجافة في وجهه، فبدَّلتْ ملامحه: وأحيا في أوروبا بالأفلام والكتب والإذاعات.

زارني ديمتري في كازينو الفردوس.

مع أني حدَّثتُه عن عملي في الكازينو، فإني لم أتوقَّعْ زيارته. لاحظ ارتباكي؛ فقال: كنتُ في مشوارٍ قريب … فقرَّرتُ زيارتك.

دعوتُه إلى الجلوس بجانبي.

كنتُ جزيرةً في البحر الساخن المحيط بي. أسجِّل الحساب، وأقدِّم الفيشات. من ورائي المطبخ يطلُّ — من جانبٍ — على طريق الكورنيش. ومن جانبٍ على الجزء الخلفي للشاطئ. رمالٌ ومخلَّفاتٌ وكبائنُ مغلقة. من أمامي، صالة الكازينو تصخب بالأضواء الباهرة والخافتة والملوَّنة، وعزف الموسيقى، وحركة الجرسونات، والأحاديث الهامسة، وتلامُس الأيدي، وروائح الطعام، وتقارُع الكئُوس، والخمر، والقيء، والضحكات، وتعري الأجسام، والْتصاقها.

غادرنا الكازينو آخرَ الليل.

عبرنا الطريق إلى رصيف الكورنيش. ارتفقنا السُّور الحجريَّ، نصغي إلى رتابة صوت ارتطام الأمواج بالمكعبات الأسمنتية أسفل الكورنيش. وثمَّة نقاطُ ضوءٍ تتناثر في مدى الرؤية.

قلت وأنا أتطلَّع إلى الأفق الأسود: هل تصدِّق أنَّه لا يفصلنا عن أوروبا غير هذا البحر؟

قال ديمتري: البحر لا يفصل … الإسكندرية أحد شواطئ البحر الأبيض، مثل أثينا ومرسيليا ونابولي.

ثم وهو يتأمَّل شهابًا ومَضَ واختفى: عرفتُ من أمي أنَّ معظم أبناء اليونان يستطيعون رؤية البحر من نوافذهم.

وتظاهَرَ بنزع ثيابه: هل نعبر سباحةً إلى أقرب المواني؟

بدا لي صبي طه حسين في «الأيام» ضعيفًا، ومسكينًا، ومتخاذلًا. لا يستطيع المضي بعيدًا عن الأسوار المحيطة بالبيت، ولا يقوى على تناول الطعام بمفرده، ولا تسعفه أذناه في متابعة ما ينبغي مشاهدته. وحين يقهره الإخفاق، يحاول إزهاق روحه بساطور.

الظلُّ المباغِت على الكتاب، نبَّهني إلى أنَّ المساء قد حلَّ، وأنَّ «طارق» قد أضاء النور.

قال وهو يستند بيدَيه على إفريز البلكونة: متى تترك البيت؟

طويتُ الكتاب بأصابعَ مُرتعِشة: نسيتُ ذلك الموضوع القديم.

وهو يغمض عينَيه، ويهزُّ رأسه: أنا لم أنسَه.

جاشتْ مشاعري: أنت لا تملك الشقَّة بمفردك.

قال في هدوئه الحاسم: لقد اتخذتُ قراري.

ثم وهو يغتصب ابتسامة: سأُعطيك ما يُعينك على السُّكنى في شقَّة أخرى.

جاهدتُ، حتى لا يشي صوتي بما أعانيه: الصعوبة ليست في الشقة … ولكنْ … الأثاث.

دعَكَ — بأصابعَ متمهِّلة — مؤخرة رأسه، وقال: اشترِ ما تريده من باعة الأثاث القديم بشارع فرنسا.

رفعتُ إليه عينَين غاضبتَين: ولماذا لا نقسِّم أثاثَ الشقة؟

تململ في وقفته: هذا أثاث أبي … ويجب أن يظلَّ في شقته.

اتجهتْ عيناي إلى الطريق بنظرةٍ دامعة: لن تصبح كذلك … فسأهجرها، وتظلُّ فيها بمفردك.

قال وهو يمضي إلى الداخل: أنذرتُك من قبل … وسأغلق الشقة عليَّ وعلى زوجتي بعد ستة أيام!

حدجني عمِّي بنظرةٍ متأمِّلة.

كان قد مضى خمسةُ أعوام على زيارته الأخيرة لنا. مال جسمه إلى البدانة، وتناثرت في وجنتَيه بقعٌ بنيَّة، وصبَغَ شَعر رأسه بلونٍ أحمر، يناقض بشرته السمراء. وكان يرتدى روبًا حريريًّا مشجَّرًا، به نقوشٌ وخطوطٌ متداخِلة، ينسدل على بيجامة، بينما دسَّ قدمَيه في مركوبٍ مغربي.

قال في نبرةٍ متراخية: قلبي معك … لكنْ هذه مشكلة أُسرية.

لملمتُ جُرأتي: أنت الآن في مقامِ والدنا.

أطرق لحظةً، ثم واجهني بنظرةٍ جامدة: «إذا كبر ابنك خاويه.» … أليس كذلك؟

ثم وهو يضمُّ أطراف الرُّوب: لقد كبرتما الآن … والمفروض أن تحلَّا مشكلاتكما.

اختنق صوتي: هل تتركه يطردني من الشقة؟!

لاحظتُ ارتعاشةً خفيفةً في شفتَيه: لن يطردك بالقوة!

وأردف بلهجةٍ معتذِرة: أنا مشغولٌ كما ترى … فلماذا لا تلجأ إلى عمَّتك «تبارك»، أو إلى أخوالك في غربال؟

ضيَّعتُ أيامًا في البحث عن أقاربَ اعتَدتُ زيارتهم لبيتنا. ركبتُ ترام الرمل إلى باكوس، وترام ٥ إلى محرَّم بك، وترام ٤ إلى كرموز. أُعاني إحساسًا قاسيًا بأني مهزومٌ في داخلي.

تمنيتُ عالَمًا آخرَ غير الذي أحياه. لا بيت، ولا جامعة، ولا كازينو. لا أخ، ولا أهل، ولا ناس. جاوَزَ الإحساس بالحُزن مُناوشتي؛ داخَلَني قلقٌ مُبهَم لا أدري مصدره. ولاحظتُ أني كنتُ أكلِّم نفسي بصوتٍ مرتفع، أو أغنِّي.

نفث السِّمْسار دُخان الشيشة ببطء، ثم قال: أين تسكن الآن؟

قُلت: مع أسرتي.

رمقني بنظرةِ ارتياب: ولماذا تتركها؟

قلت وأنا أُغالب ما لا قِبَل لي على احتماله: ظروف!

عانيتُ التردُّد قبل أن أخطو داخل الدُّكان. أعدتُ قراءة اللافتة: سِمْسار عقارات وتأجير شُقَق مفروشة.

كان الرَّجل — وراء المكتب الخشبي الصغير — مشغولًا بشدِّ أنفاس الشيشة. في حوالي الخمسين. له أنفٌ ضخم، وشاربٌ رفيعٌ كالخطِّ المتداخِل البياض والسواد، فوق شفتَين زاد من امتلائهما بروزٌ في السنتَين الأماميتَين. يركِّز نظرته على عينَي محدِّثه، كمَن يريد أن ينفذ إلى داخله. ويحرص على تحريك يده وهو يتكلَّم؛ ليرى محدِّثه الساعةَ المُذهبة في يده. وكان يرتدي جلبابًا صوفيًّا، ويضع على رأسه طاقيةً من الصوف. ويغطِّي عنقه بتلفيعةٍ تدلَّتْ حتى الصدر.

قال السِّمْسار: لم يسبقْ لك السَّكَن إذن مع غرباء؟

تحرَّكَ في صدري أمل: لا أريد الإقامةَ مع أحد … أريد مكانًا مستقلًّا.

ومَضَتْ على شفتَيه ابتسامةٌ مترفِّقة: قد لا تستطيع دفع إيجار شقةٍ مفروشة … الأفضل أن تؤجِّر حجرةً مع أُسرةٍ طيِّبة.

استطرد قبل أن أناقش الأمر، وأكوِّن رأيًا: هل تُقيم مع أسرةٍ يونانية؟

أسرة يونانية؟!

بدا لي الأمر مثيرًا، ويدعو للتأمُّل. ديمتري وكازنتزاكس وكفافيس وأريستوفان ويوربيدس وإسخيلوس وفلاسفة الإغريق.

قُلت: أجرِّب.

أعاد ليَّ الشيشةِ إلى موضعه: ليس في الأمر تجربة. إنها أسرةٌ مُحترَمة … وأنا لم أرشِّحْك للإقامة معها إلا لمظهرك.

ثم وهو يشملني بنظرةٍ متعاطِفة: يبدو أنَّك ابنُ ناسٍ طيِّبين!

وعلا صوته بلهجةٍ محذِّرة: لا أريد مشكلاتِ شباب … فاهمني؟

صعدتُ السَّلالم العريضة، المرتفعة، أكتُم الانفعال، والأسئلة التي تستشرف أيامي المقبِلة. بدتْ لي حياتي الجديدة، المرتقَبة، سرًّا غامضًا، يشغلني التعرُّف إلى ملامحه. تملَّكني إحساسٌ بأنَّ إقامتي مع أسرةٍ أجنبيةٍ تُتيح لي الانتقال إلى بيئةٍ مُغايرة، عالمٍ جديدٍ، يختلف عن العالم الذي ضاق بي، وضِقتُ به.

توقَّفتُ في السُّلَّمة الأخيرة، عند بَسطةِ الطابق الثالث. البيت ملاصق لجامع العطَّارين، من ثلاثة طوابق، يُبين عن ذوقٍ أوروبي في عمارته ونقوشه، والأعمدة الصغيرة أول كلِّ طابق. واجِهَتُه على شارع سيزوستريس. أمام الواجهة دورةُ مياه عمومية تحت الأرض. يحيط بالسُّلَّم المُفضي إليها درابزين من الحديد.

فتَحَ الباب مُوارَبًا، وتكلَّمَ الرَّجُل بصوتٍ لم أتبيَّنه: «مع الواقف وراء الباب.» وأشار ناحيتي.

انفتح الباب، ودخَلَ الرَّجُل، ودخلتُ وراء ندائه: تفضَّل!

أول ما طالعني، سيدةٌ في أواخر الخمسينيات. ترتدي فستانًا منزليًّا منقوشًا بدوائرَ صغيرةٍ ملوَّنة، وتضع على رأسها إيشاربًا متداخِلَ الألوان. تتَّسق قامتها الطويلة مع امتلاء جسمها، وإن خلتْ من البدانة. رسمتْ حاجبَين فوق عينَين عسليَّتَين، تساقطتْ رُموشهما. وثمَّة زغبٌ يرسم شاربًا خفيفًا فوق شفتَيها، وشُعيراتٌ متباعدةٌ في ذقنها.

على يسار المدخل كونصول قديم، مشغولٌ بالأرابيسك، تعلوه مِرآةٌ بيضاوية الشَّكل. ومن أعلى الطُّرقة تتدلَّى نجفةٌ ذات أربعة أذرع. يُفضي المدخل إلى صالةٍ واسعة، يشغلها أنتريه أسيوطيٌّ، وترابيزة سُفْرة مستطيلةٌ، عليها مِنفَضة خاليةٌ من أعقاب السجاير، وحولها ستة كراسي. وتتوسَّطها عُلبةٌ من الصَّدَف، مُغلَقة. وعلى الجدران صُورٌ عائلية، ولوحاتٌ مقلَّدة لأعمال فنانين عالميين، ومشاهد خمَّنتُ أنها لمدنٍ يونانية تطلُّ على الساحل. وأعلى باب الشقة من الداخل، علِّق صليبٌ خشبي، عليه نحتٌ للمسيح وهو يضع إكليلَ الشَّوك. وعلى يمين الباب ممرٌّ ضيِّق نسبيًّا، توقعتُ أنه يُفضي إلى المطبخ والحمَّام وغُرَف النوم.

مدَّت السيدةُ أصابعها: أهلًا وسهلًا.

أضافتْ وهي ترمُقني بنظرةٍ متأمِّلة من وراء نظَّارتها الطبيَّة: قال الحاج عبد العزيز إنَّك معرفة … لكنَّه لم يحدِّثني عنك … اسمك ووظيفتك؟ ولماذا تُضطر للإقامة مع أسرة؟

لاحظتُ أنَّها تنطق العاميَّة بلهجةٍ أجنبية. تحوِّل المذكَّر إلى مؤنثٍ، والحاءَ إلى خاء.

– اسمي حاتم رضوان … طالبٌ في كلية الآداب … وأعمل بعد الظُّهر.

وهي تعبث بزرار الفستان: من الأرياف؟

– لا … من بحري.

نقَّلتْ نظرتها بين السِّمْسار وبيني: فلماذا تركتَ أُسرتك؟

غامت عيناي بالدمع: ظروف.

قالت في نبرةٍ محايدة: احتفظْ بظروفك … ما يهمُّني ألَّا تنعكس تلك الظروف على حياتك معنا.

اعتبرتُ العبارة الأخيرة موافَقةً على الإقامة في الشقة. تلفَّتُ — بعفويَّة — أخمِّن الحُجرة التي سأُقيم فيها. الأبواب المغلقة مُتشابِهة. عاليةٌ، تقترب من السقف المرتفع أصلًا.

قالت: يمكن أن تأتي بحقائبك.

ثم وهي تتفرَّس في وجهي بعينَين متشكِّكتَين: أليس معك حقائب؟

رفَّت على شفتي ابتسامةٌ مهزومة: طبعًا.

قالت في صوتٍ آمِر: يمكن أن تأتي بحقائبك بعد الظُّهر … لا بد أن يكون زوجُ ابنتي في الشقة.

لمحتُ — في نهاية الصالة — بيانو قديمًا يمثِّل جانبه الأيسر بدايةَ طُرقة. خمَّنتُ — لابتعادها النسبي عن بقيَّة الشقة — أنَّها تُفضي إلى الحُجرة التي سأُقيم فيها.

كنت أحيا انفعالاتٍ متباينةً، وأنا أحمل حقيبتي، وأصعد السُّلَّم.

كانت الليلة الأُولى التي أُمضيها خارج بيتنا. ألمح أبي واقفًا في الشُّرفة، إذا تأخرتُ في العودة. يسبق صعودي بفتح الباب: أنت تقتُل نفسك!

أُحاذر حتى لا أُوقظ طارق. أطلُّ من خَصَاص النافذة على حركة الليل الهادئة في شارع الميدان. أغتسل، وأتمدَّد على سريري، وأسحب كتابًا، أقرؤه، حتى يغلبني النَّوم.

حين عُدتُ — في مساء اليوم الأول — فاجأتْني الحُجرة بإعادة ترتيبها. هل هي السيدة؟

حرصتُ — في اليوم التالي — على أن أضع كلَّ شيء في مكانه، قبل أن أترك البيت. أتذكَّر حُجرتي المطلَّة على شارع الميدان. الملابس المبعثَرة، والكتب التي رصصتُها كيفما اتفق، وضلفة الدولاب التي أُهملُ إغلاقها.

لم تسألني السيدة عن بواعث تركي للبيت، وإنْ سألتني عن دراستي وعملي، وأنصتتْ إلى ما رويتُه عن ظروف موت أبي، وحياتي في بيت شارع الميدان.

كنتُ أعاني — في البداية — فهْمَ كلماتِ السيدة، تختلط فيها اللهجة المصرية باللغة اليونانية بما يصعُب فهْمُه. زحَفَ الشيب إلى معظم شَعرها، فلَمْ تحاول صبْغَه. عقصتْه في ضفيرةٍ واحدة أعلى رأسها. وربما ألقتْ بوشاحٍ حريريٍّ ملوَّن، شفَّاف، على رأسها، ينسدل حتى صدرها. وثمَّة تجاعيدُ خفيفةٌ عند زاويتَي فمها. وفي رقبتها عروقٌ زرقاءُ خفيفةٌ، تنبض إذا تكلَّمتْ.

عرَّفتْني بابنتها وزوجها، ودَعَتْني إلى مشاركتهم الجلوسَ في الصالة.

كانت السيدة الصغيرة في حوالي الخامسة والعشرين. متوسطة الطول، وإنْ مال جسمها إلى السِّمنة. ذات خصرٍ نحيل، يتناقض مع ردفَين ممتلئَين، يهتزَّان لأقلِّ حركة. بشرتها بيضاء، وعيناها زرقاوان، تطِلَّان من رُموشٍ طويلة. ويتناثر في وجهها نمشٌ كثير، وأسدلتْ شَعرها على كتفَيها. لم تكَن تتحرك، أو تقعد — لحظةً — بغير وليدها. تضعه على صدرها، تُطعمه، تنيمه. حتى في وقفاتها بالمطبخ — حين أعبُره إلى الحمَّام — كانت تحمل الطفل وهي تعِدُّ الطعام.

أمَّا الزوج فكان يقترب من الثلاثين. بيضاوي الوجه، في مقدمة رأسه بوادر صلعٍ خفيف. له أنفٌ حادٌّ طويل، ينتهي بشاربٍ، أهمله فتدلَّى بجانبَي فمه. وثمَّة ندبةٌ بنيَّة في حجم الحِمَّصة على خدِّه. أميَلُ إلى الطُّول، وإنْ تناقَضَ اتساع صدره مع خصره النحيل وساقَيه النحيلتَين. خمَّنتُ أنه يستخدم «موتوسيكل» لمَّا تأمَّلتُ ثيابه: جاكت من الجِلد، وبنطلون ينتهي داخل حِذاءٍ برقبةٍ قصيرة. ويضع على عينَيه نظَّارةً شمسية، ويدسُّ يدَيه في قفاز جلدي.

لفَّني إحساس بالغربة عن كلِّ ما حولي.

في شارع الميدان، لي جيران وأصدقاء، يعرفونني وأعرفهم. نتبادل الأسئلة والتعليقات والمناقشات. هنا أبدو جزيرةً في بحرٍ لا أعرف طبيعته. أحاديثهم باليونانية، وإنْ تداخلتْ معها كلماتٌ بالعربية. أتابع حركاتِ الأيدي والشفاه والأعين ومشاعر الغضب والفرح والحزن، لا تصِلُني في كلماتٍ أفهمها. ألِفتُ المفردات في أحاديث الباعة اليونانيين بشارع الميدان، وإنْ لم أكُن أفهمها. يعروني الارتباك؛ أتشاغل بقراءةِ كتابٍ أو مجلةٍ في يدي. أحاول فهْمَ تعبيراتِ الوجوه والأيدي إذا اتَّجهتْ نظراتُهم ناحيتي، أشعُر أني المقصود، فأحاول الفهم. يصدمني اليأس؛ فأدسُّ عيني في الكتاب، أو أقوم إلى حُجرتي.

كنتُ — إذا أردتُ التحدُّث — أكلِّم السيدةَ وحدها. حتى الأسئلة التي أحاول أن أشارك بها، لا تحاول السيدة الصغيرة وزوجها أنْ يردَّا عليها. أتوقَّع أن تكلِّمني السيدة وحدها. كأني في خِصامٍ غير مُعلَن مع السيدة الصغيرة وزوجها. حتى إذا تنبَّهتُ إلى نظرةٍ متأمِّلة متسلِّلة، ما تلبث النَّظرةُ أنْ تبتعد. تتظاهر بالتطلُّع إلى ما لا أتبيَّنه. أحسستُ أنه قد نشأتْ بيني وبينهما كراهيةٌ متبادَلة، منذ الْتقت أعيُننا. لحظةً — أو أقلَّ — نظرتُ إليهما، وتأمَّلاني، ثم حلَّ نفورٌ كان من ناحيتي. انعكاسًا للنفور الذي أطلَّ في عيونهما.

قُلت للسيدة: هل استأذنتِ ابنتكِ في استضافتكم لي؟

بَحْلَقتْ في دهشة: وما شأن فرجينيا؟

قلت: ربما يُضايق زوجَها وجودُ غريبٍ في البيت!

لاحظتُ ارتعاشَ صوتها: لسنا أولادَ عرَبٍ … المرأة لا تحتاج إلى وِصاية كي تحافظ على بيتها.

وحدجتْني بنظرةٍ متسائلة: هل ضايقك أحد؟

وأنا أهزُّ رأسي: أبدًا … مجرَّد سؤال!

هل عرضتْ عليهما الأم فكرةَ تأجير الحُجرة، أو أنهما فُوجِئَا بي؟ ألمحُ في عيونهما شيئًا يصعُب أنْ أحدِّده. شيئًا لا أستطيع أن أصِلَ إليه، وإنْ فسرتُه بأنَّه رفضٌ لوجودي. رفضٌ صامتٌ هادئٌ، يتعمَّد إهمالَ البوح. أشعُر بتحديقهما في وجهي، كأنهما يحاولان النفاذ إلى شيءٍ أحرص على إخفائه. أُفاجَأ بتحديقهما الساكن؛ فأخفض عيني بسرعة. أشعُر بنظراتهما تنفذ من ثيابي. تُحدِث في داخلي ما لا أستطيع التعبيرَ عنه. أقتل ابتسامتي عندما تُواجهني النظرة الهادئة، الباردة.

حاولتُ — ذاتَ مساء — أن أُزيل الحاجز بين فرجينيا وزوجها، وبيني. اتجهتُ إلى الزوج بنظرةٍ باسمة: أُشفق عليك من الهواء البارد وأنت تقود الموتوسيكل.

عكَسَ إحساسه بالمفاجأة في تنقُّل نظرته بين الأم وفرجينيا … وبَرْبَشتْ عيناه في ارتباكٍ، ثم سكَتَ.

قالت الأم دون أن تنتظر إجابته: بيروس يضع في الشتاء حاجزًا من البلاستيك في مقدمة الموتوسيكل.

أزمعتُ أن أُهمل الكلام. لا أتحدَّث — ثانيةً — إلى فرجينيا وزوجها، ولا إلى الأم. أتى بي السِّمْسار إليها، ووافقتْ على إقامتي وهي تكلِّمني، وتُعنى بالسؤال عني؛ فلا شأن لي بفرجينيا وبيروس.

كنتُ أعاني التردُّد في استخدام دورة المياه والحمَّام. باعدتُ فترات الاستحمام. أحمل الصابونة واللوفة والفوطة. أُظهرها؛ ليروها وأنا في طريقي إلى الرَّدهة.

لم أكُن أُجيد إعداد الطعام؛ فأكلتُ في المطاعم. أيُّ مطعمٍ أضمن رُخْص أسعاره؛ أدخله. رَسَوتُ — بالتجربة — على دكَّان البغدادي بشارع عبد المنعم، ومطعم الحرية أولَ شارعِ توفيق. ربما حملتُ معي إلى البيت ساندوتشًا، أو كيسًا من الفاكهة.

كنتُ أغتسل — قبل أن أُغادر الشقة — في الحوض الصغير بالطُّرقة. وأعود — في معظم الليالي — فأُغلق بابَ حُجرتي.

فاجأتْني السيدة: أنت لا تذهب إلى المطبخ ولا إلى الحمَّام!

كانت تُجيد قراءةَ ما أفكِّر فيه، ما أعتزم قوله أو فعله. تفاجئني بالملاحظة أو بالسؤال؛ فأفطن لعريي.

لاحظَت ارتباكي. أضافت في لهجةٍ مُشفِقة: أنت الآن واحدٌ منَّا!

رنوتُ إلى وقْعِ الكلمات في فرجينيا وبيروس. ظلَّا على صمتهما الهادئ، المتوتِّر.

تجرَّأتُ — في الليلة نفسها — فدخلتُ المطبخ. تنحنحتُ، ومشيتُ بخطواتٍ زاحفة، وأحدثتُ حركة.

وقالت لي السيدة في ليلةٍ تالية: لماذا تحرص في قعدتك معنا على الزِّي الرسمي؟

كنتُ أرتدي البيجامة في حُجرتي. لا أغادرها إلا بعد أن أرتدي القميص والبنطلون والحذاء، وأطمئن إلى تسريحةِ شَعري. أثق أنِّي بؤرةُ تأمُّل فرجينيا وبيروس، يتابعان كلَّ ما أقوله وأفعله.

لا أرى نظراتهما، لكنني أشعُر بها تتبعني في كلِّ لحظة. حتى في الأوقات التي أخلو فيها إلى نفسي، لا أشارك في شيء.

تابعتْ عينَي ديمتري في تأمُّلهما لحُجرتي: هل هذه مكتبتك؟

قُلت بلهجةٍ معتذِرة: ما استطعتُ حمْلَه منها … بقيَّة الكُتب في بيت الأُسرة.

كانت الحُجرة ضيِّقة المساحة. بها سريرٌ خشبي، ودولاب من ضلفتَين، وكونصول بثلاثة أدراج، تعلوه مِرآة، وكرسي يتداخل في فراغ، ومكتبٌ خشبيٌّ بجانب النافذة الوحيدة، فوقه فازة على شكلِ قُلَّة، تصاعدتْ منها زهورٌ بلاستيكية. وتدلَّتْ من السقف لمبةٌ بلا غِطاء. أمَّا الحوائط فمغطَّاةٌ بورقٍ رُسمتْ عليه نقوشٌ صغيرة باهتة، كالمُنَمْنَمات.

سحَبَ كتابًا، وقلَّبه. حاول القراءة، ثم أعاده إلى موضعه وهو يهزُّ رأسه: لغتكم صعبة.

قُلت: نحن أيضًا نعاني صعوبتها.

وهو يخفض صوتَ الراديو: ألَا تحبُّ الموسيقى الغربية؟

قلت: أحبُّها … لكنني أفضِّل الموسيقى العربية.

صمَتَ لحظةً، ثم قال: أحيانًا … أستمع إلى أغنياتٍ عربية.

وعلا صوته بفرحة: هذه الأغنية … أحبُّها جدًّا.

رنوتُ إليه بنظرةٍ متسائلة: أيَّة أغنية؟

– التي تعلو فيها الموسيقى وتهبط.

ودندن باللَّحن.

قُلت: تقصد «صافيني مرَّة»؟

أعاد كوب الشاي إلى الترابيزة: هذه هي … أغنيةٌ جميلة!

ثم وهو يُعيد خصلةَ شعرٍ متمرِّدة إلى موضعها: هل تستمع إلى إذاعاتٍ أجنبية؟

قُلت بصوتٍ متراخٍ: أنا قليلُ الاستماع إلى الإذاعة عمومًا.

وهو يلوِّح بسبَّابته: الدنيا ثائرةٌ على عبد الناصر.

رنوتُ إليه بنظرةٍ متسائلة: لماذا؟

– صفقةُ الأسلحة.

قُلت، لمجرد أنْ أبدي رأيًا: تسوَّل الرَّجُل السلاح من الغرب … وحين أخفق اشتراه من الشرق!

تذكرتُ ما قاله — ليلةَ أمس — موظَّفٌ بالجمارك، يتردَّد على الكازينو: رأيتُ عشرات الدبابات على رصيف نمرة ثمانية … المفروض أنَّها سرِّية … لكن الجميع كانوا يعلمون أنها صفقةُ أسلحة، وكانوا فَرِحين بها.

قُلت في تهوين: هذه مجرَّد صفقةِ سلاح … فلماذا يحمِّلونها بأكثر ممَّا تحتمل؟

ضغَطَ على الكلمات في ثقة: يتَّهمون عبد الناصر بالاندفاع نحو موسكو.

تذكَّرت هدوءَ طارق الحاسم، بعد أنْ قُلت في تأمُّلي للفراغ: أفضِّل أحاديثَ الأدب.

رفَّت على شفتَيه ابتسامةٌ مهزومة: لم يعُد الأدبُ ينفصل عن السياسة!

كان كلامه في الأحاديث السياسية، جُزرًا مُنفصِلة في بحار أحاديثنا. يُلقي المعلومة، أو الرأي، ثم يعود إلى ما كنَّا نتحدَّث فيه. صَعُب عليَّ، وأنا أتابع ما يحمله من أخبارٍ وتعليقات، أن أتعرَّف إلى وجهة نظره. يتحدَّث عمَّا يجري «هناك»، فلا صلةَ شخصية له به. لا ينفعل، ولا يعبِّر عن موقفٍ محدَّد؛ هذا ما حدَثَ، وأنا أرويه كما قرأتُه أو استمعتُ إليه. حتى ما يَفِد إلى ذهني من أسئلة، لم أكُن أجِدُ في كلامه تعبيرًا عن وجهة نظر، تأكيدًا لمعنًى يهمُّه أن يُعلنه.

نظَرَ إلى ساعته، وقال: يبدو أنِّي تأخَّرت.

ثم ضرب فخذي بأطراف أصابعه: هل أُقاسِمك النَّوم على السرير؟

غالبتُ الارتباك: ربما تَضَايق أصحابُ الشقة!

قام ديمتري لنقراتٍ على الباب المغلَق.

تصوَّرتُ أنَّه سيأخذ صينية الشاي من الواقفة وراء الباب؛ فواصلتُ تقليبَ ديوان كفافيس، أنتظر ترجمة ديمتري. لكنَّ الباب انفتح، ودخلتْ فتاةٌ بصينية، عليها فنجانان من الشاي، وسُكَّرية، وطبقٌ صغير به قِطَع من البتي فور.

قال وهو يأخذ الديوان ليعاود الترجمة: أختي … ياسمين.

كانت في حوالي الخامسة عشرة. امتزجتْ في وجهها الملامحُ الأوروبية والعربية بما لا تُخطِئُه العين. الشَّعر أسودُ ينسدل إلى الظَّهر، والوجه مستديرٌ. تعلوه عينان واسعتان، بُنيَّتان، تسكُن إليهما، تحيا فيهما، تتُوق لأنْ تظلَّا تنظُران إليك، ولا تخفض عينَيك عنهما. تُظلِّلهما أهدابٌ طويلة. والأنف صغيرٌ، والشفتان ممتلِئَتان، والبشرة بيضاء مشربة بحُمرةٍ خفيفة. ارتدتْ جلابية من «الفوال» المنقَّط. تحتها قميصٌ أبيض. وانتعلتْ حِذاءً مفتوحًا، تطلُّ منه أصابع مطليَّة بالمانيكير.

هتفتُ في ارتباكٍ: آسف!

كانت فرجينيا تُمسك «الكنكة» بيدٍ، وتقلِّب على النار — باليد الأُخرى — ما لم أتبيَّنه. ألِفتُ مغادرةَ حُجرتي بالبيجامة، ودخولَ المطبخ والحمَّام. لم تعُدْ تسبق خُطواتي نحنحةٌ، أو حركةٌ تشي بقُدومي.

أطفأتْ فرجينيا النار، وصبَّتْ رضعةَ الطفل في كُوبٍ صغير.

هزَّت رأسها، ومضتْ إلى الحُجرة في نهايةِ الصالة.

نسيتُ في ارتباكي ما قدِمتُ من أجله. ظللتُ في المطبخ بلا تصرُّف. ثم عُدْت إلى حُجرتي.

كانت ياسمين تنقُر الباب المغلق، وتدخل. تجلس صامتةً، أو تسأل بما يَفِد إلى ذهنها. مجرَّد أسئلةٍ، أو ملاحظات، تبدو وليدةَ اللحظة. يردُّ ديمتري، أو أردُّ أنا. تُلقي سؤالًا مغايرًا، وليدَ اللحظة هو أيضًا. يردُّ ديمتري، أو أردُّ أنا.

قال لها ديمتري مرَّة: إذا كان هناك ما يشغلكِ بالفعل … اسألي!

لوتْ بُوزها، وغادرت الحُجرة في غضب.

نادت الأم على ديمتري — ذاتَ أصيلٍ — فاستأذن.

فُوجئتُ بياسمين جالسةً — وحدها — أمامي. الفرصة التي أنتظرها. هل يغيب ديمتري في الداخل، أو يعود قبل أن أعدَّ ما يجب أن أقوله؟

قُلت لمجرَّد أن أكلِّمها: متى تأخذون الإجازة؟

قالت: نحن في إجازةٍ للمذاكرة.

– لكنَّ الامتحانات بعيدة.

– امتحانات الشهادات العامة … امتحاني للنَّقل.

أطلتُ تأمُّلها، كأنِّي أتشرَّب ملامحها: مدرستكِ أجنبية … أليس كذلك؟

وهي تُومِئ برأسها: مدرسة سانت كاترين … بالقرب من هنا.

وجهٌ طفوليٌّ بريءٌ، وعينان تنطقان بطِيبةٍ واضحة، وابتسامةٍ لا تغيب، حتى وهي تتكلَّم، أو تُنصت. تكلَّمتْ؛ فتمنيتُ لو تُطيل الكلام. أُلحِق ردَّها بسؤالٍ قد لا أتدبَّره؛ لمجرَّد أن تستمرَّ واقفةً، أو جالسة، أمامي تتكلَّم. تستعيد السؤالَ — إن جاءت كلماتُه غامضةً أو مبتورةً — ببحلقةِ العينَين وإمالةِ الرأس؛ فيتهدَّل شَعرها على كتفَيها، وتتناثر خُصلاتٌ منه على وجهها.

قالت وهي تدلِّك أنفها الصغير بإصبعها: هل أنت مصري؟

– طبعًا.

ورنوتُ إليها بنظرةٍ متأمِّلة: لماذا تسألين؟

عاودتْ تدليكَ أنفها: شَعرك أشقر.

انفرجتْ شفتاي عن ابتسامةٍ هادئة: وهل كلُّ المصريين سُود الشَّعر؟!

أطالتْ تأمُّل أظافرَ يدها: هذا ما أتصوَّره.

اتَّسعَت ابتسامتي: تصوُّر ليس صحيحًا.

عاد ديمتري إلى الحُجرة، وأنا أفتِّش عمَّا أواصِل به الكلام، أو أرجو الأسئلة تقولها؛ فأُجيب. لا يتوقَّف الحديث. تولَّد في أعماقي إحساسٌ جديد، يختلف عمَّا كنت أعانيه. كنتَّ منتشيًا بكلامها معي. تُتابع عيناي حركةَ شفتَيها الممتلئَتَين، وارتعاشةَ أهدابها، وجري أصابعها على شَعرها المُنسدِل، والابتسامة الساكنة في ملامحها. لم أكُن أنتظر كلماتٍ محدَّدةً، ولا معنًى بالذات. يهمُّني أن تظلَّ جالسةً، أتأمَّلها، أتُوه في عالَمها السحري. أجدف بالتصوُّرات المطلَقة.

ياسمين!

كانت المرَّة الأُولى التي تظلُّ صورتها مرتسمةً في ذاكرتي، من المناقشات بيني وبين ديمتري، وترجماته للأدب اليوناني، وتعريفي بما لم أكُن أعرفه من الآداب العالمية.

نزلتُ السُّلَّم، وخرجتُ إلى شارع الكنيسة الأمريكانية، ومِلتُ ناحيةَ شارع مسجد العطَّارين، أتمثَّل حركات ياسمين وكلامها. التفصيلات الصغيرة وهي تتحدَّث، وتسأل، وتفكِّر، وتبتسم، وتشرد.

صعدتُ إلى الشقة.

هززتُ رأسي — في صمت — للسيدة، واتجهتُ إلى حُجرتي. تمدَّدتُ على السرير، وصورة ياسمين — وحدها — ثابتةٌ في ذهني.

بدتْ لي مخلوقةً أخرى، غير اللائي أشاهدهنَّ في شوارع بحري، أو في الكلية. يزيد من براءتها، حين تسبق كلامها بحكِّ أنفها بإصبعها. وفي كلماتها وتصرُّفاتها عفويَّةٌ واضحة؛ فهي لا تعدُّ ما تقول، ولا يشغلها تأثيره، وتصدِّق كلَّ ما تسمعه.

كانت أشعَّة الضُّحى تتسلَّل، متباطِئَة، من خَصَاص النافذة وتناهتْ موسيقى راقصة من راديو قريب، وزغردت في داخلي فرحةٌ لم أقوَ على كتْمِها.

هل هذا هو الحُب؟ وهل أحببتُها؟ وما الحُب؟ … أنا لم أعرفه، ولا أقمتُ علاقةً مع فتاةٍ من قبل. لم أكُن أعرف حتى الفارق بين تكوين الفتاة الجسماني وتكوين جسم الشاب؛ ابتعدت بي القراءة، وتحذيراتُ أبي ونواهيه.

كنتُ أُنصت إلى حكايات الأولاد في المدرسة عن علاقاتهم بالبنات. أكتفي بالمتابعة فلا أسأل. الفهم متاحٌ للجميع، فلا أسئلة ممَّا يعدُّ من البديهيات. وكان جواب الأسئلة ممَّا لا أفهمه. ألْتقطُ ما يقولونه، وأتأمَّله. حكاياتٌ غامضةٌ باهتة، أو مختلطةُ الملامح، أو مشوَّشة. وأخجل أن أسأل وعندما صحوتُ على بللِ ثيابي، رويتُ لزميلي في الدرج؛ روى لي ما خجلتُ أن أستعيده، أو أُناقش تفصيلاته.

وحين تصوَّرتُ أني أحببتُ مديحة، جَارَة الطابقِ الثاني. فتاة في الثالثة عشرة، كتبتُ ما تصوَّرتُه قصة. بدَّلتُ الاسم والمكان والمواقف، وقرأتُها لشقيقها أسامة في جلستنا على سُلَّم البيت.

صعدَت الحُمرة إلى وجهه: أنت تقصد مديحة؟

دهمني الارتباك: هذه مجرَّد قصة.

ومضتْ عيناه بشَرَر: مجرد تغيير الاسم والمكان، لا يلغي أنها مديحة.

مزَّق الأوراق وخاصمني؛ فأهملتُ الأمر. لم أعُد حتى إلى وقفتي وراء النافذة المطلَّة على الشارع الخلفي، أرقُب مديحة وهي تنشر الغسيل، أو تُطعم الدَّجاج. وحين دخلتُ الكلية، تمنَّيتُ أن أُحادث فتاة، أيَّة فتاة. أُصادقها. أجلس معها في الكافيتريا، أو تحت ظلِّ شجرة، أو على الكورنيش المقابِل لمبنى الكلية.

تكرَّر جلوسي — بالمصادفة — إلى جانب طالبٍ في مثل سنِّي، أو يكبُرني بأشهُر. تكلَّمنا في المحاضرات والدكاترة ومباريات الكُرة. حرصنا — فيما بعد — أن نتجاور في المدرَّج. أتكلَّم قليلًا، وأُطيل الإنصات. كان يحدِّثني عن علاقاته ببنات. أتخيَّلها وإن عجزتُ عن رسمها بملامحَ محدَّدة. لم يكُن لغياب المعرفة صلةٌ بحلالٍ أو حرام، ولا خوف أو فقدان ثقة. غابَت الحقائق؛ لأنها لم تقابلْني، أو أنَّها قابلتْني، فلَمْ أتبيَّن ملامحها. جهلي بالأمور؛ لأني كنتُ كذلك، لا لسببٍ آخر. وكنتُ أنتظر وأتوقَّع البنت التي تُوارِب أمامي الباب، فتساعدني الجرأة على اقتحامه، وأبوح بمشاعري. لا أتخيَّل بنتًا بالذات. تختلط الصُّور وتتشابك، فلا تستقرُّ على ملامح محدَّدة.

لم أتوقَّف أمام السؤال إن كانت صداقةُ البنت ضروريةً، أم أنَّ صداقةَ الأولاد تكفي؟

كنتُ أتمثَّل المواقف العاطفية، فيما أقرؤه من قصصٍ ورواياتٍ وقصائد. أصوِّرها بخيالي. وربما أبطأتُ خطواتي أمام حُجرة الطالبات بالكلية. أتطلَّع إلى الداخل بزاويةِ عيني. أتساءل بيني وبين نفسي: هل تخرج من هذه الحُجرة سندريلَّا التي أتعرَّف فيها إلى عالَمٍ تُخفيه غلالاتٌ من السِّحر الجميل؟

لم يكُن في بالي فتاةٌ بالذات. مجرد أن تقود خطواتي في الدنيا الغامضة، الغريبة، الصاخبة. حاولتُ أن ألفِتَ نظَرَ زميلةِ المدرَّج. تبادلنا النظرات. طال ترقُّبها لكلماتي، ثم أعطت انتباهها للدكتور عندما دخل القاعة.

وحين علا حاجبا صديقي سعد منصور بالدهشة، لأني وافقتُ — تلك المرَّة — على دعوته؛ طال وقوفي بالحرَج أمام الفتاة. تقرفصتُ بجانب جسمها على طرَف السرير. ثدياها يطلَّان من فتحتَي القميص الأسود، ذي النُّقوش المتداخِلة، وأحاطتْ وجهها بشَعرٍ صبغتْه بالحنَّاء، وطَلَت أظافرَ قدمَيها بمانيكير فاقع اللون.

وهي تُداري ابتسامة: هل تظلُّ واقفًا؟

قُلت في صوتٍ مرتعِش: نعم.

اعتدلتْ في جلستها. رمقتْني بنظرةٍ مُستغرِبة: لماذا دخلتَ؟

أغمضتُ عيني؛ فلا أواجه عينَيها. قاومتُ ارتباكي. همستُ بعدم فَهْمي وخوفي من الحُجرة الواحدة والأربعين.

قُلت في نبرةٍ متوسِّلة: ما أريده؛ أن يعرف سعد أنِّي فعلتُ مثلما فَعَل.

رفعتْ ثديَيها براحتَيها في تلقائية؛ ليستقرَّا داخل السوتيان: كيف … وأنت في وقفتك؟!

تآكلَت الكلمات في فمي: أنا لن أفعل شيئًا.

وهززتُ رأسي: لا أريد!

وبهمسٍ متذلِّل: سأُعطيكِ ما تطلُبين.

ولجأتُ إلى يدي موضِّحًا: قُولي لسعد إنِّي فعلتُ مثلَه تمامًا.

وبعد وفاة أبي بثلاثة أسابيع، عُدْت إلى البيت؛ فوجدتُ «طارق» يجلس مع فتاةٍ على ترابيزة السُّفرة. أعدتُ النظر إليها — بالتذكُّر — فعرفتُها. بنت عمِّ سنباطي، بائع الثلج أسفلَ مسجد الشوربجي. تردَّدتُ: هل أسلِّم عليها، أو أمضي إلى حُجرتي؟

حسَمَ طارق تردُّدي بقوله في بساطة: أعدَّ لنا الشاي!

أغلقتُ عليَّ باب حُجرتي، فلَمْ أعرف هل ظلَّا في مكانهما، أم أنهما دخلا حُجرته؟

هل هذا هو الحُب؟

هو إذن أولُ حُب في حياتي. لم تكُن للحُب في ذهني — من قبلُ — صورةٌ محدَّدة. هُلاميَّات بلا ملامحَ ولا تفصيلات، لكنني أراه الآن. شاطئٌ أتُوق لدِفء شمسه، وبرودة رماله، وامتداد الآفاق من حوله.

كنتُ أقرأ — في الأيام الأخيرة — للمقريزي، وابن إياس، والسيوطي، والسخاوي، والجبرتي، والنديم … أزمعتُ أن أقرأ — في الأيام التالية — كتبًا أخرى، يهمُّني قراءتها.

الدِّين!

كيف يحيا الأخُ المسيحي مع أخته المسلمة؟

لمحتُ أباها خارجًا من صلاة الجمعة بجامع العطَّارين. حاولتُ تبيُّن ملامحه. بدا طويلَ القامة، أمْيَل إلى النحافة، ويختلط في شَعره السَّواد والبياض، واتسعتْ مساحة الصَّلع في رأسه بصورةٍ واضحة. أمَّا ملامح الوجه، فلَمْ أتبيَّن الأصول التي استمدتْ منها ياسمين ملامحها. واعتذر ديمتري عن تأخُّره في لقاءاتنا أيام الآحاد، بتردُّده على الكنيسة.

هل يصلي أبوها في البيت؟ وهل تصلي مثله؟ وما صورة الشعائر الدينية داخل البيت؟

قال لي ديمتري: مسألة الدِّين هذه لا تشغلني.

وتراقَصَ على شفتَيه ظلُّ ابتسامة: أنا أتردَّد على بطريركية الروم الأرثوذكس كلَّ أحد.

ثم وهو يشدُّ عنقه: لكنني لستُ متديِّنًا!

وأنا أحاول كتْمَ مشاعري: وياسمين؟

هزَّ رأسه: ليستْ متديِّنة.

وألقى بديوان ناظم حكمت على الترابيزة: ياسمين مسلمة؛ لأنَّ أباها مسلم.

أحكَمَ الفضولُ قبضتَه: وهل هي مسلمةٌ بالفعل؟ … هل …

قاطعني: الدِّين لا وجودَ له في البيت … كلُّ واحدٍ يحتفظ بعقيدته لنفسه.

روى لي أنَّ أمَّه تزوجتْ في الشهر العقاري. احتفظتْ بدينها، واحتفظ زوجها بدينه. يؤدِّي صلاته في البيت، وصلاة الجمعة في جامع العطَّارين، وتؤدِّي صلاتها كلما أرادتْ. لم تكُن تُبِين عن مشاعرَ من أيِّ نوع. إذا ضبط مؤشِّر الراديو على تلاوة القرآن. قلَّدَها الرَّجُل في جمود انفعالاتها.

قُلت: ألَا تتكلَّم ياسمين أو تتصرَّف بما يدلُّ على أنها مسلمة؟

أطلَقَ ضحكةً مبتورة: أحيانًا تتكلَّم مثل المسلمين … فتسبق جملتها كلمة «والنبي».

خرجت الكلمات من فمي بطيئة: هذا كلُّ ما في الأمر؟

زوى حاجبَيه في دهشة: ياسمين أصغر من أن نشغلها في متاهات الدِّين!

لملمتُ جُرأتي: هل تأكل ياسمين لحم الخنزير؟

رمَقَني بنظرةٍ متسائلة: لماذا ياسمين؟

– لحم الخنزير محرَّمٌ على المسلمين.

أشاح بيده: أمي منعتْ لحم الخنزير … احترامًا لزوجها.

ثم وهو يمطُّ شفته السُّفلى: إنْ أردتُه … فالمطاعم كثيرةٌ أمامي.

ياسمين!

اعتدتُ تمثُّلي لها داخل الحُجرة واقفةً، جالسةً، سائرةً، متكلِّمةً، صامتةً. أُطفِئ النور، فلا تُزايل صورتُها ظلامَ الحُجرة. أتبيَّنها بوجهها المستدير، وشَعرها الأسود، المنسدِل، وعينَيها الواسعتَين، وشفتَيها الممتلِئَتَين، وملامحها المبتسِمة.

كنت قد قرأتُ لابن الجوزي في «ذم الهوى»: «والتحقيق أنَّ العشق شدَّة مَيلِ النفس إلى صورةٍ تُلائم طبعها. فإذا قوى فكرها فيها، تصوَّرتْ حصولها، وتمنَّتْ ذلك؛ فيتجدَّد من شدَّة الفكر مرض.»

هل أنا مريض؟

رأيتُها في الطريق.

أولَ مرَّة أراها خارج البيت. جميلةٌ في المريلة الكُحلي، والشَّعر المسدَل على صدرها في ضفيرتَين، والكرَّاسات المُودَعة بين صدرها وساعدَيها، والجورب الأبيض القصير، والحذاء الأسود. بدتْ مختلفةً عن صورتها في البيت. حتى ملامحها الباسمة، بدتْ متغيِّرة. كأنها ليست هي.

مسحتُ شارعَ الأسقفية بعينَين قلِقتَين. كان الهواء مشبَّعًا برائحةِ المطر، والمياه اختلطتْ بترابِ الطريق، والناس يحاذرون التزحلُق على الأرض الطينية الزَّلِقة.

أهملتُ الارتباك: إلى أين؟

قالت: من المدرسة إلى البيت.

قلت، لمجرَّد أن أتكلَّم: وأنا في طريقي إلى الكلية.

بحلقتْ عيناها: ألَمْ تتأخَّر؟

– تهمُّني محاضرتان … أُولاهما في الثانية بعد الظُّهر.

حين دخلتُ الجامعة — للمرة الأولى — كنت أدخل عالمًا مختلفًا غامضًا، وغريبًا: عدم التقيُّد بمواعيد، حضور الدروس بلا جرسٍ تبدأ به وتنتهي، الاختلاط بين الأولاد والبنات، الجلوس في البوفيه، قضاء الساعات في المكتبة الواسعة، مناقشة الرسائل والندوات.

أسندتْ ذقنها على الكراسات بيدها، وتنهَّدت: الجامعة دنيا جميلة!

لم تعُد المحاضرات في الكلية تشغل يومي كلَّه. انشغل الجميع بما تنشره الصُّحف والإذاعات عن رفض الغرب لصفقةِ الأسلحة التشيكية. وانضمَّ الكثيرون إلى منظَّمة الشباب والحرس الوطني. وكانت النسمات الخريفية الباردة قد قلَّتْ من المتردِّدين على الكازينو؛ فانصرفتُ إلى المذاكرة، بقراءة الكتب التي استعرتُها من مكتبة الكلية، ومكتبة البلديَّة.

قلت: سنتان وتدخُلينَ الجامعة.

تهيَّأتُ لسماع ما تقوله، لكنَّها نفضتْ رأسها، وسكتتْ … أردفتُ وأنا ألحظ تهيُّؤها لمواصلة السَّير: هل حددتِ كليَّتكِ؟

– حتى الآن … لا … ربما دخلتُ الآداب.

– هذه كليَّتي.

اتَّسعت ابتسامتُها؛ فبدت الفلجة بين أسنانها: صحيح؟

– طبعًا … يمكنكِ دراسة اليونانية.

– أفضِّل العربية.

همستُ بالدهشة: ماذا؟

افترَّ فمها عن ابتسامةٍ ضاحكة: ديمتري يُجيد لغة أمي … وأنا أُجيد لغة أبي.

كنت قد سهرتُ إلى الصباح، في قراءة «الفاخر، لأبي طالب المفضَّل بن سلمة بن عاصم»: «يُقال: أحَبَّ وحبَّ بمعنًى واحد. وطبَّ: فطن واحتال. والطِّب: الفطنةُ والحذق، ومنه سُمِّي الطبيب؛ لعلمه وحذقه … فمعنى الكلام: مَن أحبَّ أحسن أن يحتال؛ فكان فطِنًا لمَن يحبُّ.»

ما كِدتُ أستقرُّ في الكرسي، حتى انفتح الباب. ودخلتْ ياسمين بيدها صينية الشاي.

كنتُ أزور ديمتري لأراها. أحيا على توقُّع لحظاتِ خروجه من الحُجرة. بدتْ لي عيناها أجملَ ما في الحياة. مع ذلك، فإني كنتُ أخاف من الحُب. أحيا المعنى. يجتذبني، وأخاف فيه مجهولًا غامضًا، يضعني في مواجهة متاعبَ لا أقوى على احتمالها.

كانت تحدِّثني عن المدرسة: المدرِّسين والمدرِّسات والطالبات والمذاكرة ورحلات إجازة الأسبوع. حتى عَم رمضان الفرَّاش، عرفتُ عنه الكثير ممَّا روتْ من حكايات، وكنت أسعد حين تتلامَسُ يدانا، وهي تقدِّم لي فنجان الشاي.

لم تعُد تفارقني. أصحو على صورتها، وأنام عليها. أتذكَّرها في كلِّ حين. ربما فطِنَ ديمتري إلى شُرودي: أين أنت؟ … ولم يكُن بوسعي أن أخبره أين أنا. أهمس لنفسي: لو أنِّي صارحتُه بما يشغلني، هل يرى في الحُب أمرًا لا يعيب، أو أنه يثور؛ لأنَّ أخته هي المحبوبة التي أحدِّثه عنها؟ … وتذكَّرتُ قصتي عن مديحة، وما فعله أخوها؛ فلزمتُ الصمت.

أشارت إلى الكتب المتناثرة على الترابيزة: أنا لا أحبُّ هذه الكتب.

– أيُّ كُتبٍ؟

– القصائد، والقصص الصعبة، وكتب الفلسفة والتاريخ.

قاطعتُها: فماذا تقرَئين؟

– كُتُب المدرسة.

ثم وهي تدعك أنفها بإصبعها: ربما استعرتُ من زميلاتي روايات.

شعرتُ بأذنَيَّ تسخنان: معظم الروايات تتحدَّث عن الحُب.

– ليس ما تقرَءُونه … أحبُّ إحسان عبد القدُّوس، ويوسف جوهر، وأمين …

أغمضتْ عينَيها في محاولةٍ للتذكُّر.

قلتِ: أمين يوسف غُراب؟

وهي تهزُّ رأسها: هذا هو … رواياتٌ سهلة … ومعانيها جميلة.

وومضتْ عيناها بالتذكُّر: هل تُعيرني كتبًا من عندك؟

وضغطتْ على مخارج الحروف: روايات.

قُلت: أعرف أنَّ مكتبة ديمتري كبيرة.

– لا يوجد فيها روايات … والروايات القليلة لا أفهمها.

عندما طلبَت الفتاة ذات النظَّارة الطبية، أن أُعيرها الكشكول لتنقل ما فاتها من محاضرات؛ شملني ارتباكٌ، انعكس في ابتسامةٍ ملأتْ وجهها.

كنتُ أعرف أنَّ تبادُل كراسة المحاضرات، وسيلةٌ جيدة لتبادل العلاقات بين الطالبات والطلبة. وسمعتُ عن العلاقات التي بدأتْ بتبادل كراسة المحاضرات، ورسائل الغرام داخل الكشاكيل.

قيل لي إنَّ طلَبَ الفتاة من الشاب أنْ يُعيرها كشكوله، معناه أنها توارِبُ الباب، تشجِّعه على الدخول. يتبادلان الرسائل في الكشاكيل … فهل أكتب لها رسالة؟

تدبرتُ الأمر، فأدركتُ أني لا أريد صداقتها. صداقتُها لا تهمُّني. لكنني أريد صداقةَ ياسمين، حبَّها. ما أريده هو الحُب وحده، بلا أسئلة، ولا تخميناتٍ، ولا توقُّعات، حتى آخر العمر.

خلوتُ إلى نفسي — في المساء — فأخرجتُ الأوراق من المكتب، وأمسكتُ القلم. حاولتُ أن أكتب عنها. كتبتُ جملة، وشطبتُها. جُملًا وشطبتُها. مزَّقتُ أوراقًا. كوَّرتُها، وأسقطتُها في السلَّة أسفلَ المكتب الصغير. بدا لي الكلامُ كثيرًا، ومهمًّا. أخطر من أن أعبِّر عنه، أو أصوغه في كلمات. أدركتُ عجزي، فاكتفيتُ بأن أظلَّ مع صورتها. عيناها الباسمتان — وحدهما — كلُّ ما أراه.

وقرأتُ لابن حزم: «ولولا أنَّ الدنيا دارُ ممرٍّ ومحنة وكدَر، والجنة دارُ جزاءٍ وأمانٍ من المكاره؛ لقُلنَا إنَّ وصْلَ المحبوب هو الصفاء الذي لا كدَر فيه، والفرح الذي لا شائبة ولا حزن معه، وكمال الأماني، ومنتهى الأراجي.»

امتدَّ الصمت. كنت أفتِّش عن السؤال الذي يفتح حوارًا.

– هل تريد أن ترى ألبومَ صُوَري؟

هززتُ رأسي موافِقًا.

غادرَت الحُجرة، وعادتْ قبل أن أقرأ تعريف الكتاب الموضوع أمامي، في غلافه الخارجي.

مدَّتْ يدًا، لبشرتها نعومةُ ورقةِ الورد وطزاجتها.

قلَّبتُ الألبوم، وأنا أتابع ملاحظاتها.

– هذه مع ديمتري في حدائق أنطونيادس … وأنا في الثانية من عمري … مع أسرةٍ يونانيةٍ صديقةٍ لأمي … هذا أبي … صورتي في الشهادة الابتدائية.

فاجأتْني بوضعِ راحتها على صورةٍ صغيرة: إلا هذه.

قُلت: لماذا؟

جرى إصبعها على أنفها بتلقائية: هذه صورتي بالمايوه.

فكَّرتُ أن أدفع يدها، فأرى الصورة. ثم قلبتُ الصفحة.

أدركتُ أن حياتي قد ارتبطتْ بهذه الفتاة الجالسة أمامي. لا أتصوَّر عالَمًا يخلو منها. كان حُبِّي لها يختلف عن حُبِّي لأبي ولأمي من قبل. كنت أحبُّ أبي دون أن أتدبَّر بواعث ذلك الحُب ولا حالاته. لا يشغلني حُبِّي لأبي، فهو قائمٌ ومستقرٌّ وملتصِقٌ بلحمي، ويخالط تردُّدات أنفاسي. أنا لا أُعنى بمتابعة دقَّات قلبي، ولا قياس ضغطي، ولا التأكُّد من قوة إبصاري؛ فهي حالاتٌ قديمةٌ وممتدَّة. حالاتٌ في صميم حياتي، نشأتْ معها، وتُرافقها. أمَّا حبِّي لياسمين فهو حالةٌ استثنائية، تبدِّل من حياتي، ينتشر نورها فيغمر نفسي.

فكَّرتُ أن أكتُب لها رسالة: هل أدسُّها في يدها، وهي تقدِّم لنا الشاي، أو حين يترك ديمتري الحُجرة؟ أطوي عليها يدها، وأدعوها لقراءتها؟ … فماذا لو أنَّ الرسالة وقعتْ في يدِ ديمتري، أو يدِ الأب؟ … لو أنَّ العين المتشكِّكة — مَن يدري — لاحظتْ دسَّ الرسالة في يدها؟ أو أنها عثرتْ عليها بين أوراق الكتاب؟

بدتْ كلُّ المساربِ مغلَقة.

كنتُ قد قرأتُ للماوردي في «أدب الدنيا والدِّين»: «فلما كان الهوى غالبًا، وإلى سبيل المهالك مُوردًا؛ جُعلَ العقلُ عليه رقيبًا مجاهدًا، يلاحظ عثرةَ غفلته، ويدفع بادرةَ سطوته، ويدفع خداع حِيلته؛ لأنَّ سلطانَ الهوى قويٌّ، ومَدخَل مَكْرِه خفِيٌّ. ومن هذَين الوجهَين يُؤتى العاقل حتى تنفذ أحكامُ الهوى عليه؛ أعني بأحد الوجهَين: قوةَ سُلطانه، وبالآخر خفاءَ مَكْره.»

أحسستُ — للمرة الأولى — بمعنى الكلمات التي يتغنَّى بها عبد الحليم حافظ من راديو قريب:

أول مرَّة تحب يا قلبي
وأول يوم أتهنَّى

قالت لشرودي: تحبُّ عبد الحليم؟

قُلت في تسليم: ومَن لا يحبُّه؟

في صوتٍ متهلِّل: أحبُّ شادية أكثر.

قُلت: أحبُّ شادية أيضًا … لكنْ ديمتري وأنا نتَّفق على حُب عبد الحليم.

لاحظتْ تأمُّلي لها بطرْفِ عيني؛ فضحكتْ: ديمتري يفضِّل الأغنيات الغربية.

قُلت بنبرةٍ واثقة: أعرفُ أنه يحبُّ أغنيات عبد الحليم.

غاب عنِّي ما أُضيفه، فقُلت: ربما أغنية بالذات!

تماوجتْ في داخلي مشاعر الشَّوق واللهفة والفرحة والتوقُّع والجسارة والتحدي. مشاعر متباينة لا رابطَ بينها. حملني التصوُّر إلى جزيرةٍ بعيدة، تُحيط بها المياه، ولا يقترب منها مراكبُ أو بَشَر، نحيا فيها وحدنا، بلا خوف من رقابةٍ أو عينٍ متابِعة. قرأتُ روايات حُب، وتمنيتُ أن أحياها. ماجدولين، والفضيلة، وآلام فرتر، ولقيطة، والرباط المقدَّس، وشجرة اللبلاب، وإني راحلة، وقصة حُب، والعشَّاق الخمسة. غلبني التأثُّر؛ فبكيتُ. أشفقتُ على أبطالها، وإنْ تمنيتُ أن أحيا مثلهم. بدتْ لي — رغم الألم — حياةٌ جميلة محلِّقة.

كنتُ أكتفي بمتابعتها وهي في طريقها إلى المدرسة. أقفُ في الْتقاء شارع الأسقفية وشارع كنيسة اليونان. أتظاهر بتأمُّل الفاترينات؛ فلا تراني. أظلُّ أتابعها، حتى تغيب وسط الطالبات داخل المدرسة. كان لها مِشيةٌ مميَّزة. أستطيع أن أتعرَّف إليها في زحام الطريق، حتى لو ابتعدتْ ملامحها الظاهرة.

كانت تزورني في النوم. تصارحني بما لا تستطيع البوح به في حضور ديمتري.

أسألها: هل تحبِّينني بالفعل؟

– ألَا تُخبرك نظراتي؟!

– لكنكِ لا تتكلَّمين!

فاجأتْني بقولها: أُهديك هذه الأغنية.

أعطيتُ سمعي. كانت أغنيةَ حُب لعبد الحليم حافظ، تعلو في الراديو، دون أن أنتبه لها.

أحسستُ بحرارةٍ تنبعث من مؤخِّرة رأسي.

تحبُّني؟!

لمَّحتُ، فبدت الكلمات في استجابة عينَيها غائبةً، أو أنها تجاهلَت المعنى.

وتذكَّرتُ قول ابن حزم: «ولقد وطِئتُ بساطَ الخُلفاء، وشاهدتُ محاضر الملوك، فما رأيت هيبةً تعدِلُ هيبةَ مُحبٍّ لمحبوبه. ورأيت تمكُّن المتغلِّبين على الرؤساء، وتحكُّم الوزراء، وانبساط مدبِّري الدول، فما رأيتُ أشدَّ تبجُّحًا، ولا أعظم سرورًا بما هو فيه من مُحبٍّ أيقَنَ أن قلْبَ محبوبه عنده، ووثق بميله إليه، وصحة مودته له.»

قالت لي السيدة: ألن تخرُج اليوم؟

قُلت: اليوم إجازة … عيد الجلاء.

قطَّبتْ حاجبَيها متذكِّرة: عيد جديد؟

رفعتُ رأسي بنظرةٍ متودِّدة: اليوم يخرج آخِرُ جنديٍّ إنجليزيٍّ من مصر.

وهي تمضي ناحيةَ الطُّرقة: مبروك!

تمنَّيتُ أن تفتح لي السيدة الباب. أُعاني عذوبةَ — ومرارة — الاقتراب من العالم الغامض، السحري، المُثير. كنتُ أريد أن أقعُد معها، نتكلَّم. ليس كلامًا محدَّدًا، وإنما كنتُ أريد أن أجلس إليها هي وحدها. أسأل وتُجيب. تسأل وأُجيب، نأخُذ ونُعطي. أُنصتُ إليها جيدًا. أثِقُ أنها ستذهب بي إلى عوالمَ لم أدخلْها من قبل. تصِلُ أحاديثَ ديمتري، عن كفافيس وكازنتزاكس وزولا وبلزاك، بالعوالم التي تأخَّر تعرُّفي إليها. فتَحَ لي ديمتري بيتَ السِّحر، فهل تفتح لي السيدة قاعاته وحُجراته، وتطلُّ بي من نوافذه على ما لم يسبق لي رؤيته؟

كان وجه السيدة يخلو من تعبيرٍ محدَّد. ملامحه ساكنةٌ، وصوتها لا يرتفع ولا ينخفض، أشبه بمَن يقرأ في ورقة، وابتسامة هادئة على شفتَيها، تظلُّ في موضعها، بصرف النَّظر إنْ كان الموقف مفرِحًا أم حزينًا.

فاجأتْني بالقول: فرجينيا وزوجها يرفضان تأجير الشقة.

اهتزَّ فنجان الشاي في يدي: ماذا؟

مصمصتْ شفتَيها: لا يريدان غريبًا.

داخل صوتي اختناق: لكنَّ القرار لكِ … أليس كذلك؟

ربتَتْ فخذي براحتها: صحيح.

ولوَّنتْ صوتَها بنبرةِ أسفٍ: أحتاجُ لإيجار الحُجرة؛ كي يساعدني على مصروف البيت.

ثم وهي تهزُّ رأسها: أنا أنفق على نفسي.

– وزوج ابنتك؟

– يادوب يُنفق على فرجينيا والطفل.

وعاودتْ ربْتَ فخذي: أنت الآن واحدٌ منَّا!

قُلت للسيدة: هل زُرتِ اليونان؟

قالت: زرتُ أثينا بعد زواجي.

وسرحتْ بنظراتها: أراد زوجي أن يعرِّفني بأهله.

– هل أعجبتكِ؟

وشى صوتها بانفعال: لم أحسَّ بغربة … إنها مثل الإسكندرية … القهاوي ودكاكين البقالة والباعَة المتجوِّلين وباعة اليانصيب وماسحي الأحذية.

وأردفتْ بصوتها المنفعِل: واللغة العربية أيضًا.

مات والداها في الحرب بين اليونان والدولة العثمانية. فرَّتْ مع خالٍ لها على باخرةٍ متَّجهة إلى الإسكندرية في ١٨٩٨م. استقرَّا في باب سدرة. تزوجتْ بقَّالًا يونانيًّا له دكَّانان في العطَّارين والإبراهيمية. أغلقَت الدُّكانَين بعد وفاته، وجعلتْ عائد المبلغ من البنك راتبًا شهريًّا.

قُلت: هل أُصيب بمرض؟

– لا … قُتِل في الحرب!

– في اليونان؟

هزَّتْ رأسها: كيف؟! … الْتحَقَ بالقوَّات اليونانية في مصر.

ثم وهي تتنهَّد: ذهَبَ … فلَمْ يعُد!

قال لي ديمتري: الضوء في حُجرتك مزعِج.

ثم وهو يُمسك بطرَف الستارة: لماذا لا نجلس في ضوءٍ خافت؟

لم أعترضْ. وظلَّ ضوءُ النهار — رغم إسدال السِّتارة — يهَبُ رؤيةً واضحة.

جلستُ على طرَف السرير. وأشرتُ إلى الكرسي؛ كي يجلس عليه، لكنَّه جلَسَ بجانبي. وكانت ساقاه ترتفعان عن الأرض، وتهتزَّان.

حدجتُه بنظرةٍ متسائلة: هل تشكو شيئًا؟

رفع يده إلى رأسه. تحسَّس تمشيط شَعره: هل لا بد من سببٍ لأزورك؟

وفتَحَ كتابًا صغيرًا، قليلَ الصفحات: سأقرأ لك من كفافيس.

هززتُ رأسي، وأنا أطوي كتابًا على إصبعي: اقرأ.

وقرأ: «دلَفَ إلى المقهى الذي اعتادا ارتياده معًا. وفي هذا المكان كان رفيقُه قد قال له قبل ثلاثة شهور: نحن شابان نحيا في فقرٍ مُدقِع، ولم نعُد نملك من حُطام الدنيا شيئًا … ولقد انحدر بنا الحال، فما عُدْنا نرتاد سوى أرخصِ الحانات. ولا أكتمُكَ القول، فما عاد بوُسعي أن أظلَّ لك رفيقًا. اعلم إذن أنَّ هناك شخصًا آخر يبغي رفقتي.

وكان هذا الشخص الآخر قد وعَدَ أن يُهديه سُترتَين وبضعة مناديل من الحرير … ولكي يبقي على صداقته له، قلب الدنيا رأسًا على عقب حتى حصل على عشرين جنيهًا. ومن أجل الجنيهات العشرين، عاد إليه رفيقه. لم يعُد إليه من أجل المال فحسب، بل عاد إليه أيضًا من أجل صداقةِ الأعوام الخوالي، ومن أجل الحبِّ القديم، ومن أجل مشاعرَ عميقةٍ جمعتْ بينهما.

لكنَّ الشخص الآخر كان وغدًا زنيمًا؛ إذْ لم يُهدِه إلا بشقِّ الأنفُس، وبعد أن ألحَفَ في التوسُّل والرجاء، سوى سترةٍ واحدةٍ فقط.

لكنَّه الآن ما عاد بحاجةٍ على الإطلاق إلى سُترات، ولا إلى مناديل من حرير. ما عاد بحاجةٍ أيضًا إلى الجنيهات العشرين، ولا حتى إلى عشرين قرشًا … ففي العاشرة من صباح الأحد الماضي دفنوه … أَجْل، أهالُوا عليه الثَّرى يوم الأحد الماضي.

وها قد مرَّ الآن على وفاته أسبوع. وعلى تابوته المتواضِع وضَعَ صاحبُنا باقةً من الزُّهور الجميلة البيضاء، التي كانت جِد لائقةً بوسامته، وبسنين عمره الذي لم يزِد عن الثانية والعشرين.

وعندما دفعتْه الحاجةُ للبحث عن عملٍ يُقيم أوَدَه ويكسب منه قُوتَ يومه … وعندما ذهَبَ في المساء إلى ذاتِ المقهى الذي اعتادا ارتياده معًا … ذلك المقهى الكثيب الذي اعتادا أن يدلفا إليه معًا؛ أحسَّ بطعنةِ سكِّينٍ نجلاءَ تخترق شِغافَ قلبه.»

تهدَّج صوته: كما ترى … كان حُبه لصديقه.

حدجتُه بنظرةٍ مستفهِمة: في العربية ربما يخاطِبون المحبوبة بالمذكَّر.

فوَّتَ الملاحظة، وواصل القراءة: «قضى كلٌّ منهما وطَرَه من اللذة غير المشروعة. ثم نهضا من الفِراش ليرتديا ملابسهما، دون أن ينبس واحدٌ منهما ببنتِ شَفة.

خرج كلٌّ منهما من المنزل بمفرده وهو يجاهد في الاستخفاء. وما إنْ سار كلٌّ منهما في طريقه، حتى ساوَرَه الخوف وانْتَابه القلَق، متوهِّمًا أن تفضحه هيئته، أو أن تشي بنوعِ المتعة الحسيَّة التي كان يعُبُّ منها منذ لحظاتٍ قليلة.

لحظاتٌ مثلُ هذه لا تُفيد في الحياة، ولا تغني سوى الفنَّان. فغدًا، أو بعد غدٍ، أو ربما بعد سنواتٍ، سيسطِّر قلمُه أبياتًا متدفِّقة بالإحساس الجارف، كانت بدايتها ها هنا.»١

تراقص على شفتَيه ظلُّ ابتسامة: هل قرأتَ رواية صورة دوريان جراي؟

قطَّبتُ حاجبي في محاولةٍ للتذكُّر: لمَن؟

قال: أوسكار وايلد.

قُلت: هذا كاتبٌ لا أحبُّه.

ارتعشتْ أهدابُه: لماذا؟

زفرتُ في ضِيق: لا أحبُّ الرجال غيرَ الأسوياء.

تغيَّرتْ ملامحه، وإنْ لم تعبِّر عن معنًى محدَّد: هذا شأنه الشخصي.

ثم وهو يحكُّ ذقنه بأظافره: أذكِّرك بمقولةٍ لوايلد: «أن يكون المرء قاتلًا، فذلك لا يدعو لإدانة ما يكتُبه. كما أنَّ الفضائل العائلية؛ ليستْ أساسًا حقيقيًّا للفنِّ.»

كان يُفاجِئُني — في الفترة الأخيرة — بما لم أكُن أفهمه، ويصدمني بعباراتٍ غريبة، وتصرُّفات. أخَذَ قطعة الجاتوه من بين شفتَيه. أصرَّ أن يضعها في فمي، وقال لي: إنَّ شفتَيك لم تُخلقا إلا للتقبيل! وانحنى أمام الكرسي. أمسك فخذَيَّ براحتَيه هزَّهما وقال لي: أحبُّك. وقال: أنت عندي أجمل من قصائد ناظم حكمت وكفافيس. وقال في نبرةٍ ذاتِ معنًى وهو يُدخل أصابعه في أصابع يدي: هل تعرف أنِّي أعبُدك؟

استغربتُ الكلمات. فاجأتْني. لم أجِدْ ما أردُّ به، وهزَمَني الارتباك.

لو أنَّه أحبَّ فتاةً؛ ماذا يقول لها؟

أحاط رأسي براحتَيه، ومال بوجهه، وقبَّلني.

كنت قد اعتدتُ — وإن كرهتُ — احتضانه لي، وقُبُلاته في خدي. فاجأني هذه المرة بتقبيلي في فمي. ليستْ قبلةً خاطِفة، ولا تلامُسًا بين شفاهنا، لكنَّه ابتلع شفتَي، اهتصرهما. ضغَطَ بوجهه على وجهي. أحسستُ بالملمس الخشِن لذقنه وباللُّعاب في شفتَيه، واصطكتْ أسناني بأسنانه.

مِلتُ إلى الوراء، ودفعتُه — بيدي — في صدره؛ فارتطم بالمكتب.

اعتدل في وقفته، فصفعتُه. شرارة الاشتعال لصفعاتٍ أخرى، متوالية. انطلقت البداية، فغابتْ نهايتها.

تهاوتْ يداه، ثم رفعهما إلى وجهه يمنع بُكاءً مُفاجِئًا. بكى بصوتٍ عالٍ. انتفض جسمه، تشنَّج كأنَّه يعاني ألمًا هائلًا.

همَسَ بحشرجةٍ متقطِّعة: أنت تعرف السببَ في زياراتي لك.

صرختُ: أنا؟!

لم يعُد ديمتري الذي يترجم لي قصائد كفافيس، ويحدِّثني في كتابات الأوروبيين. يشرح، ويوجِّه، ويقاطع، ويُلقي المعلومة. بدا ضعيفًا، ومتخاذِلًا، وضائعًا.

أزحتُ السِّتارة، فاقتحمَت الشمس رَمادية الحُجرة: هذا سخف.

قال في نبرته المتخاذِلة: أنت لا تعرف شيئًا.

تكوَّرتْ قبضتي بعفويَّة: مَن تظنُّني؟

بدا لي صادقًا فيما رواه. أشار إلى ما حدَثَ، دون أن يسرد تفصيلاته — الترزي الأرمني أسفل البيت المقابِل — لجأ إلى التعبير بيدَيه، وتقلَّصتْ ملامحُ وجهه، وعانى الارتعاشة في جانب فمه، والحشرجة المتداخِلة في نبرة صوته.

قهَرَني الغضب: لماذا أنا؟

أنا كذلك أسأل نفسي: لماذا أنا؟

لم أكُن أعرف الفارق بين الرَّجُل والمرأة، ولا أقدمتُ على تجربةٍ من أيِّ نوع. لم أكُن أُدرك تصرُّفات المرأة، حتى أقارن بينها وبين تصرُّفات الرَّجُل. كنتُ أُمسك المفتاح، وأتردَّد حتى العجز، في فتح الحجرة الواحدة والأربعين. تظلُّ في بالي كعلامة الاستفهام، كاللُّغز الذي أخشى مشوار حلِّه. صورة المرأة ضبابية، أو غائبة. جسدها تُخفيه ملابسها. عشتُ حياتي دون أن أعرف ما تخفيه الملابس، ومدى اتِّفاق — أو اختلاف — جسِّ جسمِ الذَّكر عن جسم الأنثى، ولا أعرف — إذا وافقَت المرأة — ماذا أفعل؟ … أتُوق لأنْ أرفع الغطاء عن الصَّخب الموَّار داخلي. أعرف ما لا أعرفه. أتجاوز الخيبة وعدم الفهم والأسئلة المحيِّرة. أخوض في البحر. لا أكتفي بملامسة الرمال والحَصَى على شاطئه. أُصادق الأمواج والأسماك وعرائس البحر.

كانت صفاء ابنةُ عمِّي تُغلق علينا بابَ الحُجرة المطلَّة على حدائقه، تُلاصِقُ حدائقَ ممتدَّة. تتجاور أشجارَ البرتقال واليوسفي والجوافة وتكعيبات العنب والنباتات المتسلِّقة. تكبُرني بخمسِ سنوات.

أسألها: لماذا المفتاح؟

تُجيب، والتوتُّر يَبين في ارتعاشةِ يدها: أبدًا … لا أريد أن يُزعجنا أحد.

زوجةُ عمِّي في الصالة المطلَّة على شارع أمير البحر. تكرُّ حبَّات السُّبْحة، وتهمس بدعواتٍ، وتتذكَّر ما يدعوها للمناداة على الخادمة الصغيرة. والهدوء السادر يعمِّقه صوتُ أغنيةٍ في راديو قريب، أو أُسطوانة.

أجلس حيث تُشير في الكرسي الخيرزان بالقرب من النافذة المستترة بالأشجار الطالعة. تجلس وسطَ السرير. تتمدَّد. يُضايقها الحرُّ؛ فتنزع الرُّوب الوردي. تعدل قميص نومها، وتسوِّي شَعرها بيدها، وتتأمَّل طِلاء أظافر قدمَيها.

قال لي طارق: قد تستطيع صفاء ابنة عمِّنا مساعدتك في المُذاكرة.

أردف في هدوئه الحاسم: ظُروفنا لا تسمح بالرُّسوب!

أخذَت الكتب من يدي — في أول مرَّة — وقلَّبتْها. وضعتْها على مكتبها الصغير، تعلوه صورةٌ لها بالمايوه على الشاطئ. روتْ حكاياتٍ تذكَّرتْها من الدراسة الثانوية، ثم تبدَّل صوتُها: الجامعة دنيا مغايرة! … لا مواعيد حضور وانصراف، ولا زِي موحَّد، ولا شَخْط أو نَطْر.

وحكتْ عن بناتٍ وشبَّان في دُور السينما، وحدائق الشلَّالات، وفي الحُجرات المغلَقة.

وواجهتْني بالسؤال: ألك صديقة؟

قُلت في عفويَّة: أنتِ.

اعتدتُ التردُّد عليها منذ تعلَّمتُ حُب القراءة في مكتبة أبي. تضع أمامي كُتبًا ومجلات. تُذاكِر، أو تتَّجه إلى المطبخ. ربما جلستْ مع أمِّها في الصالة. يصِلُني أصداء من كلامها، وأنا أقرأ.

قالت: هذه أخوَّة.

وغمزتْ بعينها: أنت الآن كبير.

ولاحظتُ ارتعاشةً تحت القميص الأحمر: الصداقة تختلف.

قُلت: أنا صديقكِ بالفعل.

نفضتْ رأسها في حيرة. ثم قادتْني أحاديثها إلى الغابة المتشابِكة الأغصان، والأركان الهامسة، والرذاذ المتطاير في سُور الكورنيش، وكافيتريا كلية الآداب، والتَّخفِّي تحت أشجار حدائق الشلَّالات، وإغلاق الكبائن في سيدي بِشْر وستانلي، وشطارة البنت في المنح والمنع، وتبادُل المواعيد في أجندة المحاضرات.

كانت تتأمَّل استجابتي لمَا ترويه. أظلُّ في جلستي الساكنة أجوس في كلماتها. العوالم الغامضة السحرية الغريبة. أقرِّر مقاطعتها بأنِّي لا أفهم شيئًا من كلِّ ما ترويه. تتقافز الكلمات في فمي، ثم يُلجمني الحَرَج؛ فأسكت.

يذوي — بتوالي الحكايات، وغياب الاستجابة — تأمُّلها المتوتِّر. تنزل من السرير، وهي تدسُّ يدَيها في كمَّي الرُّوب. تدور بالمفتاح في الباب المغلَق: أنا مُتعَبة الآن يا حاتم … أنتظرُك بعدَ غد.

وأذهب إليها في الموعد.

تنسى الأمل الذاوي. تُعيد روايةَ الحكايات. أتعرَّف إلى ما لم أكُن شاهدتُه من قبل في العوالم الغامضة، السحرية. الكثير من المشاعر يشغي في أعماقي، لا أُحسن فهْمَها، ولا أُحسن التعبير عنها؛ فأصمُت.

تباعدَت النظرة المتأمِّلة إلى نهاية الأفق. صارت نقطةً، ثم تلاشتْ تمامًا.

قالت لي السيدة: لم تعُد تخرج بعد الظُّهر.

قُلت: الصديق الذي أزوره خارج الإسكندرية.

ستةَ أيامٍ غالبتُ فيها التردُّد: هل يفتح لي الباب؟ هل يستقبلني؟ هل أستطيع أن أنظُر إليه وأنا أحادثه؟ وهل يَقدِر على مواجهةِ نظراتي؟ وهل نتبادل نفس الكلمات، ونناقش ما يَفِد إلى أذهاننا من قضايا الأدب والفنِّ والسياسة؟ حتى مشكلاتنا الشخصية كنَّا نناقشها. هل أجلس في الكرسي المواجِه للباب، وأنتظر النقرات الخافتة، وأرى ياسمين؟

تمنيتُ أن أزوره. حتى لو أساء استقبالي؛ فهذا هو أملي لرؤية ياسمين.

ياسمين!

الصورةُ تملأ خيالي؛ لا تفارقني وأنا أصحو، وأنا أنام، وأنا أقعد، وأنا أفكِّر، وأنا أعمل، وأنا أُجالس الآخَرين. تطايرَت السِّدادة من القُمْقُم في وقتٍ لم أكُن أعددتُ نفسي له. انبثقَت الحمَمُ من البركان؛ فاكتسحَت حتى التصوُّرات.

دفعتْني قوة، لم أقدِرْ على مغالبتها. وقفتُ على الباب، وضغطتُ الجرس.

أفسحتْ لي الأمُّ الطريق.

جلستُ في الكرسي الذي اعتدتُه، أرقُب اتساع الانفراجة. ديمتري أو ياسمين، ماذا أقول له؟ ماذا أقول لها؟ هل صارحها أننا لم نعُد صديقَين؟

– أهلًا حاتم.

كان يرتدي بيجامة من الكستور المقلَّم بخطوطٍ حمراء، ودسَّ قدمَيه في شبشب من الجِلد.

اكتفيتُ بالقول، دون أن أواجه عينَيه: أهلًا!

قال كمَنْ يصِلُ ما انقطع: هل عرفتَ الأخبار؟

أردف لنظرتي المتسائلة: أمريكا سحبتْ تمويل مشروع السدِّ العالي.

وتلوَّن صوته بعصبية: قال دالاس إنَّ واشنطن تشكُّ في قدرة مصر على توفير المبلغ اللازم لبناء السد.

ثم وهو يهزُّ رأسه: السبب الحقيقي أنَّ مصر اشترَت الأسلحة من الدول الشيوعية.

قُلت في عدمِ فَهْم: ما خطورة هذا التصرُّف؟

مال بأعلى جسمه ناحيتي، وأحاط شفتَيه بتكويرة أصابعه: ربما تعجز مصر عن بناء السدِّ العالي.

فاجأني بتغيُّر طبيعته.

لم يعُد ذلك المجامِل الذي يُجيد استخدام كلماته. كنت أنعي همَّ لقائه. تصوَّرتُ أنه سيرفض لقائي، أو سيدخل الحُجرة لينهي الصداقة … لكنه جاء، وجلس، وامتدَّت أحاديثنا. لم يُشِر إلى ما كان، وغابت الكلمات الموحية. وكانت تمور في داخلي انفعالاتٌ معقَّدة، شحناتٌ من الانفعال، أريد أن أتخلَّص منها.

وحين نقرتْ ياسمين الباب، ودخلتْ، تأمَّلتُها بنظرةٍ طويلة، أخمِّن ما تكتم عليه نفسها. هل تعرف؟ وهل هي مثله؟ هل تفاجئني بما لم أكُن أتوقَّعه؟

أعلن جمال عبد الناصر تأميمَ شركةِ قناة السويس …

كنتُ أقِفُ في نهاية الحُشود التي امتلأ بها ميدان المنشيَّة. اخترتُ لوقفتي جدار شركة البلاستيك الأهلية، على ناصية المنشية، والطريق إلى الكورنيش. صعُبَ عليَّ أن أتأمَّل ملامح عبد الناصر وهو يخطب، وإنْ ميَّزتُ جسمه العملاق يقف وسط جالسين. صفَّق الناس لمَّا وصف شركة القناة بأنها شركة نصب. زاد التصفيق لحظةَ إعلانه تأميم الشركة. تساءلتُ مع الواقفين: ماذا كان عبد الناصر يعني بقوله: مُوتوا بغيظكم، إنَّ مصر ستبني السدَّ العالي، ولو بأظافر أبنائها؟ ماذا يدبِّر للغرب بعد قرار سَحْب تمويل إنشاء السدِّ العالي؟ هل يقطع العلاقات مع أمريكا؟ هل يعقد حِلفًا مع الرُّوس؟

كانت المشاعر في صالح عبد الناصر تمامًا. هزيمة حِلف بغداد، صفقة الأسلحة التشيكية، إعلان الدستور، الإفراج عن المعتقَلين السياسيين، جلاء آخِرِ جنديٍّ بريطانيٍّ عن أرض مصر.

قبل عامَين، أطلق شابٌّ رصاص مسدسه على عبد الناصر. تباينَت التعليقات بين مؤيِّدٍ لمَا حدَثَ، ورافضٍ له. وأكَّد البعض أنَّ ما شهِدَه ميدان المنشية تمثيليةٌ أُسيء إخراجها.

قالت فرجينيا: هل يُعادي العالم بعد شهرٍ من استقلال بلاده؟

أذهلني قول السيدة: عبد الناصر لم يعادِ أحدًا … لكنه أمَّم القناة في مواجهةِ المؤامرات.

صحوتُ — منتفِضًا — على صرخاتٍ تقتحم الحُجرة. هززتُ رأسي لأنتبه. كان الظَّلام حالكًا؛ فأضأتُ النور.

بدا الصوت كالأنين الحادِّ المتواصِل. لم أدرِ إنْ كان لرجُلٍ أم لسيدة. لم أدرِ حتى الجهة التي ينبعث منها. تعالى؛ فبدا كالصُّراخ. صراخُ ملتاع، ملتاث، خائف. يواجه ما يصعُب احتماله.

كان الصراخ يعلو في البيت، في الصالة، أو في إحدى الحُجرات.

فتحتُ الباب، وجريتُ حافيَ القدمَين.

كانت فرجينيا تحمل طفلها بيدٍ، وتحيط أمَّها باليد الأخرى، وبيروس يربت كتفها، وأصابع السيدة تشنَّجتْ على جانبَي الكرسي، وساقاها تمدَّدتا؛ فبدتْ كالمتخشِّبة. تهدَّل الرُّوب وراء ظَهرها؛ فظَهَر قميص النوم القطني المشجَّر.

قُلت: ماذا حَدَث؟

قال بيروس: لا شيء! تركناها بمفردها؛ ففاجأتْنا بما حَدَث!

أهملتُ النظرات المتسائلة، المتوجِّسة، وأنا أقترب من الأم، وأميل برُكبتي على الأرض، وأحيط ساعدَيها بأصابعي. أهزُّها، وأردُّ على صراخها بكلماتٍ مدغَمة، وناقصة، ومبتورة. مجرَّد محاولةٍ لإسكات صوتها، وإيقاظها. انتشالها من الدوَّامة التي تجتذبها إلى أعماقٍ غير مرئية، وقاسية.

انتفضَت السيدة. صمَتَ صُراخها، وجالتْ في الواقفين بعينَين متسائلتَين.

كنتُ أشعُر أنَّ في داخل السيدة ما تحاول تجاهُله. يبين في نظراتها الساهمة، وشرودها المفاجئ.

كنت أخوض ظلام الشوارع، وسلالم البيت. أعدُّ السلالم، وأتحسَّس باب الشقة، والصيحات تترامى من الطريق: أطفئ النور!

قلَّ جلوسي في الصالة. ألزم حُجرتي لساعاتٍ طويلة أقرأ، وأتمدَّد على السرير، وأرتِّب أشيائي، وأتأمَّل ما لا أُجهد نفسي في استدعائه ولا تذكُّره.

كنتُ مشغولًا بياسمين، وإن تبدَّلتْ صورة الحياة من حولي بما لم أخطِئه؛ اللون الأزرق يغطِّي الواجهات، والنوافذ، والشرفات الزجاجية. امتلأت الشوارع بالزيِّ الكاكي؛ جنود الجيش والمتطوِّعين ورجال الدفاع المدني. أجهزة الراديو تتعالى في الميادين والقهاوي والدكاكين؛ البيانات، والموسيقى العسكرية، والتعليقات، والمناقشات، وأغنيات المعارك. أستمع إلى صوت عبد الناصر، تخنقه الحشرجة: «أنا في القاهرة. سأقاتل معكم ضدُّ أيِّ غزو، وإلى آخر نقطة دم. سأبقى في القاهرة مع أولادي. لن نستسلم أبدًا. سنبني بلدًا وتاريخًا ومستقبلًا، وسننتصر. لقد فُرض علينا القتال، ولكن لا يوجد من يفرض علينا الاستسلام.» تتردد أسماء: السَّد العالي وأيزنهاور ومحمود فوزى ودالاس ودايان وحِلف بغداد وإيدن وموليه ولويد وهمفري ومنزيس وشبيلوف والأسلحة الروسية وبن جوريون وهمرشولد وعمر لطفي ولاكوست والبيان الثلاثي وبينو وثورة الجزائر.

قرأتُ في لوحة الإعلانات داخل الكلية، وعلى الجدران، نداءاتٍ بفتح باب التطوُّع. فكَّرت في أن أتطوَّع. ناقشتُ نفسي، فعدلتُ عن الفكرة. إذا تطوَّعتُ، فسأترك عملي في الكازينو. لن أستطيع دفع إيجار الحُجرة، ولا الإنفاق على نفسي. ولا بد أن أترك الشقة … فأين أذهب؟

مجموعات الطُّلاب، تناثرت في ساحة المبنى، وأمام أبواب المدرَّجات، وفي المسجد، وتحت الأشجار، تعلو أصواتهم بالمناقشات، والأخذ والرد، والنبوءة. الملك فاروق في طريقه إلى مصر … قوات الغزو بدأت الزَّحف نحو القاهرة. أين الاتحاد السوفييتي؟ … هل تنشب الحرب العالمية الثالثة من أجلنا؟! … ربما رفعوا أحدهم، يهتف، ويردِّدون وراءه.

لم أشارك في المناقشات الصاخبة المتلاغِطة، ولا ردَّدتُ الهتافات، وإنْ أصختُ السَّمع لكلِّ ما قيل.

كنت أُطيل الوقوف أمام مجلة الحائط. يُزاحمني الطَّلبة في القراءة. تعلو أصواتهم بما تحمله من أخبارٍ وآراءٍ وتحليلات. بدتْ لي المجلة تعويضًا مناسبًا عن اقتصار حضوري إلى الكلية على أوقات المحاضرات. أعتمد على ذاكرتي، وما أقرؤه من كُتب الأساتذة، فلا أكتُب كلمةً واحدة. كنتُ أدخُل المبنى، وأغادره، دون أن يشعُر بي أحد. دون أن أسأل، أو أُجيب أو أُزاحم في المدرَّج، أو أشارك في أيِّ نشاطٍ داخل الكلية وخارجها. ألِفتُ الكثير من السِّحَن، فلَمْ أتجاوز ذلك إلى معرفة الأسماء، ولا الأخذ والردِّ في أيِّ موضوع.

كانت السيدة جالسةً أمامي. تدثَّرتْ برُوب من الجبردِين. وارتدتْ نظَّارتها الطبيَّة. تحدِّق بها في بلُوفر صغير، تطرزه من الصُّوف. خمَّنتُ أنه للطفل.

كان بيروس خارج البيت، وفرجينيا مع طفلها في الداخل. وكنتُ أعاني توتُّرًا لا أدري سببه.

قُلت: ألَا تفعلين شيئًا سوى قراءة «الفوس» وتطريز التريكو.

– ومَن يساعد فرجينيا في عمل البيت؟

ثم علا صوتها بما لم أتوقَّع أنَّها تحدِّثني فيه: سحبوا عرضَ تمويل السدِّ العالي؛ فدفعوا عبد الناصر إلى تأميم القناة.

لم أكُن أحبُّ السياسة، ولا المشاركة في أحاديثها، وإن الْتقطَت أذناي الكثير ممَّا كانت تُعلنه — وتهمس به — الأفواه في الكلية، وفي الكازينو. تجميد بريطانيا حساب مصر من الإسترليني … فرْضُ الحماية على أموال شركة قناة السويس وممتلكاتها في لندن … تجميد الولايات المتَّحدة لأموال مصر المودعة لديها … عقْدُ مؤتمرٍ للدول البحرية … تكوين جمعية للمنتفِعين بالقناة … رفْضُ عبد الناصر فكرة الإشراف الدولي … فشَلُ بعثة منزيس في مهمتها … حشود القوات الفرنسية والإنجليزية في المطارات القريبة، وفي عُرض البحر المتوسط. حتى ديمتري، أهمل كتابًا في يده، وقال لي: هل يستطيع عبد الناصر مواجهة تحالُف دول الغرب؟

قالت السيدة بلهجةٍ معتزَّة: إذا كان المُرشدون الأجانب قد خذلوا مصر … فإنَّ المرشدين اليونانيين ظلُّوا في مواقعهم.

وهزَّت رأسها: نعم … لم يعُد من المرشدين الأجانب في القناة إلا اليونانيون.

ثم وهي تدفع بيدَيها خطرًا مجهولًا: ما يهمُّني في الأمر كلِّه ألَّا تنشب حربٌ … الحرب تُخيفني.

ألِفتُ صراخها في الليل. يتبعه حركةٌ، وأصواتٌ هامسة ومتسائلة ومستغيثة. تختلط؛ فلا أتبيَّن المتكلِّم على وجه التحديد، ولا أغادر مكاني.

فتحتْ لي الأم، ومَضَت في الطُّرقة الطويلة الضيِّقة.

جلستُ في الكرسي المواجِه للباب. دخلتْ ياسمين وحدها. كانت حافيةً. ترتدي فستانًا منزليًّا أبيض، ينسدل إلى كعب قدمَيها، مطرَّزًا بورودٍ ملوَّنة على الصدر، والكمَّان ينتهيان بإسورتين من الورود الملوَّنة.

قالت: ديمتري لم يتوقَّع زيارتك … ذهب إلى مشوار عمل في الإبراهيمية.

قُمت من مكاني: أستأذن.

خالط الإشفاق صوتها: انتظرْه … خرج من الظُّهر.

خرجتْ، وعادت بصينية الشاي. جلستْ في الكرسيِّ المقابِل. الكرسي الذي يفضِّله ديمتري في جلساتنا. وضعَت الملعقة في السكريَّة: كم ملعقة؟

– ثلاث.

لو أنها فتحَت الباب الموارَب. لو أنَّها أكملَت المفاجأة التي لم أتوقَّعها. في لحظةٍ ما، كانت تتابع أحاديثنا — ديمتري وأنا — أدركتُ أنها ستظلُّ بعيدةً عنِّي، وأني سأظلُّ بعيدًا عنها. تدخل الحُجرة. تجلس. قد تسأل، أو تبدي ملاحظة، لكنَّ مفتاح الحُجرة الواحدة والأربعين المستحيلة، في يد غيري. أزمعتُ أن أكتفي بالمدى الذي تصِلُ إليه يدي.

تناهتْ صفَّارة الإنذار.

كان الليل في أوله. الظُّلمة الشفيفة تنداح في الحُجرة، وأصواتٌ خافتة تترامى من حارةِ الدردير الخلفيَّة. وكنتُ قد اعتدتُ الإظلام، وطلقات المدافع، وصفَّارات الإنذار، وعِبَارات التحذير، والنداءات، وصرخات الخوف.

ومَضَتْ أضواءٌ كالبرق من خَصَاص النافذة المغلَقة. تلاها أصواتُ طلقاتٍ متتابعة.

انتظرتْ في مكانها، وعيناها تتَّجهان إلى الباب الموارَب.

انتزعتُ الكلمات: لا تخافي.

تعالتْ أصواتُ الانفجارات متواليةً، مخيفة.

قالت: أمي نائمة … ربما تُفزعها أصواتُ المدافع.

قبل أن تخطو إلى الباب، تلاحقتْ أصوات المدافع، والطلقات السريعة؛ صرختْ، وارتمتْ على صدري. أحسستُ بنعومة ثديها. الْتصقتْ بي مدفوعةً بالخوف، واحتضننا الظلام السادر بتوتُّر.

وضعتُ يدي على ظَهر يدها. تخلَّلت أصابعها. ظلَّتْ ساكنةً، ولم تسحب يدها.

كان وجهها قريبًا من يدي. رفعتُه، وواجهتُ عينَيها. أغمضتْهما. بدَت العذوبةُ في النبع. تخلَّلتْ أصابعي شَعرها. أدنيتُ وجهها من فمي. قبَّلتُ جبهتها وأذنَيها ووجنتَيها وأنفها وذقنها. استقرَّتْ شفتاي على فمها، فابتلعتُه. اصطدمتْ أسناني بأسنانها، وتذوَّقتُ لُعابها. أحطتُها بساعدَين يغالبان الارتجاف. أخذتْني اللحظة المحمومة، من الظلام، وطلقات المدافع، وتحذيرات الدِّفاع المدني. مضت بي إلى دنيا جميلة، ساحرة.

لم أكُن أعددتُ نفسي لمَا حدث، ولا تصوَّرتُ أنه سيحدُث، لكنَّها كانت قد أدنتْ شفتَيها من فمي. لامستْه بورقتَي وردٍ رقيقتَين. يصعُب أن أصِف قُبلتها بأنَّها أجملُ قُبلةٍ في حياتي؛ لأني لم أكُن تذوَّقتُ القُبلة على شفتَي فتاةٍ من قبل. بدَتْ لي القُبلة شيئًا لذيذًا، معنًى جميلًا. الْتصاقُ شفتَين بشفتَين، يسري بالخدر والعذوبة في خلايا الجسم، يتخلَّلها. يتألَّق دفء أشعة الشمس الشتوية، وضوء القمر، والنجوم، وألوان قوس قزح.

مَن قبَّل مَن للمرة الأولى؟ وكيف رآها، وقلَّدهما فيها، آخرون؟ وهل هي فعلٌ تلقائي، أو أنها تجد ذاتها في مرايا الآخرين؟

ها هي ياسمين أمامي، بين ساعدَي. عيناها الواسعتان، وجهها المستدير كأنَّه لطِفلة، شَعرها المنسدِل إلى رقبتها.

ها أنا ذا أستطيع — إذا أردتُ — أن أمسح بيدي على شَعرها، وأتحسَّس بشرتها، وأُطيل النَّظر في عينَيها، فلا تخفضهما. بدَتْ في حضني قطةً أليفة، مُستكِينة.

قالت لي: أحبُّك.

قُلت لها: أحبُّكِ.

هذه البنت الجميلة حبيبتي.

انطلقت صفَّارة الأمان.

قبَّلتُ قمَّة رأسها، وأعَدتُها إلى الكرسي بضغطةِ أصابعي المترفِّقة على كتفيها.

مددتُ يدي، وأضأتُ النور.

ثوانٍ توقَّف فيها الزمن، ثم مضَتْ، وإن افترشَتْ بالي في الأيام التالية، التالية. أُعيد التصوُّر، وترتيب ما حدَثَ. حتى الإيماءة لا أُفلتُها. أصِلُها بما سبَقَ، وما بعدها من لحظاتٍ، عندما صحوتُ من حُلمٍ لم أكُن أتخيَّل أني أحيا فيه.

تقافزتْ في رأسي الأسئلة، وأنا أتمدَّد على ظَهرى، وأتأمَّل تكويناتِ السقف: هل كان ما حدَثَ أولَ قُبلة لرجُلٍ في حياتها، مثلما هي أول قُبلة لفتاةٍ في حياتي؟ هل فعلتْ ما فعلتْ لأنَّها فعلتْه واعتادتْه، وإنْ طال تظاهُرها بالبراءة؟ وماذا عن الغد واحتمالاته؟ وماذا عن ديمتري؟

استبقيتُ الأسئلة. ناقشتُها بيني وبين نفسي. أهملتُها. استعدتُها، ثم انجابَت السُّحب المتكاثفة، فلَمْ تعُد إلا سماء ياسمين الخالية من كلِّ الشوائب.

أغمضتُ عيني على ما قرأتُه لابن قيِّم الجوزية: «والعشق يصفي العقل ويُذهِب الهمَّ، ويبعث على حُسن اللباس، وطِيب المطعم، وكرَم العِشرة، وحِفظ الأدب، والمروءة. وهو بلاءُ الصالحين، ومحنةُ العابدين. وهو ميزانُ العقول وجلاءُ الأذهان. وأرواحُ العشَّاق عطِرةٌ لطيفة، وأبدانهم رقيقةٌ ضعيفة.»

حين انطلقتْ صفَّارة الإنذار، ترامتْ من داخل العمارة، ومن الطريق، أصواتٌ متلاغِطة. إغلاقُ أبوابٍ ونوافذ، ونداءاتٌ لأشخاص، ودعواتٌ، وأحاديثُ منفعِلةٌ، وتحذيرٌ متكرِّر: أَطفِئ النُّور!

غابتْ صفَّارة الأمان، فقُلت في محاولةٍ للتَّطمين: لا تخشَوا شيئًا … فالعطَّارين في حِمى سيدي أبو الدرداء.

رفع بيروس عينَين متسائلتَين. وزادتْ فرجينيا تربِيتَها — بيدٍ مترفِّقة — على ظَهْر الطفل، وتنهَّدَت السيدة تستعيد ماضيًا: هو الذي أنقذ الإسكندرية من طوربيد الألمان في الحرب الماضية.

قلَبَ بيروس شفته السُّفلى: هل تصدِّقين ذلك؟

قالت موضِّحة: إنَّه وليٌّ … قديس … له كراماته.

شدَّ بيروس ذقنه ورقبته، فيما يعني عدم الفهم، وسكَتَ … وَمَضتْ أضواءٌ متتالية خلْفَ النافذة المطلَّة على الشارع الخلفي. أضواءٌ باهرة انداحتْ في الصالة، كومضاتِ فلاشِ الكاميرا، ثم اختفت. حلَّ ظلامٌ سادر.

تعالى — فجأةً — أصواتٌ ليست كأصواتِ المدافع. لعلَّها طلقاتُ رصاصٍ أو مدافعُ رشاشة. طلقاتٌ متوالية، يعمِّق تأثيرَها الظُّلمة والسكون والترقُّب والتخمين والمشاعر المرتجِفة. بدَتْ قريبةً من كوم الدكَّة، أو من البحر. لم أستطع تحديدَ مصدرها، وإنْ بدَتْ قريبةً للغاية.

كان الصمتُ يلفُّ فرجينيا وبيروس والطفل. أمَّا السيدة فكانت باديةَ التمَلمُل في جلستها. تُعلن خوفها بارتعاشةٍ في يديها، وصوتُها يعالج التعثُّر في نبرةٍ مشروخة: أورستا! … أورستا!

وسدَّت أذنَيها بيدَيها، وأغمضتْ عينَيها، وعلا صوتها بكلماتٍ، خمَّنتُ أنها يونانية.

كان الخوف قد كسا وجه السيدة بشُحوبٍ غريب. وكان وجهها يتقلَّص. يناقِضُ مألوفَ هدوئها. كأنَّها تعاني ألمًا قاسيًا، أو أنها تموت.

تناهى صوتٌ من بعيد، كأنَّه أزيز طائرة: معقول؟!

وتعالتْ أصواتُ الطلقات السريعة، وأصواتُ المدافع المضادَّة للطائرات.

قال بيروس: هذه مدفعيةُ السواحل.

رمقتُه بنظرةٍ متسائلة: كيف عرفتَ؟

قال: صوتُها قويٌّ … كأنَّها طوربيد.

ما كِدتُ أفتح فمي، حتى احتُبسَ صوتي. أسكتَه صوتُ انفجاراتٍ متلاحِقة. تبادَلنَا نظراتِ الحيرة والخوف: ماذا حدَثَ؟ ما معنى هذه الانفجارات؟ وأين وقعَتْ؟

قال بيروس في لهجةٍ محايدة: أذاع راديو لندن أنَّ القوات الإنجليزية والفرنسية استولتْ على بورسعيد وبورفؤاد.

لم أكُن أذهب إلى الكلية، ولا إلى الكازينو. كنتُ أقضي معظم اليوم في حُجرتي. أُدير مؤشِّر الراديو بين الإذاعات، أو أقرأ. ربما جلستُ مع السيدة في الصالة. تسألُ؛ فأحدِّثها عمَّا استمعتُ إليه في نشرات الأخبار، أو من الناس خارج البيت. أتذكَّر «طارق»: أين هو الآن؟ وكنتُ أخشى أن تطول فترة الحرب؛ فتُواجِه الظِّلال أيامي القادمة.

علَتْ صفَّارة الإنذار.

كانت السيدة جالسةً أمامي، مشغولةً بالتريكو. وكان بيروس في الخارج، وفرجينيا والطفل في حُجرة النوم.

حلَّ صمتٌ متوتِّر. ثم توالَت الطلقاتُ بعيدةً، قصيرةً، خافتةً.

علا صوتُ الطلقات وتلاحَقَ، وترامتْ — من الطريق — صرخاتٌ ودعواتٌ وتحذيراتٌ، وعانى أذانُ العِشاء الخفوتَ في مئذنة جامع العطَّارين.

انتفضَت السيدة كأنها تُعاني حُمى، وأمسكتْ ساعديَّ بيدَين مرتعشتَين. أحسستُ بارتعاشةِ جسمها، وشفتاها تُغَمغِمان بعباراتٍ مدغَمة.

تشجَّعتُ بالظلام، فاقتربتُ. ذَوَت المسافة بيني وبينها. فارِق السنِّ، والخوف، والتردُّد، والتحذيرات المؤنِّبة. حتى التطلُّع إلى اكتشاف الأحداث الغامضة المثيرة. همَّني أن تستمرَّ اللحظة إلى نهايتها. أيَّة لحظة؟ … لا أدري! … فقط يظلُّ ساعداي في يدي السيدة. تهدأ في حضني. لا يشغلني التوقُّع ولا ماذا بعد. اختفتْ ياسمين من بالي، كأنَّها لم تكُن تشغله. امتلكَت السيدة اللحظة وحدها. ملأت المكان بقامتها الطويلة، وشَعرها الأبيض، وعينَيها العسليَّتَين، ورموشها المتساقطة، والتجاعيد عند زاويتي فمها، والعروق الزرقاء الخفيفة تنبض في عنُقها، وزغب الشَّعر فوق شفتَيها، وفي ذقنها.

غاب التوقُّع واللحظة التالية. لو أنَّ السيدة تصرَّفتْ على النحو الذي أُريده. لو أنَّها فاجأتْني بالمسايرة والرغبة المشترَكة.

لم أكن أعرف ما وراء الباب المغلَق، ولا إنْ كان بوُسعي المُضيَّ في الطريق إلى نهايته. كنت مدفوعًا بقوةٍ غريبةٍ مسيطِرةٍ هائلةٍ، تُهمل الحدس والتخمين والتوقُّع. يشغلها الآن، وليس بعد.

تهيَّأتُ للحظةِ التالية؛ أصحبُ السيدة إلى حُجرتي، أو إلى حجرتها، الثانية إلى اليسار. ألمحها وأنا في طريقي إلى الحمَّام. اصطحَبَت الرُّؤى المحمومة. اصطدمتْ، وتشابكتْ، وتقاذفتْ ألسِنة اللَّهب.

لكن ذراعَي السيدة تهدَّلتا — حين انطلقتْ صفَّارة الأمان — إلى جانبها. تراجعتْ، حتى لامَسَت الكرسي خلفها، وجلستْ.

ما توقعتُه زال تمامًا، كأنَّه لم يكُن.

أسلَمَت السيدة نفسها إلى شرودٍ هادئ حزين. غابتْ عنِّي، أو كأنِّي لم أعُد واقفًا أمامها. شمَلَني تخاذُلٌ، وأحسستُ بالسخف.

حين دسَّت — وهي تقدِّم لي الشاي — رسالةً، وقرأتُها، أغمضتُ عيني للأحلام، وزرعتُ الورود، وتطلَّعتُ إلى لانهائية الأفق.

غيرتُ ما ألِفتُه: أخرجُ من الكلية، فلا أتَّجه إلى محطة الرَّمل. أطالع أفيشات دُور السينما، وعناوين الصُّحف، والأنوار التي تخلَّصت من زُرقتها. أمضي إلى سعد زغلول. أميل من الفلكي إلى العطَّارين. غيَّرتُ ما ألِفتُه. أعبُر الطريق إلى رصيف الكورنيش. أتمشَّى بخطواتٍ متمهِّلة إلى محطة الرمل، أو — في الناحية المُقابِلة — إلى ستانلي. أرتفِق السُّور الحجري، وأتطلَّع إلى انسدال السماء على الأفق. أتأمَّل المتناثرين فوق الصخور، أسفل الكورنيش، يُمسكون بالبُوص، وتتدلَّى السِّنارات ساكنةً، تنتظر الْتقاط الطُّعم؛ وارتعاش الأيدي، فترتفع بالصَّيد المرتقَب. ربما سرقني الوقت، فأذهب إلى الكازينو، بيدي المَلازم وكرَّاسات المحاضرات.

نزل حُبِّي البحر. وجهته الأفق، والآفاق التالية. لم أتصوَّر له عمرًا ولا نهاية. أحبُّ ياسمين، وتحبُّني. حتى … ماذا؟ … حتى لا شيء! … حتى اللامحدود واللانهائي والمُطلَق. تقاسمني أكلي ونومي وقعودي وسيري وتأمُّلي ولحظات التَّخاطب مع الآخَرين. صورتها المتغيِّرة بحركاتٍ وسكنات.

تركتُ قاربي يخوض المياه بلا شراع ولا مجدَافَين. يمضي في المياه الهادئة والثائرة، دون إعدادٍ، وبلا توقُّع. لا تَشغَلني حتى نظراتُ الأب المتسائلة، ولا شخطاتُ ديمتري بأنْ تترك الحُجرة ولا تضايقنا.

قُلت: هل أحببتِ إنسانًا آخرَ قَبلي؟

همستْ وهي تخفض رأسها إلى الأرض: أنا لم أعرف هذا الأمر من قبل.

قُلت: وأنا أيضًا.

تذكرتُ — في اللحظة التالية — ليلةَ الغارة، والسيدة، فنفضتُ رأسي.

قالت: ألَمْ تحبَّ فتاةً أُخرى قبلي؟

– كنتُ أسمع عن الحُب … ولا أعرفه!

أين السيدة؟ أين اختفتْ؟ ما ملامحها، وماذا تقول؟ … كالأصداء البعيدة، الذِّكرى التي بهتتْ تفصيلاتها، الخاطرة التي تُناوِش الذِّهن، ثم ينساها.

ياسمين زوجتي؟!

أَسْرح في امتدادِ التصوُّرات. صُور غير مترابِطة، ملأتْ وجداني، وتمنيتُها. نتمشَّى على رمالِ الشاطئ، نخلع حِذاءَينا، ونرفع طرَفَ بنطلوني وطرَفَ فستانها. نخوض في المياه. أُحاذر مدَّ الموج المفاجئ. تجلس إلى جِواري، والرذاذ يهبُّ علينا في انطلاقةِ اليَخْت الصغير في الميناء الشرقية. يستريح رأسها الصغير على صدري، وأمشط شَعرها الأسود تحت ظلِّ شجرةٍ في أنطونيادس، أو الشلالات. تقبض على ذراعي، رد فعلِ الخوف لزئير الأسد في حدائق النُّزهة. تتشوَّه ملامحنا في حُجرة المرايا بملاهي الأزاريطة. تعدُّ لي الشاي. أحمل لها الفطور إلى حُجرة النوم. نتسكَّع في الشوارع بلا هدف. نجلس على كرسيٍّ في الكورنيش، نرنُو إلى الأفق، ونحلُم. نشتري فشارًا محطة الرَّمل. نتأمَّل فاترينات شريف، وسعد زغلول، وصفية زغلول. نُفاصِل الباعَة في سُوق راتب. أنزع جاكِتتي، أَضعُها على رأسها، أحميها من زخَّات المطر. نطلُّ من شُرفةٍ تُشابِه شرفةَ بيتنا في شارع الميدان. الصَّخب يتصاعد وإنْ أرهفنا السمع لصوت عبد الحليم يغنِّي في راديو قريب. أقدِّم لها مرتَّبى أولَ كلِّ شهر، وأترك لها تدبير مصروف البيت.

هل أستطيع أن أتزوجها؟ متى؟ كيف؟ هل أتقدَّم لها قبل تخرُّجي؟ … بعد التخرُّج؟ هل تنتظر؟ … هل يَقبَل أبوها؟ … لو سألني عن عملي، هل أُجيب: طالب؟ … موظَّف بكازينو الفردوس؟ … ربما لن يسألني. إذا سألني، أقول: طالبٌ موظَّف، لا أزيد!

كنتُ قد قرأتُ — في الليلة السابقة — ما كتَبَه داود الأنطاكي عن أخبار المجنون وصاحبته ليلى: «ولمَّا اشتهر أمرهما في العرب، وشاع شِعره فيها، منعه أهلها الزيارة. وكان في حيِّ ليلى امرأةٌ من بني عامر قد تزوجها رجُلٌ من حريش، ومات عنها، وقد ترك لها صبيَّة، فكان يأتيها المجنون يتعرَّف منها أخبار ليلى. فبلَغَ أهلها ذلك؛ فزجروا المرأة، وجاء المجنون فأخبرتْه، فأنشد متمثِّلًا بيتَ امرئ القيس، وضمَّ إليه ثانيًا له:

أجارتنا إنَّا غريبان ها هنا
وكلُّ غريبٍ للغريب غريبُ
فلا تزجريني عنكِ خيفةَ كاشحٍ
إذا قال شرًّا أو أُخيف لبيبُ

ثم ترَكَها. وكان يأتي غفلات الحي. فلمَّا علموا بذلك، شَكَوه إلى مروان. فكتَبَ إلى عامله يهدر دمه، إذا وُجد عند ليلى، فقرءُوا عليه ذلك؛ فأنشد:

لئن حجبت ليلى وآلى أميرها
عليَّ يمينًا جاهدًا لا أزورها
وأوعدني فيها رجالٌ أبوهم
أبي وأبوها خشِّنتْ لي صُدُورها
على غيرِ شيءٍ غيرَ أنِّي أحبُّها
وأنَّ فؤادي عند ليلى سميرها

ولمَّا يئس من زيارتها، قلق لذلك قلقًا أدَّى لزوال عقله، فهام على وجهه يلعب بالتراب والعظام، لا يعقل غيرَ ذِكرها.»

كانت أشعة الضحى تنسحب من خَصَاص النافذة، وصوتُ أذان الجمعة يترامى من جامع العطَّارين. وكانت السيدة متغيِّرة الملامح. أهملَت الإيشارب، فظَهَر بياضُ شَعرها، ويداها ترتعشان. وفرجينيا تميل بأعلى جسدها، تهمس بكلماتٍ، وبيروس عقَدَ يدَيه على صدره، يتابع في صمت.

قالت السيدة: لن أنتظر حتى تقتُلني الغارات.

قالت فرجينيا: أين ستذهبين؟

– إلى بلدي.

– صِحتكِ لم تعُد تحتمل.

– لن أعود لأعمل … سأقضي بقيَّة عمري هناك.

– أين؟

نطَقَ وجهها بالغضب: ألَمْ تسمعي؟!

عندما نسافر أنا وبيروس إلى اليونان … قد نجِدُ عملًا. أمَّا أنتِ …

قاطعتْها السيدة: عجوزٌ … أليس كذلك؟

قال بيروس: إنها تُشفق عليكِ.

وشَى اهتزاز ساقَيها بالانفعال: ولماذا لا تُشفق علي في جهنمَ التي فتحتْ أبوابها، ولن تغلقها.

والْتمعتْ عيناها: عندما ضرَبَ الطوربيدُ البياصةَ، في باب سدرة، أثناء الحرب الثانية … لم أفكِّر في السَّفر، مع أنِّي شاهدتُ تهدُّم شارع السبع بنات.

قالت فيرجينيا: لماذا غيَّرتِ موقفكِ؟

ران على صوتها تخاذُل: الوضعُ الآن يختلف.

قال بيروس: لن يكون الخطر أشدَّ ممَّا جرى في الحرب العالمية.

همستْ في صوتها المتخاذِل: الخطر في الداخل … هذه المرة.

ثم وهي تُشير إلى نفسها: عبد الناصر لا يريد الأجانب.

جاهدتُ لكتْمِ مخاوفي: لكنَّ الحرب انتهت.

قالت: وضْعُ الأجانب في مصر سيتغيَّر عمَّا كان قبلها.

اغتصبتُ ابتسامة: أنتم يونانيون … واليونان صديقةٌ لمصر.

مالت برأسها، وأرخَتْ جفنَيها: لم يعُد للأجانب مكانٌ هنا.

كانت دكاكينُ بيعِ الأثاث القديم؛ قد امتلأتْ عن آخِرها. تظلُّ مفتوحةً، لا تُغلق أبوابها. الأثاث مكوَّم على الأرصفة. تحوَّلتْ دكاكينُ أُخرى إلى شراءِ أثاثِ الأُسَر الأجنبية المهاجِرة، وبيعه. تحوَّل العطَّارين، شوارعه وحَوَارِيه وأزقَّته، إلى سُوقٍ كبيرٍ يشغي بالباعَة والمشترِين. حتى مداخِلُ البيوت، تكوَّمتْ فيها قِطَع الأثاث.

قُلت: قوانينُ الحِراسة والتأميم اقتصرتْ على الرَّعايا البريطانيين والفرنسيين.

قالت السيدة: هذه بدايةٌ لإبعاد الأجانب عن مصر.

قُلت: لو صحَّ هذا … فأنتم مصريون!

أهملَت السيدة ملاحظتي: حتى تمثال ديلسبس في مدخل القناة أسقطوه … إنهم ضدُّ كلِّ ما هو أجنبي.

كان الباب مفتوحًا، فثار قلقي. اعتدتُ أن يكون الباب مُوصدًا، أو موارَبًا إذا وقَفَ وراءه محصِّل النُّور، أو بائع الخبز، أو بائع اللَّبن، أو الزبَّال … وعندما قدِمتُ مع عم عبد الغفار السِّمْسار لاستِئجَار الحُجرة، ظلَّ واقفًا أمام الباب الموارَب، وظللتُ في وقفتي على السُّلَّم، حتى أذنتْ لنا السيدة بالدُّخول.

كانت الشقة في فوضى، واللوحات التي أحبُّها، صُفَّت على الكنبة. وجلستْ فرجينيا وبيروس والطفل على الكرسيَّين المتقابِلَين، في حين توسَّط عبد الغفار الصالة، ووقفَت السيدة في مدخل الطُّرقة.

عبرَتْني نظرات الجميع، وأهملوا دهشتي. استكمل عبد الغفار ما كان يتحدَّث فيه مع السيدة: دَعي المطبخ في مكانه … فلْننتهِ أولًا من أثاث الصالة.

عدَلتُ عن السَّير إلى حُجرتي: هل …؟

قال بيروس: نعم … نعدُّ للسفر خلال أيام.

– لكنَّ الحرب انتهت.

قالت السيدة: لم تعُد الحال كما كانت عليه.

قُلت: هل ضايَقَكم أحد؟

قال بيروس في عصبية: لن ننتظر حتى يحدُث ذلك.

وأسرع عبد الغفار من خُطواته، يلحق بالسيدة وهي تحمل لوحةً زيتيةً من جِدار الطُّرقة.

دخلتْ — بخطواتٍ مهزومة — إلى حُجرتي. احتواني الصمت والوحدة. أعدْتُ تأمُّل المكان. لا بد أنْ أغادره خلال أيام، وربما خلال يومٍ واحد، فأين أذهب؟ … تصوَّرتُ أنَّ أحاديث العودة إلى الوطن قد انتهتْ، فأهملتُ البحث عن حُجرةٍ جديدة.

قابلني طارق في انحناءةِ الطريق من شارع عبد المنعم إلى شارع صلاح الدين. كنتُ أتلمَّس طريقي، محاذِرًا الخوضَ في البِرَك التي صنَعَها تخلُّف الأمطار. اقتحم تجاهُلي، وأوقفني بيدٍ مترفِّقة: أين أنت؟

كان قد أضاف على كتفَيه نجمةً ثانية، وإنْ بدا مرهَقًا.

قُلت: في الدنيا.

ومضَتْ على شفتَيه ابتسامةٌ مترفِّقة: أعرف … أين تُقيم؟

– مع أسرةٍ يونانية.

وَمَضتْ عيناه بالتذكُّر: أسرةُ صديقك اليوناني؟

– لا … أسرةٌ عرَّفني بها سِمْسار.

– ومتى تعود؟

استعدتُ قولَه في دهشة: ماذا؟

تراقَصَ على شفتَيه ظلُّ ابتسامة: متى تعود؟

– قلتَ إنَّك تريد إغلاق الشقة على زوجتك.

لاحظتُ في عينَيه تأثُّر: حُجرتك مغلَقة منذ تركتَها.

تدبرتُ الكلمات، رتَّبتُها. كان الإحساس بالحُزن قد استقرَّ داخلي، فلا أقوى على التخلُّص منه.

قُلت بصوتٍ مختنِق: لماذا طردتَني؟

اتسعَت الابتسامة في وجهه: مَصَارِين البطن تتخَانَق.

قُلت: ليس إلى حدِّ طردها من الجسم.

قال متضاحِكًا: تعبيرٌ جديد … واضح استفادتك من القراءة!

ضغَطَ على يدي بأصابع مترفِّقة: لا زِلتَ متأثِّرًا؟

عاطفتي قريبة. ذلك ما كان يصِفُني به أبي. أُتابع مواكب الجنازات في طريقها إلى جامعِ الشيخ، فتدمع عيناي لصُواتِ النساء. أبكي للمَشاهد المؤثِّرة في الأفلام التي كان أبي يصحبنا — طارق وأنا — لرؤيتها. أهتزُّ لبكاءِ طفل. حتى التسابيح التي تسبق أذان الفجر من جامع الشوربجي، تحرِّك في داخلي مشاعرَ حزينة. إذا تضايقتُ ممَّا لا أحبُّه؛ تفجَّرت الدموع، لا أستطيع كَتْمها.

علَتْ نظرتي إلى الطوابق العليا، حتى لا أواجه عينَيه: أنت أخي.

وهو يزيد من ضغطه على يدي: أنتظرُك!

هل أعود؟ وهل أُصارحه بأنِّي لستُ مسئولًا عن عودةِ الأُسرة اليونانية إلى بلدها، مثلما لم أكُن مسئولًا عن خروجي من البيت؟ وهل أحسَّ طارق بحُزنٍ لابتعادي عن البيت، أو أنَّه في حاجةٍ إلى مساعدتي في الإنفاق؟

قرَّرتُ أنْ أُرجئ مناقشةَ الأمر، حتى تبلِّغني السيدة باعتزامها الهجرة. من السهلِ أنْ أُلملِم أشيائي في الحقيبة الجِلدية.

فتحتْ لي الأم الباب.

جلستُ في المكان الذي أفضِّله. سحبتُ كتابًا من الترابيزة الصغيرة أمامي. ديوان كفافيس. بدَتْ لي الكلماتُ بسيطةً، والمعاني تُثير التأمُّل. كانت كلُّ قراءاتي في التراث العربي، والأدباء العرب المعاصرين: الأيام، وفي منزل الوحي، وسارة، وأدب الدنيا والدين، وطوق الحمامة، وشجرة البؤس، ودعاء الكروان، وتاريخ الجبرتي، وعودة الروح، وماجدولين، والنظرات، والعبرات، وخان الخليلي، وزُقاق المدقِّ … نقلني ديمتري إلى الشاطئ الآخر. أسماء لم أكُن أعرف غالبيَّتها، ولا قرأتُ لها وإنْ ظللتُ أُجدِّفُ بقاربي في بحرِ الكتب العربية، أقرأ ما لم أكُن أتصوَّر أني أُطالعه.

دخَلَ، وجلَسَ في الكرسي المواجِه. بدا شاردًا ومهمومًا. أطلق من أنفه ضحكةً مبتورة: لو أنَّك تعرف اليونانية … كنتُ أُهديك مكتبةً قيِّمة.

– مكتبة مَن؟

– مكتبتي.

أردف للدهشة المتسائلة: نحن نستعدُّ للرحيل.

أحسستُ برُوحي تنسحب: إلى أين؟

– اليونان.

تعثَّرَت الكلماتُ على شفتي: لماذا؟ الأُسرة التي أقيم معها تعدُّ للسفر أيضًا … فلماذا؟

أومَأَ إلى داخل الشقة: أمي تريد العودة إلى أهلها … ولا بد أن أُرافِقها.

– وعملُك، و…

اغتصبتُ الاسم بصعوبة: ياسمين؟

– ستظلُّ في الإسكندرية … ليست صغيرة.

استطرد متذكِّرًا: ستُقيم مع أبيها.

– وهل تستطيع الابتعاد عنكما … وهل تستطيعان الابتعاد عنها؟

قال في لهجةٍ تقريرية: اتفقتْ أمي مع زوجها على كلِّ شيء.

لماذا يتآمر العالم على سعادتي؟ ما صلة ياسمين، وصلتي، بالسدِّ العالي، وتأميم القناة، والحرب، وخروج الأجانب؟ … لا بد أن تظلَّ في الإسكندرية؛ تبقى معي. يسافر ديمتري وأمُّها وأيُّ إنسان، ولا تغادر هي بيت شارع الكنيسة الأمريكانية. أثق أنها تعاني مثلما أعاني. يطول ترقُّبي للنقرات الهادئة على الباب. أُغادر الشقة دون أن أراها. أترك لقدمَيَّ مِقوَدي، تسيران بلا هدف.

ياسمين الغالية، الطفلة، البريئة، الجميلة. هل تخرُج من حياتي؟ هل يغيب الوجه المستدير، والعينان الواسعتان، والأنف الدقيق، والشفتان الممتلِئَتان، والشَّعر المنسدِل في فوضويَّة آسِرة؟

لن يسافروا بها. تظلُّ بالقُرب منِّي، معي. لا تذهب إلى أيِّ مكانٍ: أريد أن أتزوَّج ياسمين.

– هل تستطيع الإنفاقَ على أُسرة؟

ذلك ما سيقوله أبوها، وما سيقوله طارق. كتمتُ العرض في داخلي. ظللتُ صديقًا لديمتري. تمتدُّ بنا الأحاديث في الحُجرة المغلَقة.

حين لاحظ الأبُ مشاركةَ ياسمين في جلساتنا، دخَلَ الحُجرة. قدَّمني له ديمتري، وقدَّمه لي. سأل عن الأُسرة والوظيفة والحي. لمحتُ نظرةَ الإشفاقِ في عينَي ياسمين، للحرَج الذي أُعانيه. ثم انسحب الأبُ، ولم يعُد. بدا كأنَّه اطمأنَّ من هاجسٍ يشغله.

أفقتُ من الحُلم الجميل. ياسمين تفتح لي الباب، أو أترقَّب — في موضعي — دخولها. نتكلَّم، ونتكلَّم، ونتكلَّم. حين ازددنا قُربًا، أحببتُها وأحبَّتْني. ما لم أكُن أعرف طعْمَه تذوَّقتُه في شفتَيها. جاءت — بلا توقُّع — لحظةُ الفِراق. كنتُ أسيرُ في النهار المتألِّق بالضياء، عندما أظلمَت الدنيا، فجأةً، ظُلمةً كثيفةً متراكمةً، لا تُريك حتى داخلَك، لا ترى شيئًا على الإطلاق. بدا لي الكون ضيِّقًا، ومُوحِشًا، وقاسيًا. انداحتْ في داخلي موجاتٌ متتاليةٌ من القهر والإحباط والعجز. تحسَّستُ لُزوجةَ الدمِ في أنفي، والسنَّ المكسورة في فمي، والشجَّ أوسط رأسي، وتخاذلتُ للضربات الموجِعة. تاه قاربي، ولم يكُن معي ما أطمئن به إلى الطريق الصحيحة. لا خريطة، ولا بوصلة، ولا مرئيات في الأفق، والسماء من فوقي ملبَّدةٌ بالغيوم؛ فلا نجم أهتدي به. أُعاني الظَّلام والغربة والضياع. اختلط طريقي، وفقدتُ الاتجاه.

لم أكُن أعددتُ نفسي للفِراق، ولا تصوَّرتُه. نحيا الحياة، ونشيِّع الجنازات، لكنَّ تفكيرنا يظلُّ في مساحةِ الحياة، لا يجاوزها.

كنت قد قرأتُ لابن حزم: «وعاقبة كلِّ حُب أحدُ أمرَين: إمَّا الموت، وإمَّا السلوُّ. والسلوُّ في التجربة الجميلة ينقسم قسمَين: سلوٌّ طبيعي، وهو المسمَّى بالنسيان؛ يخلو به القلب، ويفرغ به البال، ويكون الإنسان كأنه لم يحبَّ قَط. والثاني السلوُّ المسمَّى بالتصبُّر؛ فترى المرء يُظهر التجلُّد، ويرى أنَّ بعضَ الشرِّ أهون من بعض، وهو ليس بناسٍ، ولكنَّه ذاكر.»

أعبُر كوماتِ الأثاث؛ أتفاداها. أُهمل سماع المناقشات والأسئلة والأجوبة وتوقُّعات المستقبل. فسَدَت الحياة. أفرغتْ ناقلاتُ البترول ما بجوفها؛ فتحوَّل سطحُ البحر — الذي أحبُّه — إلى بُحيرةٍ واسعة من السَّواد الميت، المتعفِّن. تلاحقت النوَّاتُ واكتسَحَ المدُّ الضاري كلَّ الأماني والأحلام والتصوُّرات المنطلِقة. علَت الأمواج السوداء؛ فابتلعتْ ما بداخل البحر، وما على الشاطئ. انتزعَت الصخورَ الأسمنتية. قذفتْ بها إلى آخر المدى. حتى ناسُ الطريق، كانوا شائهي الملامح، تطفح أعيُنهم توجُّسًا وكراهية وحقدًا.

مِلتُ من شارع الخديوي إلى شارع السبع بنات.

بدا لي ميدانُ المنشيَّة مُفترقَ طُرق.

حدَّدَت السيدةُ ثلاثة أيام، أترك أثناءها البيت. هل كان طارق صادقًا في دعوته، حين قابلني في شارع الميدان؟ وهل أستطيع لقاءَ ياسمين بعد رحيل ديمتري؟ هل أقِفُ لها على ناصية شارع مسجد العطَّارين، أو أنتظرها أمام المدرسة؟ … ظلَّت لقاءاتنا داخل الشقة؛ فهل تبقى على ودِّها تقِفُ لمصافحتي، تحدِّثني، تسير معي، ولو إلى مكانٍ يبعُد عن البيت، ولو إلى نهاية الشارع؟

مسحتُ الميدان بعينَين قلِقتَين: مبنى الاتحاد القومي، وتمثال محمد علي، والكنيسة الإنجيلية، وبقايا عصر إسماعيل في البِنايات ذات الطِّراز الأوروبي، والنخل السُّلطاني، والحديقة المستطيلة، وزِحام الترام والأوتوبيسات والسيارات والحانطور والكارُّو والمارَّة، وسراي الحقانية، والقهاوي، ومكتبة دار المعارف، ودكاكين الطعام والأقمشة والأدوات المنزلية.

غالبتُ الحيرةَ والتردُّد. ثم لزمتُ الرصيفَ الأيمن، في طريقي إلى شارع الميدان.

محمد جبريل، مصر الجديدة، ٢٣ / ٧ / ١٩٩٥م
١  ترجمة الدكتور محمد حمدي إبراهيم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤